الكلام على شد الرحال إلى القبور
فلما كان في سنة ست وعشرين وسبعمائة وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين وظفروا للشيخ بجواب سؤال في ذلك كان قد كتبه من سنين كثيرة يتضمن حكاية قولين في المسألة وحجة كل قول منهما
وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدم أقدم من الجواب المذكور بكثير ذكره في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم وغيره وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به
وكثر الكلام والقيل والقال بسبب العثور على الجواب المذكور وعظم التشنيع على الشيخ وحرف عليه ونقل عنه ما لم يقله وحصل فتنة طار شررها في الآفاق واشتد الأمر وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار المصرية والشامية وكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله تعالى وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة وجبن منهم من كانت له همة
وأما الشيخ رحمه الله فكان ثابت الجأش قوي القلب وظهر صدق توكله واعتماده على ربه
ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ فقال أحدهم ينفى فنفي القائل
وقال آخر يقطع لسانه فقطع لسان القائل
وقال آخر يعزر فعزر القائل
وقال آخر يحبس فحبس القائل
أخبرني بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها
واجتمع جماعة آخرون بمصر وقاموا في هذه القضية قياما عظيما واجتمعوا بالسلطان وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ فلم يوافقهم السلطان على ذلك
أمر السلطان بحبس الشيخ بقلعة دمشق
ولما كان يوم الاثنين بعد العصر السادس من شعبان من السنة المذكورة حضر إلى الشيخ من جهة نائب السلطنة بدمشق مشد الأوقاف وابن خطير أحد الحجاب وأخبراه أن مرسوم السلطان ورد بأن يكون في القلعة وأحضرا معهما مركوبا
فأظهر الشيخ السرور بذلك وقال أنا كنت منتظرا ذلك وهذا فيه خير عظيم
وركبوا جميعا من داره إلى باب القلعة وأخليت له قاعة حسنة وأجرى إليها الماء ورسم له بالإقامة فيها وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان ورسم له بما يقوم بكفايته
وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور قرىء بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك وبمنعه من الفتيا
وفي يوم الأربعاء منتصف شعبان أمر القاضي الشافعي بحبس جماعة من أصحاب الشيخ بسجن الحكم وذلك بمرسوم النائب وإذنه له في فعل ما يقتضيه الشرع في أمرهم
وأوذي جماعة من أصحابه واختفى آخرون وعزر جماعة ونودي عليهم ثم أطلقوا سوى الإمام شمس الدين محمد بن أبي بكر إمام الجوزية فإنه حبس بالقلعة وسكنت القضية
وهذا صورة الفتيا وموافقة البغاددة له وغيرهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على محمد وآله
أما بعد فهذه فتيا أفتى بها الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه
ثم بعد مدة نحو سبع عشرة سنة أنكرها بعض الناس وشنع بها جماعة عند بعض ولاة الأمور وذكرت بعبارات شنيعة ففهم منها جماعة غير ما هي عليه وانضم إلى الإنكار والشناعة وتغير الألفاظ أمور أوجب ذلك كله مكاتبة السلطان سلطان الإسلام بمصر أيده الله تعالى فجمع قضاة بلده ثم اقتضى الرأي حبسه فحبس بقلعة دمشق المحروسة بكتاب ورد سابع شعبان المبارك سنة ست وعشرين وسبعمائة
وفي ذلك كله لم يحضر الشيخ المذكور بمجلس حكم ولا وقف على خطه الذي أنكر ولا ادعي عليه بشيء
فكتب بعض الغرباء من بلده هذه الفتيا وأوقف عليها بعض علماء بغداد فكتبوا عليها بعد تأملها وقراءة ألفاظها
وسئل بعض مالكية دمشق عنها فكتبوا كذلك وبلغنا أن بمصر من وقف عليها فوافق
ونبدأ الآن بذكر السؤال الذي كتب عليه أهل بغداد وبذكر الفتيا وجواب الشيخ المذكور عليها وجواب الفقهاء بعده
وهذه صورة السؤال والأجوبة
المسئول من إنعام السادة العلماء والهداة الفضلاء أئمة الدين وهداة المسلمين وفقهم الله لمرضاته وأدام بهم الهداية أن ينعموا ويتأملوا الفتوى وجوابها المتصل بهذا السؤال المنسوخ عقبه وصورة ذلك
ما يقول السادة العلماء أئمة الدين نفع الله بهم المسلمين في رجل نوى السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين مثل نبينا محمد وغيره فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة وهل هذه الزيارة شرعية أم لا
وقد روى عن النبي أنه قال من حج ولم يزرني فقد جفاني ومن زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي وقد روي عنه أيضا أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى
أفتونا مأجورين رحمكم الله
الجواب
الحمد لله رب العالمين
أما من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين فهل يجوز له قصر الصلاة على قولين معروفين
أحدهما وهو قول متقدمي العلماء الذين لا يجوزون القصر في سفر المعصية كأبي عبد الله بن بطة وأبي الوفاء بن عقيل وطوائف كثيرة من العلماء المتقدمين أنه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر لأنه سفر منهى عنه ومذهب مالك والشافعي وأحمد أن السفر المنهى عنه في الشريعة لا يقصر فيه
والقول الثاني أنه يقصر وهذا يقوله من يجوز القصر في السفر المحرم كأبي حنيفة ويقوله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد ممن يجوز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين كأبي حامد الغزالي وأبي الحسن ابن عبدوس الحراني وأبي محمد بن قدامة المقدسي وهؤلاء يقولون إن هذا السفر ليس بمحرم لعموم قوله زوروا القبور
وقد يحتج بعض من لا يعرف الحديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبي كقوله من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي رواه الدارقطني
وأما ما ذكره بعض الناس من قوله من حج ولم يزرني فقد جفاني فهذا لم يروه أحد من العلماء وهو مثل قوله من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له على الله الجنة
فإن هذا أيضا باتفاق العلماء لم يروه أحد ولم يحتج به أحد وإنما يحتج بعضهم بحديث الدار قطني ونحوه
وقد احتج أبو محمد المقدسي على جواز السفر لزيارة القبور بأنه كان يزور مسجد قباء
وأجاب عن حديث لا تشد الرحال بأن ذلك محمول على نفي الاستحباب
وأما الأولون فإنهم يحتجون بما في الصحيحين عن النبي أنه قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى
وهذا الحديث مما اتفق الأئمة على صحته والعمل به فلو نذر أن يشد الرحل ليصلي بمسجد أو مشهد أو يعتكف فيه ويسافر إليه غير هذه الثلاثة لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمة
ولو نذر أن يسافر ويأتي المسجد الحرام لحج أو عمرة وجب عليه ذلك باتفاق العلماء
ولو نذر أن يأتي مسجد النبي أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد ولم يجب عليه عند أبي حنيفة لأنه لا يجب عنده بالنذر إلا ما كان جنسه واجبا بالشرع
أما الجمهور فيوجبون الوفاء بكل طاعة كما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
والسفر إلى المسجدين طاعة فلهذا وجب الوفاء به
وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب احد من العلماء السفر غليه إذا نذره حتى نص العلماء على أنه لا يسافر إلى مسسجد قباء لأنه ليس من المساجد الثلاثة مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة
قالوا ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة
وهذا ما ذكره أبو عبد الله بن بطة في الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة والإجماع
وبهذا يظهر بطلان حجة أبي محمد المقدسي لأن زيارة النبي لمسجد قباء لم تكن بشد رحل ولأن السفر إليه لا يجب بالنذر
وقوله بأن الحديث الذي مضمونه لا تشد الرحال محمول على نفي الاستحباب يجاب عنه بوجهين
أحدهما أن هذا إن سلم فيه أن هذا السفر ليس بعمل صالح ولا قربة ولا طاعة ولا هو من الحسنات فإذا من اعتقد أن السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين قربة وعبادة وطاعة فقد خالف الإجماع وإذا سافر لاعتقاد أن ذلك طاعة كان ذلك محرما بإجماع المسلمين فصار التحريم من جهة اتخاذه قربة ومعلوم أن أحدا لا يسافر إليها إلا لذلك
وأما إذا نذر الرجل أن يسافر إليها لغرض مباح فهذا جائز وليس من هذا الباب
الوجه الثاني أن هذا الحديث يقتضي النهي والنهي يقتضي التحريم وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها بل مالك إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة كره أن يقول الرجل زرت قبر النبي ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم أو مشروعا أو مأثورا عن النبي لم يكرهه عالم أهل المدينة
والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة لما سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه في ذلك من الأحاديث إلا حديث أبي هريرة أن رسول الله قال ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام
وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه
وكذلك مالك في الموطأ روي عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا دخل المسجد قال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف
وفي سنن أبي داود عن النبي أنه قال لاتتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم
وفي سنن سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رأى رجلا يختلف إلى قبر النبي فقال له إن رسول الله قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغني فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء
وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي أنه قال في مرض موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا ولولا ذلك لابرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا
وهم دفنوه في حجرة عائشة رضي الله عنها خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء لئلا يصلي أحد عند قبره ويتخذه مسجدا فيتخذ قبره وثنا
وكان الصحابة والتابعون لما كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد إلى زمن الوليد بن عبد الملك لا يدخل أحد إليه لا لصلاة هناك ولا تمسح بالقبر ولا دعاء هناك بل هذا جميعه إنما كانوا يفعلونه في المسجد
وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلموا على النبي وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر
وأما الوقوف للسلام عليه صلوات الله عليه وسلامه فقال أبو حنيفة يستقبل القبلة أيضا ولا يستقبل القبر
وقال أكثر الأئمة يستقبل القبر عند الدعاء
وليس في ذلك إلا حكاية مكذوبة تروى عن مالك ومذهبه بخلافها
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي ولا يقبله
وهذا كله محافظة على التوحيد فإن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قالوا هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا على صورهم تماثيل ثم طال عليهم الأمد فعبدوها
وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا المعنى عن ابن عباس
وذكره محمد بن جرير الطبري وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف وذكره وثيمة وغيره في قصص الأنبياء من عدة طرق
وقد بسطت الكلام على أصول هذه المسائل في غير هذا الموضع
وأول من وضع هذه الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور أهل البدع من الرافضة ونحوهم الذين يعطلون المساجد ويعظمون المشاهد يدعون بيوت الله التي أمر الله أن يذكر فيها اسمه ويعبد وحده لا شريك له ويعظمون المشاهد التي يشرك فيها ويكذب ويبتدع فيها دين لم ينزل الله به سلطانا فإن الكتاب والسنة إنما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد كما قال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين
وقال تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر
وقال تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد
وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
وقال تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها
وقد ثبت عنه في الصحيح أنه كان يقول إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
هذا آخر ما أجاب به شيخ الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم
وله من الكلام في مثل هذا كثير كما أشار إليه في الجواب
ولما ظفروا في دمشق بهذا الجواب كتبوه وبعثوا به إلى الديار المصرية وكتب عليه قاضي الشافعية
قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية فصح إلى أن قال وإنما المحرف جعله زيارة قبر النبي وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم معصية بالإجماع مقطوع بها
هذا كلامه فانظر إلى هذا التحريف على شيخ الإسلام والجواب ليس فيه المنع من زيارة قبور الأنبياء والصالحين وإنما ذكر فيه قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى
والشيخ لا يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل بل يستحبها ويندب إليها وكتبه ومناسكه تشهد بذلك ولم يتعرض الشيخ إلى هذه الزيارة في الفتيا ولا قال إنها معصية ولا حكى الإجماع على المنع منها والله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية
ولما وصل خط القاضي المذكور إلى الديار المصرية كثر الكلام وعظمت الفتنة وطلب القضاة بها فاجتمعوا وتكلموا وأشار بعضهم بحبس الشيخ فرسم السلطان به وجرى ما تقدم ذكره
ثم جرى بعد ذلك أمور على القائمين في هذه القضية لا يمكن ذكرها في هذا الموضع