تاريخ ليبيا |
---|
تاريخ ليبيا الوسيط
|
تاريخ ليبيا الوسيط: ويبدا من الفتح الاسلامي على يد عمرو بن العاص في عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطابرضى الله عنه وأرضاه إلى انضمام ليبيا للدولة العثمانية.
فهرس
|
انتشر المسلمون العرب في كل أرجاء ليبيا واندمجوا مع السكان المحليين استطاع العرب بعد فترة وجيزة من قدومهم لليبيا أن يوطدوا أركان حكمهم وأن ينشروا الأمن في ربوعها، وبقيت ليبيا تابعة للخليفة في المشرق العربي حتى استقل إبراهيم بن الأغلب بولاية أفريقيا حوالي سنة(800 م) وأصبحت تبعيته للخلافة في المشرق العربي تبعية اسمية، وهو أمر يبدو أن الخليفة لم يعترض عليه كثيرا وذلك لأن الظروف السياسية في دولته المترامية الأطراف اقتضت اللامركزية في الحكم.
أسس ابن الأغلب أسرة ظلت تحكم ليبيا حتى قيام الدولة الفاطمية سنة 909-910م هذا بالنسبة للجزء الغربي من ليبيا، أما الجزء الشرقي من ليبيا فقد ظل في معظم الأحيان تابعا لولاية مصر.
في مطلع القرن العاشر الميلادي، كان دعاة الشيعة نشطين في ليبيا وشمال أفريقيا فجمعوا حولهم عددا كبيرا من الأعوان من الليبين الذين ثاروا على الحكاكم الاغلبي، واستطاعوا في 910م أن ينتزعوا تونس من الأغالبة، وعملوا على توطيد أركان حكمهم وأخذ أمراؤهم لقب خليفة، مُتَحَدِين بذلك الخليفة العباسي في بغداد، وفي سنة ( 969 م) نجح جوهر الصقلي قائد جيوش الخليفة العبيدي الفاطمي الرابع المعز لدين الله في أخذ مصر من الإخشيديين، واختط مدينة القاهرة، التي أصبحت حاضرة الدولة الفاطمية التي انتقل إليها المعز لدين الله سنة (973 م) وترك المعز بلكين بن زيري واليا على ليبيا وشمال أفريقيا، بما في ذلك إقليم طرابلس اي كل (ليبيا). وعلى الرغم من الود الذي ميز العلاقة بين الخليفة الفاطمي ونائبه على ليبيا وشمال أفريقيا في البداية، فإن ابن زيري وجد أن الترتيبات التي وضعها المعز لدين الله لولاية ليبيا غير مناسبة له، حيث جعل المعز لدين الله كل شؤون ولاية ليبيا المالية في أيدي موظفين يتبعونه مباشرة وهذا ما رفضه ابن زيري الذي ألقى القبض على عمال الخليفة وأرسل خطابا شديد اللهجة إلى المعز في القاهرة. مات المعز لدين الله قبل أن يتمكن من اتخاذ أي إجراء ضد ابن زيري. فخلفه العزيز الذي اعترف بالأمر الواقع وأقر ابن زيري على ولاية ليبيا التي أصبحت الآن تمتد حتى أجدابيا، وظلت الولاية في أيدي بني زيري حتى سنة (1145 م)، ولكنها كانت في حالة من الفوضى والضعف بعد ان انتقم الخليفة الفاطمي من ابن زيري بارسال قبائل بني هلال وبني سليم الاعرابية والتي كانت تقطن صعيد مصر والتي عملت حين قدومها الي ليبيا على القتل واليلب والنهب واخلت البلاد في حالة من الفوضى وانعدام الامن وعاثت في الرض فسادا لفترة طويلة من الزمن سهلت على النورمانديين الذين كانوا ينطلقون من قواعدهم في صقلية احتلالها.
وفي عام (1158م) نجح الموحدون في طرد النورمانديين من طرابلس، وتمكن الموحدون من تدعيم حكمهم وتعزيز مكانتهم في ليبيا وشمال أفريقيا حتى (1230م). وقد ترك الموحدون حكم الأجزاء الشرقية من ليبيا للحفصيين، إلا أن برقة لم تدخل ضمن المناطق التي سيطر عليها الحفصيون ، إذ ظلت تحكم مباشرة من مصر وان تمتعت في بعض الأحيان بالحكم الذاتي.
وتمتعت طرابلس بنصيب وافر من الثروة ورفاهية العيش . ففي سنة 833م ، تولى ولايتها عبد الواحد بن حفص من قبل أمير تونس عبد العزيز بن حفص . وفي هذه الفترة استتب الأمن في طرابلس ، وشعر الناس بالطمأنينة ؛ فاندفعوا بكل قواهم إلى العمل في التجارة والزراعة والصناعة . ووجدوا من رعاية هذا الرجل المصلح ما أبدل خوفهم أمنا ، وفقرهم غنىً . وبقوا في حكم عبد الواحد 25 سنة ، ذاقوا فيها من ألوان السعادة ما لم ير أجدادهم قريبا منه في مئات السنين الماضية . وجاء بعد عبد الواحد ، أبو بكر بن عثمان ؛ فبقي معهم 35 سنة ، لم يحدث فيها ما يكدر الصفو بما مهد له عبد الواحد بعدله وقوة عزيمته ، مما كان خير عون له على الحكم الصالح . وفي هذه المدة الطويلة ، أثرى الطرابلسيون إثراء لا مزيد عليه ، وانغمسوا في الرفاهية وبهنية العيش
من أقوى الأسباب التي هيأت للأسبان احتلال طرابلس هو ضعف الحامية فيها ، وانصراف الناس إلى تنمية المال ، وإلى متع الحياة عن الاهتمام بتقوية الجيش وتحصين القلاع . ومن المناسبات التي انتهزها الأسبان للتعجيل باحتلال طرابلس ، أنه في سنة 916م - وهي سنة الاحتلال - وقع خلاف بين أحمد الحفصي وبين والده الناصر ؛ فذهب إلى الأسبان يستنجد بهم على أبيه .
رست عدة سفن للعدو في ميناء طرابلس ، موسوقة بأنواع البضاعة ، وفيها من كل نوع كثير ؛ فتقدم إليهم تاجر من تجار المدينة فاشترى جميع ما فيها من سلع ونقد لهم ثمنها . واستضافهم رجل آخر وصنع لهم طعاما فاخرا وأخرج ياقوتة ثمينة فدقها دقا ناعما بمرأى منهم وذرها على طعامهم ؛ فبهتوا من ذلك ، فلما فرغوا قدم إليهم دلاعا "بطيخا" ، فطلبوا سكينا لقطعه فلم يوجد في داره سكين وكذا دار جاره إلى أن خرجوا إلى السوق ، فأتوا منه بسكين . فلما رجعوا إلى جنوة سألهم ملكهم عن حالها ، فقالوا : (( ما رأينا أكثر من أهلها مالا وأقل سلاحا ، وأعجز أهلا عن دفاع عدو )) .
استعد الإسبان لغزو طرابلس ؛ فجهزوا 120 قطعة بحرية ، وانضم إليها سفن أخرى من مالطة ، وشحنت بخمسة عشر ألف جندي من الأسبان ، وثلاثة آلاف من الإيطاليين والمالطيين . وفي 8 من ربيع الآخر سنة 916هـ ، أقلع الأسطول من فافينيانا ، ومرّ بجزيرة قوزو بمالطة فتزود منها بالماء ، وانضم إلى الجيش خبير مالطي اسمه جوليانو بيلا ، له معرفة بطرابلس . وقد أعدت هذه الحملة بإشراف نائب الملك في صقلية ، وبإعانة الجيوش الصقلية والإيطالية . وقد تسربت أخبار هذه الحملة إلى طرابلس قبل تحركها بنحو شهر ؛ فأخذ الناس في الهجرة منها إلى غريان ، وتاجورة ، ومسلاتة ، وأخذوا معهم كل ما كان مهما من أموالهم ، وما أمكنهم من أثقال متاعهم ، ولم يبق بالمدينة إلا المحاربون ، وشيخ المدينة وأهله ، واسمه عبد الله بن شرف وبعض السكان الذين لم يقدروا على الفرار ، وانحازوا إلى قصر الحكومة والجامع الكبير ، وصعد المحاربون فوق الأسوار وعلى القلاع .
أنزلت الجيوش في القوارب وكانت بقيادة "بييترونافارو" ، وفي الساعة التاسعة صباحا ، ابتدأ الهجوم وأطلقت السفن مدافعها على الأسوار وقصر الحكومة . ونزل الجيش المكلف بمنع العرب من الاتصال بالمدينة إلى البر بجهة سيدي الشعاب لمنع الاتصال بالمدينة . واندفع الجيش الأسباني نحو المدينة تحميه مدافع الأسطول ؛ فاحتل البرج القائم على باب العرب وبعض الأسوار . وتمكن الأسبان من فتح باب النسور ، واتصل الجيش الخارجي بالجيش الداخلي واستبسل الطرابلسيون في الدفاع . وجاء في رسالة القائد نافارو أنه لم يخل موضع قدم في المدينة من قتيل ، ويقدر عدد القتلى بخمسة آلاف ، والأسرى بأكثر من ستة آلاف ، وتغلب الأسبان على مقاومة العرب العنيفة ، واحتل قصر الحكومة عنوة ، وأسر فيه شيخ المدينة الشيخ عبد الله بن شرف هو وزوجه وأبناؤه . وقد حمي وطيس المعركة حينما تمكن حامل العلم الأسباني من نصبه على برج القصر.
وأبدى من التجأوا إلى الجامع الكبير مقاومة شديدة ، فقتل منهم نحو ألفي طرابلسي بين رجال ونساء وأطفال . وقتل من الأسبان ثلاثمائة رجل ، وكان من بين الموتى كولونيل كبير في الجيش، وأميرال الأسطول ، وشخصية أخرى كبيرة من النبلاء . وقبل أن تغرب شمس يوم 18 من ربيع الآخر سنة 916م ، سقطت مدينة طرابلس في يد الأسبان ، بعد أن أريقت دماء الطرابلسيين في كل بقعة منها ، وعلى كل منفذ وطريق ، وفوق كل قلعة وبرج وفي صحن الجامع وعند المحراب دفاعا عنها ، وعن عفاف النساء وطهارة المحجبات ، إذ حيثما توجهت تعثرت رجلاك في جثث أطفال لم يرث لصراخهم ، وفي أجسام نساء مبقورات البطون مقطوعات الأثداء لم ترع حرمتهن ، وفي أشلاء شيوخ لم تحترم شيخوختهم ، ولكثرة القتلى فقد ألقيت جثثهم في صهاريج الجوامع وفي البحر وأحرق بعضها بالنار . وأخذ شيخ المدينة عبد الله بن شرف هو وأولاده وحريمه أسرى إلى بلرمو ، وبقوا هناك نحو عشر سنوات .
أقام نائب البابا احتفالات الفرح بسقوط هذه المدينة العربية الإسلامية في أيدي المسيحيين . وأرسل القسيس أمريكودامبواس رئيس منظمة فرسان القديس يوحنا إلى فرديناند ملك أسبانيا تهنئة ، ويرجوه أن يتابع فتوحاته في أفريقية . وعلى الجانب الآخر فقد استاء المسلمون لهذا الاحتلال ، وقابله الطرابلسيون المقيمون في الأسكندرية إذ ذاك ، بإحراق فندق للأسبان في المدينة.
انتهز الطرابلسيون المعسكرون خارج السور غياب القائد الأسباني نافارو وأسطوله ، وانقضوا على المدينة وتسلقوا سورها ، ولكنهم لم يوفقوا فرجعوا أدراجهم .. وهو ما دفع محمد بن حسن الحفصي إلى إعانة طرابلس ؛ فجمع جيشا كبيرا بقيادة محمد أبي الحداد قائد توزر ، وكان من أكبر قواده ، ووصل طرابلس ونزل خارج السور وانضم إلى هذا الجيش المحاربون الطرابلسيون ، وهاجموا المدينة في ذي الحجة سنة 916هـ ، فبراير سنة 1511م ، ولكنهم لم يظفروا منها بطائل . وقد حصلت مبارزة بين أبي الحداد وأحد وقواد الأسبان ، فاحتضنه أبو الحداد وأخذه أسيرا . ودام حصار أبي الحداد لطرابلس سبعة أشهر ، إلى أن مات وتفرق جيشه .
احتل الأسبان طرابلس سنة (1510م) وظلوا يحكمونها حتى سنة (1530م) عندما منحها شارل الخامس إمبراطور الإمبراطورية الرومانية لفرسان القديس يوحنا الذين صاروا يعرفون في ذلك الوقت بفرسان مالطا.
في 18 صفر سنة 929هـ / يناير سنة 1523م ، غادر فرسان القديس جزيرة رودس إلى إيطاليا بدعوة من البابا كليمنت السابع ، في حين رأى رئيس المنظمة الأب فيليب أن يطلب إلى شارل الخامس إمبراطور الامبراطورية الرومانية منحه جزيرتي مالطة وقوزو ؛ لأنهم رأوا أنهما أليق مكان لغزو البلاد الإسلامية . وهنا سنحت الفرصة لشارل للتخلص من طرابلس التي طالما تحين لها الفرص ، فقبل طلب الفرسان على شرط أن يقوموا بالدفاع عن مدينة طرابلس .
ووافق مجلس منظمة الفرسان على الوثيقة القيصرية في 25 يوليو سنة 1535م ، وجاء وفد منهم إلى طرابلس ؛ ليستلم المدينة من واليها "فرديناند ألركون" . وإلى هنا انتهى حكم الأسبان في طرابلس ، بعد أن دام عشرين سنة لم يتجاوزوا فيها أسوار المدينة ، وقاسى فيها الطرابلسيون شر ما يقاسيه محكوم من حاكم .
تسلم فرسان القديس يوحنا طرابلس في المحرم سنة 942هـ / يوليه سنة 1535م ، وعينوا عليها واليا هو القسيس "جسباري دي سنقوسا" ، وهو أول والٍ من هذه المنظمة على طرابلس . واستولى الفرسان على جنزور والمنصورية والماية والحشان والزاوية وصبراته ، وكانوا يجبون أموالها ويفرضون عليها المغارم ويأخذون رهائنها خوف الانتفاض عليهم . وقد اضطر أهل الجهة الغربية للخضوع ؛ لأنهم في طريق الجيوش التونسية التي كانت تأتي لنصرة فرسان القديس على طريق البر ، بخلاف الجهة الشرقية التي احتفظت بنفسها بواسطة مشايخها.
وقد وجد مراد آغا معاونة فعالة في محاربة فرسان القديس ، وبعث أمير تونس إلى والي طرابلس يطلب منه صداقة منظمة القديس يوحنا وعقد معاهدة صداقة ودفاع معها ، فرد عليه أنه سيستشير حكومته ويرجوه ألا يرسل معونة إلى العرب بتاجورة حتى تتم المعاهدة بين مؤسسة القديس وبينه .
بلغت أخبار هذه المعاهدة خير الدين بربروس ؛ فجهز أسطولا ونزل على تاجوراء واحتلها سنة 937هـ ، وطرد منها أنصار الحسن أمير تونس ومؤيديه . وأبقى في تاجورة أحد قواده ، واسمه خير الدين كرمان ، وأبقى معه أيضا بعض القطع الحربية وجنودا وأسلحة . وكانت مياه تاجوراء غير صالحة لرسو السفن ؛ فأسرع كرمان لإعداد حوض فيها لسفنه ، وبنى برجا ؛ ليدافع به عن السفن الراسية في هذا الميناء .
وأعلن خير الدين كرمان الحربَ على الفرسان في البر والبحر ، واستولى على سفينتين للفرسان بكل ما فيهما ، وضعف نفوذهم خارج السور ، وامتنع سكان جنزور وغيرهم من دفع الضرائب وتخلصوا من حكم الفرسان .
سمع الحسن أمير تونس بأعمال خير الدين في تاجورة ؛ فجهز جيشا في شهر جمادى الآخرة سنة 938هـ ، يناير سنة 1532م ؛ لمحاصرة تاجورة وقاده بنفسه . وقد تأكد للحسن من مساعدة فرسان القديس بالمدافع والعتاد الحربي بناء على وعدهم إياه بهذه المساعدة . وزحف الحسن على طرابلس وحاصر جيش خير الدين في زواغة وتاجورة وعند البرج القائم على الميناء ، وبعث إلى والي طرابلس يطلب منه وفاء الوعد بالنجدة ، فلم يفِ بوعده . وجاءت نجدة إلى خير الدين كرمان من برباروسا ، وبلغ عدد أسطوله في تاجورة 15 قطعة كبيرة ، واستطاع كرمان أن يدافع عن تاجورة .
جاء خير الدين برباروسا في حملة كبيرة لنجدة تاجورة ، ونزل على صفاقس أولا واحتلها في شوال سنة 940هـ ، أبريل سنة 1534م . وعلم الحسن بهذه النجدة ؛ فرحل عن تاجورة ، وذهب لملاقاة خير الدين في صفاقس ، وانكسرت حملة الحسن وخاب فأله . وخاف الفرسان من تقدم كرمان إلى طرابلس فالتجأوا إلى إصلاح الحصون والقلاع ، وأعوزهم المال فأرهقوا الناس بالضرائب . وفي سنة 940هـ ، 1534م ، دعي بارباروسا إلى الآستانة ، وأسندت إليه قيادة الأسطول العثماني كله ، فازداد خوف الفرسان ، وخرج بارباروسا بأسطوله على سواحل إيطاليا ، واحتل تونس ، وعين حسن آغا على قسم من الأسطول وارسله إلى طرابلس .
رجع كرمان إلى تاجورة - بعد رحلته إلى صفاقس - وانضمت إليه القبائل الطرابلسية ودفعت إليه خراج أراضيها وضرائب أشجارها وحيواناتها ، وضرائب تجارتها . وحاصر طرابلس ، وضيق على أهلها حتى أصبحوا لا يقدرون على فتح الأبواب . وانتشرت قوات خير الدين حول طرابلس . وبنى قلعة على بعد ميل من سور المدينة إلى الجنوب ، وكانت تعرف بقلعة القائد ، وكانت بالظهرة ، ونصب عليها المدافع ، وكانت قنابلها تصل قريبا من الأسوار وتضايق الفرسان من هذه القلعة أشد المضايقة . وتهيأ كرمان لاحتلال طرابلس ، وكان ذا عزم وقوة إرادة ، وحشد جنده ورجاله ، وانضم إليه المتطوعون من الماية و جنزور .
تقدم الجيش نحو أسوار المدينة ومعه حملة السلالم ، ونشبت الحرب ، واختلطت أصوات التكبير والتهليل بأصوات البنادق والمدافع ونصبت السلالم على الأسوار ، وحمي وطيس الحرب . وضاقت الدنيا في وجوه الفرسان وظنوا أن لا مناص من الأسر أو القتل ، وكادوا يرفعون الأعلام البيضاء علامة الاستسلام . وفي آخر لحظة واتاهم النصر بسبب انتشار خبر وفاة خير الدين بين الجنود ؛ فأخذوا يتسللون تاركين مواقع الدفاع ؛ ليتحصنوا بقلعة الظهرة ، وكسب الفرسان المعركة .
وصل المدد من مالطة ، وأمكنهم من طريق التحايل وبث الفتنة بين سكان المنشية ، أن يستميلوا بعضا منهم ، وانضموا إلى صفوفهم ، وجاءوا أفواجا وملأوا الميادين ؛ ليحاربوا إخوانهم . وتقدم جيش الفرسان نحو قلعة القائد بالظهرة ، ورابط جيش خير الدين في قبيلة أبي دبوس . ولم يحاول كرمان أن يتعرض لزحف الفرسان وخلى بينهم وبين القلعة ، فاشتد الحصار عليها ، وأيس المحاصرون من إغاثة خير الدين ؛ فاستماتوا في القتال ، وأبوا الاستسلام فنسفت القلعة بمن فيها ، وذهبت أجسامهم في الفضاء تذروها الرياح . ورحمة الله ورضوانه على من أدى للوطن واجبه .
ولم يبق أمام الفرسان إلا خير الدين الذي يعسكر في قبيلة أبي دبوس ، التي تبعد عن المدينة بخمسة أميال ، فانتقل من مكانه إلى تاجورة ، وتقدم الفرسان إلى هذه القبيلة فنهبوها وأسروا من فيها ، وأضرموا فيها النار . وإلى هنا انقطعت أخبار خير الدين كرمان ، ويقال إنه قتل في هذه المعارك .
وبقي الفرسان في طرابلس إحدى وعشرين سنة، ولم يكن الفرسان متحمسين كثيرا للاحتفاظ بطرابلس، فبالإضافة للعداء الذي أظهره الليبيون تجاههم لأنهم اعتبروهم عنصرا أجنبياً دخيلاً وأهم من ذلك أنهم أعداء في الدين، اعترض الفرسان على تلك المنحة التي تعني تقسيم قواتهم، كما أن المسافة التي تفصل مالطا عن طرابلس تعني تعذر العون في حالة أي هجوم.