التوسع الغربى أو الحركة الاستعمارية يعتبر هو معلم بداية تاريخ آسيا الحديث.
ورغبة الأمم الأوربية في الحصول على السلع الآسيوية ليست أمراً جديداً، فقد سعى كل من اليونانيين والرومانيين من قبل للحصول على تلك السلع ذات الإثارة والسحر، حتى قيل أن تلك التجارة التى كانت غير متعادلة بين آسيا وأوروبا من العوامل الهامة في استنزاف ثروات روما من المعادن النفيسة. وبالتالى كانت من أسباب ضعف تلك الإمبراطورية العتيدة وسقوطها. وفى العصور الوسطى، وجدت السلع الآسيوية – التوابل النفيسة (جوزة الطيب وقشرة جوز الطيب والقرنفل والقرفة) والفلفل والحرير والعقاقير والأقمشة والعاج، وخلافها - رواجاً في أوساط أثرياء أوروبا، وأخذت هذه السلع تنقل إليهم عبر قنوات الاتصال التقليدية المتعددة، والتى كان أهمها طريق الحرير الذى يبدأ من الصين شرقاً إلى شبه جزيرة القرم والبحر الأسود فالقسطنطينية غرباً، ثم طريقا الخليج العربى والبحر الأحمر إلى موانئ الشام ومصر. وكان يقوم على نقل هذه السلع الشرقية بطريق الصين في معظم الأحوال آسيويون، أما على طريقا الخليج العربى والبحر الأحمر فقد قام العرب بعمليات النقل.
واينما كانت تصل السلع الشرقية إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، كانت تجد السفن الجنوية في انتظارها بشبه جزيرة القرم، حيث وجدت مراكز تجارية للجنوبيين هناك. أما البندقية، التى تمتعت بموقع جغرافي متميز جعلها مفتاح الطريق بين الشرق والغرب، فقد استطاعت بفضل تحالفها مع سلاطين المماليك – الذين كانوا يجمعون بين مصر والشام في وحدة سياسية واحدة – احتكار السلع الشرقية الواردة عن طريقى البحر الأحمر والخليج العربى للاتجار بها في أوروبا. وجدير بالذكر أن هذه الطرق سالفة الذكر، فضلاً عن طولها وبطئها كانت غير مأمونة العواقب لمرورها في مساحات أرضية شاسعة، مما كان يعرضها في كثير من الأحيان لحالات من التعدى، هذا في الوقت الذى ارتفعت فيه قيمة البضائع المنقولة عليها، وهذا ما أدى أيضاً إلى اختمار الرغبة في الاتصال بمصادر التجارة الشرقية مباشرة.
وقد زاد من اختمار هذه الرغبة السياسة الاحتكارية التى درج على استخدامها المماليك – حكام مصر والشام الشرعيين – خصوصاً في القرن الخامس عشر، عندما تحولت تجارة الشرق في معظمها إلى القاهرة بعد أن أصبح التتار يهددون طريق الخليج العربى. لذلك أصدر السلطان برسباى في سنة 1428م مرسوماً حرم شراء التوابل من غير المخازن السلطانية، ولضمان تنفيذ هذا المرسوم، زيدت رسوم المرور. وبذلك أجبر التجار على الشراء من المخازن السلطانية بالأسعار التى تحددها الأخيرة. وقد ساعد المماليك على تنفيذ سياستهم الاحتكارية جبايتهم للرسوم عينا. وقد بلغت هذه الرسوم حداً كبيراً من الارتفاع، حيث بلغت لبعض البضائع إلى العشر من قيمتها، ولبعضها الآخر إلى عشرة أمثال العشر – وذلك في ميناء جدة – خاصة بعد أن وصل البرتغال إلى الهند، وقل الإقبال على استخدام البحر الأحمر.
وترتب على هذا الاحتكار للسلع الشرقية، وبالذات الافاوية (التوابل) ارتفاع أسعارها بالنسبة للمستهلك الأوروبى، وهذا ما دفع بالأوربيين إلى البحث عن طريق تجارى يجنبهم التبعية التجارية التى ضاقوا بها ذرعاً للعرب والبنادقة. والاتصال مباشرة بمصادر التجارة الشرقية. وزاد من رغبة الأوربيين في الاتصال بمصادر التجارة الشرقية مباشرة، والاستغناء عن أى وسيط كان أوروبياً أم عربياً، عجز سلعهم عن تقديم الأساس المجزى للمبادلة مع السلع الشرقية. حيث ظل الأوربيون ولمدة ثلاثة قرون (1500-1800) يسعون للحصول على السلع الشرقية دون أن يكون لديهم البديل لتقديمه إلى الآسيويين (الجلود، الفراء، الصوف، الأخشاب) لقاء تلك السلع والنفائس الشرقية.
وبذلك نجد أن الدول الأوربية –بما فيها جنوه – قد ضاقت ذرعاً بالاحتكار العربي البندقى لتجارة الشرق، ومن ثم راحت تعمل على كسر هذا الاحتكار. وكان البرتغاليون الرواد الأول في هذا المجال، حيث كانوا أول من وصل إلى السواحل الآسيوية، وتحمل أعباء التخلص من السيطرة العربية على التجارة هناك. وذلك بهدف السيطرة على تجارة التوابل بصفة خاصة والسلع الآسيوية الأخرى بصفة عامة، والعمل على خفض أسعارها بالنسبة للمستهلك الأوروبى ونقل الثقل الاقتصادى من موانئ ومدن البحر المتوسط، إلى المدن والموانئ الواقعة على شواطئ المحيط الاطلنطى. وزاد من الاهتمام الأوروبى بآسيا، تلك التحولات الاقتصادية التى أخذت تعتري المجتمع الأوروبى، والتى كان أخطرها الانقلاب الصناعى في أواخر القرن الثامن عشر وازدهارها في القرن التاسع عشر، وما فرضه على المجتمع الأوربى من حتميات التوجه إلى الخارج بحثاً عن مصادر للمواد الخام وأسواق لتصريف الفائض من المنتجات الصناعية.
فراحت كل من إسبانيا والبرتغال – قبل أن يصل الصراع العربى الإسلامى مع الإمارات المسيحية في شبه جزيرة آيبريا إلى الذروة ويسفر عن خروجهم منها في 1492م ترفع شعار البحث عن المقتل الذى يجب أن يضرب فيه العرب المسلمين، فاتجهت إسبانيا إلى الساحل الأفريقى الغربي المقابل لها واستولت على سبته ومليله.
فى حين أن البرتغال حملت لواء حركة دينية جديدة، بهدف تعقب القوى الإسلامية وتطويقها، والقضاء على مصدر قوتها المتمثلة في تجارة الشرق والسيطرة على شرايين الملاحة المؤدية إلى مصادر هذه التجارة. ولا أدل على الطابع الدينى من أن الأمير هنرى الملاح كان يأمل أن يؤدى ارتياد الساحل الغربى لأفريقية إلى هدفين: الوصول إلى أسواق الهند والشرق، والوصول إلى مملكة القديس يوحنا في شرق أفريقيا، على أمل أن يؤدى الاتصال بها إلى الانقضاض على الدول الإسلامية التى تحتكر التجارة الشرقية. هذا إلى جانب ما عبر عنه فاسكو دي جاما عندما سأله حاكم فاليقوط عن سبب مجيئه إلى هذه الديار النائية عن بلاده، أجابه "المسيحية والتوابل". هذا فضلاً عن ما قاله دالبوكيرك في خطاب القاه على جنده في ملقا ان أبعاد العرب عن تجارة التوابل هو الوسيلة التى نرجو بها أضعاف قوة الإسلام.
هكذا نجحت البورجوازية في استغلال الدين والصراع التقليدى بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى وسيلة للوصول إلى غايتها وهى السيطرة على تجارة الشرق في كل مراحلها. ومن ذلك تتجلى مهارة البورجوازية في المزج بين مصلحتها الخاصة والمصلحة العامة، لأن رفع شعار احتكار التجارة وخصوصاً التوابل وانتزاعها من يد العرب لا يبعث الحماس الكافى لتنفيذ مخططات البورجوازية الأوروبية إلا في صدور كبار التجار وحدهم. أما رفع شعار إضعاف الإسلام فإنه يبعث الحماس في الغالبية العظمى من الشعب البرتغالي والإسباني الذى كان على مقربة من الوجود الإسلامى في أوروبا. وقد أثمر نجاح البورجوازية الأوربية في المزج بين مصالحها الخاصة والمصلحة العامة، عن مباركة البابوية للحركات الاستعمارية المبكرة، ليس هذا فحسب، بل أنها بادرت بالتدخل لفض النزاع بين كل من البرتغال وإسبانيا عندما احتدم الصراع بينهما على المناطق المكتشفة، والذى انتهى بعقد معاهدة ترويسلهاوس يونيو 1494، بمباركة البابوية.
وقد ساعد استمالة البروجوزاية للبابوية دون شك على إنجاح العمليات الكشفية والحركات الاستعمارية الأولى، لأنها استطاعت أن تكون شعوراً عاماً امتزجت فيه الروح الصليبية المتأججة العنيفة بالعاطفة الوطنية لمحاربة المسلمين. وهذا ما دفع كثير من العناصر الأوربية إلى ترك أوطانهم إلى مناطق الصراع، وهذا ما كان في صالح البورجوازية، التى وجدت من أبناء جلدتها من تجندهم لخدمة مصالحها خارج بلادها الأصلية. وبذلك تم استخدام العاطفة الدينية لتحقيق أغراض كانت في صالح البورجوازية في المقام الأول، فبعد أن تم اقصاء الوجود التجاري العربي من المياه الآسيوية، لم نجد نشاطاً تبشيرياً مرتباً. بشكل ملحوظ، بمعنى أن العمليات التبشيرية التى قامت بمنطقة شرق آسيا، كانت إما فردية، وإما قامت بها بعض الجمعيات التبشيرية، وإلى جانب ذلك لم تكن هناك سياسة تبشيرية مرسومة، ضمن سياسة أى دولة من الدول المستعمرة لمناطق شرق آسيا باستثناء فرنسا التى ركزت على النشاط التبشيرى وبالذات في الصين وذلك عند منتصف القرن التاسع عشر، ولم يكن هذا التركيز بمعزل عن مساعيها من أجل الحصول على امتيازات اقتصادية هناك، خاصة بعد أن حصلت على سلسلة من الامتيازات بمقتضى المعاهدات غير المتكافئة التى ترتبت على حروب الأفيون.
وفى ذات الوقت نلاحظ أن كل الممارسات الاستعمارية بمنطقة شرق آسيا انصبت في المقام الأول حول النشاطات التجارية، حيث جاءت المسائل التجارية فوق كل اعتبار عقائدى، بدليل أن بعض المدن الإيطالية وبالذات البندقية، والتى اتخذت من المسيحية دينا لها، اتحدت مع القوى الإسلامية –المصرية – لمقاومة المحاولات البرتغالية التى تتعرض للتجارة الشرقية. هذا فضلاً عما شهدته المنطقة الآسيوية من صراع بين القوى المسيحية بعضها راجع إلى التنافس حول مناطق النفوذ في آسيا وبعضها الآخر كان انعكاساً للصراع في أوربا – حرب الوراثة النمساوية 1740-1748 والصراع الفرنسى الإنجليزي وحرب السنوات السبع 1756-1763) – والذى دفع الدول المتصارعة إلى الاعتداء على ممتلكات غريمتها في منطقة شرق آسيا، حيث اقدمت بريطانيا على احتلال بوندشيرى الفرنسية عندما اشتد بينهما الصراع في أوربا. وإذا كان العامل الدينى قد لعب دوراً في دفع حركة الاستعمار نحو آسيا فإن ذلك جاء عن قصد من جانب البورجوازية الأوربية، التى تنبهت إلى استخدام الشعور الدينى الأوربى في تحقيق مصالحها الشخصية خارج أوربا بصفة عامة، وفى منطقة شرق آسيا بصفة خاصة.
لقد أدى نمو الروح القومية في أوروبا، وقيام دول حديثة ذات سلطة مركزية، تختلف إلى حد كبير عن ملكيات أوروبا في العصور الوسطى، إلى اتجاه هذه الدول الحديثة إلى توسيع أملاكها داخل أوروبا أو خارجها، إرضاء لحب السيطرة والاستحواز وتكوين الإمبراطوريات الاستعمارية فيما وراء البحار. وقد اتضح ذلك بعد أن وصل البرتغال إلى السواحل الهندية وعملهم على إنشاء إمبراطورية ساحلية قوية تقبض على تجارة الشرق، وتقوم بعملية وأد للوجود العربى في جميع البحار الشرقية. كذلك اتضحت الرغبة في إقامة الإمبراطوريات، فيما اقدم عليه البريطانيون بالهند من تكوين إمبراطورية كانت الركيزة التى انطلقوا منها إلى باقى بلدان الشرق الأقصى. كذلك كان للوضع السياسي والحربي في أوروبا دوراً لا بأس به في دفع حركة الاستعمار إلى خارج أوروبا، فالتطاحن بين كل من إنجلترا وفرنسا – على سبيل المثال – في أواخر القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، كان له دور فعال في حركة الدولتين الاستعمارية خارج أوروبا بصفة عامة وحول آسيا بصفة خاصة. وقد يكون للأوضاع السياسية الداخلية في بعض الدول الأوروبية، أثر في دفعها إلى التنفيس عن نفسها في الخارج. فقد دفعت حالة القلق الداخلى التى كان يعانى منها الشعب الفرنسي، الحكومة إلى التفكير في تحويل نظر الشعب عن المشاكل والاهتمامات الداخلية، بفتح مجالات خارجية استعمارية تكون أكثر جاذبية لتفكيره عن الوضع الداخلى. وهكذا ساهم حب امتلاك المستعمرات، وشهوة إقامة الإمبراطوريات المترامية الأطراف، المصاحبة لنمو الروح القومية، إلى جانب الصراع السياسى الداخلى في بعض الدول، في دفع كثير من الدول الأوربية ذات القوة البحرية إلى الدخول في زمرة الدول الاستعمارية، التى استهدفت منطقة شرق آسيا، كما استهدفت افريقيا والعالم الجديد.....