السادس
السادس: أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم، كما صرح به، حيث قال: إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية.
وقال أيضا صاحب الفصوص: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [1] الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا: إلها ولم يقولوا: طبيعة، {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أي: حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب، {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ}لأنفسهم، المصْطَفِينَ الَّذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة، فقدمه على المقتصد والسابق، {إِلَّا ضَلَالًا} [2] أي: إلا حيرة. وفي المحمدي: زدني فيك تحيرًا.
{كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ} [3] له فالمحير له الدور، والحركة الدورية حول القطب، فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله من وإلى وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له، فيلزمه من ولا غاية فتحكم عليه إلى فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم. اه.
وقال بعض شعرائهم:
ما بال عيسك لا يقر قرارها ** وإلامَ ضلك لا يني متنقلا؟
فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ** إلا إليك إذا بلغت المنزلا
فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه، وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه، أو يستجيب له؛ ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون.
وكنت أقول لمن أخاطبه: إن قولهم هو حقيقة قول فرعون، حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين: أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم، وكشف له حقيقة سرهم، قال: فقلت له: هذا قول فرعون؟ قال: نعم، ونحن على قول فرعون، فقلت له: الحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة.
وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم، ويمدحه ويثني على أهله لا على المستدير، ففي أم الكتاب: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [4]، وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} [5]، وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} الآيتين [6].
وقال تعالى في موسى وهارون: {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [7]، وقال تعالى: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [8]، وقال عن إبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم} الآية [9]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عليهمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [10].
وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، فإنه قعد لهم على صراط الله المستقيم، فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم.
وقال تعالى في حق خاتم الرسل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ الله} الآية [11].
وأيضا فإن الله يقول: {وَرُدُّواْ إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} [12]، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ علىنَا حِسَابَهُمْ} [13]، وقال تعالى: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} الآية [14]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [15]، وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت إلى الآن مردود إلى الله وما زلت مردودا إليه، وليس هو شيء غيرك، حتى ترد إليه أو ترجع إليه أو تكدح إليه أو تلاقيه، ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ** ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي!
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ** واليوم أحسبها أضغاث أحلام!
وذلك أنه كان يتوهم أنه هو الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان هو عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان.
وكذلك حدثني بعض أصحابنا، عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء، عن الفاجر التلمساني: أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال: دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له: مم تتأوه؟ فقال: من خوف الفوت، فقلت: سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت، وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام؟ فقال ما معناه: زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة!
هامش
- ↑ [الحج: 34]
- ↑ [نوح: 24]
- ↑ [البقرة: 20]
- ↑ [الفاتحة: 6]
- ↑ [الأنعام: 153]
- ↑ [النساء: 66]
- ↑ [الصافات: 117، 118]
- ↑ [الأنعام: 126]
- ↑ [الأعراف: 16، 17]
- ↑ [سبأ: 20]
- ↑ [الشورى: 52، 53]
- ↑ [يونس: 30]
- ↑ [الغاشية: 25، 26]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [الانشقاق: 6]