→ انتصار علماء بغداد للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور | العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وفاة الشيخ رحمه الله بالقلعة وما كتب بها قبل موته محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي |
ما كتبه العلماء في وفاة الشيخ ← |
☰ جدول المحتويات
وفاة الشيخ رحمه الله بالقلعة وما كتب بها قبل موته
ثم إن الشيخ رحمه الله تعالى بقي مقيما بالقلعة سنتين وثلاثة أشهر وأياما ثم توفي إلى رحمة الله ورضوانه وما برح في هذه المدة مكبا على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين
وكتب على تفسير القرآن العظيم جملة كثيرة تشتمل نفائس جليلة ونكت دقيقة ومعان لطيفة وبين في ذلك مواضع كثيرة أشكلت على خلق من علماء أهل التفسير
وكتب في المسألة التي حبس بسببها عدة مجلدات منها كتاب في الرد على ابن الأخنائي قاضي المالكية بمصر تعرف بالأخنائية ومنها كتاب كبير حافل في الرد على بعض قضاة الشافعية وأشياء كثيرة في هذا المعنى أيضا
وفاة الشيخ عبد الله أخي الشيخ
وفي هذه المدة التي كان الشيخ فيها بالقلعة توفي أخوه الشيخ الإمام العالم العلامة البارع الحافظ الزاهد الورع جمال الإسلام شرف الدين أبو محمد عبد الله توفي يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادي الأولى من سنة سبع وعشرين وسبعمائة وصلى عليه ظهر اليوم المذكور بجامع دمشق وحمل إلى باب القلعة فصلى عليه مرة أخرى وصلى عليه أخوه وخلق من داخل القلعة وكان الصوت بالتكبير يبلغهما وكثر البكاء في تلك الساعة وكان وقتا مشهودا ثم صلي عليه مرة ثالثة ورابعة وحمل على الرؤوس والأصابع إلى مقبرة الصوفية فدفن بها وحضر جنازته جمع كثير وعالم عظيم وكثر الثناء والتأسف عليه
وكان رحمه الله صاحب صدق وإخلاص قانعا باليسير شريف النفس شجاعا مقداما مجاهدا بارعا في الفقه إماما في النحو مستحضرا لتراجم السلف ووفياتهم له في ذلك يد طولى عالما بالتواريخ المتقدمة والمتأخرة وكان رحمه الله شديد الخوف والشفقة على أخيه شيخ الإسلام
وكان يخرج من بيته ليلا ويرجع إليه ليلا ولا يجلس في مكان معين بحيث يقصد فيه ولكنه يأوي إلى المساجد المهجورة والأماكن التي ليست بمشهورة
وكان كثير العبادة والتأله والمراقبة والخوف من الله ولم يزل على ذلك إلى حين مرضه ووفاته
ومولده في اليوم الحادي عشر من المحرم سنة ست وستين وستمائة بحران
وسمع من أبي اليسر والجمال عبد الرحمن البغدادي وابن الصيرفي والشيخ شمس الدين وابن البخاري وخلق كثير
وحدث وسمع الكتب الكبار
وقد سئل عنه الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني فقال هو بارع في فنون عديدة من الفقه والنحو والأصول ملازم لأنواع الخير وتعليم العلم حسن العبادة قوي في دينه جيد التفقه مستحضر لمذهبه استحضارا جيدا مليح البحث صحيح الذهن قوي الفهم
معاملة الشيخ في سجنه بالقلعة
قلت وما زال الشيخ تقي الدين رحمه الله في هذه المدة معظما مكرما يكرمه نقيب القلعة ونائبها إكراما كثيرا ويستعرضان حوائجه ويبالغان في قضائها
وكان ما صنفه في هذه المدة قد خرج بعضه من عنده وكتبه بعض أصحابه واشتهر وظهر
فلما كان قبل وفاته بأشهر ورد مرسوم السلطان بإخراج ما عنده كله ولم يبق عنده كتاب ولا ورقة ولا دواة ولا قلم وكان بعد ذلك إذا كتب ورقة إلى بعض أصحابه يكتبها بفحم وقد رأيت أوراقا عدة بعثها إلى أصحابه وبعضها مكتوب بفحم منها ورقة يقول فيها بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ونحن لله الحمد والشكر في نعم متزايدة متوافرة وجميع ما يفعله الله فيه نصر الإسلام وهو من نعم الله العظام هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفي بالله شهيدا فإن الشيطان استعمل حزبه في إفساد دين الله الذي بعث به رسله وأنزل كتبه
ومن سنة الله أنه إذا إراد إظهار دينه أقام من يعارضه فيحق الحق بكلماته ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق والذي سعى فيه حزب الشيطان لم يكن مخالفة لشرع محمد وحده بل مخالفة لدين جميع المرسلين إبراهيم وموسى والمسيح ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين
وكانوا قد سعوا في أن لا يظهر من جهة حزب الله ورسوله خطاب ولا كتاب وجزعوا من ظهور الأخنائية فاستعملهم الله تعالى حتى أظهروا أضعاف ذلك وأعظم وألزمهم بتفتيشه ومطالعته ومقصودهم إظهار عيوبه وما يحتجون به فلم يجدوا فيه إلا ما هو حجة عليهم وظهر لهم جهلهم وكذبهم وعجزهم وشاع هذا في الأرض وأن هذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولم يمكنهم أن يظهروا علينا فيه عيبا في الشرع والدين بل غاية ما عندهم أنه خولف مرسوم بعض المخلوقين والمخلوق كائنا من كان إذا خالف أمر الله تعالى ورسوله لم يجب بل ولا يجوز طاعته في مخالفة أمر الله ورسوله باتفاق المسلمين
وقول القائل إنه يظهر البدع كلام يظهر فساده لكل مستبصر ويعلم أن الأمر بالعكس فإن الذي يظهر البدعة إما أن يكون لعدم علمه بسنة الرسول أو لكونه له غرض وهوى يخالف ذلك وهو أولى بالجهل بسنة الرسول واتباع هواهم بغير هدى من الله ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ممن هو أعلم بسنة الرسول منهم وأبعد عن الهوى والغرض في مخالفتها ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
وهذه قضية كبيرة لها شأن عظيم ولتعلمن نبأه بعد حين
ثم ذكر الشيخ في الورقة كلاما لا يمكن قراءة جميعه لانطماسه وقال بعده
وكانوا يطلبون تمام الأخنائية فعندهم ما يطمهم أضعافها وأقوى فقها منها وأشد مخالفة لأغراضهم فإن الزملكانية قد بين فيها من نحو خمسين وجها أن ما حكم به ورسم به مخالف لإجماع المسلمين وما فعلوه لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول ويتعمد مخالفته لكان كفرا وردة عن الإسلام لكنهم جهال دخلوا في شيء ما كانوا يعرفونه ولا ظنوا أنه يظهر منه أن السلطنة تخالف مرادهم والأمر أعظم مما ظهر لكم ونحن ولله الحمد على عظيم الجهاد في سبيله
ثم ذكر كلاما وقال
بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان والجبلية والجهمية والاتحادية وأمثال ذلك وذلك من أعظم نعم الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون
ومنها ورقة قال فيها
ورقة أخرى مما كتبه الشيخ في السجن
ونحن ولله الحمد والشكر في نعم عظيمة تتزايد كل يوم ويجدد الله تعالى من نعمه نعما أخرى وخروج الكتب كان من اعظم النعم فإني كنت حريصا على خروج شيء منها لتقفوا عليه وهم كرهوا خروج الأخنائية فاستعملهم الله تعالى في إخراج الجميع وإلزام المنازعين بالوقوف عليه وبهذا يظهر ما أرسل الله به رسوله من الهدى ودين الحق
فإن هذه المسائل كانت خفية على أكثر الناس فإذا ظهرت فمن كان قصده الحق هداه الله ومن كان قصده الباطل قامت عليه حجة الله واستحق أن يذله الله ويخزيه
وما كتبت شيئا من هذا ليكتم عن أحد ولو كان مبغضا والأوراق التي فيها جواباتكم غسلت
وأنا طيب وعيناي طيبتان أطيب ما كانتا
ونحن في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
ثم ذكر كلاما وقال
كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو القوي العزيز العليم الحكيم ولا يدخل على أحد ضرر إلا من ذنوبه ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك فالعبد عليه أن يشكر الله ويحمده دائما على كل حال ويستغفر من ذنوبه فالشكر يوجب المزيد من النعم والاستغفار يدفع النقم ولا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراله إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
وهذه الورقة كتبها الشيخ وأرسلها بعد خروج الكتب من عنده بأكثر من ثلاثة أشهر في شهر شوال قبل وفاته بنحو شهر ونصف
ولما أخرج ما عنده من الكتب والأوراق حمل إلى القاضي علاء الدين القونوي وجعل تحت يده في المدرسة العادلية
وأقبل الشيخ بعد إخراجها على العبادة والتلاوة والتذكر والتهجد حتى أتاه اليقين
وختم القرآن مدة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة انتهى في آخر ختمة إلى آخر اقتربت الساعة إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ثم كملت عليه بعد وفاته وهو مسجى
كان كل يوم يقرأ ثلاثة أجزاء يختم في عشرة أيام هكذا أخبرني أخوه زين الدين
وكانت مدة مرضه بضعة وعشرين يوما وأكثر الناس ما علموا بمرضه فلم يفجأ الخلق إلا نعيه فاشتد التأسف عليه وكثر البكاء والحزن ودخل إليه أقاربه وأصحابه وازدحم الخلق على باب القلعة والطرقات وامتلأ جامع دمشق وصلوا عليه وحمل على الرؤوس رحمه الله ورضي عنه