→ كتاب الهبات (مسأله 1636 - 1641) | ابن حزم - المحلى كتاب الهبات (مسأله 1642 - 1649) ابن حزم |
كتاب الهبات (مسأله 1650) ← |
كتاب الهبات
1642 - مسألة : لا تقبل صدقة من مال حرام بل يكتسب بذلك إثما زائدا لقول رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . فكلما تصرف في الحرام فقد زاد معصية وإذا زاد معصية زاد إثما قال الله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } .
1643 - مسألة: ولا يحل لأحد أن يمن بما فعل من خير إلا من كثر إحسانه وعومل بالمساءة , فله أن يعدد إحسانه
قال الله عز وجل : {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}.
روينا من طريق شعبة سمعت سليمان هو الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال رسول الله ﷺ : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة , ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم , ولهم عذاب أليم : المنان بما أعطى , والمسبل إزاره , والمنفق سلعته بالحلف الكاذبة.
ومن طريق مسلم نا شريح بن يونس نا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن يحيى بن عمارة عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد لما فتح رسول الله ﷺ حنينا قسم الغنائم فأعطى المؤلفة قلوبهم فبلغه أن الأنصار يحبون أن يصيبوا ما أصاب الناس فقام رسول الله ﷺ فخطبهم فقال : يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي , وعالة فأغناكم الله بي , ومتفرقين فجمعكم الله بي ويقولون : الله ورسوله أمن فقال : ألا تجيبونني , أما إنكم لو شئتم أن تقولوا كذا , وكان من الأمر كذا أشياء ذكر عمرو أنه لا يحفظها فهذا موضع إباحة تعديد الإحسان وبالله تعالى التوفيق.
1644 - مسألة: وهبة المرأة ذات الزوج , والبكر ذات الأب , واليتيمة , والعبد , والمخدوع في البيوع , والمريض مرض موته , أو مرض غير موته , وصدقاتهم : كهبات الأحرار , واللواتي لا أزواج لهن , ولا آباء كهبات الصحيح ، ولا فرق.
وقد ذكرنا
برهان ذلك فيما سلف من كتابنا. وجملة ذلك : أن الله تعالى ندب جميع البالغين المميزين إلى الصدقة , وفعل الخير , وإنقاذ نفسه من النار , وكل من ذكرنا متوعد بلا خلاف من أحد " فلا يحل منعهم من القرب إلا بنص , ولا نص في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
1645 - مسألة: والصدقة للتطوع على الغني جائزة وعلى الفقير , ولا تحل لأحد من بني هاشم , والمطلب ابني عبد مناف , ولا لمواليهم , حاش " الحبس " فهو حلال لهم , ولا تحل صدقة التطوع على من أمه منهم إذا لم يكن أبوه منهم.
وأما الهبة , والهدية , والعطية , والإباحة , والمنحة , والعمرى , والرقبى : فكل ذلك حلال لبني هاشم , والمطلب ومواليهم هذا كله لا خلاف فيه حاش دخول بني المطلب فيهم , وحاش دخول الموالي فيهم , وحاش جواز صدقة التطوع لهم , فإن قوما أجازوها لهم.
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان نا شعبة نا الحكم ، هو ابن عتيبة ، عن ابن أبي رافع هو عبيد الله عن أبيه أن رسول الله ﷺ استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة فأراد أبو رافع أن يتبعه فقال له رسول الله ﷺ : إن الصدقة لا تحل لنا , وإن مولى القوم منهم. فهذا عموم لكل صدقة.
ومن طريق أبي داود نا مسدد نا هشيم عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب أخبرني جبير بن مطعم أن رسول الله ﷺ قال له : إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ، ولا إسلام , وإنما نحن وهم شيء واحد وشبك بين أصابعه.
فإن قيل : قد صح قول رسول الله ﷺ : كل معروف صدقة فإن أخذتم بظاهر هذا الخبر فامنعوهم من كل بر وهذا ما لا يقوله أحد ، ولا أنتم , وإلا فلا تمنعوهم إلا ما اتفق عليه : أنه لا يحل لهم وهو صدقة الفرض فقط.
قلنا : قوله عليه الصلاة والسلام : كل معروف صدقة قد خصه عطاؤه لبني هاشم , كالبعير الذي أعطى عليا من النفل من الخمس , ومن المغنم , وسائر هباته عليه الصلاة والسلام لهم , فوجب خروج ذلك بدليله. ووجدنا كل معروف وإن كان يقع عليه اسم صدقة فله اسم آخر يخصه : كالقرض , والهبة , والهدية , والإباحة , والحمالة , والضيافة , والمنحة , وسائر أسماء وجوه البر. ووجدنا الصدقة التطوع ليس لها اسم غير " الصدقة " وقد صح أن الصدقة محرمة على آل محمد ﷺ ومواليهم , فوجب ضرورة أن تكون الصدقة التطوع حراما عليهم ; لأنها هي الصدقة التي لا اسم لها غير " الصدقة " ، ولا خلاف في تحريم الصدقة المفروضة عليهم وهي الزكاة.
فإن قيل : فقد رويتم من طريق أبي داود نا محمد بن عبيد المحاربي نا محمد بن فضيل عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن كريب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : بعثني رسول الله ﷺ في إبل أعطاه إياها من الصدقة.
قلنا : هذا صحيح , ولا يخلو من أحد وجهين : أحدهما وهو ظاهر الخبر أن ابن عباس هو المعطي لتلك الإبل من صدقة لازمة له , فبعثه عليه الصلاة والسلام فيها إلى حيث يجمع إبل الصدقة.
والثاني أنه حتى لو صح أنه عليه الصلاة والسلام هو أعطى تلك الإبل لأبن عباس وليس ذلك في الخبر لكان ذلك منسوخا بتحريم الصدقة عليهم ; لأن تحريم الصدقة عليهم هو الرافع المعهود الأصل وللحال الأول بلا شك من إباحة الصدقة لهم كسائر الناس ,
ومن ادعى عود المنسوخ ناسخا فقد كذب إلا أن يشهد له نص بين بذلك.
وأما الغني : فقد
روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عدي بن الخيار أن رجلين حدثاه أنهما سألا النبي ﷺ من الصدقة فقال : إن شئتما , ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب.
قلنا : هذا الخبر وكل ما جاء بهذا اللفظ فإنما هو على " الصدقة المفروضة " التي حرمت على الأغنياء إلا من خصه النص منهم : من والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فقط.
برهان ذلك
ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني عمران بن بكار حدثني علي بن عياش نا شعيب ، هو ابن أبي حمزة حدثني أبو الزناد حدثني عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يحدث عن رسول الله ﷺ فذكر حديثا فيه قال رجل : لاتصدقن بصدقة , فوضعها في يد سارق , فأصبحوا يتحدثون تصدق على سارق فقال : اللهم لك الحمد لاتصدقن بصدقة , فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية , فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على زانية , فقال : اللهم لك الحمد لاتصدقن بصدقة , فخرج بصدقته فوضعها في يد غني , فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على غني , فقال : اللهم لك الحمد على سارق , وعلى زانية , وعلى غني , فأتي فقيل له : أما صدقتك فقد تقبلت وذكر الخبر. فهذا بيان في جواز الصدقة على الغني , والصالح , والطالح.
1646 - مسألة: وللعبد أن يتصدق من مال سيده بما لا يفسد , واستدركنا في تصدق العبد الخبر الذي قد ذكرناه , أن رسول الله ﷺ كان يجيب دعوة المملوك.
وروينا من طريق أحمد بن شعيب نا قتيبة نا حاتم ، هو ابن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد قال : سمعت عميرا مولى آبي اللحم قال : أمرني مولاي أن أقدد لحما فجاءني مسكين فأطعمته , فعلم بذلك مولاي فضربني , فأتيت رسول الله ﷺ فدعاه فقال : لم ضربته فقال : يطعم طعامي بغير أن آمره , فقال رسول الله ﷺ : الأجر بينكما.
ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة , وابن نمير , وزهير بن حرب كلهم عن حفص بن غياث عن محمد بن زيد عن عمير مولى آبي اللحم قال : كنت مملوكا فسألت رسول الله ﷺ أأتصدق من مال موالي شيئا قال : نعم , والأجر بينكما نصفان
قال أبو محمد : لا يخلو مال العبد من أن يكون له كما نقول نحن , أو يكون لسيده كما يقولون , فإن كان مال فصدقة المرء من ماله فعل حسن مندوب إليه , وإن كان لسيده فهذا نص جلي بإباحة الصدقة له منه فليعضدوا بالجندل. وقد بينا أن قوله تعالى : {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء} ليس بضرورة العقل والحس في كل مملوك ; لأننا نراهم لا يعجزون عن شيء مما يعجز عنه الحر فصح أنه تعالى إنما عنى بعض العبيد ممن هذه صفته , كما قال تعالى : {وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء} وليس كل أبكم كذلك.
فصح أنه تعالى أراد من البكم من هذه صفته ويلزمهم على هذا أن يسقطوا عنه الصلاة , والوضوء والغسل , والصيام , إذا كان عندهم لا يقدر على شيء.
فإن قالوا : هذه أعمال أبدان.
قلنا : قد تركتم احتجاجكم بظاهر الآية بعد وأتيتم بدعوى في الفرق بين أعمال الأبدان وأعمال الأموال بلا
برهان والحج عمل بدن فألزموه إياه.
فإن قالوا : قد يجبر بالمال.
قلنا فأسقطوا عنه الصوم بهذا الدليل السخيف ; لأنه يجبر بالمال من عتق المكفر وإطعامه وبالله تعالى التوفيق.
الإباحة
1647- مسألة: والإباحة جائزة في المجهول , بخلاف العطية , والهدية والصدقة , والعمرى , والرقبى , والحبس , وغير ذلك , وذلك كطعام يدعى إليه قوم يباح لهم أكله , ولا يدرى كم يأكل كل واحد. وهذا منصوص من عهد رسول الله ﷺ وأمره بإجابة الدعوة والأكل فيها وكأمر رسول الله ﷺ من شاء أن يقتطع إذ نحر الهدي. وكأمره عليه الصلاة والسلام المرسل بالهدي إذا عطب أن ينحره , ويخلي بينه وبين الناس. ونحو هذا وبالله تعالى التوفيق.
1648 - مسألة: وجائز للمرء أن يأكل من بيت والده , ووالدته , وابنه , وابنته , وأخيه , وأخته , شقيقتين , أو لأب أو لأم , وولد ولده , وجده , وجدته , كيف كانا , وعمه , وعمته , كيف كانا , وخاله , وخالته , كيف كانا , وصديقه , وما ملك مفاتحه , سواء رضي من ذكرنا أو سخط , أذنوا , أو لم يأذنوا , وليس له أن يأكل الكل.
برهان ذلك : قول الله تعالى في نص القرآن
وقوله تعالى : {من بيوتكم أو بيوت آبائكم} نص ما قلنا ; لأن " من " للتبعيض وقوله عليه الصلاة والسلام إن ولد أحدكم من كسبه , وإن أطيب ما أكل أحدكم من كسبه.
المنحة
1649 - مسألة: والمنحة جائزة , وهي في المحتلبات فقط , يمنح المرء ما يشاء من إناث حيوانه من شاء للحلب. وكدار يبيح سكناها , ودابة يمنح ركوبها , وأرض يمنح ازدراعها , وعبد يخدمه , فما حازه الممنوح من كل ذلك فهو له , لا طلب للمانح فيها , وللمانح أن يسترد عين ما منح متى شاء سواء عين مدة أو لم يعين , أشهد أو لم يشهد ; لأنه لا يحل مال أحد بغير طيب نفسه إلا بنص , ولا نص في هذا , وتعيينه المدة : عدة.
وقد ذكرنا أن " الوعد " لا يلزم الوفاء به في " باب النذور , والأيمان " من كتابنا هذا , فأغنى عن إعادته. والإزراع , والإسكان , والإفقار , والإمتاع , والإطراق , والإخدام , والإعراء , والتصيير : حكم ما وقع بهذه الألفاظ كحكم المنحة في كل ما ذكرنا , سواء بسواء ، ولا فرق. وهذا كله قول أبي حنيفة , والشافعي , وداود , وجميع أصحابهم. فالإزراع يكون في الأرض , يجعل المرء لأخر أن يزرع هذه الأرض مدة يسميها , أو طول حياته والإسكان يكون في البيوت , وفي الدور , والدكاكين كما ذكرنا. والإفقار : يكون في الدواب التي تركب. والإطراق : يكون في الفحول تحمل على الإناث. والإخدام : يكون في الرقيق الذكور والإناث. والإمتاع : يكون في الأشجار ذوات الحمل , وفي الثياب , وفي جميع الأثاث ,
وكذلك التصيير.
وكذلك الجعل والإعراء : يكون في حمل النخل , فكل هذا ما قبضه المجعول له ذلك , فلا رجوع لصاحب الرقبة فيه , وما لم يقبضه المجعول له كل ذلك , فلصاحب الرقبة استرجاع رقبة ماله , ومنع المجعول له مما جعل له.
روينا من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة , والشاة الصفي تروح بإناء وتغدو بإناء.
وقد ذكرنا قوله عليه الصلاة والسلام من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه.
ومن طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا ابن وهب نا يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال : قدم المهاجرون المدينة من مكة وليس بأيديهم شيء , وكان الأنصار أهل الأرض والعقار , فقاسمهم الأنصار ، رضي الله عنهم ، على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام , ويكفوهم العمل والمؤنة. وكانت أم سليم أم أنس بن مالك أعطت رسول الله ﷺ عذاقا فأعطاهن رسول الله ﷺ أم أيمن مولاته أم أسامة بن زيد , فلما فرغ رسول الله ﷺ من خيبر رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم , فرد عليه السلام إلى أم سليم عذاقها , وأعطى عليه الصلاة والسلام أم أيمن مكانهن من حائطه.
وأما الأرتجاع متى شاء , فإنه لم يهب الأصل , ولا الرقبة , فلا يجوز من ماله إلا ما طابت به نفسه , فما دام طيب النفس فيما يحدث الله تعالى في ماله فهو جائز عليه , فإذا أحدث الله تعالى شيئا في ماله لم تطب به نفسه فهو ماله , حرام على غيره , بقوله عليه الصلاة والسلام : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام وإنما طيب النفس حين وجود الشيء , لا قبل خلقه وبالله تعالى التوفيق.