الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الأربعون

ابن حزم - المحلى كتاب الهبات (مسأله 1626 - 1629)
المؤلف: ابن حزم


كتاب الهبات

1626 - مسألة : لا تجوز هبة إلا في موجود ، معلوم ، معروف القدر ، والصفات ، والقيمة ، وإلا فهي باطل مردودة . وكذلك ما لم يخلق بعد كمن وهب ما تلد أمته ، أو شاته ، أو سائر حيوانه ، أو ما يحمل شجره العام - وهكذا كل شيء ؛ لأن المعدوم ليس شيئا ، ولو كان شيئا لكان الله عز وجل لم يزل والأشياء معه - وهذا كفر ممن قاله . والهبة والصدقة والعطية يقتضي كل ذلك موهوبا ومتصدقا ، فمن أعطى معدوما أو تصدق بمعدوم فلم يعط شيئا ، ولا وهب شيئا ، ولا تصدق بشيء . وإذا لم يفعل كل ما ذكرنا فلا يلزمه حكم - وقد حرم الله تعالى على لسان رسوله ﷺ أموال الناس إلا بطيب أنفسهم ، ولا يجوز أن تطيب النفس على ما لا تعرف صفاته ولا ما هو ، ولا ما قدره ، ولا ما يساوي ، وقد تطيب نفس المرء غاية الطيب على بذل الشيء وبيعه ، ولو علم صفاته وقدره وما يساوي لم تطب نفسه به - فهذا أكل مال بالباطل فهو حرام لا يحل . وكذلك من أعطى أو تصدق بدرهم من هذه الدراهم أو برطل من هذا الدقيق ، أو بصاع من هذا البر ، فهو كله باطل لما ذكرنا ؛ لأنه لم يوقع صدقته ، ولا هبته ، على مكيل بعينه ، ولا موزون بعينه ، ولا معدود بعينه ، فلم يهب ولا تصدق أصلا . وكذلك لا يجوز شيء من ذلك لمن لا يدري ، ولا لمن لم يخلق ، لما ذكرنا ، وأما الحبس فبخلاف هذا كله للنص الوارد في ذلك - وبالله تعالى التوفيق . والقياس باطل ، ولكل شيء حكمه الوارد فيه بالنص . فإن ذكروا الحديث الذي روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك { أن رسول الله ﷺ قال له دحية يوم خيبر : يا رسول الله أعطني جارية من السبي ؟ قال : اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله أعطيت دحية بنت حيي سيد قريظة والنضير وما تصلح إلا لك ، قال : ادعه بها ، قال : فجاء بها ، فلما نظر إليها ﷺ قال له : خذ جارية من السبي غيرها - وأعتقها وتزوجها . } قلنا : هذا أعظم حجة لنا ؛ لأن العطية لو تمت لم يرتجعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاشا له من ذلك ليس له المثل السوء ، وهو عليه الصلاة والسلام يقول { : ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالعائد في قيئه ، كالكلب يعود في قيئه } لكن أخذها وتمام ملكه لها ، وكمال عطيته عليه السلام له ، إذ عرف عليه الصلاة والسلام عينها ، أو صفتها ، أو قدرها ، ومن هي ؟ ؟ فإن قيل : فقد رويتم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس { أنه عليه السلام اشترى صفية من دحية وقد وقعت في سهمه بسبعة أرؤس . } قلنا : كلا الخبرين عن أنس صحيح ، وتأليفهما ظاهر . وقوله " إنها وقعت في سهمه ، إنما معناه بأخذه إياها إذ سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم جارية من السبي ؟ فقال له : اذهب فخذ جارية - وبلا شك أن من أخذ شيئا لنفسه بوجه صحيح فقد وقع في سهمه . وقوله { اشتراها عليه السلام بسبعة أرؤس } يخرج على أحد وجهين - : أحدهما - أنه عليه السلام عوضه منها فسمى أنس ذلك الفعل شراء . والثاني - { أن دحية إذ أتى بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : خذ غيرها ، قد سأله إياها ، } وكان عليه السلام لا يسأل شيئا إلا أعطاه ، فأعطاه إياها ، فصحت له ، وصح وقوعها في سهمه ، ثم اشتراها منه بسبعة أرؤس . ولا شك في صحة الخبرين ، ولا يمكن الجمع بينهما لصحتهما ، إلا كما ذكرنا ، وما لا شك فيه فلا شك فيما لا يصح إلا به - وبالله تعالى نتأيد . فإن ذكروا { قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر : لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا . } قلنا : هذه عدة لا عطية ، وقد أنفذ أبو بكر رضي الله عنه هذه العدة بعد موته عليه السلام - وهم لا يختلفون في أن من قال ذلك ثم مات لم ينفذ قوله بعد موته - وهذا قول أبي سليمان ، وأصحابنا - وبالله تعالى التوفيق .

1627 - مسألة : ومن كان له عند آخر حق في الذمة دراهم أو دنانير ، أو غير ذلك ، أو أي شيء كان ، فقال له : قد وهبت لك ما لي عندك ، أو قال : قد أعطيتك ما لي عندك ، أو قال لآخر : قد وهبت لك ما لي عند فلان ، أو قال : أعطيتك ما لي عند فلان - : فلا يلزم شيء من ذلك لما ذكرنا ؛ لأنه لا يدري ذلك الحق الذي له عند فلان في أي جوانب الدنيا هو ، ولعله في ملك غيره الآن - وإنما يجوز هذا بلفظ : الإبراء ، أو العفو ، أو الإسقاط ، أو الوضع . ويجوز أيضا بلفظ " الصدقة " للحديث الذي رويناه من طريق مسلم نا قتيبة نا ليث هو ابن سعد - عن بكير هو ابن الأشج - عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال { أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصدقوا عليه } - فهذا عموم للغرماء وغيرهم . فإن ذكروا قول الله عز وجل : { لأهب لك غلاما زكيا } . قلنا : أفعال الله تعالى وهباته لا يقاس عليها أفعال خلقه ولا هباتهم ؛ لأنه تعالى لا آمر فوقه ، ولا شرع يلزمه ، بل يفعل ما يشاء ، لا معقب لحكمه فكيف وذلك الغلام الموهوب مخلوق مركب من نفس موجودة قد تقدم خلقها ، ومن تراب ، وما تتغذى به أمه ، قد تقدم خلق كل ذلك . وكذلك الهواء ، وقد أحاط الله تعالى علما بأعيان كل ذلك ، بخلاف خلقه ، والكل ملكه بخلاف خلقه - وبالله تعالى التوفيق . وقد فرق مخالفونا بين الهبة والصدقة - : فبعضهم أجاز الصدقة غير مقبوضة ، ولم يجز الهبة إلا مقبوضة . وبعضهم أجاز الرجوع في الهبة ولم يجزه في الصدقة . ويكفي من هذا كله { أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل الهبة والعطية ، ويأكل الهدية ، ولا يأكل الصدقة } ، وحرمت عليه الصدقة ، وعلى آله ، ولم يحرم عليهما العطايا ولا الهبات - وبالله تعالى التوفيق .

1628 - مسألة : ولا تجوز الهبة بشرط أصلا ، كمن وهب على أن لا يبيعها الموهوب ، أو على أن يولدها ، أو غير ذلك من الشروط - : فالهبة بكل ذلك باطل مردودة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } وكل ما لا يعقد إلا بصحة ما لا يصح فلم يقع فيه عقد به .

1629 - مسألة : ولا تجوز هبة يشترط فيها الثواب أصلا ، وهي فاسدة مردودة ؛ لأن هذا الشرط ليس في كتاب الله عز وجل ، فهو باطل ، بل في القرآن المنع منه بعينه قال الله عز وجل : { ولا تمنن تستكثر } وهو قول جمهور من السلف . روينا من طريق محمد بن الجهم نا يحيى الجباني نا محمد بن عبيد نا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة عن ابن عباس في قول الله تعالى : { وما آتيتم من ربا } قال : هو هدية الرجل ، أو هبة الرجل يريد أن يثاب أفضل منه ، فذلك الذي لا يربو عند الله ، ولا يؤجر عليه صاحبه ، ولا إثم عليه . قال علي : هذا إذا أراده بقلبه وأما إذا اشترطه فعين الباطل والإثم . ومن طريق ابن الجهم نا محمد بن سعيد العوفي نا أبي سعيد بن محمد بن الحسن حدثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس نحوه . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا محمد بن عبيد نا محمد بن ثور عن معمر عن قتادة في قول الله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } قال : لا تعط شيئا لتثاب أفضل منه ، قال معمر : وقاله طاوس أيضا - وقال الحسن : لا تمنن عطيتك ، ولا عملك ، ولا تستكثر . وبه إلى إسماعيل نا نصر بن علي الجهضمي أخبرني أبي عن هارون عن أبي رجاء عن عكرمة { ولا تمنن تستكثر } قال : لا تعط مالا مصانعة رجاء أفضل منه من الثواب من الدنيا . ومن طريق عبد بن حميد نا محمد بن الفضل هو عارم - عن يزيد بن زريع عن أبي رجاء سمعت عكرمة في قول الله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } قال : لا تعط شيئا لتعطى أكثر منه . ومن طريق عبد بن حميد نا هاشم بن القاسم عن أبي معاوية عن منصور بن المعتمر عن مجاهد ، وإبراهيم النخعي ، قالا جميعا : لا تعط شيئا لتصيب أفضل منه . ومن طريق ابن الجهم نا أحمد بن فرج نا الهروي عن علي بن هاشم نا الزبرقان عن أبي رزين { وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله } قال : ما أعطيت من شيء تريد به عرض الدنيا ، أو تثاب عليه لم يصعد إلى الله عز وجل : { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله } قال : ما أعطيت من هدية لوجه الله تعالى فهو الذي يصعد . ومن طريق ابن الجهم نا عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن صفية عن سعيد بن جبير : { وما آتيتم من ربا ليربو } قال : يعطي العطية ليثيبه عليها . وبه إلى ابن الجهم نا أبو بكر النرسي نا عبيد الله بن موسى نا إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : لا تعط الأغنياء لتصيب أفضل منه . وبه إلى ابن الجهم نا أحمد بن فرج نا الهروي نا العلاء بن عبد الجبار نا نافع عن القاسم بن أبي بزة قال : لا تعط شيئا تطلب أكثر منه . وبإبطال هبة الثواب يقول الشافعي ، وأبو ثور ، وأبو سليمان ، وأصحابهم . وأجازها أبو حنيفة ، ومالك ، وما نعلم لهما حجة إلا أنهما رويا عن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبي الدرداء ، وفضالة بن عبيد رضي الله عنه إجازتها وعن عمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وربيعة ، وشريح ، والقاسم بن محمد وأبي الزناد ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وجماعة من التابعين - واحتجوا بما روي { المسلمون عند شروطهم } . قال أبو محمد : أما مالك : فإنه مخالف لما ذكرنا ؛ لأنهم لا يجيزون الرجوع في الهبة ، وهؤلاء يجيزون ذلك . وأما أبو حنيفة فمخالف لهم على ما نذكر في الرجوع في الهبة إن شاء الله تعالى . وأما نحن فلا حجة عندنا إلا في قول رسول الله ﷺ فقط ، وقد خالف هؤلاء ابن عباس كما ذكرنا . وأما { المسلمون عند شروطهم } فقد تقدم إبطالنا لهذا الاحتجاج الفاسد بوجوه ثلاثة كل واحد منها كاف - : أولها - أنه كلام لم يصح قط عن رسول الله ﷺ ولا رواه من فيه خير ؛ لأنها إنما هي من رواية كثير بن زيد - وهو ساقط مطرح - أو مرسل . والثاني - أنهم لا يخالفوننا في أن من شرط لآخر أن يغني له ، أو أن يزفن له ، أو أن يخرج معه إلى البستان ، أو أن يصبغ قميص نفسه أحمر : أن كل ذلك لا يلزمه . وقد أبطلوا كثيرا من العقود بكثير من الشروط ، فأبطلوا احتجاجهم " { المسلمون عند شروطهم } فصح أن المسلمين ليسوا عند شروطهم على الجملة . فإذ لا شك في ذلك ولا خلاف ، فقد أفصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } ، فصح أن المسلمين ليس لهم أن يشترطوا شرطا ليس في كتاب الله عز وجل . والثالث - أن هذا اللفظ لو صح لكان لا يجوز أن يضاف إلى المسلمين من الشروط فيقال : شروط المسلمين والمسلمون عند شروطهم إلا في الشروط الجائزة ، لا في الشروط المنهي عنها . وقد صح نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل شرط ليس في كتاب الله وإبطاله إياه إذا وقع - فصح أن شروط المسلمين إنما هي الشروط المنصوصة في كتاب الله تعالى ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المفترض اتباعها في كتاب الله تعالى . ولا يجوز أن يعلم أحد جواز شرط إلا بورود النص بجوازه ، وإلا فالنص قد ورد بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله تعالى - فوضح الأمر في بطلان هبة الثواب - وبالله تعالى التوفيق . وقال من أجازها : هي بيع من البيوع . قال أبو محمد : وهذا باطل ؛ لأن البيع لا يجوز بغير ثمن مذكور ، ولا بثمن مجهول ، وهبة الثواب لم يذكر ثوابها ، ولا عرف ، فهي إن كانت بيعا فهي بيع فاسد حرام خبيث ، وإن لم تكن بيعا فقد بطل حكمهم لها بحكم البيع - وبالله تعالى نتأيد . ولهم هاهنا تخاليط شنيعة - : منها : أن أبا حنيفة قال : كل هبة وقعت على اشتراط عوض معلوم فهي وعوضها في حكم الهبة ما لم يتقابضا الهبة وعوضها . ولا تجوز في مشاع فإذا تقابضا ذلك حلا محل المتبايعين ولكل واحد منهما الرد بالعيب ، ولا رجوع لهما بعد التقابض - فهلا سمع بأفسد من هذا القول أن تكون هبة تنقلب بيعا هكذا مطارفة بشرع أبي حنيفة الذي لم يأذن به الله تعالى ؟ وأجازوا هذه الهبة وهذا الشرط . ثم قالوا : من وهب لآخر هبة على أن يرد عليه ثلثها أو ربعها أو بعضها أو على أن يعوضه ثلثها أو ربعها أو بعضها - أو وهب له جارية على أن يردها عليه ، أو على أن يتخذها أم ولد ، أو على أن يعتقهما ، فقبضها فالهبة في كل ذلك جائزة والشرط باطل . فمرة جاز الشرط والهبة ، ومرة جازت الهبة وبطل الشرط - فهل في التحكم أكثر من هذا ؟ وقال مالك : الهبة على ثلاثة أوجه - : أحدهما - هبة لذي رحم على الصلة ، وهبة الوالدين للولد ، وهبة للثواب . فهبة الثواب يرجع فيها على ما نذكر بعد هذا - إن شاء الله تعالى - وهذا تقسيم لا دليل بصحته وبالله تعالى التوفيق .