→ كتاب النكاح (مسألة 1839 - 1843) | ابن حزم - المحلى كتاب النكاح (مسألة 1844 - 1846) ابن حزم |
كتاب النكاح (مسألة 1847 - 1850) ← |
كتاب النكاح
1844 - مسألة: ولا يحل لأحد أن يخطب امرأة معتدة من طلاق أو وفاة، فإن تزوجها قبل تمام العدة فسخ أبدا دخل بها أو لم يدخل، طالت مدته معها أو لم تطل، ولا توارث بينهما، ولا نفقة لها عليه، ولا صداق، ولا مهر لها. فإن كان أحدهما عالما فعليه حد الزنا من الرجم والجلد، وكذلك إن علما جميعا، ولا يلحق الولد به إن كان عالما. وإن كانا جاهلين فلا شيء عليهما، فإن كان أحدهما جاهلا، فلا حد على الجاهل، فإن كان هو الجاهل فالولد به لاحق، فإذا فسخ النكاح وتمت عدتها فله أن يتزوجها إن أرادت ذلك كسائر الناس، إلا أن يكون الرجل طلق امرأته فله أن يرتجعها في عدتها منه ما لم يكن طلاق ثلاث.
وكذلك الرجل تكون تحته الأمة ويدخل بها فتعتق فتخير فتختار فراقه ويفسخ نكاحه فتعتد بحمل أو بالأطهار أو بالشهور، فله وحده دون سائر الناس أن يخطبها في عدتها منه فإن رضيت به فله نكاحها ووطؤها.
برهان ما قلنا: قول الله عز وجل: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه}.
وأما قولنا: لا توارث، ولا نفقة، ولا كسوة، ولا صداق بكل حال جهلا أو علما، فلأنه ليس نكاحها، لأن الله تعالى أحل النكاح ولم يحل هذا العقد بلا خلاف من أحد، فإذ ليس نكاحا فلا توارث، ولا كسوة، ولا نفقة، إلا في نكاح.
وأما إلحاق الولد بالرجل الجاهل فلا خلاف فيه.
وأما وجوب الحد على العالم فلأن الله تعالى يقول: {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}. وهذه ليست زوجا، ولا ملك يمين فهو عاهر. وقد قال رسول الله ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فلم يجعل عليه الصلاة والسلام إلا فراشا أو عهرا، وهذه ليست فراشا فهو عهر، والعهر الزنا، وعلى الزاني الحد: ولا حد على الجاهل المخطئ، لقول الله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}. ولقوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} وهذا لم يبلغه، فلا شيء عليه.
وأما المعتقة تخير: فلأن رسول الله ﷺ قال لها لو راجعتيه وسنذكره في بابه إن شاء الله عز وجل.
وأما قولنا: إن الناكح في العدة الواطئ فيها جاهلا كان أو عالما فحد وكان غير محصن ولم تحد هي لجهلها أو لم ترجم، لأنها كانت بكرا معتدة من وفاة فله أن يتزوجها بعد تمام عدتها التي تزوجها فيها، فلأن الله عز وجل ذكر لنا كل ما حرم علينا من النساء في قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} الآية إلى قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} فلم يذكر لنا المنكوحة في العدة المدخول بها فيها في جملة ما حرم علينا ابتداء النكاح فيها بعد تمام عدتها، فإذ لم يذكرها تعالى، لا في هذه الآية، ولا في غيرها، ولا على لسان رسول الله ﷺ وقد أحلها الله تعالى في القرآن نصا بقوله عز وجل: {وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} وقولنا هذا هو قول الحسن، وحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبي سليمان، وأصحابهم. وقال سعيد بن المسيب وربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعي، لا تحل له أبدا.
وقال مالك، والليث: ولا بملك اليمين، وما لمن قال هذا حجة أصلا إلا شغبتان: إحداهما أنهم قالوا: تعجل شيئا قبل وقته فواجب أن يحرم عليه في الأبد كالقاتل العامد يمنع الميراث.
قال أبو محمد: وهذا من أسخف قول يسمع، قبل كل شيء: من أين وضح لهم تحريم الميراث على القاتل، ولا نص يصح فيه، ولا إجماع قد أوجب الميراث لقاتل العمد: الزهري، وسعيد بن جبير، وغيرهما. ثم من أين لهم أن من تعجل شيئا قبل وقته وجب أن يحرم عليه أبدا وأي نص جاء بهذا أو أي عقل دل عليه ثم لو صح لهم أن القاتل يمنع من الميراث فمن أين لهم أن ذلك لتعجله إياه قبل وقته وكل هذا كذب وظن فاسد وتخرص بالباطل، ويلزمهم إن طردوا هذا الدليل السخيف أن يقولوا فيمن غصب مال مورثه: أن يحرم عليه في الأبد، لأنه استعجله قبل وقته. وأن يقولوا في امرأة سافرت في عدتها: أن يحرم عليها السفر أبدا. ومن تطيب في إحرامه: أن يحرم عليه الطيب أبدا. وأن يقولوا فيمن اشتهى شيئا وهو صائم في رمضان فأكله؛ أو وطئ جاريته أو أمته وهو صائم في رمضان أو وهي حائض: أن يحرم عليه ذلك الطعام في الأبد، وتحرم تلك الأمة أو امرأته في الأبد، لأنه تعجل كل ذلك قبل وقته، والذي يلزمهم أكثر من هذا. والثانية رواية عن عمر رضي الله عنه منقطعة: منها: ما حدثناه يونس بن عبد الله، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا صالح بن مسلم قال: قلت للشعبي: رجل طلق امرأته تطليقة فجاء آخر فتزوجها في عدتها فقال الشعبي: قال عمر بن الخطاب: يفرق بينها وبين زوجها، وتكمل عدتها الأولى، وتأتنف من هذه عدة جديدة، ويجعل صداقها في بيت المال، ولا يتزوجها أبدا ويصير الأول خاطبا. وقال علي بن أبي طالب: يفرق بينهما، وتكمل عدتها الأولى، وتستقبل من هذا عدة جديدة ولها الصداق بما استحل من فرجها، ويصير كلاهما خاطبين قد أخبرتك بقول هذين، فإن أخبرتك برأي فبل عليه. وجاء هذا عن عمر من طرق ليس منها شيء يتصل، وروي خلافها كما ذكرنا عن علي، وابن مسعود.
قال أبو محمد: لا عجب أعجب من تعلق هؤلاء القوم بروايات منقطعة عن عمر قد خالفه علي فيها، فمن جعل قول أحدهما أولى من الآخر بلا برهان وثانية أنهم قد خالفوا عمر فيما صح عنه يقينا من هذه القضية إذ جعل مهرها في بيت المال
كما روينا من طريق وكيع عن زكريا بن أبي زائدة، وإسماعيل بن أبي خالد، كلاهما عن الشعبي عن مسروق أن امرأة نكحت في عدتها ففرق بينهما عمر، وجعل مهرها في بيت المال، وقال: نكاحها حرام، ومهرها حرام. حدثنا يونس بن عبد الله، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن خالد، حدثنا أبي، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا يزيد عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق، أو عن عبيد بن نضلة عن مسروق شك داود في أحدهما وقال: رفع إلى عمر امرأة نكحت في عدتها، فقال: لو أنكما علمتما لرجمتكما، فضربهما أسواطا، وفرق بينهما، وجعل المهر في سبيل الله عز وجل، وقال: لا أجيز مهرا لا أجيز نكاحه.
قال أبو محمد: عبيد بن نضلة إمام ثقة. ومسروق كذلك، فلا نبالي عن أيهما رواه وقد ثبت داود بن أبي هند على أنه عن أحدهما بلا شك.
قال علي: فخالفوه في جعل مهرها في بيت المال، وهو الثابت عن عمر، فهان عليهم خلافه في الحق، واتبعوه فيما لا برهان على صحته فيما قد خالفه فيه غيره من الصحابة كما أوردنا. وثالثة وهي أنه قد صح رجوع عمر عن ذلك:
كما روينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق عن عمر قال: مهرها في بيت المال، ولا يجتمعان يعني التي نكحت في العدة ودخل بها الذي نكحها. وقال سفيان: فأخبرني أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك، وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان. فأي شيء أعجب من تماديهما على خلاف عمر في الثابت عنه من أن يجعل مهرها في بيت المال، وعلى قوله قد رجع عمر عنها وكفى بهما خطأ. ورابعة أنه قد صح عن عمر ما حدثناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي، حدثنا الدبري، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب بالجابية نكحت عبدها فانتهرها عمر وهم أن يرجمها وقال لها: لا يحل لك مسلم بعده. فهذا أصح سند عن عمر بحضرة الصحابة، ولم يلتفتوا إليه ولجوا في الخطأ تقليدا لخطأ مالك بعد رجوع عمر عنه ونسأل الله العافية.
ومن عجائب الدنيا قولهم: من اشترى أمة فوجدها حاملا من زوج كان لها فمات بعد أن وطئها، فإنه لا تحل له أبدا، ولا بملك اليمين. وقالوا: من تزوج امرأة لا زوج لها فدخل بها فوطئها، ثم ظهر بها حمل من زنى أو من غصب كان بها قبل نكاحه، فإنها لا تحل له أبدا، ما ندري لماذا وقالوا: من تزوج أمة أعتقت قبل أن تتم حيضة بعد عتقها فدخل بها حرمت عليه في الأبد فلجوا هذا اللجاج الفاسد. ثم لم يلبثوا أن قالوا: من تزوج امرأة لها زوج قائم حي حاضر أو غائب يظنان أنه قد مات أو يوقنان بحياته، فدخل بها فوطئها: أنها لا تحرم عليه في الأبد، بل له أن يتزوجها إن طلقها الزوج أو مات. وهذا هو المستعجل قبل الوقت بلا شك. وقالوا: من زنى بامرأة لم تحرم عليه في الأبد، فرأوا الزنا أخف من زواج الجاهل في العدة ورأوا ما لا حد فيه، ولا إثم للجهالة أغلظ من الحرام المتيقن فهل في العجب أكثر من هذا ونسأل الله العافية.
1845 - مسألة: ومن انفسخ نكاحه بعد صحته بما يوجب فسخه فلها المهر المسمى كله، فإن لم يسم لها صداقا فلها مهر مثلها دخل بها أو لم يدخل.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} فالصداق واجب لها بصحة العقد ودخل بها أو لم يدخل فإذا انفسخ فحقها في الصداق باق، كما لو مات، ولا فرق.
ومن ادعى أنه ليس لها في الفسخ قبل الدخول إلا نصف الصداق فإنما قاله قياسا على الطلاق قبل الدخول، والقياس كله باطل، ولو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا، لأن الطلاق فعل المطلق، والفسخ ليس فعله، فلا تشابه بين الفسخ والطلاق، بل الفسخ بالموت أشبه، لأنهما يقعان بغير اختيار الزوج، ولا يقع الطلاق إلا باختياره.
وكذلك من أسقط جميع الصداق في بعض وجوه الفسخ إذا جاء الفسخ من قبلها فقوله باطل، لأنه إسقاط لما أوجبه الله تعالى بلا برهان وبالله تعالى التوفيق.
1846 - مسألة: ومن طلق قبل أن يدخل بها فلها نصف الصداق الذي سمي لها
وكذلك لو دخل بها ولم يطأها طال مقامه معها أو لم يطل هذا في كل مهر كان بصفة غير معين، كعدد، أو وزن، أو كيل، أو شيء موصوف، أو في مكان بعينه إن وجد صحيحا، وسواء كان تزوجها بصداق مسمى في نفس العقد أو تراضيا عليه بعد ذلك أو لم يتراضيا، فقضي لها بمهر مثلها.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} الآية. وفيما ذكرنا اختلاف قديم وحديث في دخوله بها ولم يطأها، وفي ضياع المهر، وفي الفرق بين كون الصداق مفروضا في العقد وبين تراضيهما عليه بعد العقد، أو الحكم لها به عليه والتسوية بين ذلك كله.
فأما الأختلاف في الفرق بين كون الصداق مفروضا في العقد، وبين تراضيهما بعد العقد، أو الحكم لها به عليه فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: إنما يقضى لها بنصف الصداق إذا كان الصداق مفروضا لها في نفس العقد وأما إن تراضيا عليه بعد ذلك، أو اختلفا فيه فحكم عليه بمهر مثلها فهاهنا إن طلقها قبل الدخول فلا شيء لها إلا المتعة.
وقال مالك والشافعي، وأبو سليمان، وأصحابهم: لها النصف في كل ذلك.
قال أبو محمد: وبهذا نأخذ؛ لأن قول الله تعالى: {فنصف ما فرضتم عموم} لكل صداق في نكاح صحيح فرضه الناكح في العقد أو بعده، ولم يقل عز وجل: {فنصف ما فرضتم} في نفس العقد والزائد لهذا الحكم مخطئ مبطل متعد لحدود الله تعالى.
وأما الذي فرض عليه الحاكم صداق مثلها، فإنه وإن كان قد أبى من الواجب عليه في ذلك فحكم الله تعالى عليه بقوله الصادق: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} موجب عليه أن يفرض لها أحد وجهين، لا بد له من أحدهما ضرورة: إما ما رضيت،
وأما مهر مثلها، فأيهما لزمه برضاه أو بحكم حق فقد فرضه لها، إذ عقد نكاحها يقينا في علم الله عز وجل، وقد وجب لها في ماله وما نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا. ونحن نشهد بشهادة الله تعالى: أن الله تعالى لو أراد بقوله: {فنصف ما فرضتم} في نفس العقد خاصة لبينه لنا ولم يهمله حتى يبينه لنا أبو حنيفة، وما هنالك. فإذا لا شك في هذا فقد أيقنا أن الله تعالى أراد بكل حال.
وأما من دخل بزوجته ولم يطأها طال مقامه معها أو لم يطل فإن الناس قد اختلفوا فيه: فروينا من طريق أبي عبيد، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن عوف بن أبي جميلة عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون: أنه إذا أغلق الباب، وأرخى الستر: فقد وجب الصداق.
ومن طريق وكيع عن موسى بن عبيدة عن نافع بن جبير قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: إذا أرخى الستر، أو أغلق الباب: فقد وجب الصداق.
ومن طريق عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير عن سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: قال عمر بن الخطاب: إذا أرخيت الستر وغلقت الأبواب فقد وجب الصداق وهذا صحيح عن عمر.
ومن طريق أبي عبيد نا يزيد، هو ابن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما قالا جميعا: إذا أرخيت الستور: فقد وجب الصداق.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا أغلق الباب وأرخي الستر: فقد وجب الصداق.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن سليمان بن يسار أن الحارث بن الحكم تزوج امرأة فقال عندها، ثم راح وفارقها، فأرسل مروان إلى زيد بن ثابت فقص عليه القصة فقال زيد: لها الصداق، فقال مروان: إنه ممن لا يتهم، فقال زيد بن ثابت: أرأيت لو حملت أكنت ترجمها قال: لا، فقال زيد: بلى. قال أبو عبيد: وحدثناه أبو النضر عن الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت مثله وفي آخره: فلذلك تصدق المرأة في مثل هذا.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد الكريم، عن ابن مسعود مثل قول علي، وعمر.
ومن طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن الركين بن الربيع عن حنظلة: أن المغيرة بن شعبة قضى في امرأة عنين فرق بينهما بجميع الصداق.
ومن طريق ابن وهب وعن رجال من أهل العلم: أن أنس بن مالك قال في التي دخل بها زوجها ولم يطأها: إن الصداق لها وعليها العدة، ولا رجعة له عليها.
وهو قول علي بن الحسين، وروي عن سعيد بن المسيب. وصح عن سليمان بن يسار، وعن عروة بن الزبير قضى به في عنين. وعن عبد الكريم وزاد: وإن كانت حائضا. وعن عطاء مثل قول عبد الكريم وهو قول ابن أبي ليلى، والأوزاعي، وسفيان الثوري، إلا أن تكون " رتقاء " فلا يجب لها إلا نصف الصداق. وصح أيضا عن الليث بن سعد وهو قول الزهري، وأحمد، وإسحاق.
وروينا عن عمر قولا آخر: رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: أن عمر بن الخطاب قضى في رجل اختلى بامرأة ولم يخالطها بالصداق كاملا، يقول: إذا خلا بها ولم يغلق بابا، ولا أرخى سترا. وعن إبراهيم النخعي قول آخر: رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن المغيرة قال: قال إبراهيم النخعي: كان يقال: إذا رأى منها ما يحرم على غيره فلها الصداق.
وقال أبو حنيفة: إذا خلا بها في بيتها وطئ أو لم يطأ فالمهر كله لها إلا أن يكون أحدهما محرما، أو أحدهما مريضا، أو كانت هي حائضا، أو صائمة في رمضان، فليس لها في كل ذلك إلا نصف المهر فلو خلا بها وهو صائم صيام فرض في ظهار، أو نذر، أو قضاء رمضان، فعليه الصداق كله، وعليها العدة، فلو خلا بها في صحراء، أو في مسجد، أو في سطح لا حجرة عليه، فليس لها إلا نصف الصداق.
قال أبو محمد: هذه أقوال لم تأت قط عن أحد من السلف، ولا جاء بها قرآن، ولا سنة، ولا قياس، ولا رأي سديد.
وقال مالك: إذا خلا بها فقبلها أو كشفها ثم طلقها واتفقا على أنه لم يطأها، فإن كان ذلك قريبا فليس لها إلا نصف الصداق، فإن تطاول ذلك حتى أخلق ثيابها، فلها المهر كله.
قال أبو محمد: وهذا قول لا يحفظ عن أحد قبله، وليت شعري كم حد هذا التطاول الناقل عن حكم القرآن، وما حد الإخلاق لهذه الثياب. وهاهنا قول آخر كما رويناه من طريق وكيع عن الحسن بن صالح بن حي عن فراس عن عامر الشعبي، عن ابن مسعود قال: لها النصف وإن جلس بين رجليها.
ومن طريق سعيد بن منصور ثنا هشيم، حدثنا ليث، هو ابن أبي سليم عن طاووس، عن ابن عباس أنه كان يقول في رجل دخلت عليه امرأته ثم طلقها، فزعم أنه لم يمسها: عليه نصف الصداق.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج أخبرني ليث عن طاووس، عن ابن عباس قال: لا يجب الصداق وافيا حتى يجامعها ولها نصفه.
ومن طريق أبي عبيد نا هشيم أنا المغيرة بن مقسم عن الشعبي عن شريح قال: لم أسمع الله عز وجل ذكر في كتابه بابا، ولا سترا إذا زعم أن لم يمسها فلها نصف الصداق.
ومن طريق سعيد بن منصور، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي: أن عمرو بن نافع طلق امرأته وكانت قد أدخلت عليه، فزعم أنه لم يقربها، وزعمت أنه قربها، فخاصمته إلى شريح، فقضى شريح بيمين عمرو " بالله الذي لا إله إلا هو ما قربتها " وقضى عليه لها بنصف الصداق.
قال أبو محمد: كانت هذه المطلقة بنت يحيى بن الجزار.
ومن طريق أبي عبيد، حدثنا معاذ هو معاذ العنبري عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أنه كان لا يرى إغلاق الباب، ولا إرخاء الستر شيئا.
ومن طريق وكيع عن زكريا، هو ابن أبي زائدة عن الشعبي، أنه قال: لها نصف الصداق يعني التي دخل بها ولم يقل: أنه مسها.
ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن ابن طاووس عن أبيه قال: لا يجب الصداق وافيا حتى يجامعها، إن أغلق عليها الباب، قلت له: فإذا وجب الصداق وجبت العدة، قال: أو يقول أحد غير ذلك ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن مكحول قال: لا يجب الصداق والعدة إلا بالملامسة البينة: تزوج رجل جارية فأراد سفرا فأتاها في بيتها مخلية ليس عندها أحد من أهله، فأخذها فعالجها، فمنعت نفسها، فصب الماء ولم يفترعها، فساغ الماء فيها، فاستمر بها الحمل، فثقلت بغلام، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فبعث إلى زوجها فسأله فصدقها، فعند ذلك قال عمر: من أغلق الباب أو أرخى الستر فقد وجب الصداق، وكملت العدة.
قال أبو محمد: وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأبي سليمان، وأصحابهم.
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة، ومالك: فمخالفان لكل من ذكرنا من الصحابة، ولا نعلم لهما حجة أصلا، ولا سلفا في قولهما، فلم يبق إلا قول من قال: إن أغلق بابا، أو أرخى سترا فقد وجب الصداق فوجدنا من ذهب إلى هذا القول يحتجون بقول الله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة}. قالوا: فالصداق كله واجب لها إلا أن يمنع منه إجماع. وكما روينا من طريق البخاري، حدثنا عمرو بن زرارة، حدثنا إسماعيل، هو ابن علية عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير: أن ابن عمر قال له: فرق رسول الله ﷺ بين أخوي بني العجلان، وذكر الحديث، قال أيوب: فقال لي عمرو بن دينار: إن في الحديث شيئا لا أراك تحدثه قال: قال الرجل: مالي قال: قيل: لا مال لك إن كنت صادقا فقد دخلت بها.
قال أبو محمد: لا حجة في هذا لأن عمرو بن دينار لم يذكر من أخبره بهذا، فحصل مرسلا، ولا حجة في مرسل.
وأيضا: فإنما فيه قال: قيل: وليس فيه أن رسول الله ﷺ قال ذلك فسقط من كل وجه وقد أسنده عمرو بن دينار ولم يذكر فيه هذا اللفظ لكن كما، حدثنا حمام بن أحمد، حدثنا عباس بن أصبغ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن، حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول للمتلاعنين حسابكما على الله، أحدكما كاذب، فقال: يا رسول الله مالي مالي، قال: لا مال لك، إن كنت صادقا عليها فهو بما استحللت من فرجها وذكر الحديث. قالوا: فالدخول بها استحلال لفرجها
قال أبو محمد: هذا تمويه، بل حين العقد للنكاح يصح استحلاله لفرجها فلولا نص القرآن بأنه إن لم يمسها حتى طلقها فنصف الصداق فقط لكان الكل لها، كما هو لها إن مات أو ماتت، فوجب الوقوف عند ذلك. وهكذا القول في قوله تعالى: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة} أن هذه الآية الأخرى خصتها، فلم يوجب الطلاق قبل المس إلا نصف الصداق. وشغبوا أيضا بخبر ساقط رويناه من طريق أبي عبيد، حدثنا أبو معاوية والقاسم بن مالك عن جميل بن يزيد الطائي عن زيد بن كعب الأنصاري قال: تزوج رسول الله ﷺ امرأة من بني غفار فلما دخل عليها رأى بكشحها بياضا فقال: البسي عليك ثيابك والحقي بأهلك. زاد القاسم بن مالك في روايته: وأمر لها بالصداق كاملا.
قال أبو محمد: جميل بن زيد ساقط متروك الحديث غير ثقة ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة، لأنه لم يقل عليه الصلاة والسلام أنه لها واجب، بل هو تفضل منه، كما
قال عز وجل: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} كما لو تفضلت هي فأسقطت عنه جميع حقها لاحسنت. وموهوا أيضا بخبر آخر ساقط: رويناه أيضا من طريق أبي عبيد، حدثنا سعيد بن أبي مريم، وعبد الغفار بن داود، قال سعيد: عن يحيى بن أيوب وقال عبد الغفار: عن ابن لهيعة، ثم اتفق يحيى بن أيوب، وابن لهيعة، كلاهما عن عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله ﷺ: من كشف امرأة فنظر إلى عورتها فقد وجب الصداق. وهذا لا حجة فيه لوجوه:
أولها أنه مرسل، ولا حجة في مرسل.
والثاني أنه من طريق يحيى بن أيوب، وابن لهيعة وهما ضعيفان. والثالث أنه ليس فيه للدخول ذكر، ولا أثر، وإنما فيه كشفها والنظر إلى عورتها، وقد يفعل هذا بغير مدخول بها، وقد لا يفعله في مدخول بها فهو مخالف لقول جميعهم. ثم ليس فيه أيضا: بيان أنه في المتزوجة فقط، بل ظاهره عموم في كل زوجة وغيرها، فبطل أن يكون لهم متعلق جملة.
وأما من تعلق بأنها لو حملت لحق الولد ولم تحد فلا حجة لهم في هذا؛ لأنه لم يدخل بها أصلا، ولا عرف أنه خلا بها، لكن كان اجتماعه بها سرا ممكنا، فحملت، فالولد لاحق، ولا حد في ذلك أصلا لأنها فراش له حلالا مذ يقع العقد، لا معنى للدخول في ذلك أصلا، وقد تحمل من غير إيلاج، لكن بتشفير بين الشفرين فقط وكل هذا لا يسمى مسا. فإن تعلقوا بمن جاء ذلك عنه من الصحابة، رضي الله عنهم، فلا حجة في أحد دون رسول الله ﷺ . وقد اختلفوا كما ذكرنا فوجب الرد عند التنازع إلى القرآن والسنة، فوجدنا القرآن لم يوجب لها بعدم الوطء إلا نصف الصداق. وبالله تعالى التوفيق.