→ كتاب الشهادات (مسأله 1791 - 1792) | ابن حزم - المحلى كتاب الشهادات (مسأله 1793 - 1798) ابن حزم |
كتاب الشهادات (مسأله 1799 - 1807) ← |
كتاب الشهادات
1793 - مسألة: وكل عدل فهو مقبول لكل أحد وعليه , كالأب والأم لأبنيهما , ولأبيهما والأبن والأبنة للأبوين والأجداد , والجدات , والجد , والجدة لبني بنيهما , والزوج لأمرأته , والمرأة لزوجها ,
وكذلك سائر الأقارب بعضهم لبعض , كالأباعد ، ولا فرق.
وكذلك الصديق الملاطف لصديقه , والأجير لمستأجره , والمكفول لكافله , والمستأجر لأجيره , والكافل لمكفوله , والوصي ليتيمه. وفيما ذكرنا خلاف : فروينا من طريق لا تصح عن شريح أنه لا يقبل الأب لأبنه , ولا الأبن لأبيه , ولا أحد الزوجين للآخر. وصح هذا كله عن إبراهيم النخعي , وعن الحسن , والشعبي في أحد قوليهما في الأب , والأبن.
وروي عن الحسن , والشعبي : قول آخر , وهو أن الولد يقبل لأبيه , ولا يقبل الأب لأبنه ; لأنه يأخذ ماله متى شاء , وأن الزوج يقبل لأمرأته ، ولا تقبل هي له
وهو قول ابن أبي ليلى , وسفيان الثوري. ولم يجز الأوزاعي , والثوري , وأحمد بن حنبل , وأبو عبيد الأب للأبن , ولا الأبن للأب. وأجازوا الجد والجدة لأولاد بنيهما , وأولاد بنيهما لهما. ولم يجز أبو حنيفة , ومالك , والشافعي أحدا من هؤلاء , إلا أن الشافعي أجاز كل واحد من الزوجين للآخر.
وأما من روي عنه إجازة كل ذلك : فكما روينا من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سبرة عن أبي الزناد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة , قال : قال عمر بن الخطاب : تجوز شهادة الوالد لولده , والولد لوالده , والأخ لأخيه. وعن عمرو بن سليم الزرقي عن سعيد بن المسيب مثل هذا.
وروي : أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه شهد لفاطمة رضي الله عنها عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومعه أم أيمن فقال له أبو بكر : لو شهد معك رجل أو امرأة أخرى لقضيت لها بذلك.
ومن طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري قال : لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح شهادة الوالد لولده , ولا الولد لوالده , ولا الأخ لأخيه , ولا الزوج لأمرأته ثم دخل الناس بعد ذلك , فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم , فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة وصار ذلك من الولد , والوالد , والأخ , والزوج , والمرأة , لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
ومن طريق أبي عبيد ، حدثنا الحسن بن عازب عن جده شبيب بن غرقدة قال : كنت جالسا عند شريح , فأتاه علي بن كاهل , وامرأة وخصم لها , فشهد لها علي بن كاهل وهو زوجها وشهد لها أبوها , فأجاز شريح شهادتهما , فقال الخصم : هذا أبوها , وهذا زوجها. فقال له شريح : هل تعلم شيئا تجرح به شهادتهما كل مسلم شهادته جائزة.
ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا سفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال : سمعت شريحا : أجاز لأمرأة شهادة أبيها وزوجها فقال الرجل : إنه أبوها وزوجها. فقال شريح : فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها.
ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا شبابة ، عن ابن أبي ذئب عن سليمان بن أبي سليمان , قال : شهدت لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم , فقضى بشهادتي.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله الأنصاري قال : أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الأبن لأبيه إذا كان عدلا. فهؤلاء : عمر بن الخطاب , وجميع الصحابة , وشريح , وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وبهذا يقول إياس بن معاوية , وعثمان البتي , وإسحاق بن راهويه , وأبو ثور , والمزني , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا. ورأى الشافعي : وأصحابه : قبول شهادة الزوجين : كل واحد منهما للآخر ورأى الأوزاعي : أن لا يقبل الأخ لأخيه. وذكر ذلك الزهري عن المتأخرين من الولاة الذين ردوا الأب لأبنه والأبن لأبيه , وأحد الزوجين لصاحبه. وأجاز أبو حنيفة , والشافعي : الأخ لأخيه. وأجاز مالك لأخيه إلا في النسب خاصة. ورد مالك شهادة الصديق الملاطف لصديقه
قال أبو محمد : احتج المخالفون لنا بما روينا من طريق أبي عبيد ، حدثنا مروان بن معاوية عن يزيد الجزري , قال : أحسبه يزيد بن سنان عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ : لا تجوز شهادة خائن ، ولا خائنة , ولا ظنين في ولاء أو قرابة , ولا مجلود في حد.
قال أبو محمد : وهذا عليهم لا لهم لوجوه :
أولها أنه لا يصح لأنه عن يزيد وهو مجهول فإن كان يزيد بن سنان فهو معروف بالكذب , ثم لو صح لكانوا أول مخالف له في موضعين : أحدهما تفريقهم بين الأخ والأب , وبين العم وابن الأخ , وبين الأب والأبن وكلهم سواء إذ هم متقاربون في التهمة بالقرابة. وكلهم يجيز المولى لمولاه وهذا خلاف الخبر. وكلهم يجيز المجلود في الحد إذا تاب وهو خلاف هذا الخبر فمن أضل سبيلا , أو أفسد دليلا ممن يحتج بخبر هو حجة عليه , وهو مخالف له. وذكروا : ما رويناه عن وكيع عن عبد الله بن أبي حميد قال : كتب عمر إلى أبي موسى : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد , أو مجربا عليه شهادة زور , أو ظنينا في ولاء , أو في قرابة , والقول في هذا كالذي قبله من أنه لم يصح قط عن عمر , ثم قد خالفوه كما ذكرنا سواء والأثبت عن عمر : قبول الأب لأبنه.
ومن عجائب الدنيا : احتجاجهم في هذا بالخبر الثابت من قول النبي ﷺ : أنت ومالك لأبيك. ومن أمره هندا بأخذ قوتها من مال زوجها. وهم أول مخالف لهذين الخبرين وهذا عجب جدا.
وأما نحن فنصححهما , ونقول : ليس فيهما منع من قبول شهادة الأبن لأبويه , ولا من قبول الأبوين له وإن كان هو وماله لهما فكان ماذا ونحن كلنا لله تعالى وأموالنا وقد أمرنا بأن نشهد له عز وجل , فقال عز وجل : {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله} وكل ذي حق فهو مأمور بأخذ حقه ممن هو له عنده متى قدر على ذلك أجنبيا كان أو غير أجنبي ومن لم يفعل ذلك فقد عصى الله عز وجل وأعان على الإثم والعدوان وقدر على تغيير منكر فلم يفعل بل أقر المنكر والباطل والحرام ولم يغير شيئا من ذلك , ومن أغرب ما وقع : احتجاج بعضهم في هذا بقول الله تعالى : {أن اشكر لي ولوالديك}.
قال أبو محمد : وهذه أعظم حجة عليهم ; لأن من الشكر لهما بعد شكر الله تعالى : أن يشهد لهما بالحق , وليس من الشكر لهما أن يشهد لهما بالباطل. وقد
قال الله عز وجل : {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم} فقد سوى الله تعالى بين كل من ذكرنا في وجوب الإحسان إليهم , فيلزم من اتهمه لذلك في الوالدين , وفي بعض ذوي القربى والصاحب بالجنب , وما ملكت يمينه : أن يتهمه في سائرهم , فلا يقبل شهادة أحدهم لقريب جملة , ولا لجار , ولا لأبن سبيل , ولا ليتيم , ولا لمسكين , وإلا فقد تلوثوا في التخليط بالباطل ما شاءوا , فلم يبق في أيديهم إلا التهمة , والتهمة لا تحل. وبالضرورة ندري أن من حملته قرابة أبويه وبنيه وامرأته على أن يشهد لهم بالباطل فمضمون منعه قطعا أن يشهد لمن يرشوه من الأباعد لا فرق. وليس للتهمة في الإسلام مدخل ونحن نسألهم عن أبي ذر , وأم سلمة أم المؤمنين : لو ادعيا على يهودي بدرهم بحق , أتقضون لهما بدعواهما
فإن قالوا : نعم , خالفوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع الأمة المتيقن وتركوا قولهم.
وإن قالوا : لا ,
قلنا : سبحان الله , والله ما على أديم الأرض من يقول : إنه مسلم يتهم أبا ذر , وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما يدعيان الباطل في الدنيا بأسرها , فكيف في درهم على يهودي ثم نسألهم أتبرئون اليهودي الكذاب المشهور بالفسق بيمينه من دعواهما فمن قولهم : نعم ,
قلنا لهم : وهل مقر التهمة , والظنة , إلا في الكفار المتيقن كذبهم على الله تعالى وعلى رسوله عليه الصلاة والسلام. والعجب كله : من إعطاء مالك , والشافعي : المدعي المال العظيم بدعواه ويمينه , وإن كان أشهر في الكذب والمجون من حاتم في الجود , إذا أبى المدعى عليه من اليمين , وإعطاء أبي حنيفة إياه ذلك بدعواه المجردة بلا بينة ، ولا يمين , ولا يتهمونه برأيهم : لا بقرآن ، ولا بسنة , ثم يتهمون الناسك الفاضل البر التقي في شهادته لأبنه , أو لأمرأته أو لأبيه بدرهم نبرأ إلى الله تعالى من هذه المذاهب التي لا شيء أفسد منها.
قال أبو محمد : وهم يشنعون بخلاف الصاحب لا يعرف له مخالف , وقد خالفوه هاهنا , ولا يعرف له من الصحابة مخالف. ثم قد حكى الزهري : أنه لم يختلف الصدر الأول في قبول الأب لأبنه والزوجين أحدهما للآخر , والقرابة بعضهم لبعض حتى دخلت في الناس الداخلة وهذا إخبار عن إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، فكيف استجازوا خلافهم لظن فاسد من المتأخرين. ثم ليت شعري : ما الذي حدث مما لم يكن , والله لقد كان على عهد رسول الله ﷺ المنافقون الذين هم شر خلق الله عز وجل والكفار , والزناة , والسراق , والكذابون , فما ندري ما الذي حدث , وحاش لله تعالى أن يحدث شيء بغير الشريعة. ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل : أنه تعالى لو أراد أن لا يقبل أحد ممن ذكرنا لمن شهد له لبينه وما أغفله فظهر فساد قول مخالفينا بيقين لا مرية فيه.
وأعجب شيء أنهم أجازوا الأخ لأخيه والزهري يحكي عن المتأخرين اتهامهم له , فقد خالفوا من تقدم ومن تأخر , وكفى بهذا شنعة. وبالله تعالى التوفيق.
1794 - مسألة: ومن شهد على عدوه نظر , فإن كان تخرجه عداوته له إلى ما لا يحل فهي جرحة فيه ترد شهادته لكل أحد , وفي كل شيء وإن كان لا تخرجه عداوته إلى ما لا يحل فهو عدل يقبل عليه وهذا قول أبي سليمان , وأصحابنا.
وقال أبو حنيفة : لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره في شيء أصلا
وهو قول الأوزاعي.
وقال مالك كذلك , إلا أن يكون عدلا مبرزا في العدالة , إلا أن يكون في عياله فلا تجوز شهادته له.
وقال الشافعي : لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره فيما استأجره فيه خاصة , وتجوز له فيما عدا ذلك
وهو قول سفيان الثوري , وأبي ثور.
وكذلك قالوا : في الوكيل سواء سواء.
وقال مالك : إن كان منضافا إليه لم يقبل له , ولم تجز شهادة العدو على عدوه.
وقال أبو حنيفة , ومالك : لا تقبل شهادة الخصم , لا للذي وكله , ولا للذي وكل على أن يخاصمه.
وقال أبو حنيفة , والشافعي : تجوز شهادة الفقراء والسؤال
وقال مالك : لا تجوز إلا في الشيء اليسير. وقال ابن أبي ليلى : لا تقبل شهادة فقير وأشار شريك إلى ذلك.
قال أبو محمد : كل من ذكرنا في هؤلاء مقبولون لكل من ذكرنا , كالأجنبيين ، ولا فرق.
واحتج المخالف بما روينا عن النبي ﷺ من أنه لا تجوز شهادة ذي غمر على أخيه , ولا تجوز شهادة الظنة , ولا الإحنة ، ولا شهادة خصم , ولا ظنين , ولا القانع من أهل البيت لهم. وصح عن شريح : لا تجوز عليك شهادة الخصم , ولا الشريك , ولا الأجير لمن استأجره.
وروي عن الشعبي ولم يصح لا أجيز شهادة وصي , ولا ولي , لأنهما خصمان. وصح عن إبراهيم : لا تجوز شهادة الشريك لشريكه فيما بينهما , وتجوز له في غير ذلك. وعن شريح مضت السنة في الإسلام : أنه لا تجوز شهادة خصم.
ومن طريق ابن سمعان وهو كذاب لم يكن السلف يجيزون شهادة القانع
قال أبو محمد : القانع السائل , وصح عن ربيعة : ترد شهادة الخصم , والظنين في خلائقه , وشكله , ومخالفته العدول في سيرته وإن لم يوقف منه على غير ذلك وترد شهادة العدو على عدوه. وعن يحيى بن سعيد الأنصاري : ترد شهادة العدو على عدوه. هذا كل ما يذكر في ذلك عمن سلف.
قال أبو محمد : أما الآثار في ذلك فكلها باطل ; لأن بعضها مروي منقطع ,
ومن طريق إسحاق بن راشد وليس بالقوي. أو من طريق إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وهو مذكور بالكذب وصفه بذلك مالك , وغيره. أو من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي صحيفة. أو مرسل من طريق عبد الرحمن بن فروخ. أو مرسل من طريق إسحاق بن عبد الله عن يزيد بن طلحة ، ولا يدرى من هما في الناس. أو مرسلان : من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد.
ومن طريق ابن سمعان , وقد كذبهما مالك , وغيره. أو من طريق يزيد الجزري وهو مجهول فإن كان ابن سنان فهو مذكور بالكذب. أو مرسل من رواية عبد الله بن صالح وهو ضعيف. وكل هذا لا يحل الأحتجاج به. ثم لو صحت لكانت مخالفة لهم ; لأن فيها أن لا تجوز شهادة ذي الغمر على أخيه مطلقا عاما
وهو قولنا وهم يمنعونها من القبول على عدوه فقط , ويجيزونها على غيره وهذا خلاف لتلك الآثار.
وأما شهادة الخصم : فإن المدعي لنفسه المخاصم لا تقبل دعواه لنفسه بلا شك. فبطل تعلقهم بتلك الآثار لو صحت , فكيف وهي لا تصح. ثم وجدنا الله تعالى قد قال : {ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} فأمرنا الله عز وجل بالعدل على أعدائنا.
فصح أن من حكم بالعدل على عدوه أو صديقه أو لهما , أو شهد وهو عدل على عدوه أو صديقه أو لهما , فشهادته مقبولة وحكمه نافذ وبالله تعالى التوفيق. وما نعلم أحدا سبق مالكا إلى القول برد شهادة الصديق الملاطف.
وأما من رد شهادة الفقير فعظيمة , قال الله تعالى : {للفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا} إلى قوله : {أولئك هم الصادقون} فمن رد شهادة هؤلاء لخاسر , وإن من خصهم دون سائر الفقراء لمتناقض وبالله تعالى التوفيق. وما نعلم لهم في هذه الأقوال سلفا من الصحابة ، رضي الله عنهم ، أصلا. وأطرف شيء قول ربيعة : ترد شهادة من خالف العدول في سيرته وإن لم يوقف منه على غير ذلك : فهذا عجب جدا , لا ندري من أين أطلقه في دين الله عز وجل.
1795 - مسألة: ولا تقبل شهادة من لم يبلغ من الصبيان , لا ذكورهم ، ولا إناثهم , ولا بعضهم على بعض , ولا على غيرهم , لا في نفس ، ولا جراحة , ولا في مال , ولا يحل الحكم بشيء من ذلك , لا قبل افتراقهم ، ولا بعد افتراقهم وفي هذا خلاف كثير : فصح ، عن ابن الزبير ، أنه قال : إذا جيء بهم عند المصيبة جازت شهادتهم. قال ابن أبي مليكة : فأخذ القضاة بقول ابن الزبير وأجاز بعضهم شهادتهم في خاص من الأمر , لا في كل شيء :
كما روينا عن قتادة عن الحسن , قال : قال علي بن أبي طالب : شهادة الصبي على الصبي جائزة , وشهادة العبد على العبد جائزة. قال الحسن : وقال معاوية : شهادة الصبيان على الصبيان جائزة , ما لم يدخلوا البيوت فيعلموا وعن علي مثل هذا أيضا.
ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع ، حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن الشعبي عن مسروق : أن ستة غلمان ذهبوا يسبحون , فغرق أحدهم , فشهد ثلاثة على اثنين أنهما غرقاه , وشهد اثنان على ثلاثة أنهم غرقوه : فقضى علي بن أبي طالب على الثلاثة خمسي الدية , وعلى الاثنين ثلاثة أخماس الدية.
وروينا أيضا نحو هذا عن مسروق.
وروينا عن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا سفيان الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق : أن ثلاثة غلمان شهدوا على أربعة , وشهد الأربعة على الثلاثة , فجعل مسروق على الأربعة ثلاثة أسباع الدية , وعلى الثلاثة أربعة أسباع الدية.
وروينا أيضا ، عن ابن المسيب , والزهري : جواز شهادة الصبيان بقولهم مع أيمان المدعي ما لم يتفرقوا , وأنه قضى بمثل ما قضى به علي بن أبي طالب في دية ضرس. وعن أبي الزناد : السنة أن يؤخذ في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح مع أيمان المدعين. وعن عمر بن عبد العزيز : أنه أجاز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح المتقاربة , فإذا بلغت النفوس قضى بشهادتهم مع أيمان الطالبين. وعن ربيعة : جواز شهادة بعض الصبيان على بعض ما لم يتفرقوا. وعن شريح : أن شهادة الصبيان تقبل إذا اتفقوا , ولا تقبل إذا اختلفوا , وأنه أجاز شهادة صبيان في مأمومة. وعن ابن قسيط , وأبي بكر بن حزم : قبول شهادة الصبيان فيما بينهم ما لم يتفرقوا. وعن عطاء , والحسن : تجوز شهادة الصبيان على الصبيان. وعن إبراهيم النخعي : تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض , وقال : كانوا يجيزونها فيما بينهم. وقال ابن أبي ليلى : تجوز شهادة الصبيان بعضهم على بعض في كل شيء.
وقال مالك : تجوز شهادة الصبيان على الصبيان فقط , ولا تجوز شهادتهم على صغير أنه جرح كبيرا , ولا على كبير أنه جرح صغيرا , ولا تجوز إلا في الجراح خاصة , ولا تجوز شهادة الصبايا في شيء من ذلك أصلا , ولا تجوز في شيء من ذلك شهادة من كان منهم عبدا , فإن اختلفوا لم يلتفت شيء من قولهم وقضي على جميعهم بالدية سواء.
قال أبو محمد : ما نعلم عن أحد قبله فرقا بين صبي وصبية ، ولا بين عبد منهم من حر.
وقالت طائفة : لا تقبل شهادتهم في شيء أصلا , كما ذكرنا قبل عن عمر , وعثمان في الصغير يشهد فترد شهادته , ثم يبلغ فيشهد بتلك الشهادة أنها لا تقبل. وصح ، عن ابن عباس من طريق ابن أبي مليكة : لا تقبل شهادة الصبيان في شيء. وعن عطاء : لا تجوز شهادة الغلمان حتى يكبروا وعن قاسم بن محمد , وسالم , والنخعي مثل قول عطاء. وعن الحسن : لا تقبل شهادة الغلمان على الغلمان. وعن ابن سيرين : لا تقبل شهادتهم حتى يبلغوا. وعن الشعبي , وشريح : أنهما كانا يقبلانها إذا ثبتوا عليها حتى يبلغوا. وعن عبد الرزاق ، عن ابن جريج عن الزهري في غلمان شهد بعضهم على بعض بكسر يد صبي منهم فقال : لم تكن شهادة الغلمان فيما مضى من الزمان تقبل وأول من قضى بذلك مروان.
قال أبو محمد : وبمثل قولنا يقول مكحول , وسفيان الثوري , وابن شبرمة , وإسحاق بن راهويه , وأبو عبيدة , وأبو حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وأبو سليمان , وجميع أصحابنا.
قال علي : لم نجد لمن أجاز شهادة الصبيان حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قياس , ولا نظر , ولا احتياط , بل هو قول متناقض , لأنهم فرقوا بين شهادتهم على كبير أو لكبير , وبين شهادتهم على صغير أو لصغير. وفرق مالك بين الجراح وغيرها , فلم يجزها في تخريق ثوب يساوي ربع درهم , وأجازها في النفس والجراح. وفرق بين الصبايا والصبيان وهذا كله تحكم بالباطل , وخطأ لا خفاء به , وأقوال لا يحل قبولها من غير رسول الله ﷺ . وقد اختلف الصحابة في ذلك , وحجة من قال بقولنا هو قول الله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال : {ممن ترضون من الشهداء} وليس الصبيان ذوي عدل ، ولا يرضاهم.
وقال رسول الله ﷺ : رفع القلم عن ثلاثة , فذكر الصبي حتى يبلغ. وليس في العجب أكثر من رد شهادة عبد فاضل , صالح عدل , رضي وتقبل شهادة صبيين لا عقل لهما , ولا دين , وفي هذا كفاية. وبالله تعالى التوفيق.
1796 - مسألة: وحكم القاضي لا يحل ما كان حراما قبل قضائه , ولا يحرم ما كان حلالا قبل قضائه , إنما القاضي منفذ على الممتنع فقط لا مزية له سوى هذا.
وقال أبو حنيفة : لو أن امرأ رشا شاهدين فشهدا له بزور أن فلانا طلق امرأته فلانة , وأعتق أمته فلانة وهما كاذبان متعمدان ، وأن المرأتين بعد العدة رضيتا بفلان زوجا , فقضى القاضي بهذه الشهادة , فإن وطء تينك المرأتين : حلال للفاسق الذي شهدوا له بالزور , وحرام على المشهود عليه بالباطل.
وكذلك من أقام شاهدي زور على فلان أنه أنكحه ابنته برضاها وهي في الحقيقة لم ترضه قط , ولا زوجها إياه أبوها فقضى القاضي بذلك , فوطؤه لها حلال.
قال أبو محمد : ما نعلم مسلما قبله أتى بهذه الطوام , ونبرأ إلى الله تعالى منها وليت شعري ما الفرق بين هذا وبين من شهد له شاهدا زور في أمه أنها أجنبية , وأنها قد رضيت به زوجا , أو على حر أنه عبده فقضى له القاضي بذلك وما علم مسلم قط قبل أبي حنيفة فرق بين شيء من ذلك. وقد صح عن رسول الله ﷺ ، أنه قال : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام.
ومن طريق أحمد بن شعيب ، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها ، أنه قال عليه الصلاة والسلام : إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر فلعل أحدكم أن يكون أعلم بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع وأظنه صادقا فمن قضيت له بشيء من حق صاحبه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها فإذا كان حكمه عليه الصلاة والسلام وقضاؤه لا يحل لأحد ما كان عليه حراما فكيف القول في قضاء أحد بعده ونعوذ بالله تعالى من الخذلان.
1797 - مسألة: ولا يحل التأني في إنفاذ الحكم إذا ظهر وهو قول الشافعي , وأبي سليمان , وأصحابنا.
وقال أبو حنيفة : إذا طمع القاضي أن يصطلح الخصمان فلا بأس أن يردهما المرة والمرتين , فإن لم يطمع في ذلك فصل القضاء.
وقال مالك : لا بأس بترديد الخصوم , ثم رأى أن يجعل للمشهود عليه أو المدعي بينة غائبة : أجل ثمانية أيام , ثم ثمانية أيام , ثم ثمانية أيام , ثم تلزم ثلاثة أيام , فذلك ثلاثون يوما لا يعد في الثمانية يوم تأجيل الحاكم.
قال علي : أما قول أبي حنيفة ففاسد ; لأنه لا فرق بين ترديد مرتين وترديد ثلاث مرار أو أربع , وهكذا ما زاد إلى انقضاء العمر , وإلا ف هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
وأما قول مالك فما نعلم أحدا قاله قبله مع عظيم فساده , لأنه لا فرق بين تأجيل ثلاثين يوما , وبين تأجيل شهرين أو ثلاثة أو أربعة , أو عام , أو عامين , أو أربعة أعوام وما الفرق بين من ادعى بينة على نصف شهر وبين من ادعاها بخراسان , وهو بالأندلس أو ادعاها بالأندلس , وهو بخراسان , وهل هو إلا التحكم بالباطل
قال أبو محمد : واحتج بعضهم بالرواية عن عمر : رددوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن.
قال علي : هذا لا يصح عن عمر ; لأن أحسن طرقه : محارب بن دثار أن عمر ومحارب لم يدرك عمر. ثم لو صح لما كان فيه حجة ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ومعاذ الله أن يصح هذا عن عمر ; لأن فيه المنع جملة من إنفاذ الحق ; لأن علة توريث الضغائن موجودة في ذلك أبدا , فإن وجب أن يراعى وجب ذلك أبدا , وإن لم يجب أن يراعى فلا يجب ذلك طرفة عين , وعلى كل حال فقد خالفوه , لأنه لم يحد شهرا ، ولا شهرين. وفي الرسالة المكذوبة عن عمر : اجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينته إلى ذلك الأمد : أخذت له بحقه , وإلا أوجبت عليه القضاء , فإنه أبلغ للعذر وأجلى للعمى.
قال أبو محمد : وهذا لا يصح عن عمر , وعلى كل حال فقد خالفه مالك ; لأن عمر لم يحد في ذلك شهرا ، ولا أقل ، ولا أكثر وهذا كله لم يأت قط عن رسول الله ﷺ أنه رد خصوما بعد ما ظهر الحق بل قضى بالبينة على الطالب , وألزم المنكر اليمين في الوقت وأمر المقر بالقضاء في الوقت.
وقال الله تعالى : {كونوا قوامين بالقسط}
وقال تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى}.
وقال تعالى : {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}. فمن حكم بالحق حين يبدو إليه فقد قام بالقسط , وأعان على البر والتقوى وسارع إلى مغفرة من ربه , ومن تردد في ذلك , فلم يسارع إلى مغفرة من ربه ، ولا قام بالقسط , ولا أعان على البر والتقوى.
1798 - مسألة: وإذا تداعى الزوجان في متاع البيت بعد الطلاق , أو بغير طلاق , أو تداعى الورثة بعد موتهما أو موت أحدهما , فهو كله بينهما بنصفين مع الأيمان , سواء كان مما لا يصلح إلا للرجال كالسلاح ونحوه , أو مما لا يصلح إلا للنساء كالحلي ونحوه , أو كان مما يصلح للكل. وقد اختلف الناس في هذا كثيرا : فروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري : البيت للمرأة إلا ما عرف للرجل.
وبه إلى معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة مثل قول الزهري.
ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن الحسن قال : إذا مات الزوج فللمرأة ما أغلق عليه بابها.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : ليس للرجل إلا سلاحه وثياب جلده. وقال ابن أبي ليلى : كل ما في البيت فللرجل إلا ما كان على المرأة من الثياب , والدرع , والخمار. وقال إبراهيم النخعي : ما كان من متاع الرجال فللرجل , وما كان من متاع النساء فللمرأة , وما صلح لهما فهو للحي منهما في موت أحدهما ,
وأما في الفرقة فهو للرجل.
وهو قول أبي حنيفة مع الأيمان , فإن كان أحدهما حرا والآخر مملوكا , فالمال كله للحر مع يمينه. وقال محمد بن الحسن كذلك , إلا في الموت فإنه للرجل أو لورثته مع اليمين. وقال أبو يوسف : ما كان لا يصلح إلا للنساء فإنه يقضي منه للمرأة ما يجهز به مثلها , إلا زوجها والباقي منه ومن غيره للرجل مع يمينه الموت والطلاق سواء في ذلك. وقال عثمان البتي وعبد الله بن الحسن , والحسن بن حي , وزفر في أحد قوليه ما صلح للرجال فهو للرجل مع يمينه , وما صلح للنساء فللمرأة مع يمينها وما صلح لهما فبينهما بنصفين مع أيمانهما.
وقال مالك : ما صلح للرجال فهو للرجل مع يمينه , وما صلح للمرأة فهو للمرأة مع يمينها , وما صلح لهما فهو للرجل مع يمينه الموت والفرقة سواء.
وقال أبو محمد : كل هذه آراء يكفي من فسادها تخاذلها , وما نعلم لمالك أحدا تقدمه إلى قوله المذكور.
قال علي : إذا وجب عندهم القضاء بما لا يصلح إلا للرجال للرجل , وما لا يصلح إلا للنساء للمرأة , فأي معنى للأيمان في ذلك , إذ قد ثبت أنه لمن قضوا له به , وإن كان لم يثبت له بعد , فما أحدهما أولى به من الآخر.
قال علي : وقال سفيان الثوري , والقاسم بن معاذ بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود , وشريك , وزفر في أحد قوليه , والشافعي , وأبو سليمان وأصحابهما , كما قلنا نحن.
قال أبو محمد : البيت بأيديهما فصح أنهما فيه سواء , فلكل واحد منهما ما بيده , وله اليمين على الآخر فيما ادعى مما بيده وبالله تعالى التوفيق. ولم يختلفوا في أخ وأخت تنازعا في متاع البيت , أو أم وابنها : أن كل ذلك بينهما بأيمانهما , ولا اختلفوا في أخوين ساكنين في بيت واحد , أحدهما : دباغ , والآخر : عطار , فتداعيا فيما في البيت , والدار فإنه بينهما بأيمانهما , ولم يقضوا للدباغ بآلات الدباغ , ولا للعطار بمتاع العطر , وهذا تناقض لا خفاء فيه وبالله تعالى التوفيق.