الرئيسيةبحث

هولندا وآسيا

قبل أن تحصل هولندا على اعتراف إسبانيا باستقلالها(*)، أخذت تساهم في العمليات الكشفية حول العالم الجديد، في نفس الوقت الذى أخذت تتمرد فيه على الأسعار الاحتكارية التى كان البرتغاليون يفرضونها على المستهلك الأوربى، خاصة بعد أن اتضح للهولنديين أن تحدى قوة البرتغال في البحار الشرقية أصبح من السهولة بمكان، ولذلك عقد كبار التجار الهولنديين بامستردام في سنة 1592 اجتماعاً قرروا فيه إنشاء شركة للتجارة مع الهند. ومنذ ذلك الحين أخذت هولندا تتطلع للوصول إلى الشرق.

وفى سنة 1595 خرج أول أسطول هولندى إلى آسيا ، والذى بلغ جزر الهند الشرقية، ثمعاد بعد غيبة دامت سنتان ونصف. وأن كان قد فقد عدداً من طاقمه، إلا أن الفوائد المادية من وراء البضائع التى جلبت كانت خير تعويض لذلك. ولم تكن هذه الرحلة بداية لرحلات عديدة، فحسب، بل أنها كانت محركاً لإنشاء شركة الهند الشرقية المتحدة، والتى أسست بمرسوم صدر في 20 مارس 1602 من الحكومة الهولندية. والذى خولت بمقتضاه حق احتكار التجارة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بردع أى معاملة سيئة يتعرض لها الهولنديون وكذلك حق عقد معاهدات مع حكام الشرق باسم الحكومة الهولندية، وبناء القلاع وتعيين الحكام والقضاة في المواقع التابعة وتطبيق القانون وتوفير النظام في مثل تلك المناطق.

إذا منذ تأسيس الشركة، وهى تتطلع إلى تركيز عملياتها في الشرق. لكن كيف السبيل إلى ذلك! خصوصاً أن آسيا في ذلك الوقت بها كيانات سياسية – بالصين، الهند، اليابان – لا يستهان بها، ويصعب على الشركة تحديها في ذلك الحين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان البرتغاليون هناك، وقد أقاموا أسس دفاعية على يد دالبوكيرك، مازالت سليمة، ولم يمسسها سوء. ولهذا حرص الهولنديون على تجنب الاصطدام بالكيانات السياسية في المنطقة، وكذلك القوى الأوربية الكائنة بها. ومن ثم راحوا يبحثون عن منفذ لدخول المنطقة، وسرعان ما اكتشفوا أن هناك ثغرة خطيرة، تتمثل في ارخبيل الملايو، والتى عن طريقها تم اختراق خطوط الدفاع الآسيوية. وقد وجد الهولنديون في هذه المنطقة المقومات الأساسية التى تلزمهم بالسيطرة عليها، فهى منطقة واسعة، تضم عدداً كبيراً من الجزر الخصبة للغاية. والتى تمتد بخط منحى يمتد من سومطرة إلى الفلبين. وتعد أكثر المناطق الآسيوية جاذبية وأهمية في الشرق كله والتى تتجلى في إنتاجها للتوابل النفيسة إلى جانب المعادن والصمغ والأعشاب الطبية. كذلك كانت منطقة ارخبيل الملايو مفككة سياسياً، فتسودها أنظمة حكم هزيلة يحكمها سلاطين ضعاف في حالة مستمرة من التنافس والحرب. وهذا الوضع إلى جانب تأثيره على التجارة سلباً، فإنه أيضاً جعل المنطقة فريسة سهلة لكل طامع فيها، وهذا ما ساعد أيضاً البرتغال من قبل في السيطرة عليها. علاوة على ذلك كانت الظروف مهيأة أمام الشركة لإنجاح محاولاتها، ففى الوقت الذى فكرت فيه الشركة الاتجاه إلى هذه المنطقة – الارخبيل – كان للهولنديين اليد العليا في أوربا في مجالات التجارة والملاحة والمال. وفى الشرق كان البرتغاليون قد خارت قواهم. وإذا كانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية – تأسست في 1601- قد بدأت نشاطها في منطقة شرق آسيا، فإنها على الرغم من كونها كانت المنافس الوحيد للشركة الهولندية، إلا أن إمكانياتها الملاحية والمالية كانت محدودة ولا تمكنها من التصدى للشركة الهولندية، حيث أن الأخيرة تمتعت برأس مال ثابت يفوق بكثير رأس مال نظيرتها الإنجليزية، هذا إلى جانب امتلاكها لعدد كبير من السفن التى تميزت بإمكانياتها التصنيعية والتسلحية، والتى جعلتها أكثر قدرة على المناورة من غيرها من السفن الأوربية المعاصرة لها. والأكثر أهمية من ذلك، أن شركة الهند الشرقية الهولندية، لم تكن مسألة توفير البديل للسلع الآسيوية، تمثل لها آية مشكلة – في ظل قيود تصدير السبائك المعدنية الثمينة التى سادت بين بعض الدول الأوربية في ذلك الوقت – لامتلاكها لكميات ضخمة من المعادن الثمينة، نتيجة التجارة الهولندية النشطة في أوربا خلال الخمسين سنة السابقة على مجيئهم إلى شرق آسيا. ومما سهل على الشركة من مهمتها في المياه الشرقية، أنها قامت على دمج عدة شركات تجارية هولندية، كانت قد وصلت من قبل إلى الشرق، ونجحت في إقامة علاقات طيبة مع بعض الحكام في أرخبيل الملايو، وأسس اغلبها مقرات تجارية وقلاع – في ترنيت، وبانتام، وجزر باندا – ورثتها الشركة في هذه المناطق، بمجرد إتمام عملية الدمج. لكل هذا قررت الشركة الهولندية الاتجاه إلى ارخبيل الملايو، حيث تجد ضالتها المنشودة وهى تجارة التوابل، وحيث الظروف المتوفرة للسيطرة على هذه المناطق، والتى ستساعدها على احتكار تجارتها.

وحتى تنفرد الشركة بتجارة المنطقة، عملت على مناهضة الوجود البرتغالى وكذلك الإنجليزى ولذلك أصدرت أوامرها إلى موظفيها في الشرق بضرب المعاقل البرتغالية أينما وجدت، وبناء القلاع اينما اقتضت الضرورة ذلك، والتخلص من منافسة شركة الهند الشرقية الإنجليزية بكل الوسائل. وقد تحقق كثير من أهداف الشركة الهولندية في خلال فترة لم تتجاوز الخمس عشرة سنة، حيث دمروا البرتغاليين، وطردوهم من جزر كثيرة، كذلك أبعدوا الإنجليز عن المنطقة بالكامل بعد أن عجزت شركة الهند الشرقية الإنجليزية عن منافسة الشركة الهولندية التى راحت تنافس الأولى في الأسواق الشرقية بدفع أسعار عالية للتوابل، وفى الأسواق الغربية ببيع ذات التوابل بأسعار منخفضة فيها. وإزاء هذه المنافسة اضطرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى الإنسحاب من جميع جزر أرخبيل الملايو وذلك بحلول نهاية العقد الثانى من القرن السابع عشر، مفضلة ان تقتصر فعالياتها على ساحل الملبار وفارس.

وقد أدت سياسية المناهضة الهولندية للوجود الأوربى بالارخبيل وخصوصاً للبرتغاليين، إلى أحداث تقارب بين الحكام المحليين والقادمون الجدد، بشكل مكن الهولنديين من تسديد ضربات ساحقة للبرتغاليين. وهذا النجاح الذى حققته الشركة الهولندية في أول حياتها بالملايو دفعها إلى تعيين حاكم عام للمنطقة في سنة 1604 يعاونه مجلس مؤلف من أربعة أشخاص، وذلك للإشراف على شؤون الشركة هناك. وفى سنة 1618 شغل هذا المنصب جون كوان Jan Pieterszoon Coen الذى لعب دوراً هاماً في بناء الإمبراطورية الهولندية في الشرق، لا يقل عن ذلك الذى لعبه دالبوكيرك بالنسبة للإمبراطورية البرتغالية. فمنذ أن عين جون كوان كحاكم عام أخذ يعمل على إرساء أسس الإمبراطورية الهولندية في الشرق، فأنشأ في مايو 1619 مدينة باتافيا (جاكرتا) – في الجزء الشمالى من جزيرة جاوة – واتخذها عاصمة إدارية للإمبراطورية في الشرق ومقراً رئيسياً لكل الفعاليات التجارية هناك. إلى جانب ذلك ضمن للإمبراطورية الهولندية مواقع استراتيجية على امتداد كل سواحل البحار الشرقية وعمل على ربطها ببعضها البعض بنظام محكم وفعال.

وفى سنة 1641 تم للهولنديين انتزاع ملقا حصن البرتغال الحصين في الشرق، والتى بضياعها من يد البرتغاليين تمزق النظام الدفاعى الذى وضع أسسه دالبوكيرك، خاصة بعد أن أقصى الهولنديون الوجود البرتغالى في سيلان سنة 1654، واحتلالهم لكوتشين في سنة 1660-مؤسسة البرتغال الأولى -. وبعد ذلك أخذ الهولنديون يقومون من كولمبو بحملات منظمة على كل أثر للبرتغاليين في المياة الهندية، ولذلك أخذت تتساقط محطاتهم التجارية الواحدة بعد الأخرى في يد الهولنديون. مما ساعد على انهيار الإمبراطورية البرتغالية التجارية بشكل سريع تحت أقدام التحديات الهولندية في الشرق. وبعد أن استقرت الأمور للشركة الهولندية في أرخبيل الملايو، وبعد أن أصبحت هولندا في بداية القرن السابع عشر أكبر قوة أوربية في البحار الشرقية، راحت الشركة تعمل على احتكار تجارة التوابل، ودفعها هذا الاحتكار إلى السيطرة على عمليات الإنتاج وتنظيمها بشكل جعلها تتحكم في السوق. فأخذت تتدخل في تحديد الكميات المنتجة من التوابل. وتقوم بإتلاف ما زاد منها عن الحد المطلوب. وقد امتدت عملية الإتلاف لتشمل أشجار التوابل نفسها، وأن كانت الشركة قد درجت على تقديم تعويضات لمن أتلفت مزارعهم، فإن هذه التعويضات كانت ضئيلة بالنسبة إلى قيمة المحصول. وجدير بالذكر أن هذه السياسة كان لها أكبر الأثر في وقف قوة الدفع الهولندية في البحار الشرقية في أواخر القرن السابع عشر. وإذا كانت شركة الهند الشرقية الهولندية قد تمكنت من احتكار تجارة التوابل طيلة القرن السابع عشر، إلا أنها لم تتمكن من الحفاظ على مستوى قوتها إلى ما بعد ذلك وذلك للتحديات العديدة التى أوصلت نشاطها التجارى إلى طريق شبه مسدود. وقد نجمت أولى التحديات التى واجهت الشركة عن سياستها بالمنطقة حيث ترتب على ازدياد الضرائب – بالإضافة إلى الضرائب التى كانت تدفع من قبل للسلطات الحاكمة وتحولت إلى الهولنديين – وإلزام الأهالى بتسليم المحصول إجبارياً للشركة، وإتلاف ما يزيد منه عن حاجة الشركة وحرمان السكان المحليين من ممارسة التجارة، وتحطيم سفنهم وتدميرها، شيوع الفقر والبؤس وشلل الحياة الاقتصادية، والتى أدت في النهاية إلى انتشار أعمال القرصنة بشكل خطير كان له تأثيره على تحركات الشركة ونشاطها بالمنطقة. أما عن ثانى التحديات التى واجهت الشركة بالمنطقة، فتمثلت في ازدياد نفقاتها عن ايراداتها، وذلك نتيجة سوء نظام الحسابات، وخيانة موظفى الشركة وافتقارهم إلى النزاهة، بعد اتساع الإمبراطورية، هذا إلى جانب ارتفاع الفوائد التى كانت تدفعها الشركة لحملة أسهمها والتى تراوحت بين 20% و40% والتى كان لها دور في تعثر نشاط الشركة المالى، خاصة بعد أن اتسعت الممتلكات وازدادت النفقات العسكرية والسياسية.

أما عن التحديات التى تعرضت لها الشركة خارج المنطقة، فكان بعضها اقتصادياً والبعض الآخر سياسياً، وبالنسبة للتحديات الاقتصادية، فقد تمثلت في تركيز الشركة لكل نشاطاتها التجارية حول التوابل النفيسة وتمسكها بذلك. في الوقت الذى تغيرت فيه طبيعة الطلبات الأوربية على السلع الآسيوية. وبذلك عجزت الشركة عن التكيف مع الوضع الجديد خاصة، بعد أن ازداد الوجود الأوربى بالمياه الآسيوية، وخاصة الوجود البريطانى الذى احتكر تجارة المنسوجات الآسيوية بالأسواق الأوربية. حتى أصبح الهولنديون أنفسهم يأمون أسواق لندن لابتياع المنسوجات القطنية الهندية التى كانت تستوردها بريطانيا أما عن التحديات السياسية التى كانت تواجه الشركة بالخارج، فتمثلت فيما تعرضت له هولندا من مصاعب سياسية وعسكرية كبرى كان لها تأثير واضح على نشاط الشركة في البحار الشرقية، حيث جاء اشتراك هولندا في حرب الاستقلال الأمريكية (1780) ضد بريطانيا ومساهمة شركة الهند الشرقية الهولندية بالشرق في الصراع ضد بريطانيا بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير بالنسبة للشركة، حيث تكبدت الشركة بسبب ذلك خسائر فادحة افقدتها سيلان ومواقع كثيرة بالشرق. وهكذا قابلت الشركة مزيد من التحديات التى أثرت في كل الحالات على ميزانية الشركة، التى سارت في طريق الإفلاس بسبب قلة الإيرادات في وقت كانت المصروفات تتضاعف، وهذا الجأ الشركة إلى الاقتراض إلى حد أعجزها عن الاستمرار، لذلك تقدمت الحكومة الهولندية بعدة اقتراحات لإنقاذ الموقف، وهى : أن تأخذ الحكومة الهولندية على عاتقها مسؤوليات الدفاع، والسماح بالتجارة الخاصة، والحد من احتكار الشركة التجارى، وأن تدفع الحكومة ديون الشركة التى بلغت حوالى 140 مليون جلدر، وذلك بشرط أن تتخلى الشركة عن جميع ممتلكاتها وتوابعها في الارخبيل للحكومة الهولندية. وبقبول ذلك انتهى دور شركة الهند الشرقية الهولندية في 1798، وورثت الحكومة الهولندية إمبراطورية من أغنى وأوسع الإمبراطوريات الأوربية في الشرق مقابل مبلغ زهيد.

اقرأ أيضا