محنة الشيخ بدمشق
وقال الشيخ علم الدين وفي شهر ربيع الأول من سنة ثمان وتسعين وستمائة وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين بن تيمية
وكان الشروع فيها من أول الشهر وظهرت يوم الخامس منه واستمرت إلى آخر الشهر
وملخصها أنه كان كتب جوابا سئل عنه من حماة في الصفات فذكر فيه مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين واجتمع بسيف الدين جاغان في ذلك في حال نيابته بدمشق وقيامه فقام نائب السلطنة وامتثل أمره وقبل قوله والتمس منه كثرة الاجتماع به
فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعة مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية الشيخ وتألمهم لظهوره وذكره الحسن
فانضاف شيء إلى أشياء ولم يجدوا مساغا إلى الكلام فيه لزهده وعدم إقباله على الدنيا وترك المزاحمة على المناصب وكثرة علمه وجودة أجوبته وفتاويه وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف ويعتقدونه الصواب
فأخذوا الجواب الذي كتبه وعملوا عليه أوراقا في رده ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحدا واحدا وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش وجعلوه يقول بالتجسيم حاشاه من ذلك وأنه قد أوعز ذلك المذهب إلى أصحابه وأن العوام قد فسدت عقائدهم بذلك ولم يقع من ذلك شيء والعياذ بالله
وسعوا في ذلك سعيا شديدا في أيام كثيرة المطر والوحل والبرد وسعوا في ذلك سعيا شديدا
فوافقهم جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذ على ذلك ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية وطلب حضوره وأرسل إليه فلم يحضر
وأرسل إليه في الجواب إن العقائد ليس أمرها إليك وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي
فوصلت إليه هذه الرسالة فأغروا خاطره وشوشوا قلبه وقالوا لم يحضر ورد عليك
فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة
فأجاب إلى ذلك فنودي في بعض البلد ثم بادر سيف الدين جاغان وأرسل طائفة فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة
ثم طلب سيف الدين جاغان من قام في ذلك وسعي فيه فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا واحتمى مقدمهم ببدر الدين الأتابكي ودخل عليه في داره وسأل منه أن يجيره من ذلك فترفق في أمره إلى أن سكن غضب سيف الدين جاغان
ثم إن الشيخ جلس يوم الجمعة على عادته ثالث عشر الشهر وكان تفسيره في قوله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم وذكر الحلم وما ينبغي استعماله
وكان ميعادا جليلا ثم إنه اجتمع بالقاضي إمام الدين الشافعي وواعده لقراءة جزئه الذي أجاب فيه وهو المعروف بالحموية
فاجتمعوا يوم السبت رابع عشر الشهر من بكرة النهار إلى نحو الثلث من ليلة الأحد ميعادا طويلا مستمرا وقرئت فيه جميع العقيدة وبين مراده من مواضع أشكلت ولم يحصل إنكار عليه من الحاكم ولا ممن حضر المجلس بحيث انفصل عنهم والقاضي يقول كل من تكلم في الشيخ يعزر وانفصل عنهم عن طيبة
وخرج والناس ينتظرون ما يسمعون من طيب أخباره
فوصل إلى داره في ملأ كثير من الناس وعندهم استبشار وسرور به وهو في ذلك كله ثابت الجأش قوي القلب واثق بالنصر الإلهي لا يلتفت إلى نصر مخلوق ولا يعول عليه
وكان سعيهم في حقه أتم السعي لم يبقوا ممكنا من الاجتماع بمن يرتجون منه أدنى نصر لهم وتكلموا في حقه بأنواع الأذى وبأمور يستحي الإنسان من الله سبحانه أن يحكيها فضلا عن أن يختلقها ويلفقها فلا حول ولا قوة إلا بالله
والذين سعوا فيه معروفون عندنا وعند كل أحد قد اشتهر عنهم هذا الفعل الفظيع وكذلك من ساعدهم بقول أو تشنيع أو إغراء أو إرسال رسالة إو إفتاء أو شهادة أو أذى لبعض أصحاب الشيخ ومن يلوذ به أو شتم أو غيبة أو تشويش باطن فإنه وقع من ذلك شيء كثير من جماعة كثيرة
ورأى جماعة من الصالحين والأخيار في هذه الواقعة وعقيبها للشيخ مرائي حسنة جليلة لو ضبطت كانت مجلدا تاما انتهى ما ذكره