→ كتاب الشهادات (مسأله 1799 - 1807) | ابن حزم - المحلى كتاب الشهادات (مسأله 1808 - 1818) ابن حزم |
المجلد الخامس ← |
كتاب الشهادات
1808 - مسألة: وشهادة الأعمى مقبولة كالصحيح. وقد اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة كما قلنا.
وروي ذلك ، عن ابن عباس , وصح ذلك عن الزهري , وعطاء , والقاسم بن محمد , والشعبي , وشريح , وابن سيرين , والحكم بن عتيبة , وربيعة , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وابن جريج , وأحد قولي الحسن , وأحد قولي إياس بن معاوية , وأحد قولي ابن أبي ليلى
وهو قول مالك , والليث , وأحمد , وإسحاق , وأبي سليمان , وأصحابنا.
وقالت طائفة : تجوز شهادته فيما عرف قبل العمى , ولا تجوز فيما عرف بعد العمى
وهو قول الحسن البصري , وأحد قولي ابن أبي ليلى.
وهو قول أبي يوسف , والشافعي , وأصحابه.
وقالت طائفة : تجوز شهادته في الشيء اليسير :
روينا ذلك من طريق إبراهيم النخعي , قال : كانوا يجيزون شهادة الأعمى في الشيء الخفيف.
وقالت طائفة : لا تقبل في شيء أصلا , إلا في الأنساب
وهو قول زفر , رويناه من طريق عبد الرزاق عن وكيع عن أبي حنيفة , ولا يعرف أصحابه هذه الرواية.
وقالت طائفة : لا تقبل جملة
روينا ذلك عن علي بن أبي طالب , وعن إياس بن معاوية , وعن الحسن , والنخعي : أنهما كرها شهادة الأعمى.
وقال أبو حنيفة : لا تقبل في شيء أصلا , لا فيما عرف قبل العمى , ولا فيما عرف بعده.
قال أبو محمد : أما من أجازه في الشيء اليسير دون الكثير , فقول في غاية الفساد , لأنه لا
برهان على صحته , وما حرم الله تعالى من الكثير إلا ما حرم من القليل. وقد صح عن النبي ﷺ : من اقتطع بيمينه مال مسلم ولو قضيبا من أراك أوجب الله له النار.
وأيضا فإنه ليس في العالم كثير إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه , وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر منه فهو قول لا يعقل فسقط.
وأما من قبله في الأنساب فقط فقسمة فاسدة , فإنه لا يعرف الأنساب إلا من حيث يعرف المخبرين بغير ذلك والمشهدين له منهم فقط فبطل هذا القول أيضا.
وأما من لم يقبله لا فيما عرف قبل العمى ، ولا بعده , فقول فاسد لا برهان على صحته أصلا , ولا فرق بين ما عرفه في حال صحته , وبين ما عرفه الصحيح وتمادت صحته وبصره.
فإن قيل : هو قول روي عن علي بن أبي طالب.
قلنا : هذا كذب , ما جاء قط عن علي ، أنه قال : لا يقبل فيما عرف قبل العمى وما عرف هذا عن أحد قبل أبي حنيفة.
وأيضا فإنه لا يصح عن علي ; لأنه من طريق الأسود بن قيس عن أشياخ من قومه أو عن الحجاج بن أرطاة وقد روي ، عن ابن عباس خلاف ذلك فسقط هذا القول.
وأما من أجازه فيما علم قبل العمى , ولم يجزه فيما علم بعد العمى , فإنهم احتجوا بما روي عن النبي ﷺ : أنه سئل عن الشهادة فقال : ألا ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع.
قال أبو محمد : وهذا خبر لا يصح سنده ; لأنه من طريق محمد بن سليمان بن مسمول وهو هالك عن عبيد الله بن سلمة بن وهرام وهو ضعيف لكن معناه صحيح , وقالوا : الأصوات قد تشتبه , والأعمى كمن أشهد في ظلمة أو خلف حائط ما نعلم لهم غير هذا.
قال أبو محمد : إن كانت الأصوات تشتبه فالصور أيضا قد تشتبه , وما يجوز لمبصر ، ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن ، ولا يشك فيه. ومن أشهد خلف حائط أو في ظلمة فأيقن بلا شك بمن أشهده فشهادته مقبولة في ذلك. ولو لم يقطع الأعمى بصحة اليقين على من يكلمه لما حل له أن يطأ امرأته , إذ لعلها أجنبية , ولا يعطي أحدا دينا عليه , إذ لعله غيره , ولا أن يبيع من أحد ، ولا أن يشتري. وقد قبل الناس كلام أمهات المؤمنين من خلف الحجاب.
فإن قالوا : إنما حل له وطء امرأته بغلبة الظن , كما يحل له ذلك في دخولها عليه أول مرة ولعلها غيرها.
قلنا : هذا باطل ، ولا يجوز له وطؤها حتى يوقن أنها التي تزوج. وقد أمر الله تعالى بقبول البينة , ولم يشترط أعمى من مبصر وما كان ربك نسيا. وما نعلم في الضلالة بعد الشرك والكبائر أكبر ممن دان الله برد شهادة جابر بن عبد الله , وابن أم كلثوم , وابن عباس , وابن عمر. ونعوذ بالله من الخذلان.
1809 - مسألة: وكل من سمع إنسانا يخبر بحق لزيد عليه إخبارا صحيحا تاما لم يصله بما يبطله , أو بأنه قد وهب أمرا كذا لفلان , أو أنه أنكح زيدا , أو أي شيء كان , فسواء قال له : اشهد بهذا علي أو أنا أشهدك أو لم يقل له شيئا من ذلك , أو لم يخاطبه أصلا , لكن خاطب غيره , أو قال له : لا تشهد علي فلست أشهدك كل ذلك سواء وفرض عليه أن يشهد بكل ذلك. وفرض على الحاكم قبول تلك الشهادة والحكم بها ; لأنه لم يأت قرآن ، ولا سنة , ولا قول أحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، ولا قياس بالفرق بين شيء من ذلك.
وقال أبو حنيفة لا يشهد حتى يقال له : اشهد علينا.
قال أبو محمد : وكذلك إن قال الشاهد للقاضي : أنا أخبرك , أو أنا أقول لك , أو أنا أعلمك , أو لم يقل : أنا أشهد فكل ذلك سواء وكل ذلك شهادة تامة فرض على الحاكم الحكم بها ; لأنه لم يأت قرآن , ولا سنة , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا معقول : بالفرق بين شيء من ذلك. وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل : إن القرآن , والسنة وردا بتسمية ذلك شهادة.
قلنا : نعم , وليس في ذلك أنه لا يقبل حتى يقول : أنا أشهد فقد جعلنا معتمدنا وجعلتم معتمدكم في رد شهادة الفاسق قول الله تعالى : {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}.
فصح أن كل شهادة نبأ , وكل نبأ شهادة وكلاهما خبر , وكلاها قول , وكل ذلك حكاية وبالله تعالى التوفيق.
1810 - مسألة: والحكم بالقافة في لحاق الولد واجب في الحرائر والإماء وهو قول الشافعي , وأبي سليمان.
وقال مالك : يحكم بشهادتهم في ولد الأمة , ولا يحكم به في ولد الحرة وهذا تقسيم بلا برهان.
وقال أبو حنيفة : لا يحكم بهم في شيء.
برهان صحة قولنا : أن رسول الله ﷺ سر بقول مجزز المدلجي إذ رأى أقدام زيد بن حارثة , وابنه أسامة فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض وهو عليه الصلاة والسلام لا يسر بباطل , ولا يسر إلا بحق مقطوع به. فمن العجب أن أبا حنيفة يخالف حكم رسول الله ﷺ الثابت عنه وينكر علما صحيحا معروف الوجه , ثم يرى أن يلحق الولد بأبوين كل واحد منهما أبوه , وبامرأتين كل واحدة منهما أمه فيأتي من ذلك بما لا يعقل , ولا جاء به قط قرآن , ولا سنة. والعجب من مالك إذ يحتج بخبر مجزز المذكور , ثم يخالفه , لأن مجززا إنما قال ذلك في ابن حرة لا في ابن أمة وبالله تعالى التوفيق.
1811 - مسألة: ولا يجوز الحكم إلا ممن ولاه الإمام القرشي الواجبة طاعته , فإن لم يقدر على ذلك فكل من أنفذ حقا فهو نافذ , ومن أنفذ باطلا فهو مردود.
برهان ذلك : ما ذكرنا من وجوب طاعة الإمام قبل فإذا لم يقدر على ذلك فالله تعالى يقول: {كونوا قوامين بالقسط}
وقال تعالى : {اعدلوا هو أقرب للتقوى} وهذا عموم لكل مسلم.
وقد وافقنا المخالفون على أنه ليس كل من حكم فهو نافذ حكمه , فوجب عليهم أن لا ينفذوا حكم أحد إلا من أوجب القرآن ورسول الله ﷺ نفاذ حكمه وبالله تعالى التوفيق.
1812 - مسألة: والارتزاق على القضاء جائز للثابت من قوله عليه الصلاة والسلام من أتاه مال في غير مسألة أو إشراف نفس فليأخذه وبالله تعالى التوفيق.
1813 - مسألة: وجائز للإمام أن يعزل القاضي متى شاء عن غير خربة , قد بعث رسول الله ﷺ عليا إلى اليمن قاضيا , ثم صرفه حين حجة الوداع ولم يرجع إلى اليمن بعدها.
1814 - مسألة: ومن قال له قاض : قد ثبت على هذا : الصلب , أو القتل , أو القطع , أو الجلد , أو أخذ مال مقداره كذا منه , فأنفذ ذلك عليه : فإن كان المأمور من أهل العلم بالقرآن والسنن لم يحل له إنفاذ شيء من ذلك إن كان الآمر له جاهلا , أو غير عدل إلا حتى يوقن أنه قد وجب عليه ما ذكر له فيلزمه إنفاذه حينئذ وإلا فلا. وإن كان الآمر له عالما فاضلا لم يحل له أيضا إنفاذ أمره إلا حتى يسأله من أي وجه وجب ذلك عليه فإذا أخبره , فإن كان ذلك موجبا عليه ما ذكر لزمه إنفاذ ذلك , وعليه أن يكتفي بخبر الحاكم العدل في ذلك , ولا يجوز له تقليده فيما رأى أنه فيه مخطئ.
وأما الجاهل فلا يحل له إنفاذ أمر من ليس عالما فاضلا. فإن كان الآمر له عالما فاضلا سأله : أوجب ذلك بالقرآن والسنة. فإن قال : نعم لزمه إنفاذ ذلك , وإلا فلا , لقول رسول الله ﷺ : إنما الطاعة في المعروف ، ولا يحل أخذ قول أحد بلا برهان. وبالله تعالى التوفيق.
1815 - مسألة: ومن ادعى شيئا في يد غيره فإن أقام فيه البينة , أو أقام كلاهما البينة قضي به للذي ليس الشيء في يده , إلا أن يكون في بينة من الشيء في يده بيان زائد بانتقال ذلك الشيء إليه , أو يلوح بتكذيب بينة الآخر
وهو قول سفيان , وأبي حنيفة , وأحمد بن حنبل , وأبي سليمان.
وقال مالك , والشافعي : يقضى به للذي هو في يده , وحجتهم أنه قد تكاذبت البينتان , فوجب سقوطهما.
قال أبو محمد : وليس كما قالوا , بل بينة من الشيء في يده غير مسموعة ; لأن الله تعالى لم يكلفهم ببينة , إنما حكم الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بأن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. قال عليه الصلاة والسلام : بينتك أو يمينه ليس لك غير ذلك. فصح أنه لا يلتفت إلى بينة المدعى عليه وبالله تعالى التوفيق.
1816 - مسألة: فلو لم يكن الشيء في يد أحدهما فأقام كلاهما البينة قضي به بينهما , فلو كان في أيديهما معا , فأقاما فيه بينة أو لم يقيما قضي به بينهما. أما إذا لم يكن في أيديهما فإنه قد ثبتت البينتان أنه لهما فهو لهما.
وأما إذا كان في أيديهما فإن لم تقم لهما بينة فهو لهما ; لأنه بأيديهما مع أيمانهما.
وأما إذا أقام كل واحد منهما بينة فإن بينته لا تسمع فيما في يده كما قدمنا وقد شهدت له بينته بما في يد الآخر فيقضى له بذلك. وبالله تعالى التوفيق.
1817 - مسألة: فإن تداعياه , وليس في أيديهما , ولا بينة لهما : أقرع بينهما على اليمين , فأيهما خرج سهمه حلف وقضي له به وهكذا كل ما تداعيا فيه مما يوقن بلا شك أنه ليس لهما جميعا , كدابة يوقن أنها نتاج إحدى دابتيهما :
روينا من طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن منهال ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه عن جده أبي موسى : أن رجلين ادعيا بعيرا أو دابة فأتيا به النبي ﷺ ليس لواحد منهما بينة فجعله رسول الله ﷺ بينها.
وبه إلى قتادة عن خلاس بن عمرو عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ اختصم إليه رجلان في متاع ليس لواحد منهما بينة , فقال رسول الله ﷺ : استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أم كرها
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا سعيد ، هو ابن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رجلين ادعيا دابة ولم تكن لهما بينة , فأمرهما رسول الله ﷺ أن يستهما على اليمين.
قال أبو محمد : فالقسمة بينهما حيث هو في أيديهما ; لأنه لهما بظاهر اليد , والقرعة حيث لا حق لهما , ولا لأحدهما , ولا لغيرهما فيه.
ومن طريق أبي داود ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا الحجاج بن المنهال ، حدثنا همام بن يحيى عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري : أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله ﷺ فبعث كل واحد منهما شاهدين فقسمه رسول الله ﷺ بينهما بنصفين.
ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني علي بن محمد بن علي بن أبي المضاء قاضي المصيصة قال : ، حدثنا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس بن مالك عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه أن رجلين ادعيا دابة وجداها عند رجل , فأقام كل واحد منهما شاهدين أنها دابته فقضى بها النبي ﷺ بينهما بنصفين. فهذا نص على إقامة البينة من كل واحد منهما وليس في أيديهما أو وهو في أيديهما لأنه إذا كان في أيديهما معا فهو بلا شك لهم بظاهر الأمر , وإذا لم يكن في أيديهما أقام كل واحد منهما فيه البينة فقد شهد به لهما , وليست إحدى البينتين أولى من الأخرى , فالواجب قسمته في كل ذلك بينهما.
وأما إذا لم يكن في أيديهما ولم يقم واحد منهما فيه البينة , ولا كلاهما , فهما مدعيان وليس لهما أصلا ، ولا لمدعى عليه سواهما.
وكذلك إذا كان لا تجوز البينة أن تكون لهما جميعا لكن لأحدهما أو لغيرهما إلا أنه ليس في يد أحد غيرهما , ولا في أيديهما , أو كان في أيديهما جميعا , ففي هذه المواضع يقرع على اليمين , ولا تجوز قسمته بينهما فيكون ذلك ظلما مقطوعا به , وقضية جور بلا شك فيها , وهذا لا يحل أصلا , قال تعالى : {ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} والجور المتيقن إثم وعدوان لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق. وقد اختلف الناس في هذا : فقال أبو حنيفة : إذا أقام كل واحد منهما البينة فسواء كان الشيء في أيديهما معا , أو لم يكن في يد واحد منهما : هو بينهما بنصفين مع أيمانهما.
وكذلك إذا لم يقيما بينة والشيء في أيديهما معا وليس في أيديهما ، ولا مدعي له سواهما , فأيهما نكل قضي به للذي حلف. فإن وقتت كلتا البينتين قضي به لصاحب الوقت الأول. فإن وقتت إحدى البينتين ولم توقت الأخرى قضي به بينهما. وقال أبو يوسف : قضي به للذي وقتت بينته. وقال محمد بن الحسن : بل للذي لم توقت بينته.
قال أبو محمد : كل ما خالف مما ذكرنا حكم رسول الله ﷺ الذي أوردنا فهو باطل ; لأنه قول بلا برهان
وقال مالك : يقضى بأعدل البينتين.
قال علي : وهذا قول فاسد ; لأنه لم يأت به
برهان قرآن ، ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا عن أحد من الصحابة ، ولا يؤيده قياس , وإنما كلفنا عدالة الشهود فقط , ولا فضل في ذلك لأعدل البرية على عدل , وهم مقرون بأنه لو شهد الصديق رضي الله عنه بطلاق , فإنه لا يقضى بذلك , فلو شهد به عدلان من عرض الناس قضي به. وأين ترجيح أعدل البينتين من هذا العمل
وهذا قول خالف فيه كل من روي عنه في هذه المسألة لفظة من الصحابة إنما روي القول بأعدل البينتين عن الزهري وقال : فإن تكافأت في العدالة أقرع بينهما وهم لا يقولون بهذا. وجاء عن عطاء , والحسن
وروي أيضا عن علي بن أبي طالب تغليب أكثر البينتين عددا وقال به الأوزاعي إذا تكافأ عددهما. واضطرب قول الشافعي في ذلك : فمرة قال : يوقف الشيء. ومرة قال : يقسم بينهما. ومرة قال : يقرع بينهما.
وقال أحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , وأبو عبيد : إذا ادعى اثنان شيئا ليس في أيديهما , وأقام كل واحد منهما البينة العدلة : أقرع بينهما , وقضي بذلك الشيء لمن خرجت قرعته , ولا معنى لأكثر البينتين , ولا لأعدلهما.
قال أبو محمد : فإن ذكر ذاكر
ما روينا من طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن عبد الرحمن بن الحارث عن سعيد بن المسيب " أن رسول الله ﷺ قال : (إذا استوى الشهود أقرع بين الخصمين) فهو عليهم , لأن فيه الإقراع , ولا يقولون به.
1818 - مسألة: وتقبل الشهادة على الشهادة في كل شيء , ويقبل في ذلك واحد على واحد. واختلف الناس في هذا : فقال أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن : تقبل الشهادة على شهادة الحاضر في المصر , وإن كان صحيحا.
وقال مالك : لا تقبل على شهادة الحاضر إلا أن يكون مريضا , ولم يحد عنه مقدار المسافة التي إذا كان الشاهد بعيدا على قدرها قبلت الشهادة على شهادته.
وقال أبو حنيفة , والحسن بن حي , وسفيان الثوري : لا تقبل شهادة على شهادة إلا إذا كان على مقدار تقصر إليه الصلاة.
قال علي : لم نجد لمن منع من قبول الشهادة على شهادة الحاضر : حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا قول أحد سلف , ولا قياس , ولا معقول , لا سيما هذه الحدود الفاسدة. وقد أمرنا الله تعالى , بقبول شهادة العدول , والشهادة على الشهادة شهادة عدول , فقبولها واجب ,
وكذلك لو بعدت جدا ، ولا فرق. واختلفوا أيضا في كم تقبل على شهادة العدول فروينا عن علي من طريق ابن ضميرة وهو مطرح أنه لا يقبل على شهادة واحد إلا اثنان , وعن ربيعة مثله
وهو قول أبي حنيفة , ومالك , إلا أنهما أجازا شهادة ذينك الاثنين أيضا على شهادة العدل الآخر.
وقال الشافعي : لا بد من أخرى على شهادة الآخر , فلا يقبل على شهادة اثنين إلا أربعة , ولا يقبل على شهادة أربعة في الزنى إلا ستة عشر عدلا.
وقالت طائفة مثل قولنا :
روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن حكيم بن رزيق قال قرأت في كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي : أن أجز شهادة رجل على شهادة رجل آخر وذلك في كسر سن.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان , ومعمر , قال سفيان : عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي : إنه كان يجيز شهادة رجل على شهادة رجل وقال معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن شريح : إنه كان يجيز شهادة رجل على شهادة رجل , ويقول له : أشهدني ذوي عدل. ورويناه عن الزهري , والقضاة قبله , ويزيد بن أبي حبيب
وهو قول الحسن البصري , وابن أبي ليلى , وسفيان الثوري , والليث بن سعد , وعثمان البتي , وأحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه.
قال أبو محمد : قال رسول الله ﷺ : بينتك أو يمينه ، ولا فرق بين واحد وبين اثنين في تبيين الحق بذلك , كلاهما يجوز عليه ما يجوز على الواحد , فكلما قال قائل من العلماء : إنه بينة فهو بينة , إلا أن يمنع من ذلك نص وإنما هو خبر , والخبر يؤخذ من الواحد الثقة. واختلفوا أيضا فيما يقبل فيه شهادة شاهد على شهادة شاهد. فروينا من طريق فيها الحارث بن نبهان وهو هالك عن الحسن بن عمارة وهو تالف عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب لم يسمع منه غير نعيه النعمان , قال : لا تجوز شهادة على شهادة في حد , ولا في دم ، ولا في طلاق , ولا نكاح , ولا عتق , إلا في المال وحده.
وروينا ذلك عن إبراهيم النخعي. وصح عن الشعبي , وقتادة , والنخعي : لا تجوز شهادة على شهادة في حد
وهو قول الأوزاعي. ورويناه أيضا عن شريح , ومسروق , والحسن , وابن سيرين.
وقال أبو حنيفة : تجوز في كل شيء إلا الحدود والقصاص.
وقال مالك , والليث , والشافعي : يجوز في كل شيء الحدود وغيرها.
قال أبو محمد : تخصيص حد أو غيره لا يجوز إلا بنص , ولا نص في ذلك هذا مما خالفوا فيه الرواية عن عمر لا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة , وهذا مما خالف فيه مالك جمهور العلماء وبالله تعالى التوفيق.