الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الرابعة والأربعون

كتاب الهبات

1634 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يهب ، ولا أن يتصدق على أحد من ولده إلا حتى يعطي أو يتصدق على كل واحد منهم بمثل ذلك . ولا يحل أن يفضل ذكرا على أنثى ، ولا أنثى على ذكر ، فإن فعل فهو مفسوخ مردود أبدا ولا بد ، وإنما هذا في التطوع - وأما في النفقات الواجبات فلا ، وكذلك الكسوة الواجبة . لكن ينفق على كل امرئ منهم بحسب حاجته ، وينفق على الفقير منهم دون الغني ، ولا يلزمه ما ذكرنا في ولد الولد ، ولا في أمهاتهم ، ولا في نسائهم ، ولا في رقيقهم ، ولا في غير ولد ، بل له أن يفضل بماله كل من أحب ، فإن كان له ولد فأعطاهم ، ثم ولد له ولد فعليه أن يعطيه كما أعطاهم ، أو يشركهم فيما أعطاهم ، وإن تغيرت عين العطية - ما لم يمت أحدهم - فيصير ماله لغيره ، فعلى الأب حينئذ أن يعطي هذا الولد ، كما أعطى غيره ، فإن لم يفعل أعطي مما ترك أبوه من رأس ماله مثل ذلك . وروي ذلك عن جمهور السلف - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين أن سعد بن عبادة قسم ماله بين بنيه في حياته فولد له بعد ما مات فلقي عمر أبا بكر فقال له : ما نمت الليلة من أجل ابن سعد هذا المولود لم يترك له شيء ؟ فقال أبو بكر : وأنا والله ، فانطلق بنا إلى قيس بن سعد نكلمه في أخيه ، فأتيناه فكلمناه فقال قيس : أما شيء أمضاه سعد فلا أرده أبدا ، ولكن أشهدكما أن نصيبي له . قال أبو محمد : قد زاد قيس على حقه ، وإقرار أبي بكر لتلك القسمة دليل على صحة اعتدالها . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره أن أبا بكر الصديق قال لعائشة أم المؤمنين : يا بنية ، إني نحلتك نخلا من خيبر ، وإني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي ، وإنك لم تكوني احتزتيه ، فرديه على ولدي ؟ فقالت : يا أبتاه ، لو كانت لي خيبر بجدادها ذهبا لرددتها . ومن طريق محمد بن أحمد بن الجهم نا إبراهيم الحربي نا مؤمل بن هشام نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - عن بهز بن حكيم عن أبيه حكيم بن معاوية عن أبيه معاوية بن حيدة أن أباه حيدة كان له بنون لعلات أصاغر ولده ، وكان له مال كثير فجعله لبني علة واحدة ، فخرج ابنه معاوية حتى قدم على عثمان بن عفان فأخبره بذلك ، فخير عثمان الشيخ بين أن يرد إليه ماله وبين أن يوزعه بينهم ؟ فارتد ماله ، فلما مات تركه الأكابر لإخوتهم . وبه إلى إبراهيم الحربي نا موسى بن إسماعيل نا حماد هو ابن سلمة - عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد قال : من نحل ولدا له نحلا دون بنيه فمات فهو ميراث . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال : يرد من حيف الناحل الحي ما يرد من حيف الميت من وصيته . ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج نا ابن طاوس عن أبيه قال في الولد : لا يفضل أحد على أحد بشعرة ، النحل باطل ، هو من عمل الشيطان ، اعدل بينهم كبارا وأبنهم به ، قال ابن جريج : قلت له : هلك بعض نحلهم ثم مات أبوهم ؟ قال : للذي نحله مثله من مال أبيه . ومن طريق عبد الرزاق عن زهير بن نافع قال : سألت عطاء بن أبي رباح فقلت : أردت أن أفضل بعض ولدي في نحل أنحله ؟ فقال : لا ، وأبى إباء شديدا وقال : سو بينهم . وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : ينحل ولده أيسوى بينهم وبين أب وزوجة ؟ قال : لم يذكر إلا الولد ، لم أسمع عن النبي ﷺ غير ذلك . قال أبو محمد : فهؤلاء أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وقيس بن سعد ، وعائشة أم المؤمنين بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف ، ثم مجاهد ، وطاوس ، وعطاء ، وعروة ، وابن جريج - وهو قول النخعي ، والشعبي ، وشريح ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، وابن شبرمة ، وسفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابنا . ثم اختلفوا ، فقال شريح ، وأحمد ، وإسحاق ، العدل أن يعطي الذكر حظين ، والأنثى حظا - وقال غيرهم : بالسوية في ذلك . وروينا خلاف ذلك ، وإجازة تفضيل بعض الولد على بعض عن القاسم بن محمد ، وربيعة وغيرهما - وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي . وكرهه أبو حنيفة ، وأجازه إن وقع . وكره مالك : أن ينحل بعض ولده ماله كله - وذكروا عن الصحابة رضي الله عنهم قصة أبي بكر وعائشة ، وقول عمر من نحل ولدا له . ومن طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن نافع أن ابن عمر قطع ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض ، قال بكير : وحدثني القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري أنه كان مع ابن عمر إذ اشترى أرضا من رجل من الأنصار ، ثم قال له ابن عمر : هذه الأرض لابني واقد ، فإنه مسكين ، نحله إياها دون ولده . قال ابن وهب : وبلغني عن عمرو بن دينار : أن عبد الرحمن بن عوف نحل ابنته من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أربعة آلاف درهم وله ولد من غيرها . وذكروا ما رويناه من طريق ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي سعيد عن محمد بن المنكدر أن رسول الله ﷺ قال : { كل ذي مال أحق بماله } وما نعلم لهم حجة غير هذا . ووجدنا من قال بقولنا يحتج بما روينا من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - وابن أبي عمر ، وقتيبة ، ومحمد بن رمح ، وحرملة بن يحيى ، وعبد بن حميد ، قال يحيى : نا إبراهيم بن سعد ، وقال ابن أبي شيبة ، وإسحاق ، وابن أبي عمر ، كلهم عن سفيان بن عيينة ، وقال قتيبة ، وابن رمح ، كلاهما عن الليث بن سعد ، وقال حرملة : نا ابن وهب أخبرني يونس ، وقال عبد نا عبد الرزاق : أنا معمر ، ثم اتفق إبراهيم ، وسفيان ، والليث ويونس ، ومعمر ، كلهم عن الزهري عن محمد بن النعمان بن بشير ، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما { عن النعمان بن بشير قال : أتى بي أبي إلى رسول الله ﷺ فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما ، فقال : أكل بنيك نحلت ؟ قال : لا ، فاردده - } هذا لفظ إبراهيم ، ويونس ، ومعمر ، وقال سفيان ، والليث : { أكل ولدك نحلت } ؟ واتفقوا فيما سوى ذلك . من طريق مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، ومحمد بن النعمان بن بشير أنهما حدثاه { عن النعمان بن بشير : أن أباه أتى به النبي ﷺ فقال : يا رسول الله إني نحلت ابني هذا غلاما ؟ فقال : أكل ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا ، قال : فارجعه } . وهكذا رويناه أيضا نصا من طريق الأوزاعي عن الزهري . ورويناه أيضا من طريق جرير ، وعبد الله بن المبارك ، كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن النعمان بن بشير " . ومن طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عروة بن الزبير عن النعمان بن بشير ، كلهم يقول فيه " إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له { : رده ، أو اردده } . ومن طريق البخاري نا حامد بن عمر نا أبو عوانة عن حصين هو ابن عبد الرحمن - عن الشعبي سمعت { النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول : أعطاني أبي عطية فأتى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية ، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله ؟ فقال عليه السلام : أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ؟ ارجع فرد عطيته } . ومن طريق مسلم نا يحيى بن يحيى نا أبو الأحوص عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي { عن النعمان بن بشير قال : تصدق علي أبي ببعض ماله ، فانطلق أبي إلى رسول الله ﷺ ليشهده على صدقتي ، فقال رسول الله ﷺ : أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ قال : لا ، قال : اتقوا الله واعدلوا في أولادكم - فرجع أبي فرد تلك الصدقة } . ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا محمد بن بشر نا أبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي - عن الشعبي حدثني النعمان بن بشير ، فذكر هذا الخبر ، وفيه " أن رسول الله ﷺ قال : { فلا أشهد على جور } . فكانت هذه الآثار متواترة متظاهرة : الشعبي ، وعروة بن الزبير ، ومحمد بن النعمان ، وحميد بن عبد الرحمن ، كلهم سمعه من النعمان . ورواه عن هؤلاء الحفلاء من الأئمة كلهم متفق على أمر رسول الله ﷺ بفسخ تلك الصدقة والعطية وردها ، وبين بعضهم أنها ردت ، وأنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها جور ، والجور لا يحل إمضاؤه في دين الله تعالى ، ولو جاز ذلك لجاز إمضاء كل جور وكل ظلم ، وهذا هدم الإسلام جهارا . فوجدنا المخالفين قد تعللوا بهذا في هذا بأن قال بعضهم : إنه وهبه جميع ماله . فقلنا : سبحان الله في نص الحديث " بعض ماله " وفي بعض الروايات الثابتة " بعض الموهبة من ماله " . وقال آخرون : روى هذا الخبر داود بن أبي هند عن الشعبي عن النعمان { أن رسول الله ﷺ قال لبشير : فأشهد على هذا غيري ، أيسرك أن يكونوا أولئك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذا } . ورواه المغيرة عن الشعبي عن النعمان ، وقال فيه { فأشهد على هذا غيري } ؟ فقلنا : هذا حجة عليكم ؛ لأن قوله عليه السلام " فلا إذا " نهي صحيح كاف لمن عقل . وقوله عليه الصلاة والسلام : { أشهد على هذا غيري } لو لم يأت إلا هذا اللفظ لما كان لكم فيه متعلق . وأما وقد روى من هو أجل من المغيرة وداود بن أبي هند الزيادة الثابتة التي لا يحل لأحد الخروج عنها من أمره عليه الصلاة والسلام برد تلك الصدقة والعطية وارتجاعها - فصح بهذه الزيادة ، وبإخبار عليه الصلاة والسلام أنه جور أن معنى قوله { أشهد على هذا غيري } إنما هو الوعيد كقول الله تعالى : { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } ليس على إباحة الشهادة على الجور والباطل ، لكن كما قال تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } . وكقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } و { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون } وحاش له عليه السلام أن يبيح لأحد الشهادة على ما أخبر به هو أنه جور ، وأن يمضيه ولا يرده ، هذا ما لا يجيزه مسلم ، ويكفي من هذا أن نقول : تلك العطية والصدقة أحق جائز هي أم باطل غير جائز . ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : حق جائز ؟ أعظموا الفرية ، إذ أخبروا أنه عليه الصلاة والسلام أبى أن يشهد على الحق - وهو الذي أتانا عن ربنا تعالى بقوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وبقوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وإن قالوا : إنها باطل غير جائز ؟ أعظموا الفرية ، إذ أخبروا أن النبي ﷺ حكم بالباطل ، وأنفذ الجور ، وأمر بالإشهاد على عقده ، وكلا القولين مخرج إلى الكفر بلا مرية ، ولا بد من أحدهما . وزاد بعضهم ضلالا وفرية فقال : معنى قوله عليه الصلاة والسلام { أشهد على هذا غيري } أي إني إمام والإمام لا يشهد ، فجمعوا فريتين ، إحداهما : الكذب على رسول الله ﷺ في تقويله ما لم يقل فليتبوأ من أطلق هذا مقعده من النار ، والثانية قولهم : إن الإمام لا يشهد ، فقد كذبوا وأفكوا في ذلك ، بل الإمام يشهد ؛ لأنه أحد المسلمين المخاطبين بأن لا يأبوا إذا دعوا ، وبقوله عز وجل { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فهذا أمر للأئمة بلا شك ولا مرية . والعجب من قلة حياء هذا القائل ، ومن قوله ومذهبه أن الإمام إذا شهد عند حاكم من حكامه جازت شهادته ، فلو لم يكن من شأنه أن يشهد لما جازت شهادته . ثم أتى بعضهم بما كان الخرس أولى به فقال : لعل النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض النحل - وقائل هذا إما في نصاب التيوس جهلا ، وإما منزوع الحياء والدين ؛ لأن صغر النعمان أشهر من الشمس ، وأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف من أحد من أهل العلم ، وقد بين ذلك في حديث أبي حيان عن الشعبي عن النعمان ، " وأنا يومئذ غلام " ولا تطلق هذه اللفظة على رجل بالغ أصلا . وقال بعضهم لم يكن النحل تم إنما كان استشارة وموهوا برواية شعيب بن أبي حمزة بهذا الخبر عن الزهري فقال فيه { عن النعمان ، نحلني أبي غلاما ثم جاء بي إلى النبي ﷺ فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته } ؟ قال أبو محمد : لولا عمى هؤلاء القوم وضلالهم ما تمكن الهوى منهم هذا التمكن ، هم يسمعون في أول الخبر " نحلني أبي غلاما " وفي وسطه " يا رسول الله نحلت ابني هذا غلاما " ويقولون : لم يتم النحل . وقول بشير " فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته " قول صحيح ، وقول مؤمن لا يعمل إلا ما أباحه له رسول الله ﷺ على ظاهره بلا تأويل ، نعم ، إن أجازه النبي ﷺ أجازه بشير ، وإن لم يجزه عليه الصلاة والسلام رده بشير ولم يجزه كما فعل . وذكروا أيضا - رواية عبد الله بن عون لهذا الخبر عن الشعبي { عن النعمان بن بشير قال : نحلني أبي نحلا ثم أتى بي إلى رسول الله ﷺ ليشهده فقال : أكل ولدك أعطيته هذا ؟ قال : لا ، قال : أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا ؟ قال : بلى ، قال : فإني لا أشهد } قال ابن عون : فحدثت به ابن سيرين ، فقال : إنما حدثنا أنه قال : { قاربوا بين أبنائكم } . قال علي : والقول في هذا أنه أعظم حجة عليهم لما ذكرنا لما أن النبي ﷺ لا يشهد على باطل ، وهذا باطل ، إذ لم يستجز عليه السلام أن يشهد عليه - وهكذا رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن سعيد لهذا الخبر ، وفيه { لا أشهد } . وأما قول ابن سيرين : قاربوا بين أبنائكم ، فمنقطع - ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم ؛ لأنه أمر بالمقاربة ونهى عن خلافها ، وهم يجيزون خلاف المقاربة ، ولا يوجبون المقاربة ، فمن أضل من هؤلاء المحرومين . والمقاربة : هو الاجتهاد في التعديل ، كما قال تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } فصح أن المجتهد في التعديل بين أولاده إن لم يصادف حقيقة التعديل كان مقاربا ، إذا لم يقدر على أكثر من ذلك . ومن عجائب الدنيا احتجاجهم برواية زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر لهذا الخبر { قال جابر : قالت امرأة بشير : انحل ابني غلامك هذا ، أشهد لي رسول الله ﷺ فأتى رسول الله ﷺ وذكر ذلك له ؟ فقال له رسول الله ﷺ أله إخوة ؟ قال : نعم ، قال : فكلهم أعطيته مثل ما أعطيته ؟ قال : لا ، قال : فليس يصلح هذا ، ألا وإني لا أشهد إلا على حق } . قال أبو محمد : أفيكون أعجب من احتجاجهم بهذا الخبر وهو أعظم حجة عليهم ؛ لأن في أوله { ليس يصلح } وفي آخره { إني لا أشهد إلا على حق } فصح أنه ليس حقا ، وإذ ليس حقا فهو باطل وضلال قال تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } فإن قالوا : فقد قال عليه الصلاة والسلام { لا يصلح أن يبيع } في حديث الشفعة ، ثم أجزتموه إذا أجازه الشفيع ونهى عليه الصلاة والسلام عن النذر ، ثم أوجبتموه إذا وقع . قلنا : نعم ؛ لأن رسول الله ﷺ جعل الخيار للشفيع إن شاء أخذ وإن شاء ترك ، وفي تركه إقرار ذلك البيع ، فوقفنا عند أمره عليه الصلاة والسلام في ذلك . ونهى عليه السلام عن النذر ثم أمر بالوفاء به ، وأخبر أنه { يستخرج به من البخيل } فوقفنا عند أمره ، فبانون في هذا الباب أنه عليه الصلاة والسلام أمضاه بعد أن أمره برده ، ونحن أول سامع ومطيع ، وذلك ما لا يجدونه أبدا . وأتى بعضهم بآبدة ، وهي أنه ذكر ما رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان عن فطر بن خليفة عن مسلم بن صبيح هو أبو الضحى - سمعت { النعمان بن بشير يقول : ذهب بي أبي إلى رسول الله ﷺ في شيء أعطانيه فقال : ألك ولد غيره ؟ قال : نعم ، وصف بيده أجمع كله كذا ، ألا سويت بينهم . } قال أبو محمد : إن من عارض رواية كل من ذكرنا برواية فطر لمخذول ، وفطر ضعيف ، ولولا أن سفيان رواه عن أبي الضحى عن النعمان ما كان لهم فيه حجة ؛ لأن سائر الروايات زائدة - حكما ولفظا - على هذه الرواية ، فكيف وقد روينا في حديث فطر هذا من طريق من إن لم يكن فوق يحيى بن سعيد القطان لم يكن دونه - وهو عبد الله بن المبارك - عن فطر عن مسلم بن صبيح سمعت { النعمان بن بشير يخطب يقول : جاء بي أبي إلى رسول الله ﷺ ليشهده على عطية أعطانيها ؟ فقال : هل لك بنون سواه ؟ قال : نعم قال : سو بينهم } فهذا إيجاب للتسوية بينهم . وقد حمل المالكيون أمره عليه الصلاة والسلام بالتكبير على الفرض بمجرد الأمر ، وحمل الحنفيون أمره عليه الصلاة والسلام بالإعادة من ضحى قبل الإمام على الفرض بمجرد الأمر . وما زالوا يهجمون على وجوه السخف معارضة للحق حتى قال بعضهم : هذا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أتى بخرز فقسمه للحرة والأمة . قال أبو محمد : أي شبه بين هذا وبين أمره عليه الصلاة والسلام بأن يرد تلك الصدقة والعطية ، وإخباره بأنها جور لو عقلوا : فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين . وأما الخبر { كل ذي مال أحق بماله } فصحيح ، فقد قال تعالى : { ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } وقال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فالذي حكم بإيجاب الزكاة ، وفسخ أجر البغي ، وحلوان الكاهن ، وبيع الخمر ، وبيع أم الولد ، وبيع الربا ، هو الذي فسخ الصدقة والعطية المفضل فيها بعض الولد على بعض ، ولو أنهم اعترضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في إبطالهم النحل والصدقة التي لم تقبض لكان أصح وأثبت ، ولكنهم كالسكارى يخبطون واحتج بعضهم بأنه عمل الناس فقلنا : عمل الناس الغالب عليه الباطل . وقال أنس : ما أعرف مما أدركت الناس عليه إلا الصلاة . وقال بعضهم : لما جازت مفاضلة الإخوة جازت مفاضلة الأولاد ؟ قلنا : هذا حكم إبليس ؟ وهلا قلتم : لما جاز القود بين المرء وأخيه جاز بين المرء وولده ؟ فكان أصح . قال أبو محمد : وأما ما موهوا به عن الصحابة رضي الله عنهم فكله لا حجة لهم فيه ؛ لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ . ثم حديث أبي بكر قد أوردناه بخلاف ما أوردوه . وأما قول عمر ، وعثمان ، من نحل ولده نحلا ، فنحن لم نمنع نحل الولد وإنما منعنا المفاضلة ، وليس في كلامهما إباحة المفاضلة ، كما ليس فيه إباحة بيع الخمر والخنازير ولا فرق . وقد صح عنهما المنع منها ، كما أوردنا . وأما الرواية عن ابن عمر فليس فيها أنه لم ينحل الآخرين قبل ولا بعد بمثل ذلك ، بل فيها أنه قال : واقد ابني مسكين ، فصح أنه لم يكن نحله بعد كما نحل إخوته ، فألحقه بهم ، وأخرجه عن المسكنة ، على أنها من طريق ابن لهيعة وهو ساقط . وكذلك القول في الرواية عن عبد الرحمن هي أيضا منقطعة ، ثم لو صحت فليس فيها أنه لم يسو قبل ولا بعد بينهم ، فبطل كل ما تعلقوا به - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد : وأما النفقات الواجبات : فقوله عليه الصلاة والسلام { اعدلوا بين أولادكم } إيجاب لأن ينفق على كل واحد ما لا قوام له إلا به ، ومن تعدى هذا فلم يعدل بينهم . وكذلك هذا القول منه عليه الصلاة والسلام إيجاب للتسوية بين الذكر والأنثى ، وليس هذا من المواريث في شيء ، ولكل نص حكمه ، وليس هذا الحكم في غير الأولاد ، إذا لم يأت النص إلا فيهم . وأما ولد الولد : فلا خلاف فيهم ، وقد كان لأصحاب النبي ﷺ بنو بنين وبنو بنات فلم يوجب عليه الصلاة والسلام إعطاءهم ولا العدل فيهم . وإذا مات الولد بعد أن وهب هبة لا محاباة فيها فقد صارت لورثته وبطل أمر الأب فيها ، وأما إن مات الوالد فالتعديل بينهم دين عليه ، فهو من رأس ماله - وبالله تعالى التوفيق .

1635 - مسألة : وهبة جزء مسمى منسوب من الجميع كثلث أو ربع أو نحو ذلك من المشاع والصدقة به جائزة حسنة للشريك ولغير الشريك ، وللغني والفقير فيما ينقسم وفيما لا ينقسم ، كالحيوان وغيره ولا فرق . وهو قول عثمان البتي ، ومعمر ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ؛ وأبي ثور ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابهم - وهو قول إبراهيم النخعي . وقال أبو حنيفة : لا تجوز هبة المشاع فيما ينقسم ، ولا الصدقة به - لا للشريك ولا لغيره ، لا على فقير ولا على غني - وتجوز الهبة والصدقة بمشاع لا ينقسم على الفقير والغني وللشريك ولغيره . والذي ينقسم عنده : الدور ، والأرضون ، والمكيلات ، والموزونات والمعدودات ، والمذروعات - والذي لا ينقسم عنده الرأس الواحد من الحيوان ، والحمام ، والسيف ، واللؤلؤة ، والثوب ، والطريق ، ونحو ذلك . قال : والإجارة بمشاع مما ينقسم ومما لا ينقسم لا تجوز ألبتة ، إلا من الشريك وحده - قال : ورهن المشاع الذي ينقسم والذي لا ينقسم لا يجوز ألبتة ، لا من الشريك ولا من غيره . قال : وبيع المشاع وإصداقه والوصية به - مما ينقسم وما لا ينقسم - : جائز من الشريك وغير الشريك ، وكذلك عتق المشاع فاعجبوا لهذه التقاسيم التي لا تعقل ، ولا لها في الديانة أصل بالمنع خاصة في شيء من ذلك ولم يختلف عنه في أن الهبة والصدقة بشيء واحد مما ينقسم : كمائة دينار ، أو كدار واحدة ، أو ضيعة واحدة ، أو كر طعام ، أو قنطار حديد ، أو غير ذلك ، لغنيين لا يجوز - واختلف عنه في الصدقة بذلك على فقيرين ، أو هبة ذلك لفقيرين ، فروي عنه في الهبة في الجامع الصغير : أنها تجوز للفقيرين - وفي الأصل : أنها لا تجوز ، والأشهر عنه في الصدقة على الفقيرين كذلك ، أنها تجوز ، إلا في رواية مبهمة غير مبينة أجمل فيها المنع فقط . وقال : محمد بن الحسن : إن وهب دارا لاثنين بينهما بنصفين جاز ذلك ، فإن وهب لأحدهما الثلث ، وللآخر الثلثين فدفعها إليهما معا - : جاز ذلك ، فإن دفع إلى الواحد ثم إلى الآخر - : لم يجز ذلك . ومنع سفيان من هبة المشاع ، إلا أنه أجاز هبة واحد دارا لاثنين ، وهبة الاثنين دارا لواحد - ومنع ابن شبرمة من هبة المشاع ، ومن هبة واحد دارا لاثنين فصاعدا ، وأجاز هبة اثنين دارا لواحد . قال أبو محمد : وما نعلم لهم شغبا موهوا به إلا إن قالوا : قبض المشاع لا يمكن . فقلنا لهم : كذبتم ، بل هو ممكن ، وهبك أنه غير ممكن فلم أجزتم بيعه ، والبيع عندكم يحتاج فيه إلى القبض ، ولم أجزتم إصداقه ، والصداق واجب فيه الإقباض قال الله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } : وقال تعالى : { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } ولم أجزتم الوصية به ؟ ولم أجزتم إجارة المشاع من الشريك ، ومنعتم الرهن فيه من الشريك ، ومنعتم الهبة من الشريك - وأقرب ذلك لم أجزتم هبة المشاع فيما لا ينقسم والعلة واحدة . فهل في التلاعب والسخافة أكثر من هذا ؟ وموهوا أيضا بالرواية التي ذكرنا قبل من قول أبي بكر لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما : إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من مال الغابة فلو كنت جددتيه واحتزتيه لكان لك ، هذا دليل على المنع من هبة المشاع . قال أبو محمد : هذا عظيم جدا ، وفاحش القبح لوجوه - : أولها - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ . وثانيها - أنه كم قولة لأبي بكر ، وعائشة رضي الله عنهما قد خالفتموهما فيها كقول أبي بكر ، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم في الزكاة إن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر ، وكتركه التضحية وهو غني ، وكصيام عائشة أيام التشريق ، وقولها : لا صيام لمن لم يبيته من الليل وغير ذلك كثير جدا . وثالثها - أن هذا الخبر نفسه قد أوردناه بخلاف هذه القصة . ورابعها - أن اللفظ الذي احتجوا به مخالف لقولهم جهارا بل فيه إجازة هبة جزء من المشاع لغنية ؛ لأنه نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة . ولا يخلو ذلك ضرورة من أحد وجهين - : إما أن يكون نحلها من تلك النخل ما تجد منها عشرين وسقا ، أو نحلها عشرين وسقا مجدودة ، فهي إما عدة بأن ينحلها ذلك - وهذا هو الأظهر ؛ وإما أنه نحلها وأمضى لها ذلك المقدار ، وهو مجهول القدر والعدد والعين في مشاع ، فرأياه معا بحضرة الصحابة جائزا ولا مخالف لهما منهم ، ولم يبطله أبو بكر لذلك . فكذبوا في قولهم صراحا ، وإنما أبطله أبو بكر بنص قوله " لأنها لم تحزه " فقط ، ولو جددته وحازته لكان نافذا ، فعاد حجة عليهم ، وصدق رسول الله ﷺ { الحياء من الإيمان } . فسقط كل ما موهوا به - ولله تعالى الحمد . قال أبو محمد : فعدنا إلى قولنا فوجدنا الله تعالى قد حض على الصدقة وفعل الخير ، والفضل ، وكانت الهبة فعل خير ، وقد علم عز وجل أن في أموال المحضوضين على الهبة والصدقة مشاعا وغير مشاع ، فلو كان تعالى لم يبح لهم الصدقة والهبة في المشاع لبينه لهم ، ولما كتمه عنهم ، ومن حرم عن الله تعالى ، أو أوجب ما لم ينص الله عز وجل على تحريمه وإيجابه على لسان رسوله ﷺ المأمور بالتبليغ ، والبيان - : فقد كذب على الله تعالى ، وافترى عليه ، وهذا عظيم جدا . فصح يقينا : أن هبة المشاع والصدقة به ، وإجارته ورهنه - : جائز كل ذلك - فيما ينقسم وما لا ينقسم - للشريك ولغيره ، وللغني وللفقير { وما كان ربك نسيا } . ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن قيس بن أبي حازم " قال : { أتى رجل رسول الله ﷺ بكبة شعر من الغنيمة ، فقال : يا رسول الله هبها لي ، فإنا أهل بيت نعالج الشعر . فقال عليه الصلاة والسلام : نصيبي منها لك } وهم يحتجون بالمرسل ، وبرواية شريك ، وإبراهيم بن المهاجر فما صرفهم عن هذا الخبر ؟ وقد صح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت للقاسم بن محمد بن أبي بكر ، ولعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر : إني ورثت عن أختي عائشة مالا بالغابة ، وقد أعطاني معاوية بها مائة ألف ، فهو لكما ؛ لأنهما لم يرثا من أم المؤمنين شيئا إنما ورثا أسماء ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر - فهذه هبة لغنيين مكثرين مشاعة ، وفعل أسماء رضي الله تعالى عنها بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، ولا يعرف لها منهم مخالف ، وصدقات الصحابة على بنيهم وبني بنيهم بغلة أوقافهم أشهر من الشمس صدقة أو هبة لأغنياء بمشاع . وروينا من طريق محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكر قصة حنين وطلب هوازن عيالهم وأبناءهم { فقال رسول الله ﷺ ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فقال المهاجرون والأنصار : وما كان لنا فهو لرسول الله ﷺ } وذكر الحديث . فهذه هبة مشاع وهم يحتجون بهذه الطريق إذا وافقت تقليدهم . والخبر الذي رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى قال : أنا أبو خيثمة عن أبي الزبير عن جابر قال : { بعثنا رسول الله ﷺ وأمر علينا أبا عبيدة فتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر ، لم يجد لنا غيره ، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة } فهذه عطية تمر مشاعة . والحجة تقوم بما رويناه من طريق مسلم نا خلف بن هشام نا حماد بن زيد عن غيلان بن جرير عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه { أتيت النبي ﷺ في نفر من الأشعريين نستحمله فأمر لنا بثلاث ذود غر الذرى } وذكر الخبر - فهذه هبة مشاع لم ينقسم . وأما من النظر : فليس إلا ملك صحيح ، ثم تصرف فيما صح الملك فيه ولا مزيد ، فتملك الموهوب له والمتصدق عليه بالجزء المشاع كما ملكه الواهب والمتصدق ، ولا فرق ألبتة - ويتصرف الموهوب له ، والمتصدق ؛ والمكتري ، كما يتصرف فيه الواهب ، والمتصدق ، والمكتري ، ووكلاؤهم ولا فرق ، وتكون يد المرتهن عليه كما هي عليه يد الراهن ووكيله ولا فرق - وهذا لا مخلص لهم منه أصلا - وبالله تعالى التوفيق .