الرئيسيةبحث

محلى ابن حزم - المجلد الرابع/الصفحة الثامنة والسبعون

كتاب الشهادات

1791 - مسألة: ولا يجوز أن يقبل كافر أصلا , لا على كافر , ولا على مسلم حاش الوصية في السفر فقط , فإنه يقبل في ذلك مسلمان , أو كافران من أي دين كانا أو كافر وكافرتان , أو أربع كوافر. ويحلف الكفار هاهنا مع شهادتهم ، ولا بد بعد الصلاة أي صلاة كانت ولو أنها العصر لكان أحب إلينا بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ثم يحكم بما شهدوا به , فإن جاءت بينة مسلمون : بأن الكفار كذبوا : حلف المسلمان الشاهدان , أو المسلم والمرأتان , أو الأربع نسوة بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ثم يفسخ ما شهد به الكفار.

برهان ذلك : قول الله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} والكافر فاسق فوجب أن لا يقبل.

وقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} الآية فوجب أخذ حكم الله تعالى كله , وأن يستثني الأخص من الأعم , ليتوصل بذلك إلى طاعة الجميع , ومن تعدى هذا الطريق فقد خالف بعض أوامر الله تعالى : وهذا لا يحل :

روينا من طريق محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن زاذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس عن تميم الداري في قول الله عز وجل: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية , قال : برئ الناس منها غيري , وغير عدي بن بداء , وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام , فأتيا إلى الشام , وقدم عليهما بديل بن أبي مريم مولى بني سهم , ومعه جام من فضة يريد به الملك هو عظم تجارته , فمرض ; فأوصى إليها , قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بداء , فلما قدمنا دفعناه إلى أهله , فسألوا عن الجام .

فقلنا : ما دفع إلينا غير هذا , فلما أسلمت بعد قدوم النبي ﷺ المدينة تأثمت من ذلك , فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر , وأديت إليهم خمسمائة درهم , وأخبرتهم : أن عند صاحبي مثلها , فأتوا به النبي ﷺ فسألهم البينة فلم يجدوا , فأحلفه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله عز وجل : {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} الآية , فحلف عمرو بن العاص وواحد منهم , فنزعت الخمسمائة درهم من عدي بن بداء.

ومن طريق يحيى بن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه ، عن ابن عباس قال : كان تميم الداري , وعدي بن بداء : يختلفان إلى مكة للتجارة فخرج معهم رجل من بني سهم , فتوفي بأرض ليس فيها مسلم , فأوصى إليهما , فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة , مخوصا بالذهب , ففقده أولياؤه , فأتوا رسول الله ﷺ فاستحلفهما رسول الله ﷺ ما كتمنا , ولا اطلعنا , ثم عرف الجام بمكة , فقالوا : اشتريناه من تميم , وعدي , فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله إن هذا لجام السهمي , لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين فأخذا الجام , وفيهم نزلت هذه الآية. وبقولنا يقول جهور السلف :

روينا من طريق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أن آخر سورة نزلت سورة المائدة , فما وجدتم فيها حلالا فحللوه , وما وجدتم فيها حراما فحرموه , وهذه الآية في المائدة فبطل أنها منسوخة وصح أنها محكمة.

ومن طريق ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية : هذا لمن مات وعنده المسلمون فأمره الله عز وجل أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين , ثم قال عز وجل : {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين , فأمره الله تعالى أن يشهد على وصيته رجلين من غير المسلمين , فإن ارتيب بشهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله لا نشتري بشهادتنا ثمنا قليلا فإذا اطلع الأوليان على الكافرين كذبا حلفا : بالله إن شهادة الكافرين باطل , وإنا لم نغدر.

ومن طريق ابن عباس أيضا : في قوله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير المسلمين من أهل الكتاب.

وروينا من طريق سعيد بن منصور , وزياد بن أيوب , قالا جميعا : ، حدثنا هشيم ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي : أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة " بدقوقا " فلم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته , فأشهد رجلين من أهل الكتاب , فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله ﷺ فأحلفهما بعد العصر " بالله ما خانا ، ولا كذبا ، ولا بدلا ، ولا كتما , ولا غيبا , وأنها لوصية الرجل وتركته " فأمضى أبو موسى شهادتهما.

ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة هو عمرو بن شرحبيل قال : لم ينسخ من سورة المائدة شيء.

ومن طريق وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل أو آخران من غيركم قال : من أهل الكتاب.

ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا سليمان التيمي عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل ملتكم.

ومن طريق وكيع عن عبد الله بن عون ، عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل الملة.

ومن طريق سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن شريح قال : لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية , ولا تجوز في وصية إلا أن يكون مسافرا.

ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني , إلا في السفر , ولا تجوز في السفر إلا في الوصية.

ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا خالد بن عبد الله الطحان عن داود الطائي عن الشعبي عن شريح قال : إذا مات الرجل في أرض غربة , ولم يجد مسلما فأشهد من غير المسلمين شاهدين , فشهادتهما جائزة , فإن جاء مسلمان فشهدا بخلاف ذلك أخذ بشهادة المسلمين وتركت شهادتهما.

ومن طريق سعيد بن منصور ، حدثنا هشيم ، حدثنا المغيرة عن إبراهيم النخعي في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل ملتكم.

ومن طريق شعبة ، حدثنا أبو بشر هو جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير قال : أو آخران من غيركم قال : إذا كان بأرض الشرك فأوصى إلى رجل من أهل الكتاب فإنهما يحلفان بعد العصر , فإن اطلع بعد حلفهما على أنهما خانا حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا واستحقوا.

ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا عمر بن علي المقدمي عن الأشعث عن الشعبي : أو آخران من غيركم قال : من اليهود والنصارى.

ومن طريق إسماعيل أيضا ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : اثنان ذوا عدل منكم من أهل الملة : أو آخران من غيركم قال : من غير أهل الملة.

ومن طريق إسماعيل ، حدثنا محمود بن خداش ، حدثنا هشيم ، حدثنا سليمان التيمي عن أبي مجلز في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل الملة.

ومن طريق إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن الحجاج ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، حدثنا إسحاق بن سويد عن يحيى بن يعمر في قول الله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير أهل الملة.

ومن طريق الطحاوي ، حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن المنهال , وعثمان بن الهيثم قال الحجاج : ، حدثنا أبو هلال الراسبي , وقال عثمان : ، حدثنا عوف بن أبي جميلة , كلاهما عن محمد بن سيرين في قوله تعالى : {أو آخران من غيركم} قال : من غير المسلمين. فهؤلاء : أم المؤمنين , وأبو موسى الأشعري , وابن عباس

وروي أيضا نحو ذلك عن علي ، رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم من الصحابة ، رضي الله عنهم ،. ومن التابعين عمرو بن شرحبيل , وشريح , وعبيدة السلماني , ، وإبراهيم النخعي , والشعبي , وسعيد بن جبير , وسعيد بن المسيب , ومجاهد , وأبو مجلز , وابن سيرين , ويحيى بن يعمر , وغيرهم , كابن أبي ليلى , وسفيان الثوري , ويحيى بن حمزة , والأوزاعي , وأبي عبيد , وأحمد بن حنبل , وجمهور أصحاب الحديث.

وبه يقول أبو سليمان وجميع أصحابنا , وخالفهم آخرون فروينا عن الحسن ، أنه قال , أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم.

وروي عن الزهري نحو هذا ، أنه قال : من أهل الميراث , وأنه توقف في ذلك

وروي أيضا : عن عكرمة.

وروينا عن زيد بن أسلم أنها منسوخة وعن إبراهيم أيضا مثل ذلك.

قال أبو محمد : أما دعوى النسخ فباطل , لا يحل أن يقال في آية إنها منسوخة لا تحل طاعتها والعمل بها إلا بنص صحيح , أو ضرورة مانعة , وليس هاهنا شيء من ذلك ,

ولو جاز مثل هذا لما عجز أحد عن أن يدعي فيما شاء من القرآن أنه منسوخ , وهذا لا يحل.

وأما من قال : من غير قبيلتكم فقول ظاهر الفساد , والبطلان , لأنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة إنما

أولها : يا أيها الذين آمنوا ، ولا يشك منصف في أن غير الذين آمنوا هم الذين لم يؤمنوا , ولكنها من الحسن زلة عالم لم يتدبرها. وقال المخالفون : نحن نهينا عن قبول شهادة الفاسق , والكافر أفسق الفساق .

فقلنا : الذي نهانا عن قبول شهادة الفاسق هو الذي أمرنا بقبول شهادة الكافر في الوصية في السفر فنقف عند أمريه جميعا , وليس أحدهما بأولى بالطاعة من الآخر.

ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها : أن المحتجين بهذا هم الحنفيون , والمالكيون , والشافعيون.

فأما الحنفيون : فأجازوا شهادة الكفار في كل شيء بعضهم على بعض بغير أمر من الله تعالى بذلك , بل خالفوا القرآن في نهيه عن قبول نبأ الفاسق ثم خالفوه في قبول الكفار في السفر فاعجبوا لهذه الفضائح , والمضادة لله تعالى.

وأما المالكيون : فأجازوا شهادة طبيبين كافرين حيث لا يوجد طبيب مسلم بغير أمر من الله تعالى بذلك , بل خالفوا القرآن في كلا الوجهين , كما ذكرنا.

وقال بعضهم : الوصية يكون فيها إقرار بدين فلما نسخ ذلك من الآية دل على نسخ سائر ذلك .

فقلنا : كذبتم ما سمى الله تعالى قط الإقرار بالدين وصية ; لأن الوصية من الثلث , والإقرار بالدين من رأس المال , وما دخل قط الإقرار بالدين في الوصية , ولا نسخ من الآية شيء ثم لهم بعد هذا أهذار يشبه تخليط المبرسمين لا معنى لها , وهذا مما خالفوا فيه جمهور العلماء والصحابة , ولا مخالف لهم من الصحابة , وهم يعظمون ذلك إذا وافق أهواءهم. وذكروا خبرا : رويناه من طريق عمر بن راشد اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة " أن النبي ﷺ قال : (لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا ملة محمد فإنها تجوز على غيرهم).

قال أبو محمد : عمر بن راشد ساقط , وهذا خبر أول من خالفه أبو حنيفة لأنه يجيز شهادة اليهودي على النصراني ومالك , فإنه يجيز شهادة الكفار الأطباء على المسلمين ، ولا ندري من أين وقع لهم هذا التخصيص للأطباء دون سائر من يضطر إليه من الشهادات من النكاح , والطلاق , والدماء [ والحدود ] والأموال , والعتق وما نعلم هذا التفريق عن أحد قبله.

وأما شهادة الكفار في غير ذلك , فطائفة : منعت من ذلك جملة

وهو قولنا. وطائفة أجازتها على الكفار , ولم يراعوا اختلاف مللهم. وطائفة أجازت شهادة كل ملة على مثلها ولم تجزها على غير مثلها.

فأما قولنا فقد ذكرناه عن جماعة من السلف.

وأما القول الثاني : فصح من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز : أنه أجاز شهادة نصراني على مجوسي , أو مجوسي على نصراني. وصح من طريق شعبة عن حماد بن أبي سليمان ، أنه قال : تجوز شهادة النصراني على اليهودي , واليهودي على النصراني هم كلهم أهل الشرك. وصح أيضا هذا عن الشعبي , وشريح , وإبراهيم النخعي.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن الحباب عن عون بن معمر عن إبراهيم الصائغ قال : سألت نافعا هو مولى بن عمر عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض فقال : تجوز.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال : سألت الزهري عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض فقال : تجوز ,

وهو قول سفيان الثوري , ووكيع , وأبي حنيفة , وأصحابه , وعثمان البتي. والثالث :

كما روينا من طريق أبي عبيد عن أبي الأسود ، عن ابن لهيعة عن عمرو بن الحارث عن قتادة : أن علي بن أبي طالب قال : تجوز شهادة النصراني على النصراني.

ومن طريق أبي عبيد عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب الزهري قال : تجوز شهادة النصراني على النصراني , واليهودي على اليهودي , ولا تجوز شهادة أحدهما على الآخر.

ومن طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح : أنه سمع يحيى بن سعيد الأنصاري يقول : لا تجوز شهادة النصراني على اليهودي , ولا شهادة اليهودي على النصراني.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة , وربيعة بن أبي عبد الرحمن كلاهما قال : تجوز شهادة اليهودي على اليهودي , ولا تجوز على النصراني , ولا تجوز شهادة النصراني على اليهودي.

ومن طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة : لا تجوز شهادة اليهودي على النصراني , ولا النصراني على اليهودي.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن قال : إذا اختلفت الملل لم تجز شهادة بعضهم على بعض.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن إدريس عن الليث عن عطاء قال : لا تجوز شهادة اليهودي على النصراني , ولا النصراني على المجوسي , ولا ملة على غير ملتها إلا المسلمين.

ومن طريق وكيع عن سفيان عن داود عن الشعبي لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا المسلمين.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا ابن علية عن معمر عن الزهري قال : لا تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص عن أشعث ، حدثنا حماد عن إبراهيم النخعي قال : لا تجوز شهادة أهل ملة إلا على أهل ملتها : اليهودي على اليهودي , والنصراني على النصراني.

ومن طريق وكيع عن عمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف : لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا المسلمين قال وكيع :

وهو قول ابن أبي ليلى.

قال أبو محمد : وهو قول الأوزاعي , والليث , والحسن بن حي.

قال علي : فروي كلا القولين كما أوردنا عن حماد بن أبي سليمان , والزهري , والشعبي , والنخعي

وروي القول الأول : عن نافع.

وروي الثاني : عن يحيى بن سعيد الأنصاري , وأبي سلمة بن عبد الرحمن وربيعة الرأي , وقتادة , والحسن , وعطاء.

قال أبو محمد : ولا يصح عن علي أصلا ; لأنه ، عن ابن لهيعة , ثم هو أيضا منقطع

قال علي : أما قول أبي حنيفة : فلم يرو لا صحيحا ، ولا سقيما عن أحد من الصحابة , فهو خلاف لكل ما جاء في هذه المسألة عن الصحابة.

وأما مالك : فخالف شيوخه المدنيين : أبا سلمة بن عبد الرحمن , ونافعا , والزهري ; وربيعة , ويحيى بن سعيد الأنصاري وهم يعظمون هذا إذا وافق رأي صاحبهم.

واحتج من أجاز قبول شهادة بعضهم على بعض بما رويناه من طريق الطحاوي : ، حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان الرازي ، حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال في حديث اليهوديين اللذين زنيا لليهود : ائتوني بالشهود فشهد أربعة منهم على ذلك , فرجمهما النبي ﷺ .

قال أبو محمد : مجالد هالك ;

روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان ، أنه قال : لو شئت أن يجعلها لي مجالد كلها عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله لفعل. وعن شعبة : أستخير الله وأدمر على مجالد. وعن أحمد بن حنبل : إن مجالدا يزيد في الإسناد. وعن ابن معين : مجالد لا يحتج بحديثه. والعجب كله من احتجاجهم بقول الله تعالى : {إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية} وهم أول مخالف لهذه الآية وقالوا ظاهرها جوازها على المسلمين والكفار في كل شيء , ثم نسخت عن المسلمين , فبقيت على الكفار.

قال أبو محمد : وهذا تجليح منهم بالكذب على الله تعالى جهارا مرارا. إحداها دعوى النسخ بلا

برهان. والثانية قولهم : إن ظاهرها جواز شهادتهم في كل شيء , وليس في الآية إلا عند حضور الموت حين الوصية فقط , ثم تحليفهما , ثم تحليف المسلمين الشاهدين بخلاف شهادتهما , فما رأيت أقل حياء ممن قال ما ذكرنا ونعوذ بالله من الخذلان والأستخفاف بالكذب على القرآن. والثالثة قولهم : نسخت عن المسلمين وبقيت على الكفار وهذا باطل لأن الدين كله واحد علينا وعلى الكفار , ولا يحل لأحد أن يحكم عليهم ، ولا لهم , إلا بحكم الإسلام لنا وعلينا , إلا حيث جاء النص بالفرق بيننا وبينهم وبالله تعالى التوفيق.


1792 - مسألة: وشهادة العبد والأمة مقبولة في كل شيء لسيدهما ولغيره كشهادة الحر والحرة ، ولا فرق. وقد اختلف الناس في هذا : فصح

ما روينا من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن عثمان بن عفان قضى في الصغير يشهد بعد كبره , والنصراني بعد إسلامه , والعبد بعد عتقه : أنها جائزة إن لم تكن ردت عليهم.

وروينا من طريق عمرو بن شعيب , وعطاء عن عمر بن الخطاب مثل ذلك.

وروينا ذلك في شهادة العبد من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر عن عمرو بن سليم ، عن ابن المسيب عن عمر.

ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن عطاء ، عن ابن عباس : لا تجوز شهادة العبد.

ومن طريق أبي عبيد عن حسان بن إبراهيم الكرماني عن إبراهيم الصائغ عن نافع ، عن ابن عمر : لا تجوز شهادة المكاتب ما بقي عليه درهم.

وروينا من طريق ابن أبي شيبة ، عن ابن المبارك , ووكيع قال ابن المبارك : عن ابن جريج عن عطاء , وقال وكيع : عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي قالا جميعا : لا تجوز شهادة العبد.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، عن ابن المبارك عن محمد بن راشد عن مكحول لا تجوز شهادة العبد.

ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : شهيدين من رجالكم قال : من الأحرار قال وكيع : ولا يجيز سفيان شهادة عبد

وهو قول وكيع.

ومن طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا عيسى بن يونس , ، ووكيع , وعبد الرحمن بن مهدي , ومعاذ بن معاذ , قال عيسى : عن الأوزاعي عن الزهري , وقال وكيع : عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي , وقال عبد الرحمن بن مهدي : عن حماد بن سلمة , وأبي عوانة , قال أبو عوانة : عن عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه , وقال حماد بن سلمة : عن قتادة عن شريح , وقال معاذ بن معاذ : عن أشعث ، هو ابن عبد الملك الحمراني عن الحسن البصري , وقالوا كلهم : في العبد يؤدي الشهادة فترد ثم يعتق فيشهد بها : أنها لا تجوز , إلا الحسن , والحكم فإنهما قالا : إنها تجوز.

ومن طريق أبي عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل بن يونس عن منصور عن مجاهد قال : أهل مكة , وأهل المدينة : لا يجيزون شهادة العبد.

ومن طريق شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال : لا تجوز شهادة المكاتب , ولا يرث

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة : إذا شهد العبد فردت شهادته , ثم أعتق فشهد بها لم تقبل

وروي ذلك عن فقهاء المدينة السبعة

وهو قول أبي الزناد.

وبه يقول أبو حنيفة ومالك , والشافعي , وابن أبي ليلى , والحسن بن حي , وأبو عبيد , وأحد قولي ابن شبرمة. وأجازت طائفة شهادة العبد في بعض الأحوال , وردتها في بعض :

كما روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا علي بن المديني , وسليمان بن حرب , ، وإبراهيم الهروي ,

قال علي عن جرير عن منصور عن إبراهيم عن شريح , وقال سليمان : عن أبي عوانة عن مطرف بن طريف عن الشعبي وقال الهروي : عن هشام أنا مغيرة عن إبراهيم : إنهم ثلاثتهم كانوا يجيزون شهادة العبد في الشيء اليسير.

ومن طريق عبد الرزاق ، حدثنا محمد بن يحيى المازني عن سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي قال : لا تجوز شهادة العبد لسيده , وتجوز لغيره.

ومن طريق جابر الجعفي عن الشعبي في العبد يعتق بعضه أن شهادته جائزة. وأجازت طائفة شهادته في كل شيء كالحر :

كما روينا من طريق ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث النخعي عن أشعث عن الشعبي قال : قال شريح : لا تجوز شهادة العبد ;

فقال علي : لكنا نجيزها , فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده.

وبه إلى ابن أبي شيبة ، حدثنا حفص بن غياث عن المختار بن فلفل قال : سألت أنس بن مالك عن شهادة العبد فقال : جائزة.

ومن طريق وكيع ، حدثنا سفيان الثوري عن عمار الدهني قال : شهدت شريحا شهد عنده عبد على دار فأجاز شهادته فقيل : إنه عبد فقال شريح : كلنا عبيد وإماء.

ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين : أنه كان لا يرى بشهادة المملوك بأسا إذا كان عدلا

ومن طريق ابن الجهم عن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن يعقوب عن عطاء بن أبي رباح قال : شهادة العبد , والمرأة جائزة في النكاح , والطلاق. كتب إلي عبد الله بن عبد الواحد عن الحسن بن عبد الواحد قال : ، حدثنا أبو مسلم الكاتب ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن المغلس ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا عفان بن مسلم قال : ، حدثنا حماد بن سلمة قال : سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد قال : أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب على الإنكار لردها.

قال أبو محمد :

وهو قول زرارة بن أوفى , وعثمان البتي , وأبي ثور , وأحمد بن حنبل , وإسحاق بن راهويه , وأبي سليمان , وأصحابهم , وأحد قولي ابن شبرمة.

قال علي : أما قول عمر , وعثمان الذي صدرنا به فهو على الحنفيين , والمالكيين , والشافعيين لا لهم ; لأنهم خالفوهما في الصبي يشهد فيرد , ثم يبلغ فيشهد. فقالوا : يقبل. ومن الباطل أن يكون بعض قول عمر وعثمان حجة , وبعضه غير حجة , وهذا تلاعب بالدين ممن سلك هذا الطريق وهو ، عن ابن عباس لا يصح ; لأنه عن الحجاج بن أرطاة , فلم يبق لهم إلا ابن عمر , وقد صح خلافه عن أنس فبطل تعلقهم بالآثار , وبقي الأحتجاج بالقرآن والسنة.

قال أبو محمد : أما قول مجاهد ومن اتبعه : شهيدين من رجالكم من الأحرار , فباطل وزلة عالم , وتخصيص لكلام الله تعالى بلا

برهان , وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم : أن العبيد رجال من رجالنا , وأن الإماء نساء من نسائنا , قال تعالى : {نساؤكم حرث لكم} فدخل في ذلك بلا خلاف الحرائر والإماء فظهر فساد هذا القول , وإنما خاطب الله تعالى في أول الآية الذين آمنوا : والعبيد , بلا خلاف منهم , فهم في جملة المخاطبين بالمداينة , والإشهاد والشهادة.

واحتج بعضهم بقول الله تعالى : {عبدا مملوكا لا يقدر على شيء}

قال أبو محمد : تحريف كلام الله تعالى عن مواضعه مهلك في الدنيا والآخرة , ولم يقل تعالى : إن كل عبد فهو لا يقدر على شيء , إنما ضرب الله تعالى المثل بعبد من عباده هذه صفته , وقد توجد هذه الصفة في كثير من الأحرار , ومن نسب غير هذا إلى الله تعالى فقد كذب عليه جهارا , وأتى بأكبر الكبائر ; لأن الله تعالى لا يقول إلا حقا , وبالمشاهدة نعرف كثيرا من العبيد أقدر على الأشياء من كثير من الأحرار. ونقول لهم : هل يلزم العبيد الصلاة , والصيام , والطهارة , ويحرم عليهم من المآكل , والمشارب , والفروج , كل ما يحرم على الأحرار , فمن قولهم : نعم , فقد أكذبوا أنفسهم , وشهدوا بأنهم يقدرون على أشياء كثيرة فبطل تعلقهم وتمويههم بهذه الآية. وقالوا : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا. قالوا : والعبد لا يقدر على أداء الشهادة ; لأنه مكلف خدمة سيده. .

فقلنا : كذب من قال هذا , بل هو قادر على أداء الشهادة كما يقدر على الصلاة , وعلى النهوض إلى من يتعلم منه ما يلزمه من الدين. ولو سقط عن العبد القيام بالشهادة لشغله بخدمة سيده لسقط أيضا عن الحرة ذات الزوج لشغلها بملازمة زوجها.

وقال بعضهم : العبد سلعة وكيف تشهد سلعة .

فقلنا : فكان ماذا تشهد السلعة , كما يلزم السلعة الصلاة , والصيام , والقول بالحق وما نعلم لهم في هذه المسألة متعلقا , لا بقرآن , ولا بسنة , ولا رواية صحيحة , ولا سقيمة , ولا نظر ، ولا معقول , ولا قياس , إلا بتخاليط في غاية الفساد , وأهذار باردة

وقد تقصينا هذا في " كتاب الإيصال " والحمد لله رب العالمين.

قال أبو محمد : وكل نص في قرآن أو سنة في شيء من أحكام الشهادات فكلها شاهدة بصحة قولنا , إذ لو أراد الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام تخصيص عبد من حر في ذلك لكان مقدورا عليه : وما كان ربك نسيا قال تعالى : {ممن ترضون من الشهداء}.

وقال تعالى : {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه}. فلم يختلف مسلمان قط في أن هذا خير يدخل فيه العبيد والإماء كدخول الأحرار والحرائر , وحرام على كل أحد أن لا يرضى عمن أخبر الله تعالى أنه قد رضي عنه , فإذ قد رضي الله عن العبد المؤمن العامل بالصالحات , ففرض علينا أن نرضى عنه , وإذ فرض علينا أن نرضى عنه , ففرض علينا قبول شهادته.

وأما من ردها لسيده فإنه قال : قد يجبره سيده على الشهادة له.

قلنا : لو كان هذا مانعا من قبول العبد لسيده لكان مانعا من قبول أحد من المسلمين للإمام إذا شهد له ; لأن الإمام أقدر على رعيته من السيد على عبده ; لأن العبد تعديه جميع الحكام على سيده إذا تظلم منه ويحولون بينه وبين أذاه , ولا يقدر أحد على أن يحول بين الإمام والرجل من رعيته , فظهر فساد قول مخالفينا والحمد لله رب العالمين.