→ ترجمة الشيخ عماد الدين ابن شيخ الحزاميين | العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية فصل محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي |
سجن الشيخ بسبب فتياه في الطلاق ← |
فصل
واعلموا أيدكم الله أنه يجب عليكم أن تشكروا ربكم تعالى في هذا العصر حيث جعلكم بين جميع أهل هذا العصر كالشامة البيضاء في الحيوان الأسود لكن من لم يسافر إلى الأقطار ولم يتعرف أحوال الناس لا يدري قدر ما هو فيه من العافية فأنتم إن شاء الله تعالى في حق هذه الأمة الأولى كما قال تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله وكما قال تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور
أصبحتم إخواني تحت سنجق رسول الله إن شاء الله تعالى مع شيخكم وإمامكم وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه قد تميزتم عن جميع أهل الأرض فقهائها وفقرائها وصوفيتها وعوامها بالدين الصحيح
وقد عرفتم ما أحدث الناس من الأحداث في الفقهاء والفقراء والصوفية والعوام فأنتم اليوم في مقابلة الجهمية من الفقهاء نصرتم الله ورسوله في حفظ ما أضاعوه من دين الله تصلحون ما أفسدوه من تعطيل صفات الله
وأنتم أيضا في مقابلة من لم ينفذ في علمه من الفقهاء إلى رسول الله وجمد على مجرد تقليد الأئمة فإنكم قد نصرتم الله ورسوله في تنفيذ العلم إلى أصوله من الكتاب والسنة واتحاد أقوال الأئمة تأسيا بهم لا تقليدا لهم
وأنتم أيضا في مقابلة ما أحدثته أنواع الفقراء من الأحمدية والحريرية من إظهار شعار المكاء والتصدية ومؤاخاة النساء والصبيان والإعراض عن دين الله إلى خرافات مكذوبة عن مشايخهم واستنادهم إلى شيوخهم وتقليدهم في صائب حركاتهم وخطائها وإعراضهم عن دين الله الذي أنزله من السماء فأنتم بحمد الله تجاهدون هذا الصنف أيضا كما تجاهدون من سبق حفظتم من دين الله ما أضاعوه وعرفتم ما جهلوه تقومون من الدين ما عوجوه وتصلحون منه ما أفسدوه
وأنتم أيضا في مقابلة رسمية الصوفية والفقهاء وما أحدثوه من الرسوم الوضعية والآصار الابتداعية من التصنع باللباس والإطراق والسجادة لنيل الرزق من المعلوم ولبس البقيار والأكمام الواسعة في حضرة الدرس وتنميق الكلام والعدو بين يدي المدرس راكعين حفظا للمناصب واستجلابا للرزق والإدرار
فخلط هؤلاء في عبادة الله غيره وتألهوا سواه ففسدت قلوبهم من حيث لا يشعرون يجتمعون لغير الله بل للمعلوم ويلبسون للمعلوم وكذلك في أغلب حركاتهم يراعون ولاة المعلوم فضيعوا كثيرا من دين الله وأماتوه وحفظتم أنتم ما ضيعوه وقومتم ما عوجوه
وكذلك أنتم في مقابلة ما أحدثته الزنادقة من الفقراء والصوفية من قولهم بالحلول والاتحاد وتأله المخلوقات كاليونسية والعربية والصدرية والسبعينية والتلمسانية فكل هؤلاء بدلوا دين الله تعالى وقلبوه وأعرضوا عن شريعة رسول الله
فاليونسية يتألهون شيخهم ويجعلونه مظهرا للحق ويستهينون بالعبادات ويظهرون بالفرعنة والصولة والسفاهة والمحالات لما وقر في بواطنهم من الخيالات الفاسدة وقبلتهم الشيخ يونس ورسول الله والقرآن المجيد عنهم بمعزل يؤمنون به بألسنتهم ويكفرون به بأفعالهم
وكذلك الاتحادية يجعلون الوجود مظهرا للحق باعتبار أن لا متحرك في السكون سواه ولا ناطق في الأشخاص غيره وفيهم من لا يفرق بين الظاهر والمظهر فيجعل الأمر كموج البحر فلا يفرق بين عين الموجة وبين عين البحر حتى إن أحدهم يتوهم أنه الله فينطق على لسانه ثم يفعل ما أراد من الفواحش والمعاصي لأنه يعتقد ارتفاع الثنوية
فمن العابد ومن المعبود صار الكل واحدا
اجتمعنا بهذا الصنف في الربط والزوايا
فأنتم بحمد الله قائمون في وجه هؤلاء أيضا تنصرون الله ورسوله وتذبون عن دينه وتعملون على إصلاح ما أفسدوا وعلى تقويم ما عوجوا فإن هؤلاء محوا رسم الدين وقلعوا أثره فلا يقال أفسدوا ولا عوجوا بل بالغوا في هدم الدين ومحوا أثره ولا قربة أفضل عند الله من القيام بجهاد هؤلاء بمهما أمكن وتبيين مذاهبهم للخاص والعام وكذلك جهاد كل من ألحد في دين الله وزاغ عن حدوده وشريعته كائنا في ذلك ما كان من فتنة وقول كما قيل
إذا رضي الحبيب فلا أبالي ** أقام الحي أم جد الرحيل
وبالله المستعان
وكذلك أنتم بحمد الله قائمون بجهاد الأمراء والأجناد تصلحون ما أفسدوا من المظالم والإجحافات وسوء السيرة الناشئة عن الجهل بدين الله بما أمكن وذلك لبعد العهد عن رسول الله لأن اليوم له سبعمائة سنة فأنتم بحمد الله تجددون ما دثر من ذلك ودثر
وكذلك أنتم بحمد الله قائمون في وجوه العامة مما أحدثوا من تعظيم الميلادة والقلندس وخميس البيض والشعانين وتقبيل القبور والأحجار والتوسل عندها ومعلوم أن ذلك كله من شعائر النصارى والجاهلية وإنما بعث رسول الله ليوحد الله ويعبد وحده ولا يأله معه شيء من مخلوقاته بعثه الله تعالى ناسخا لجميع الشرائع والأديان والأعياد فأنتم بحمد الله قائمون بإصلاح ما أفسد الناس من ذلك
وقائمون في وجوه من ينصر هذه البدع من مارقي الفقهاء أهل الكيد والضرار لأولياء الله أهل المقاصد الفاسدة والقلوب التي هي عن نصر الحق حائدة
وإنما أعرض هذا الضعيف عن ذكر قيامكم في وجوه التتر والنصارى واليهود والرافضة والمعتزلة والقدرية وأصناف أهل البدع والضلالات
لأن الناس متفقون على ذمهم يزعمون أنهم قائمون برد بدعتهم ولا يقومون بتوفية حق الرد عليهم كما تقومون بل يعلمون ويجبنون عن اللقاء فلا يجاهدون وتأخذهم في الله اللائمة لحفظ مناصبهم وإبقاء على أعراضهم
سافرنا البلاد فلم نر من يقوم بدين الله في وجوه مثل هؤلاء حق القيام سواكم فأنتم القائمون في وجوه هؤلاء إن شاء الله بقيامكم بنصرة شيخكم وشيخنا أيده الله حق القيام بخلاف من ادعى من الناس أنهم يقومون بذلك
فصبرا يا إخواني على ما أقامك الله فيه من نصرة دينه وتقويم اعوجاجه وخذلان أعدائه واستعينوا بالله ولا تأخذكم فيه لومة لائم وإنما هي أيام قلائل والدين منصور قد تولى الله إقامته ونصره ونصرة من قام به من أوليائه إن شاء الله ظاهرا وباطنا
وابذلوا فيما أقمتم فيه ما أمكنكم من الأنفس والأموال والأفعال والأقوال عسى أن تلحقوا بذلك بسلفكم أصحاب رسول الله فلقد عرفتم ما لقوا في ذات الله كما قال خبيب حين صلب على الجذع
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شلو ممزع
وقد عرفتم ما لقي رسول الله من الضر والفاقة في شعب بني هاشم وما لقي السابقون الأولون من التعذيب والهجرة إلى الحبشة وما لقي المهاجرون والأنصار في أحد وفي بئر معونة وفي قتال أهل الردة وفي جهاد الشأم والعراق وغير ذلك
وانظروا كيف بذلوا نفوسهم وأموالهم لله حبا له وشوقا إليه فكذلك أنتم رحمكم الله كل منكم على قدر إمكانه واستطاعته بفعله وبقوله وبخطه وبقلبه وبدعائه كل ذلك جهاد أرجو أن لا يخيب من عامل الله بشيء من ذلك إذ لا عيش إلا في ذلك ولو لم يكن فيه إلا هممكم مزاحمة لأهل الزيغ مشوشة لهم تبغضونهم في الله وتطلبون استقامتهم في دين الله وذلك من الجهاد الباطن إن شاء الله تعالى
فصل
ثم اعرفوا إخواني حق ما أنعم الله عليكم من قيامكم بذلك واعرفوا طريقكم إلى ذلك واشكروا الله تعالى عليها وهو أن أقام لكم ولنا في هذا العصر مثل سيدنا الشيخ الذي فتح الله به أقفال القلوب وكشف به عن البصائر عمى الشبهات وحيرة الضلالات حيث تاه العقل بين هذه الفرق ولم يهتد إلى حقيقة دين الرسول
ومن العجب أن كلا منهم يدعي أنه على دين الرسول حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل عن حقيقة دينه الذي أنزله من السماء وارتضاه لعباده
واعلموا أن في آفاق الدنيا أقواما يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق يعتقدون أن تلك البدع حقيقة الإسلام فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا
فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بين لكم أعلام دينكم وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم والصحيح من السقيم وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم وهم بالشأم إن شاء الله تعالى
فصل
ثم إذا علمتم ذلك فاعرفوا حق هذا الرجل الذي هو بين أظهركم وقدره ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول وحقه وقدره فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قلبه بموقع يستحقه عرف حق ما قام به هذا الرجل بين أظهر عباد الله يقوم معوجهم ويصلح فسادهم ويلم شعثهم جهد إمكانه في الزمان المظلم الذي انحرف فيه الدين وجهلت السنن وعهدت البدع وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا والقابض على دينه كالقابض على الجمر فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف وخطره لا يعرف هذا إذا عرفتموه أنتم من حيثية الأمر الشرعي الظاهر فهنا قوم عرفوه من حيثية أخرى من الأمر الباطن ومن يقوده إلى معرفة أسماء الله تعالى وصفاته وعظمة ذاته واتصال قلبه بأشعة أنوارها والاحتظاء من خصائصها وأعلى أذواقها ونفوذه من الظاهر إلى الباطن ومن الشهادة إلى الغيب ومن الغيب إلى الشهادة ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر وغير ذلك مما لا يمكن شرحه في كتاب
فشيخكم أيدكم الله تعالى عارف بذلك عارف بأحكام الله الشرعية عارف بأحكامه القدرية عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية ومثل هذا العارف قد يبصر ببصيرته تنزل الأمر بين طبقات السماء والأرض كما قال تعالى الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
فالناس يحسون بما يجري في عالم الشهادة وهؤلاء بصائرهم شاخصة إلى الغيب ينتظرون ما تجري به الأقدار يشعرون بها أحيانا عند تنزلها
فلا تهونوا أمر مثل هؤلاء في انبساطهم مع الخلق واشتغال أوقاتهم بهم فإنهم كما حكى عن الجنيد رحمه الله أنه قيل له كم تنادى على الله تعالى بين الخلق فقال أنا أنادي على الخلق بين يدي الله
فالله الله في حفظ الأدب معه والانفعال لأوامره وحفظ حرماته في الغيب والشهادة وحب من أحبه ومجانبة من أبغضه وتنقصه ورد غيبته والانتصار له في الحق
واعلموا رحمكم الله أن هنا من سافر إلى الأقاليم وعرف الناس وأذواقهم وأشرف على غالب أحوالهم فوالله ثم والله ثم والله لم ير أديم تحت السماء مثل شيخكم علما وعملا وحالا وخلفا واتباعا وكرما وحلما في حق نفسه وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته أصدق الناس عقدا وأصحهم علما وعزما وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة وأسخاهم كفا وأكملهم اتباعا لنبيه محمد
ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسنتها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل بحيث يشهد القلب الصحيح أن هذا هو الاتباع حقيقة
وبعد ذلك كله فقول الحق فريضة فلا ندعي فيه العصمة عن الخطأ ولا ندعي إكماله لغايات الخصائص المطلوبة فقد يكون في بعض الناقصين خصوصية مقصودة مطلوبة لا يتم الكمال إلا بهاتيك الخصوصية وهذا القدر لا يجهله منصف عارف ولولا أن قول الحق فريضة والتعصب للإنسان هوى لأعرضت عن ذكر هذا لكن يجب قول الحق إن ساء أو سر والله المستعان
إذا علمتم ذلك أيدكم الله تعالى فاحفظوا قلبه فإن مثل هذا قد يدعى عظيما في ملكوت السماء واعملوا على رضاه بكل ممكن واستجلبوا وده لكم وحبه إياكم بمهما قدرتم عليه فإن مثل هذا يكون شهيدا والشهداء في العصر تبع لمثله فإن حصلت لكم محبته رجوت لكم بذلك خصوصية أكتمها ولا أذكرها وربما يفطن لها الأذكياء منكم وربما سمحت نفسي بذكرها كيلا أكتم عنكم نصحي
وتلك الخصوصية هي أن ترزقوا قسطا من نصيبه الخاص المحمدي مع الله تعالى فإن ذلك إنما يسري بواسطة محبة الشيخ للمريد واستجلاب المريد محبة الشيخ بتأتيه معه وحفظ قلبه وخاطره واستجلاب وده ومحبته فأرجو بذلك لكم قسطا مما بينه وبين الله تعالى فضلا عما تكسبونه من ظاهر علمه وفوائده وسياسته إن شاء الله تعالى
وأرجو أنكم إذا فتحتم بينكم وبين ربكم تعالى بصحيح المعاملة بحفظ تلك الساعة في الصلوات الخمس والتهجد أن ينفتح لكم معرفة حقيقة هذا الرجل ونبأه إن شاء الله تعالى
وإنما ذكرت حفظ الساعة وإن كان في الصلوات الخمس كفاية إذا قام العبد فيها لحق الله تعالى وذلك لأن الصلوات قد تهجم على العبد وقلبه مأخوذ في جواذب الظاهر فلا يعرف نصيب قلبه من ربه فيها فإذا كان للعبد ساعة بين الليل والنهار عرف فيها نصيب قلبه من ربه فإذا جاءت الصلوات عرف فيها حاله وزياديه ونقصانه باعتبار حالته مع ربه في تلك الساعة وبالله المستعان
فصل
وإذا عرفتم قدر دين الله تعالى الذي أنزله على رسوله ﷺ وعرفتم قدر حقائق الدين الذي يعبر عنه بالنفوذ إلى الله تعالى والحظوة بقربه ثم عرفتم اجتماع الأمرين في شخص معين ثم عرفتم انحراف الأمة عن الصراط المستقيم وقيام الرجل المعين الجامع للظاهر والباطن في وجوه المنحرفين بنصر الله تعالى ودينه ويقوم معوجهم ويلم شعثهم ويصلح فاسدهم ثم سمعتم بعد ذلك طعن طاعن عليه من أصحابه أو من غيرهم فإنه لا يخفى عنك محق هو أو مبطل إن شاء الله
وبرهان ذلك أن المحق طالب الهدى والحق بغرض عند من أنكر عليه ذلك الفعل الذي أنكره إما بصيغة السؤال أو الاستفهام بالتلطف عن ذلك النقص الذي رآه فيه أو بلغه عنه فإن وجد هناك اجتهادا أو رأيا أو حجة قنع بذلك وأمسك ولم يفش ذلك إلى غيره إلا مع إقامة ما بينه من الاجتهاد أو الرأي أو الحجة ليسد الخلل بذلك فمثل هذا يكون طالب هدى محبا ناصحا يطلب الحق ويروم تقويم أستاذه عن انحرافه بتعريفه وتفويضه كما يروم أستاذه تقويمه كما قال بعض الخلفاء الرشدين ولا يحضرني اسمه إذا اعوججت فقوموني
فهذا حق واجب بين الأستاذ والطالب فإن الأستاذ يطلب إقامة الحق على نفسه ليقوم به ويتهم نفسه أحيانا ويتعرف أحواله من غيره مما عنده من النصفة وطلب الحق والحذر من الباطل كما يطلب المريد ذلك من شيخه من التقويم وإصلاح الفاسد من الأعمال والأقوال
ومن براهين المحق أن يكون عدلا في مدحه عدلا في ذمه لا يحمله الهوى عند وجود المراد على الإفراط في المدح ولايحمله الهوى عند تعذر المقصود على نسيان الفضائل والمناقب وتعديد المساوىء والمثالب
فالمحق في حالتي غضبه ورضاه ثابت على مدح من مدحه وأثنى عليه ثابت على ذم من ثلبه وحط عليه
وأما من عمل كراسة في عد مثالب هذا الرجل القائم بهذه الصفات الكاملة بين أصناف هذا العالم المنحرف في هذا الزمان المظلم ثم ذكر مع ذلك شيئا من فضائله ويعلم أنه ليس المقصود ذكر الفضائل بل المقصود تلك المثالب ثم أخذ الكراسة يقرؤها على أصحابه واحدا واحدا في خلوة يوقف بذلك همهم عن شيخهم ويريهم قدحا فيه فإني أستخير الله تعالى وأجتهد رأيي في مثل هذا الرجل وأقول انتصارا لمن ينصر دين الله بين اعداء الله في رأس السبعمائة فإن نصرة مثل هذا الرجل واجبة على كل مؤمن كما قال ورقة بن نوفل لئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا ثم أسأل الله تعالى العصمة فيما أقول عن تعدي الحدود والإخلاد إلى الهوى
أقول مثل هذا ولا أعين الشخص المذكور بعينه لا يخلو من أمور
أحدها أن يكون ذا سن تغير رأيه لسنه لا بمعنى أنه اضطرب بل بمعنى أن السن إذا كبر يجتهد صاحبه للحق ثم يضعه في غير مواضعه مثلا يجتهد أن إنكار المنكر واجب وهذا منكر وصاحبه قد راج على الناس فيجب علي تعريف الناس ما راج عليهم وتغيب عليه المفاسد في ذلك
فمنها تخذيل الطلبة وهم مضطرون إلى محبة شيخهم ليأخذوا عنه فمتى تغيرت قلوبهم عليه ورأوا فيه نقصا حرموا فوائده الظاهرة والباطنة وخيف عليهم المقت من الله أولا ثم من الشيخ ثانيا
المفسدة الثانية إذا شعر أهل البدع الذين نحن وشيخنا قائمون الليل والنهار بالجهاد والتوجه في وجوههم لنصرة الحق أن في أصحابنا من ثلب رئيس القوم بمثل هذا فإنهم يتطرقون بذلك إلى الاشتفاء من أهل الحق ويجعلونه حجة لهم
المفسدة الثالثة تعديد المثالب في مقابلة ما يستغرفها ويزيد عليها بأضعاف كثيرة من المناقب فإن ذلك ظلم وجهل
والأمر الثاني من الأمور الموجبة لذلك تغير حاله وقلبه وفساد سلوكه بحسد كان كامنا فيه وكان يكتمه برهة من الزمان فظهر ذلك الكمين في قالب صورته حق ومعناه باطل
فصل
وفي الجملة أيدكم الله إذا رأيتم طاعنا على صاحبكم فافتقدوه في عقله أولا ثم في فهمه ثم في صدقه ثم في سنه فإذا وجدتم الاضطراب في عقله دلكم على جهله بصاحبكم وما يقول فيه وعنه ومثله قلة الفهم ومثله عدم الصدق أو قصوره لأن نقصان الفهم يؤدي إلى نقصان الصدق بحسب ما غاب عقله عنه ومثله العلو في السن فإنه يشيخ فيه الرأي والعقل كما تشيخ فيه القوى الظاهرة الحسية فاتهموا مثل هذا الشخص واحذروه وأعرضوا عنه إعراض مداراة بلا جدل ولا خصومة
وصفة الامتحان بصحة إدراك الشخص وعقله وفهمه أن تسألوه عن مسألة سلوكية أو علمية فإذا أجاب عنها فأوردوا على الجواب إشكالا متوجها بتوجيه صحيح فإن رأيتم الرجل يروح يمينا وشمالا ويخرج عن ذلك المعنى إلى معان خارجة وحكايات ليست في المعنى حتى ينسى رب المسألة سؤاله حيث توهه عنه بكلام لا فائدة فيه فمثل هذا لا تعتمدوا على طعنه ولا على مدحه فإنه ناقص الفطرة كثير الخيال لا يثبت على تحري المدارك العلمية ولا تنكروا مثل إنكار هذا فإنه اشتهر قيام ذي الخويصرة التميمي إلى رسول الله وقوله له اعدل فإنك لم تعدل إن هذه قسمة لم يرد بها وجه الله تعالى أو نحو ذلك
فوقوع هذا وأمثاله من بعض معجزات الرسول فإنه قال لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وإن كان ذلك في اليهود والنصارى لكن لما كانوا منحرفين عن نهج الصواب فكذلك يكون في هذه الأمة من يحذو حذو كل منحرف وجد في العالم متقدما كان أو متأخرا حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه
يا سبحان الله العظيم أين عقول هؤلاء أعميت أبصارهم وبصائرهم أفلا يرون ما الناس فيه من العمى والحيرة في الزمان المظلم المدلهم الذي قد ملكت فيه الكفار معظم الدنيا وقد بقيت هذه الخطة الضيقة يشم المؤمنون فيها رائحة الإسلام وفي هذه الخطة الضيقة من الظلمات من علماء السوء والدعاة إلى الباطل وإقامته ودحض الحق وأهله مالا يحصر في كتاب ثم إن الله تعالى قد رحم هذه الأمة بإقامة رجل قوي الهمة ضعيف التركيب قد فرق نفسه وهمه في مصالح العالم وإصلاح فسادهم والقيام بمهماتهم وحوائجحهم ضمن ما هو قائم بصدد البدع والضلالات وتحصيل مواد العلم النبوي الذي يصلح به فساد العالم ويردهم إلى الدين الأول العتيق جهد إمكانه وإلا فأين حقيقة الدين العتيق فهو مع هذا كله قائم بجملة ذلك وحده وهو منفرد بين أهل زمانه قليل ناصره كثير خاذله وحاسده والشامت فيه
فمثل هذا الرجل في هذا الزمان وقيامه بهذا الأمر العظيم الخطير فيه أيقال له لم يرد على الأحمدية لم لا تعدل في القسمة لم تدخل على الأمراء لم تقرب زيدا وعمرا
أفلا يستحيي العبد من الله يذكر مثل هذه الجزئيات في مقابلة هذا العبء الثقيل ولو حوقق الرجل على هذه الجزئيات وجد عنده نصوص صحيحة ومقاصد صحيحة ونيات صحيحة تغيب عن الضعفاء العقول بل عن الكمل منهم حتى يسمعوها
أما رده على الطائفة الفلانية أيها المفرط التائه الذي لا يدري ما يقول أفيقوم دين محمد بن عبد الله الذي أنزل من السماء إلا بالطعن على هؤلاء وكيف يظهر الحق إن لم يخذل الباطل لا يقول مثل هذا إلا تائه أو مسن أو حاسد
وكذا القسمة للرجل في ذلك اجتهاد صحيح ونظر إلى مصالح تترتب على إعطاء قوم دون قوم كما خص الرسول الطلقاء بمائةمن الإبل وحرم الأنصار حتى قال منهم أحداثهم شيئا في ذلك لاذووا أحلامهم وفيها قام ذو الخويصرة فقال ما قال وأما دخوله على الأمراء فلو لم يكن كيف كان شم الأمراء رائحة الدين العتيق الخاص ولو فتش المفتش لوجد هذه الكيفية التي عندهم من رائحة الدين ومعرفة المنافقين إنما اقتبسوها من صاحبكم
وأما تقريب زيد وعمرو فلمصلحة باطنة لو فتش عنها مع الإنصاف وجد هنالك ما يرى أن ذلك من المصلحة ونفرض أنك مصيب في ذلك إذ لا نعتقد العصمة إلا في الأنبياء والخطأ جار على غيرهم أيذكر مثل هذا الخطأ في مقابلة ما تقدم من الأمور العظام الجسام. لا يذكر مثل هذا في كراسة ويعددها ثم يدور بها على واحد واحد كأنه يقول شيئا إلا رجل يسأل الله العافية في عقله وخاتمة الخير على عمله وأن يرده عن انحرافه إلى نهج الصواب بحيث لا يبقى معشره يعيبه بعلمه وتصنيفه من أولى العقول والأحلام
ونستغفر الله العظيم من الخطأ والزلل في القول والعمل والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
هذا آخر الرسالة التي سماها مؤلفها
التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار
فرحم الله من قام بحمل الإصرار وتصحيح التوبة النصوح بالاستغفار إلى عالم الأسرار نفع الله من وقف عليها وأصغى إلى ما يفتح منها ولديها آمين
فتاوى الشيخ بدمشق وبعض اختياراته التي خالف فيها المذاهب الأربعة أو بعضها
ثم إن الشيخ رحمه الله بعد وصوله من مصر إلى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما للاشتغال والإشغال ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة وغيرها ونفع الخلق والإحسان إليهم والاجتهاد في الأحكام الشرعية
ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة وفي بعضها قد يفتي بخلافهم أو بخلاف المشهور من مذاهبهم
ومن اختياراته التي خالفهم فيها أو خالف المشهور من أقوالهم
القول بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا طويلا كان أو قصيرا كما هو مذهب الظاهرية وقول بعض الصحابة
والقول بأن البكر لا تستبرأ وإن كانت كبيرة كما هو قول ابن عمر واختاره البخاري صاحب الصحيح
والقول بأن سجود التلاوة لا يشترط له وضوء كما يشترط للصلاة كما هو مذهب ابن عمر واختيار البخاري أيضا
والقول بأن من أكل في شهر رمضان معتقدا أنه ليل فبان نهارا لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإليه ذهب بعض التابعين وبعض الفقهاء بعدهم
والقول بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة كما هو في حق القارن والمفرد كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما ورواية عن الإمام بن حنبل رواها عنه ابنه عبد الله وكثير من أصحاب الإمام أحمد لا يعرفونها
والقول بجواز المسابقة بلا محلل وإن خرج المتسابقان
والقول باستبراء المختلعة بحيضة وكذلك الموطوءة بشبهة والمطلقة آخر ثلاث تطليقات
والقول بإباحة وطء الوثنيات بملك اليمين
والقول بجواز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية في ذلك وجواز طواف الحائض ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرا
والقول بجواز بيع الأصل بالعصير كالزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج
والقول بجواز الوضوء بكل ما يسمى ماء مطلقا كان أو مقيدا
والقول بجواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره كالخاتم ونحوه بالفضة متفاضلا وجعل الزائد من الثمن في مقابلة الصنعة
والقول بأن المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير قليلا كان أو كثيرا
والقول بجواز التيمم لمن خاف فوات العيد والجمعة باستعمال الماء
والقول بجواز التيمم في مواضع معروفة
والجمع بين الصلاتين في أماكن مشهورة
وغير ذلك من الأحكام المعروفة من أقواله
وكان يميل أخيرا لتوريث المسلم من الكافر الذمي وله في ذلك مصنف وبحث طويل
ومن أقواله المعروفة المشهورة التي جرى بسبب الإفتاء بها محن وقلاقل قوله بالتكفير في الحلف بالطلاق
وأن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة
وأن الطلاق المحرم لا يقع
وله في ذلك مصنفات ومؤلفات كثيرة منها
قاعدة كبيرة سماها تحقيق الفرقان بين التطليق والإيمان نحو أربعين كراسة
وقاعدة سماها الفرق المبين بين الطلاق واليمين بقدر النصف من ذلك
وقاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة مجلد لطيف
وقاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة
وقاعدة سماها التفصيل بين التكفير والتحليل
وقاعدة سماها اللمعة
وغير ذلك من القواعد والأجوبة في ذلك لا ينحصر ولا ينضبط وله في ذلك جواب اعتراض ورد عليه من الديار المصرية وهو جواب طويل في ثلاث مجلدات بقطع نصف البلدي
وكان القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي رحمه الله في يوم الخميس منتصف شهر ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة وسبعمائة قد اجتمع بالشيخ وأشار عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق فقبل الشيخ إشارته وعرف نصيحته وأجاب إلى ذلك
وكان قد اجتمع إلى القاضي جماعة من الكبار حتى فعل ذلك
فلما كان يوم السبت مستهل جمادي الأولى من هذه السنة ورد البريد إلى دمشق ومعه كتاب السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الحلف بالطلاق التي رآها الشيخ تقي الدين بن تيمية وأفتى فيها وصنف فيها والأمر بعقد مجلس في ذلك
فعقد يوم الاثنين ثالث الشهر المذكور بدار السعادة وانفصل الأمر على ما أمر به السلطان ونودي بذلك في البلد يوم الثلاثاء رابع الشهر المذكور ثم إن الشيخ عاد إلى الإفتاء بذلك وقال لا يسعني كتمان العلم
فلما كان يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من شهر رمضان سنة تسع عشرة وسبعمائة جمع القضاة والفقهاء عند نائب السلطنة بدار السعادة وقرىء عليهم كتاب السلطان وفيه فصل يتعلق بالشيخ بسبب الفتوى في هذه المسألة وأحضر وعوتب على فتياه بعد المنع وأكد عليه في المنع من ذلك