الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثمانون

كتاب الشهادات

1799 - مسألة: ويحكم على اليهود والنصارى والمجوس بحكم أهل الإسلام في كل شيء رضوا أم سخطوا , أتونا أو لم يأتونا ، ولا يحل ردهم إلى حكم دينهم , ولا إلى حكامهم أصلا.

روينا من طريق عبد الرزاق ، عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار قال : سمعت بجالة التميمي قال : أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : أن اقتلوا كل ساحر وساحرة , وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس , وانهوهم عن الزمزمة. قال ابن جريج : أهل الذمة إذا كانوا فينا فحدهم كحد المسلم.

ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري في المواريث في أهل الذمة قال : يحكم عليهم بما في كتابنا

وهو قول قتادة , وأبي سليمان , وأصحابنا.

وروينا غير هذا : كما روينا من طريق سماك بن حرب عن قابوس بن مخارق بن سليم عن أبيه أن محمد بن أبي بكر كتب إلى علي بن أبي طالب في مسلم زنى بنصرانية فكتب إليه علي بن أبي طالب : أن يقام الحد على المسلم , وترد النصرانية إلى أهل دينها

وهو قول أبي حنيفة , ومالك.

قال أبو محمد : هذا لا يصح عن علي ; لأن فيه سماك بن حرب وهو يقبل التلقين وقابوس بن المخارق وأبوه مجهولان فبطل أن يصح عن الصحابة ، رضي الله عنهم ، في هذا الباب غير

ما روينا عن عمر.

وقال المخالفون : قال الله تعالى : {لا إكراه في الدين} فإذا حكم عليهم بغير حكم دينهم فقد أكرهوا على غير دينهم.

فقلنا : إن كانت هذه الآية توجب أن لا يحكم عليهم بغير حكم دينهم فأنتم أول من خالفها فأقررتم على أنفسكم بخلاف الحق , وهذا عظيم جدا ; لأنكم تقطعونهم في السرقة بحكم ديننا , لا بحكم دينهم , وتحدونهم في القذف بحكم ديننا لا بحكم دينهم , وتمنعونهم من إنفاذ حكم دينهم بعضهم على بعض في القتل والخطأ , وبيع الأحرار , فقد تناقضتم.

فإن قالوا : هذا ظلم لا يقرون عليه.

فقلنا لهم : وكل ما خالفوا فيه حكم الإسلام فهو ظلم لا يقرون عليه. وقالوا : قال الله تعالى : {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} .

فقلنا : هذه منسوخة نسخها قوله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} فقالوا : هاتوا برهانكم على ذلك.

قلنا : نعم ,

روينا من طريق سفيان بن حسين عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : نسخت من هذه السورة آيتان : آية : القلائد

وقوله تعالى : {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} فكان رسول الله ﷺ مخيرا إن شاء حكم بينهم , وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم , فنزلت : وأن احكم بينهم بما أنزل الله فأمر رسول الله ﷺ أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

قال أبو محمد : وهذا مسند ; لأن ابن عباس أخبر بنزول الآية في ذلك

وهو قول مجاهد , وعكرمة.

وأيضا : فإن الله تعالى يقول : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} والدين في القرآن واللغة يكون الشريعة , ويكون الحكم , ويكون الجزاء , فالجزاء في الآخرة إلى الله تعالى لا إلينا. والشريعة قد صح أن نقرهم على ما يعتقدون إذا كانوا أهل كتاب , فبقي الحكم , فوجب أن يكون كله حكم الله كما أمر.

فإن قالوا : فاحكموا عليهم بالصلاة , والصيام , والحج , والجهاد , والزكاة.

قلنا : قد صح أن رسول الله ﷺ لم يلزمهم شيئا من هذا فخرج بنصه وبقي سائر الحكم عليهم على حكم الإسلام ، ولا بد. وصح أنه عليه الصلاة والسلام قتل يهوديا قودا بصبية مسلمة ورجم يهوديين زنيا ولم يلتفت إلى حكم دينهم. فقال بعضهم بآبدة مهلكة , وهي أن قالوا : إنما أنفذ رسول الله ﷺ الرجم بحكم التوراة , كما قال تعالى : {يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا}. .

فقلنا : هذا كفر ممن قاله , إذ جعله عليه الصلاة والسلام منفذا لحكم اليهود , تاركا لتنفيذ حكم الله تعالى , حاشا له من ذلك.

وأيضا فهبك أنه كما قلتم فارجموهم أنتم أيضا على ذلك الوجه نفسه , وإلا فقد جورتم رسول الله ﷺ .

وأما الآية : فإنما هي خبر عن النبيين السالفين فيهم , لأنهم ليسوا لنا نبيين , إنما لنا نبي واحد فصح أنه غير معني بهذه الآية.

ثم نقول لهم : أخبرونا عن أحكام دينهم أحق هي إلى اليوم محكم أم باطل منسوخ ، ولا بد من أحدهما :

فإن قالوا : حق محكم كفروا جهارا ,

وإن قالوا بل باطل منسوخ.

قلنا : صدقتم , وأقررتم على أنفسكم أنكم رددتموهم إلى الباطل المنسوخ الحرام , وفي هذا كفاية.

وقال تعالى : {كونوا قوامين بالقسط} وليس من القسط تركهم يحكمون بالكفر المبدل أو بحكم قد أبطله الله تعالى , أو حرم القول به والعمل به.

وقال تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}. ومن ردهم إلى حكم الكفر المبدل والأمر المنسوخ المحرم , فلم يعن على البر والتقوى , بل أعان على الإثم والعدوان ونعوذ بالله من الخذلان.

وقال تعالى : {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} والصغار هو جري أحكامنا عليهم , فإذا ما تركوا يحكمون بكفرهم فما أصغرناهم بل هم أصغرونا ومعاذ الله من ذلك.


1800 - مسألة: وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء , والقصاص , والأموال , والفروج , والحدود , وسواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته , وأقوى ما حكم بعلمه ; لأنه يقين الحق , ثم بالإقرار , ثم بالبينة. وقد اختلف الناس في هذا : فروي عن أبي بكر الصديق قال : لو رأيت رجلا على حد لم أدع له غيري حتى يكون معي شاهد غيري , وأن عمر قال لعبد الرحمن بن عوف : أرأيت لو رأيت رجلا قتل أو شرب أو زنى قال : شهادتك شهادة رجل من المسلمين فقال له عمر : صدقت وأنه روي نحو هذا عن معاوية , وابن عباس.

ومن طريق الضحاك : أن عمر اختصم إليه في شيء يعرفه فقال للطالب : إن شئت شهدت ولم أقض , وإن شئت قضيت ولم أشهد. وقد صح عن شريح أنه اختصم إليه اثنان فأتاه أحدهما بشاهد , فقال لشريح وأنت شاهدي أيضا , فقضى له شريح مع شاهده بيمينه.

وروي عن عمر بن عبد العزيز : لا يحكم الحاكم بعلمه في الزنى. وصح عن الشعبي : لا أكون شاهدا وقاضيا.

وقال مالك , وابن أبي ليلى في أحد قوليه وأحمد , وأبو عبيدة , ، ومحمد بن الحسن في أحد قوليه : لا يحكم الحاكم بعلمه في شيء أصلا. وقال حماد بن أبي سليمان : يحكم الحاكم بعلمه بالأعتراف في كل شيء إلا في الحدود خاصة. وبه قال ابن أبي ليلى في أحد قوليه. وقال أبو يوسف , ، ومحمد بن الحسن في أول قوليه : يحكم بعلمه في كل شيء من قصاص وغيره , إلا في الحدود , وسواء علمه قبل القضاء أو بعده.

وقال أبو حنيفة : لا يحكم بعلمه قبل ولايته القضاء أصلا

وأما ما علمه بعد ولايته القضاء فإنه يحكم به في كل شيء , إلا في الحدود خاصة. وقال الليث : لا يحكم بعلمه إلا أن يقيم الطالب شاهدا واحدا في حقوق الناس خاصة , فيحكم القاضي حينئذ بعلمه مع ذلك الشاهد. وقال الحسن بن حي : كل ما علم قبل ولايته لم يحكم فيه بعلمه , وما علم بعد ولايته حكم فيه بعلمه بعد أن يستحلفه , وذلك في حقوق الناس

وأما الزنا : فإن شهد به ثلاثة والقاضي يعرف صحة ذلك حكم فيه بتلك الشهادة مع علمه. وقال الأوزاعي : إن أقام المقذوف شاهدا واحدا عدلا وعلم القاضي بذلك حد القاذف.

وقال الشافعي , وأبو ثور , وأبو سليمان , وأصحابهم كما قلنا.

قال أبو محمد : فنظرنا فيمن فرق بين ما علم قبل القضاء وما علم بعد القضاء فوجدناه قولا لا يؤيده قرآن , ولا سنة , ولا رواية سقيمة , ولا قياس , ولا أحد قاله قبل أبي حنيفة , وما كان هكذا فهو باطل بلا شك. ثم نظرنا فيمن فرق بين ما اعترف به في مجلسه وبين غير ذلك مما علمه , فوجدناه أيضا كما

قلنا في قول أبي حنيفة , وما كان هكذا فهو باطل إلا أن بعضهم قال : إنما جلس ليحكم بين الناس بما صح عنده.

قلنا : صدقتم , وقد صح عنده كل ما علم قبل ولايته , وفي غير مجلسه وبعد ذلك. ثم نظرنا فيمن فرق بين ما شهد به عنده شاهد واحد وبين ما لم يشهد به عنده أحد : فوجدناه أيضا كالقولين المتقدمين , لأنه في كل ذلك إنما حكم بعلمه فقط

وهو قولنا.

وأما حاكم بشاهد واحد أو بثلاثة في الزنى , فهذا لا يجوز.

وأما شاهد حاكم معا , ولم يأت نص ، ولا إجماع بتصويب هذا الوجه خاصة. ثم نظرنا في قول من فرق بين الحدود وغيرها , فوجدناه قولا لا يعضده قرآن ، ولا سنة , وما كان هكذا فهو باطل.

فإن ذكروا ادرءوا الحدود بالشبهات.

قلنا : هذا باطل ما صح قط عن النبي ﷺ ولا فرق بين الحدود وغيرها في أن يحكم في كل ذلك بالحق , فلم يبق إلا قول من قال : لا يحكم الحاكم بعلمه في شيء وقول من قال : يحكم الحاكم بعلمه في كل شيء : فوجدنا من منع من أن يحكم الحاكم بعلمه يقول : هذا قول أبي بكر , وعمر , وعبد الرحمن , وابن عباس , ومعاوية , ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة. .

فقلنا : هم مخالفون لكم في هذه القصة ; لأنه إنما روي أن أبا بكر قال : إنه لا يثيره حتى يكون معه شاهد آخر.

وهو قول عمر , وعبد الرحمن : أن شهادته شهادة رجل من المسلمين , فهذا يوافق من رأى أن يحكم في الزنى بثلاثة هو رابعهم , وبواحد مع نفسه في سائر الحقوق.

وأيضا فلا حجة في قول أحد دون رسول الله ﷺ .

وأيضا فقد خالفوا أبا بكر , وعمر , وعثمان , وخالد بن الوليد , وأبا موسى الأشعري , وابن الزبير في القصاص من اللطمة , ومن ضربة السوط , ومما دون الموضحة وهو عنهم أصح مما رويتم عنهم هاهنا. واحتجوا بقول النبي ﷺ : شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك.

قال أبو محمد : وهذا قد خالفه المالكيون المحتجون به , فجعلوا له الحكم باليمين مع الشاهد , واليمين مع نكول خصمه , وليس هذا مذكورا في الخبر. وجعل له الحنفيون الحكم بالنكول وليس ذلك في الخبر. وأمروه بالحكم بعلمه في الأموال التي فيها جاء هذا الخبر. فقد خالفوه جهارا وأقحموا فيه ما ليس فيه. فمن أضل ممن يحتج بخبر هو أول مخالف له برأيه.

وأما نحن فنقول : إنه قد صح عن النبي ﷺ ، أنه قال : بينتك أو يمينه ومن البينة التي لا بينة أبين منها صحة علم الحاكم بصحة حقه , فهو في جملة هذا الخبر. واحتجوا بالثابت عن رسول الله ﷺ : أن عيسى عليه السلام رأى رجلا يسرق فقال له عيسى : سرقت قال : كلا والله الذي لا إله إلا هو , فقال عيسى عليه السلام : آمنت بالله وكذبت نفسي فقالوا : فعيسى عليه السلام لم يحكم بعلمه.

قال أبو محمد : ليس يلزمنا شرع عيسى عليه السلام , وقد يخرج هذا الخبر على أنه رآه يسرق أي يأخذ الشيء مختفيا بأخذه , فلما قرره حلف , وقد يكون صادقا , لأنه أخذ ماله من ظالم له. وذكروا قول رسول الله ﷺ : لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمتها وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن علم الحاكم أبين بينة وأعدلها

وقد تقصينا هذه المسألة في " كتاب الإيصال " ولله تعالى الحمد.

وبرهان صحة قولنا : قول الله تعالى : {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله}. وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره. وأن يكون الفاسق يعلن الكفر بحضرة الحاكم , والإقرار بالظلم , والطلاق , ثم يكون الحاكم يقره مع المرأة , ويحكم لها بالزوجية والميراث , فيظلم أهل الميراث حقهم. وقد أجمعوا على أن الحاكم إن علم بجرحة الشهود ولم يعلم ذلك غيره , أو علم كذب المجرحين لهم فإنه يحكم في كل ذلك بعلمه فقد تناقضوا.

وقال رسول الله ﷺ : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه والحاكم إن لم يغير ما رأى من المنكر حتى تأتي البينة على ذلك فقد عصى رسول الله ﷺ .

فصح أن فرضا عليه أن يغير كل منكر علمه بيده , وأن يعطي كل ذي حق حقه , وإلا فهو ظالم وبالله تعالى التوفيق.


1801 - مسألة: وإذا رجع الشاهد عن شهادته بعد أن حكم بها , أو قبل أن يحكم بها فسخ ما حكم بها فيه , فلو مات , أو جن , أو تغير بعد أن شهد قبل أن يحكم بشهادته , أو بعد أن حكم بها نفذت على كل حال , ولم ترد.

قال علي : أما موته وجنونه وتغيره فقد تمت الشهادة صحيحة , ولم يوجب فسخها بعد ثبوتها ما حدث بعد ذلك.

وأما رجوعه عن شهادته : فلو أن عدلين شهدا بجرحته حين شهد لوجب رد ما شهد به , وإقراره على نفسه بالكذب أو الغفلة أثبت عليه من شهادة غيره عليه بذلك. وقولنا هو قول حماد بن أبي سليمان , والحسن البصري.


1802 - مسألة: وأداء الشهادة فرض على كل من علمها , إلا أن يكون عليه حرج في ذلك لبعد مشقة , أو لتضييع مال , أو لضعف في جسمه , فليعلنها فقط. قال تعالى : {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} فهذا على عمومه إذا دعوا للشهادة , أو دعوا لأدائها. ولا يجوز تخصيص شيء من ذلك بغير نص , فيكون من فعل ذلك قائلا على الله تعالى ما لا علم له به.


1803 - مسألة: فإن لم يعرف الحاكم الشهود سأل عنهم , وأخبر المشهود بمن شهد عليه , وكلف المشهود له أن يعرفه بعدالتهم. وقال للمشهود عليه : اطلب ما ترد به شهادتهم عن نفسك , فإن ثبت عنده عدالتهم قضى بهم ولم يتردد لما ذكرنا قبل وإن جرحوا قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم , وإن جرحوا عنده بعد الحكم بشهادتهم فسخ ما حكم به بشهادتهم ; لأنه مفترض عليه رد خبر الفاسق , وإنفاذ شهادة العدل والتبين فيما لا يدرى حتى يدرى وبالله تعالى التوفيق.


1804 - مسألة: وجائز أن تلي المرأة الحكم وهو قول أبي حنيفة وقد روي عن عمر بن الخطاب : أنه ولى الشفاء امرأة من قومه السوق.

فإن قيل : قد قال رسول الله ﷺ : لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.

قلنا : إنما قال ذلك رسول الله ﷺ في الأمر العام الذي هو الخلافة.

برهان ذلك : قوله عليه الصلاة والسلام : المرأة راعية على مال زوجها وهي مسئولة عن رعيتها. وقد أجاز المالكيون أن تكون وصية ووكيلة ولم يأت نص من منعها أن تلي بعض الأمور وبالله تعالى التوفيق.


1805 - مسألة: وجائز أن يلي العبد القضاء ; لأنه مخاطب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبقول الله تعالى : {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}. وهذا متوجه بعمومه إلى الرجل , والمرأة , والحر , والعبد , والدين كله واحد , إلا حيث جاء النص بالفرق بين المرأة , والرجل , وبين الحر , والعبد فيستثنى حينئذ من عموم إجمال الدين.

وقال مالك , وأبو حنيفة : لا يجوز تولية العبد القضاء , وما نعلم لأهل هذا القول حجة أصلا وقد صح عن رسول الله ﷺ من طريق شعبة ، حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة فإذا عبد يؤمهم , فقيل له : هذا أبو ذر , فذهب يتأخر , فقال أبو ذر : أوصاني خليلي يعني رسول الله ﷺ أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف. فهذا نص جلي على ولاية العبد , وهو فعل عثمان بحضرة الصحابة لا ينكر ذلك منهم أحد.

ومن طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن العلاء عن سويد بن غفلة قال : قال لي عمر بن الخطاب : أطع الإمام وإن كان عبدا مجدعا. فهذا عمر لا يعرف له من الصحابة مخالف.


1806 - مسألة: وشهادة ولد الزنى جائزة في الزنى وغيره , ويلي القضاء , وهو كغيره من المسلمين. ولا يخلو أن يكون عدلا فيقبل , فيكون كسائر العدول , أو غير عدل فلا يقبل في شيء أصلا. ولا نص في التفريق بينه وبين غيره

وهو قول أبي حنيفة , والشافعي , وأحمد , وإسحاق , وأبي سليمان

وهو قول الحسن , والشعبي , وعطاء بن أبي رباح , والزهري

وروي ، عن ابن عباس.

وروي عن نافع : لا تجوز شهادته ,

وقال مالك , والليث : يقبل في كل شيء إلا في الزنى وهذا فرق لا نعرفه عن أحد قبلهما

قال الله عز وجل : {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} وإذا كانوا إخواننا في الدين فلهم ما لنا وعليهم ما علينا.

فإن قيل : قد جاء " ولد الزنا شر الثلاثة ". .

فقلنا : هذا عليكم لأنكم تقبلونه فيما عدا الزنى ,

ومعنى هذا الخبر عندنا : أنه في إنسان بعينه للآية التي ذكرنا , ولأنه قد كان فيمن لا يعرف أبوه , ومن لا يعدله جميع أهل الأرض , من حين انقراض عصر الصحابة ، رضي الله عنهم ، إلى يوم القيامة وبالله تعالى التوفيق.


1807 - مسألة: ومن حد في زنى , أو قذف , أو خمر , أو سرقة , ثم تاب وصلحت حاله , فشهادته جائزة في كل شيء , وفي مثل ما حد فيه لما ذكرنا من أنه لا يخلو هذا من أن يكون عدلا , فلا يجوز رد شهادته لغيره , وفي كل شيء إلا حيث جاء النص ، ولا نعلمه إلا في البدوي على صاحب القرية فقط , أو لا يكون عدلا فلا يقبل في شيء , وما عدا هذا فباطل وتحكم بالظن الكاذب بلا قرآن ، ولا سنة ، ولا معقول.

وقالت طائفة في المحدود في القذف خاصة : لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب في شيء أصلا. وقال آخرون : لا تقبل شهادة من حد في خمر أو غير ذلك أصلا. فهذا القول قد جاء عن عمر في تلك الرسالة المكذوبة " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا حدا أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة "

وهو قول الحسن بن حي. وقد

قلنا : لا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ ولا نص في رد شهادة من ذكرنا.

فأما القول الثاني : في تخصيص من حد في القذف , فإننا

روينا من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : شهادة القاذف لا تجوز وإن تاب.

ومن طريق إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي ، حدثنا قيس عن سالم هو الأفطس عن قيس بن عاصم : كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يشهده قال له : أشهد غيري فإن المسلمين قد فسقوني. وصح عن الشعبي في أحد قوليه , والنخعي , وابن المسيب في أحد قوليه والحسن البصري , ومجاهد في أحد قوليه ومسروق في أحد قوليه وعكرمة في أحد قوليه : أن القاذف لا تقبل شهادته أبدا وإن تاب. وعن شريح : المحدود في القذف لا تقبل له شهادة أبدا.

وهو قول أبي حنيفة , وأصحابه , وسفيان. وقال آخرون : إن تاب المحدود في القذف قبلت شهادته :

روينا ذلك عن عمر بن الخطاب من طريق أبي عبيد ، حدثنا سعيد بن أبي مريم عن محمد بن سالم عن إبراهيم بن ميسرة عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب استتابهم يعني أبا بكرة والذين شهدوا معه فتاب اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب , وكانت شهادتهما تقبل وكان أبو بكرة لا تقبل شهادته.

ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب جلد أبا بكرة , وشبل بن معبد , ونافعا أبا عبد الله , على قذفهم المغيرة بن شعبة , وقال لهم : من تاب منكم قبلت شهادته

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب , قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنى فجلدهم عمر وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم.

ومن طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : القاذف إذا تاب فشهادته عند الله عز وجل في كتابه تقبل. وصح أيضا : عن عمر بن عبد العزيز , وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود , وعطاء , وطاووس , ومجاهد , وابن أبي نجيح , والشعبي , والزهري , وحبيب بن أبي ثابت , وعمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري , وسعيد بن المسيب , وعكرمة , وسعيد بن جبير , والقاسم بن محمد : وسالم بن عبد الله , وسليمان بن يسار , وابن قسيط , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وربيعة , وشريح.

وهو قول عثمان البتي. وابن أبي ليلى , ومالك , والشافعي , وأبي ثور , وأبي عبيد , وأحمد , وإسحاق , وبعض أصحابنا , إلا أن مالكا قال : لا تقبل شهادته في مثل ما حد فيه , ولا نعلم هذا الفرق عن أحد قبله.

وأما أبو حنيفة فلا نعلم له سلفا في قول إلا شريحا وحده , وخالف سائر من روي عنه في ذلك شيء ; لأنهم لم يخصوا محدودا من غير محدود , فقد خالف جمهور العلماء في ذلك.

قال أبو محمد : احتج من منع من قبول شهادة القاذف وإن تاب : بخبر رويناه , فيه أن هلال بن أمية إذ قذف امرأته , قالت الأنصار : الآن يضرب رسول الله ﷺ هلال بن أمية , ويبطل شهادته في المسلمين. وهذا خبر لا يصح ; لأنه انفرد به عباد بن منصور , وقد شهد عليه يحيى القطان : بأنه كان لا يحفظ ولم يرضه وقال ابن معين : ليس بذلك. ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه : أنه إن تاب لم تقبل شهادته , ونحن لا نخالفهم في أن القاذف لا تقبل شهادته.

وأيضا : فليس من كلام النبي ﷺ ولا حجة إلا في كلامه عليه الصلاة والسلام.

وأيضا فإن ذلك القول منهم ظن لم يصح , فما ضرب هلال , ولا سقطت شهادته وفي هذا كفاية. وذكروا خبرا فاسدا : رويناه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي ﷺ قال : المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف.

قال أبو محمد : هذه صحيفة وحجاج هالك ثم هم أول مخالفين له ; لأنهم لا يقبلون الأبوين لأبنيهما , ولا الأبن لأبويه , ولا أحد الزوجين للآخر ، ولا العبد وهذا خلاف مجرد لهذا الخبر.

وأيضا فقد يضاف إلى هذا الخبر " إلا إن تاب " بنصوص أخر. وذكروا قول الله تعالى : {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} قالوا : فإنما استثنى تعالى بالتوبة من الفسق فقط.

قال أبو محمد : هذا تخصيص للآية بلا دليل بل الأستثناء راجع إلى المنع من قبول شهادتهم من أجل فسقهم , وإلى الفسق , وهذا لا يجوز تعديه بغير نص.

قال علي : كل من روي عنه أن لا تقبل شهادته وإن تاب فقد روي عنه قبولها , إلا الحسن , والنخعي فقط.

وأما الرواية ، عن ابن عباس فضعيفة , والأظهر عنه خلاف ذلك.

وأما الرواية عن أبي بكرة " إن المسلمين فسقوني " فمعاذ الله أن يصح , ما سمعنا أن مسلما فسق أبا بكرة , ولا امتنع من قبول شهادته على النبي ﷺ في أحكام الدين وبالله تعالى التوفيق.