→ شرح كلمات من فتوح الغيب | جامع الرسائل المؤلف: ابن تيمية |
☰ جدول المحتويات
- قاعدة في المحبة
- فصل في الحب والبغض
- الحب والإرادة أصل كل فعل وحركة في العالم والبغض والكراهة أصل كل ترك فيه
- المحبة التي أمر الله بها هي عبادته وحده لا شريك له
- أهل الطبع المتفلسفة لا يشهدون الحكمة الغائية من المخلوقات
- أهل الكلام ينكرون طبائع الموجودات وما فيها من القوي والأسباب
- المحبة والإرادة أصل كل دين – معاني كلمة الدين
- لا بد لكل طائفة من بني آدم من دين يجمعهم
- الدين هو التعاهد والتعاقد
- الدين الحق هو طاعة الله وعبادته
- كل دين سوي الإسلام باطل
- لا بد في كل دين من شيئين العقيدة والشريعة أو المعبود والعبادة
- تنوع الناس في المعبود وفي العبادة
- ذم الله التفرق والاختلاف في الكتاب والسنة
- يقول بعض المتفلسفة إن المقصود بالدين مجرد المصلحة الدنيوية
- فصل: الحب أصل كل عمل والتصديق بالمحبة هو أصل الإيمان
- تأويل طوائف من المسلمين للمحبة تأويلات خاطئة
- تنازع الناس في لفظ العشق
- منكرو لفظ العشق لهم من جهة اللفظ مأخذان ومن جهة المعنى مأخذان
- فصل: كل محبة وبغضة يتبعها لذة وألم
- شرع الله من اللذات ما فيه صلاح حال الإنسان وجعل اللذة التامة في الآخرة
- ضل النصارى كذلك في أمر اللذات
- اليهود أعلم لكنهم غواة قساة
- تفصيل مقالة الفلاسفة في اللذة
- فصل: حب الله أصل التوحيد العملي
- أصل الإشراك العملي بالله الإشراك في المحبة
- المؤمنون يحبون لله ويبغضون لله
- محبة الله مستلزمة لمحبة ما يحبه من الواجبات
- الذنوب تنقص من محبة الله
- مراتب العشق
- ذكر الله العشق في القرآن عن المشركين
- المتولون للشيطان هم الذين يحبون ما يحبه
- عباد الله المخلصون ليس للشيطان عليهم سلطان
- العشاق يتولون الشيطان ويشركون به
- يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المؤمنين بالعشق
- أصل العبادة المحبة والشرك فيها أصل الشرك
- الفتنة جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات
- فصل: محبة الله توجب المجاهدة في سبيله
- موادة عدو الله تنافي المحبة
- محبة الله ورسوله على درجتين: واجبة ومستحبة
- ترك الجهاد لعدم المحبة التامة وهو دليل النفاق
- انقسام الناس إلى أربعة أقسام
- العبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل
- من أحب شيئا كما يحب الله أو عظمه كما يعظم الله فقد أشرك
- الإنسان لا يفعل الحرام إلا لضعف إيمانه ومحبته
- تزيين الشيطان لكثير من الناس أنواعا من الحرام ضاهوا بها الحلال
- موقف المؤمن من الشرور والخيرات وما يجب عليه حيالها
- بنو آدم لا يمكن عيشهم إلا بالتعاقد والتحالف
- التحالف يكون وفقا الشريعة منزلة أو شريعة غير منزلة أو سياسة
- فصل: المقصود الأول من كل عمل هو التنعم واللذة
- النعيم التام هو في الدين الحق
- من الخطأ الظن بأن نعيم الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور
- المؤمن يطلب نعيم الدنيا والنعيم التام في الآخرة
- من الخطأ الاعتقاد أن الله ينصر الكفار في الدنيا ولا ينصر المؤمنين
- فصل
- تنازع الناس فيما ينال الكافر في الدنيا من التنعم هل هو نعمة في حقه أم لا؟
- رأي ابن تيمية
- حال الإنسان عند السراء والضراء
- حال المؤمن عندهما
- المؤمن أرجح في النعيم واللذة من الكافر في الدنيا قبل الآخرة وإن كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
- لذات أهل البر أعظم من لذات أهل الفجور
- لما خاض الناس في مسائل القدر ابتدع طوائف منهم مقالات مخالفة للكتاب والسنة
- بدع القدرية
- بدع طائفة من أهل الإثبات
- الرد عليهم
- المقالة الصحيحة لأهل السنة والجماعة
- رفع الله الحرج عن المؤمنين
- الإيمان والطاعة خير من الكفر والمعصية للعبد في الدنيا والآخرة
- معنى المجيء إلى الرسول ﷺ بعد مماته
- على المؤمن أن يحب ما أحب الله ويبغض ما أبغضه الله ويرضى بما قدره الله
- فصل: جميع الحركات ناشئة عن الإرادة والاختيار
- فصل
- أصل الموالاة الحب وأصل المعاداة البغض
- فصل: تقسيم العلم إلى فعلي وانفعالي
- علم الرب بأفعال عباده الصالحة والسيئة يستلزم حبه للحسنات وبغضه للسيئات
- الإرادة والمحبة ينقسمان أيضا إلى فعليتين وانفعاليتين
- الحب يتبع الإحساس والإحساس يكون بموجود لا بمعدوم
- الأمور الغائبة لا تعرف ولا تحب وتبغض إلا بنوع من القياس والتمثيل
قاعدة في المحبة
فصل في الحب والبغض
لأبي العباس أحمد بن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم على الله توكلي
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
أما بعد فهذه قاعدة عظيمة في المحبة وما يتعلق بها من جمع الإمام العلامة شيخ الإسلام بركة الأنام بقية السلف الكرام أبى العباس أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن الشيح مجد الدين أبى البركات عبد السلام ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه
الحب والإرادة أصل كل فعل وحركة في العالم والبغض والكراهة أصل كل ترك فيه
قال رضي الله عنه فصل في الحب والبغض والمحمود من ذلك والمذموم وأصل كل فعل وحركة في العالم من الحب والإرادة فهو أصل كل فعل ومبدؤه كما أن البغض والكراهة مانع وصاد لكل ما انعقد بسببه ومادته فهو أصل كل ترك إذا فسر الترك بالأمر الوجودي كما يفسره بذلك أكثر أهل النظر
وإذا عني بالترك مجرد عدم الفعل فعدم الفعل تارة يكون لعدم مقتضيه من المحبة والإرادة ولوازمهما وقد يكون لوجود مانعه من البغض والكراهة وغيرهما
فأما وجود الفعل فلا يكون إلا عن محبة وإرادة حتى دفعه للأمور التي يكرهها ويبغضها هو لما في ذلك من المحبوب أو اللذة يجدها بالدفع فيقال شفى صدره وقلبه والشفاء والعافية بمحبوب
والمحبة والإرادة تكون إما بواسطة وإما بغير واسطة مثل فعله للأشياء التي يكرهها كشرب الدواء والمكروه وفعل الأشياء المخالفة لهواه وصبره ونحو ذلك
فإن هذه الأمور وإن كانت مكروهة من بعض الوجوه فإنما يفعل أيضا لمحبة وإرادة وإن لم تكن المحبة لنفسها بل المحبة لملازمها فإنه يحب العافية والصحة المستلزمة لإرادة شرب الدواء ويحب رحمة الله ونجاته من عذابه المستلزم لإرادة ترك ما يهواه كما قال تعالى وإما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوي فلا يترك الحي ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه لكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة كما يفعل ما يكرهه لما محبته أقوي من كراهة ذلك وكما يترك ما يحبه لما كراهته أقوي من محبة ذلك
ولهذا كانت المحبة والإرادة أصلا للبغض والكراهة وعلة لها ولازما مستلزما لها من غير علة
وفعل البغض في العالم إنما هو لمنافاة المحبوب ولولا وجود المحبوب لم يكن البغض بخلاف الحب للشيء فإنه قد يكون لنفسه لا لأجل منافاته للبغض وبغض الإنسان وغضبه مما يضاد وجود محبوبه ومانع ومستلزم لا يكره عليه ونجد قوة البغض للنافي أشد وأحوط
ولهذا كان رأس الإيمان الحب في الله والبغض في الله وكان من احب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
فالمحبة والإرادة أصل في وجود البغض والكراهة والأصل في زوال البغيض المكروه فلا يوجد البغض إلا لمحبة ولا يزول البغيض إلا لمحبة
فالمحبة أصل كل أمر موجود وأصل دفع كل ما يطلب الوجود ودفع ما يطلب الوجود أمر موجود لكنه مانع من وجود ضده فهو أصل كل موجود من بغيض ومانع ولوازمهما
وهذا القدر الذي ذكرناه من أن المحبة والإرادة اصل كل حركة في العالم فقد بينا في القواعد وغيرها أن هذا يندرج فيه كل حركة وعمل فإن ما في الأجسام من حركه طبعية فإنما أصلها السكون فإنه إذا خرجت عن مستقرها كانت بطبعها تطلب مستقرها وما فيها من حركة قسرية فأصلها من القاسر القاهر فلم تبق حركة اختيارية إلا عن الإرادة
والحركات إما إرادية وإما طبعية وإما قسرية لأن الفاعل المتحرك إن كان له شعور بها فهي الإرادية وإن لم يكن له شعور فإن كانت على وفق طبع المتحرك فهي الطبعية وإن كانت على خلاف ذلك فهي القسرية
وبينا أن ما السموات والأرض وما بينهما من حركة الأفلاك والشمس والقمر والنجوم وحركة الرياح والسحاب والمطر والنبات وغير ذلك فإنما هو بملائكة الله تعالى الموكلة بالسموات والأرض الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون
كما قال تعالى فالمدبرات أمرا فالمقسمات أمرا وكما دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وتوكلهم بأصناف المخلوقات
ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر غيره فليس لهم من الأمر شئ بل كم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ووما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا وإذا كان كذلك فجميع تلك المحبات والإرادات والأفعال والحركات هي عبادة لله رب الأرض والسموات كما قد بيناه في غير هذا الموضع
المحبة التي أمر الله بها هي عبادته وحده لا شريك له
وإذا كان كذلك فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها وخلق خلقه لأجلها هي ما في عبادته وحده لا شريك له إذ العبادة متضمنة لغاية الحب بغاية الذل
والمحبة لما كانت جنسا لأنواع متفاوتة في القدر والوصف كان أغلب ما يذكر منها في حق الله ما يختص به ويليق به مثل العبادة والإنابة ونحوهما فإن العبادة لا تصلح إلا لله وحده وكذلك الإنابة
وقد تذكر المحبة المطلقة لكن تقع فيها الشركة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
ولهذا كان هذا الحب أعظم الأقسام المذمومة في المحبة كما أن حب الله أعظم الأنواع المحمودة بل عبادة الله وحده لا شريك له هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها وعبادة إله آخر من دونه هو أصل الشقاء ورأسه الذي لا يبقي في العذاب إلا أهله
فأهل التوحيد الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يبقي منهم في العذاب أحد والذين اتخذوا من دونه أندادا يحبونهم كحبه وعبدوا غيره هم أهل الشرك الذين قال الله تعالى فيهم أن الله لا يغفر أن يشرك به
وجماع القرآن هو الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهي عن هذه المحبات ولوازمها وضرب الأمثال والمقاييس للنوعين وذكر قصص أهل النوعين
وأصل دعوة جميع المرسلين 0 قولهم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وعلى ذلك قاتل من قاتل منهم المشركين كما قال خاتم الرسل:
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله
قال الله تعالى شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبرهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه
ولهذا قال في الحديث المتفق عليه في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وفي رواية في الصحيح لا يجد طعم الإيمان إلا من كان فيه ثلاث أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقي في النار
وفي الصحيح عن أنس أيضا عن النبي قال:
والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين
وفي صحيح البخاري أن عمر قال يا رسول الله والله لأنت أحب إلى من كل شئ إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فوالذي بعثك بالحق لأنت أحب إلى من نفسي قال الآن يا عمر
ولهذا ورد في فضل هذه الكلمة شهادة أن لا إله إلا الله من الدلائل ما يضيق هذا الموضع عن ذكره وهى أفضل الكلام وما فيها من العلم والمحبة أفضل العلوم والمحبات كالحديث الذي في السنن أفضل الذكر لا إله ألا الله
والآية المتضمنة لها أعظم آية في القرآن كما في صحيح مسلم أن النبي قال لأبى بن كعب يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم قال الله لا إله إلا هو الحي القيوم قال فضرب بيده صدري وقال ليهنك العلم أبا المنذر
وإذا كانت كل حركة فأصلها الحب والإرادة من محبوب مراد لنفسه لا يحب لغيره إذ لو كان كل شئ محبوبا لغيره لزم الدور أو التسلسل والشيء قد يحب من وجه دون وجه وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده ولا تصلح الإلهية إلا له ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
والإلهية المذكورة في كتاب الله هي العبادة والتأله ومن لوازم ذلك أن يكون هو الرب الخالق وأما ما يظنه طوائف من أهل الكلام أن الألوهية هي نفس الربوبية وأن ما ذكر في القرآن من نفي إله آخر والأمثال المضروبة البينة فالمقصود به نفي رب يشركه في خلق العالم كما هو عادتهم في كتب الكلام فهذا قصور وتقصير منهم في فهم القرآن وما فيه من الحجج والأمثال أتوا فيه من جهة أن مبلغ علمهم هو ما سلكوه من الطريقة الكلامية فاعتقدوا أن المقصودين واحد وليس كذلك بل القرآن ينفي أن يعبد غير الله أو أن يتخذه إلها فيحبه ويخضع له محبة الإله وخضوعه كما بينت ذلك عامة آيات القرآن مثل قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ولهذا قال الخليل لا أحب الآفلين
ومن المعلوم أن كل حي فله إرادة وعمل بحسبه وكل متحرك فأصل حركته المحبة والإرادة ولا صلاح للموجودات إلا أن يكون كمال محبتها وحركتها لله تعالى كما لا وجود لها إلا أن يبدعها الله
ولهذا قال تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ولم يقل لعدمتا إذ هو قادر على أن يبقيها على وجهة الفساد لكن لا يمكن أن تكون صالحة إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له فإن صلاح الحي إنما هو صلاح مقصوده ومراده وصلاح الأعمال والحركات بصلاح إرادتها ونياتها
ولهذا كان من أجمع الكلام وأبلغه قوله إنما الإعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي وهذا يعم كل عمل وكل نية
فكل عمل في العالم هو بحسب نية صاحبه وليس للعامل إلا ما نواه وقصده وأحبه وأراده بعمله ليس في ذلك تخصيص ولا تقييد كما يظنه طوائف من الناس حيث يحسبون أن النية المراد به النية الشرعية المأمور بها فيحتاجون أن يحصروا الأعمال بالأعمال الشرعية فإن النية موجودة لكل متحرك كما قال النبي في الحديث الصحيح أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث هو العامل الكاسب والهمام هو القاصد المريد وكل إنسان متحرك بإرادته حارث همام
كما بينا أن المحبة والإرادة أصل كل عمل فكل عمل في العالم فعن إرادة ومحبة صدر
ولهذا كانت المحبة والإرادة منقسمة إلى محبوب لله وغير محبوب كما أن العمل والحركة منقسم كذلك
وإذا كان كذلك فالمحبة لها آثار وتوابع سواء كانت صالحة محمودة نافعة أو كانت غير ذلك لها وجد وحلاوة وذوق ووصال وصدود ولها سرور وحزن وبكاء
والمحبة المحمودة هي المحبة النافعة وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره وهو الشقاء
ومعلوم أن الحي العالم لا يختار أن يحب ما يضره لكن يكون ذلك عن جهل وظلم فإن النفس قد تهوي ما يضرها ولا ينفعها وذلك ظلم منها لها وقد تكون جاهلة بحالها به بأن تهوي الشيء وتحبه بلا علم منها بما في محبته من المنفعة والمضرة وتتبع هواها وهذا حال من اتبع هواه بغير علم
وقد يكون عن اعتقاد فاسد وهو حال من اتبع الظن وما تهوي نفسه وكل ذلك من أمور الجاهلية وإن كان كل من جهلها وظلمها لا يكاد يخلو عن شبهة يشتبه بها الحق وشهوه هي في الأصل محمودة إذا وضعت في محلها كحال الذي يحب لقاء قريبه فإن هذا محمود وهو أصل صلة الرحم التي هي شجنة من الرحمن
لكن إذا اتبع هواه حتى خرج عن العدل بين ذوي القربى وغيرهم كان هذا ظلما كما قال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولوكان ذا قربي وقال تعالى كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين
وكذلك الذي يحب الطعام والشراب والنساء فإن هذا محمود وبه يصلح حال بني آدم ولولا ذلك لما استقامت نفس الأنساب ولا وجدت الذرية ولكن يجب العدل والقصد في ذلك كما قال تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا وكما قال تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون
فإذا تجاوز حد العدل وهو المشروع صار ظالما عاديا بحسب ظلمه وعدوانه
وقد ذكرنا في مواضع أن المشروع والنافع والصالح والعدل والحق والحسن أسماء متكافئة مسماها واحد بالذات وإن تنوعت صفاته بمنزلة أسماء الله الحسني فأسماؤه تعالى وأسماء كتابه ودينه ونبيه مسمي كل صنف من ذلك واحد وإن تنوعت صفاته فكل عمل صالح هو نافع لصاحبه وبالعكس وكل نافع صالح فهو مشروع وبالعكس وكل ما كان صالحا مشروعا فهو حق وعدل وبالعكس
ولكن الناس قد يدركون أحد النعتين فيستدلون به على وجود الآخر مثل أن يعلم أن الله أمر بهذا الفعل وشرعه فيعلم من هذا وجوب كونه طاعة لله ورسوله وذلك الفعل بعينه يجب أن يكون عملا صالحا وهو النافع وأن يكون حقا وعدلا وهذا استدلال بالنص وقد يعلم كون الشيء صالحا أو عدلا أو حسنا ثم يستدل بذلك على كونه مشروعا وهو الاستدلال بالاسصلاح والاستحسان والقياس على كون مشروعا
وهذه الطريقة فيها خطر عظيم والغلط فيها كثير ولخفاء صفات الأعمال وأحوالها عنها وأن العالم بذلك كما ينبغي ليس هو إلا رسول الله
فالاستدلال بالمصالح التي قد يقال لها المصالح المرسلة هو الذي يري الشيء مصلحة وليس في الشرع ما ينفيه فيستدل بالمصلحة على أنه من الشريعة
والاستحسان أن يري الشيء حسنا فيستدل بحسنه على أنه من الشرع
والعدل أن يري للشيء نظيرا وشبيها فيستدل على حكمه بحكم نظيره وشبيهه وليس هذا موضع الكلام في ذلك
لكن أعلم الناس من كان رأيه واستصلاحه واستحسانه وقياسه موافقا للنصوص كما قال مجاهد أفضل العبادة الرأي الحسن وهو اتباع السنة ولهذا قال تعالى ويري الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق
ولهذا كان السلف يسمون أهل الآراء المخالفة للسنة والشريعة في مسائل الاعتقاد الخبرية ومسائل الأحكام العملية أهل الأهواء لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم فصاحبه ممن اتبع هواه بغير علم
ولهذا يذكر الله في القرآن من يتبع هواه بغير علم ويذم من يتبع هواه بغير هدي من الله كما قال تعالى ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله وقال تعالى وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين
وكل من اتبع هواه اتبعه بغير علم إذ لا علم بذلك إلا بهدي الله الذي بعث الله به رسله كما قال تعالى فأما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي ولهذا ذم الله الهوى في مواضع من كتابه
واتباع الهوى يكون في الحب والبغض كقوله تعالى يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب فهنا يكون اتباع الهوى هو ما يخالف الحق في الحكم قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا فهنا يكون اتباع الهوى فيما يخالف القسط من الشهادة وغيرها والحق هو العدل واتباع الهوى في خلاف ذلك هو من الظلم
وقد نهى رسول الله عن اتباع أهواء الخلق وقال تعالى ولن ترضي عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدي الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير فنهاه عن اتباع أهواء الذين أوتوا الكتاب بعد ما جاءه من العلم
وكذلك قال تعالى في الآية الأخرى ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم
وقال تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون
فقد نهاه عن اتباع أهواء المشركين واتباع أهواء أهل الكتاب وحذره أن يفتنوه عما أنزل الله إليه من الحق وذلك يتضمن النهي عن اتباع أهواء أحد في خلاف شريعته وسنته وكذا أهل الأهواء من هذه الأمة
وقد بين ذلك في قوله تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين فقد أمره في هذه الآية باتباع الشريعة التي جعله عليها ونهاه عن اتباع ما يخالفها وهي أهواء الذين لا يعلمون
ولهذا كان كل من خرج عن الشريعة والسنة من أهل الأهواء كما سماهم السلف
وقال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن
وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل
وقال تعالى وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم
وقال تعالى قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل إلى قوله فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدي منهما أتبعه إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدي من الله
وقال تعالى ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوائهم والذين اهتدوا زادهم هدي وآتاهم تقواهم
فذكر الذين أوتوا العلم وهم الذين يعلمون أن ما أنزل إليه من ربه الحق ويفقهون ما جاء به وذكر المطبوع على قلوبهم فلا يفقهون إلا قليلا الذين اتبعوا أهوائهم يسألونهم ماذا قال الرسول آنفا وهذه حال من لم يفقه الكتاب والسنة بل يستشكل ذلك فلا يفقهه أو قرأه متعارضا متناقضا وهي صفة المنافقين
ثم ذكر صفة المؤمنين فقال تعالى والذين اهتدوا زادهم زيادة الهدي وهو ضد الطبع على قلوب أولئك وآتاهم تقواهم وهو ضد اتباع أولئك الأهواء
فصاحب التقوى ضد صاحب الأهواء كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهي النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وقال تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها
ولما كانت كل حركة وعمل في العالم فأصلها المحبة والإرادة وكل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة كان كل عمل لا يراد به وجهه باطلا فأعمال الثقلين الجن والإنس منقسمة منهم من يعبد الله ومنهم من لا يعبده بل قد يجعل معه إلها آخر وأما الملائكة فهم عابدون لله
وجميع الحركات الخارجة عن مقدور بني آدم والجن والبهائم فهي من عمل الملائكة وتحريكها لما في السماء والأرض وما بينهما فجميع تلك الحركات والأعمال عبادات لله متضمنة لمحبته وإرادته وقصده وجميع المخلوقات عابدة لخالقها إلا ما كان من مردة الثقلين وليست عبادتها إياه قبولها لتدبيره وتصريفه وخلقه فإن هذا عام لجميع المخلوقات حتى كفار بني آدم فلا يخرج أحد عن مشيئته وتدبيره وذلك بكلمات الله التي كان النبي يستعيذ بها فيقول:
أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وهذا من عموم ربو بيته وملكه
وهذا الوجه هو الذي أدركه كثير من أهل النظر والكلام حتى فسروا ما في القرآن والحديث من عبادة الأشياء وسجودها وتسبيحها بذلك وهم غالطون في هذا التخصيص شرعا وعقلا أيضا
فإن المعقول الذي لهم يعرفهم أن كل شيء وكل متحرك وأن كان له مبدأ فلا بد له من غاية ومنتهى كما يقولون لها علتان فاعلية وغائية والذي ذكروه إنما هو من جهة العلة الفاعلية وبعض المخلوقين كذلك يجعلونه من جهة العلة الغائية وهذا غلط
فلا يصلح أن يكون شيء من المخلوقات علة فاعلية ولا غائية إذ لا يستقل مخلوق بأن يكون علة تامة قط ولهذا لم يصدر عن مخلوق واحد شيء قط ولا يصدر شيء في الآثار إلا عن اثنين من المخلوقات كما قد بينا هذا في غير هذا الموضوع
وكذلك لا يصلح شيء من المخلوقات أن يكون علة غائية تامة إذ ليس في شيء من المخلوقات كمال مقصود حتى من الأحياء فالمخلوقات بأسرها يجتمع فيها هذان النقصان أحدهما أنه لا يصلح شيء منها أن تكون علة تامة لا فاعلية ولا غائية والثاني أن ما كان فيها علة فله علة سواء كان علة فاعلية أو غائية
فالله سبحانه رب كل شيء ومليكه وهو رب العالمين لا رب لشيء من الأشياء إلا هو وهو إله كل شيء وهو في السماء إله وفي الأرض إله وهو الله في السموات وفي الأرض لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا وما من إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
فعبادة المخلوقات وتسبيحها هو من جهة إلاهيته سبحانه وتعالى وهو الغاية المقصودة منها ولها
وأما في الشرع فإن الله فصل بين هذا وبين هذا فقال تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء
فهذا السجود الذي فصل بين كثير من الناس الذي يفعلونه وكثير من الناس الذين لا يفعلونه طوعا وهم الذين حق عليهم العذاب ليس هو ما يشترك فيه جميع الناس من خلق الله وربوبيه الله تعالى إياهم وتدبيرهم
وكذلك فصل بين الصنفين في قوله تعالى أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون
وكذلك في قوله ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال
وهو سبحانه ذكر في الآية الأخرى سجود المخلوقات إلا الكثير من الناس لأنه ذكر الطوع فقط كما ذكر في التي قبلها أديان الناس فقال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد فتضمنت هذه الآية حال المخلوقات إلا الجن فإنهم لم يذكروا باللفظ الخاص
لكنهم يندرجون في الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين فإنهم كما قالوا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا
وقد ذكر طائفة من أهل العربية أنهم يدخلون في لفظ الناس أيضا
وقال سبحانه أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيئوا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون
وفي الصحيحين حديث أبي ذر في سجود الشمس تحت العرش إذا غابت
وقال تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون وقال تعالى سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يسبح لله ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
قال تعالى وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا هم يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون
وقال تعالى إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون
وقال تعالى ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون
وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما
وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
وقال تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضي وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين
وقال تعالى هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال
وقالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون
وقال تعالى إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب
أهل الطبع المتفلسفة لا يشهدون الحكمة الغائية من المخلوقات
فأما كثير من الناس وأهل الطبع المتفلسفة وغيرهم فيعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ويأخذون بظاهر من القول يرون ظاهر الحركات والأعمال التي للموجودات ويرون بعض أسبابها القريبة وبعض حكمها وغاياتها القريبة أن ذلك هو العلة لها فاعلا وغاية كما يذكرونه في تشريح الإنسان وأعضائه وحركاته الباطنة والظاهرة وما يذكرونه من القوي التي في الأجسام التي هي تكون بها الحركة وما يذكرونه من كل شيء
ومن ذلك ذكرهم الطبيعة التي في الإنسان والقوة الجاذبة والهاضمة الغاذية والدافعة والمولدة وغير ذلك وأن الرئة تروح على القلب لفرط حرارته وأن الدماغ أبرد من القلب إلى غير ذلك من الأسباب والحكم التي فيها من شهود ما في مخلوقات الله من الأسباب والحكم ما هو عبرة لأولي الأبصار
لكن يقع الغلط من إضافة هذه الآثار العظيمة إلى مجرد قوة في جسم ولا يشهدون الحكمة الغائية من هذه المخلوقات وأن ذلك هو عبادة ربها سبحانه وتعالى
أهل الكلام ينكرون طبائع الموجودات وما فيها من القوي والأسباب
وقد يعارضهم كلهم طوائف من أهل الكلام فينكرون طبائع الموجودات وما فيها من القوي والأسباب ويدفعون ما أرى الله عباده من آياته في الآفاق وفي أنفسهم مما شهد به في كتابه من أنه خلق هذا بهذا كقوله فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات وقوله فأحيا به الأرض بعد موتها
وكلا الطائفتين قد لا يعلمون ما فيها من الحكمة التي هي عبادة ربها وهذا هو المقصود الذي بعث الله به الرسل وانزل به الكتب بل إنما يتنازعون في فاعل هذه الأمور وما يتعلق بتوحيد الربوبية كما قدمناه وأما شهادة غاية هذه الأمور وما يتعلق بتوحيد الإلهية فقد لا يهتدون له ولهذا كان في طرقهم من الضلالات والجهالات ما هو مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول
لكن أهل العلم في إضافة جميع الحوادث إلى خلق الله ومشيئته وربوبيته أصح عقلا ودينا ومن أدخل في ذلك كل شيء حتى أفعال الحيوان فهو المصيب الموافق للسنة والعقل وهم متكلمة أهل الإثبات الذين يقررون أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه
بخلاف القدرية الذين أخرجوا عن ذلك أفعال الحيوان وبخلاف أهل الطبع والفلسفة الذين يخرجون عن ذلك عامة الكائنات من العلل المولدات وكلاهما باطل كما بين في غير هذا الموضع
ولهذا تجد هؤلاء إذا تكلموا في الحركات التي بين السماء والأرض مثل حركة الرياح والسحاب والمطر وحدوث المطر من الهواء الذي بين السماء والأرض تارة ومن البخار المتصاعد من الأرض تارة كما ذكر ذلك أيضا غير واحد من السلف وهو حق مشهود بالأبصار كما يخلق الولد في بطن أمه من المني وكما يخلق الشجر من الحب والنوى فشهدوا بعض الأسباب المرئية وجهلوا أكثر الأسباب وأعرضوا عن الخالق المسبب لذلك كله وعما جاء في ذلك من عبادته وتسبيحه والسجود له الذي هو غاية حكمته
فإن خلق الله سبحانه للسحاب بما فيه من المطر من هذا البحر وبخار الأرض كخلقه للحيوان والنبات والمعدن من هذه الأمور
ومعلوم أن المني جسم صغير مشابه لهذا الذي في الحيوان من الأعضاء المكسوة والمتنوعة في أقدارها وصفاتها وحكمها وغاياتها هل يقول عاقل إن هذا مضاف إلى عرض وصفة حال في جسم صغير أو يضاف هذا إلى ذلك الجسم الصغير هذا من أفسد الأمور في بديهة العقل
ومعلوم أنه لا نسبة إلى خلق هذا من هذا وإلى ما يصنعه بنو آدم من الصور التي يصنعونها من المداد مثل الكتابة بالمداد ونسيج الثياب من الغزل وصنعة الأطعمة والبنيان من موادها وهم مع ذلك لم يخلقوا المواد ولا يفنونها وإنما غايتهم حركة خاصة تعين على تلك الصورة ثم لو أضاف مضيف هذه الكتابة إلى المداد لكان الناس جميعا يستجهلونه ويستحمقونه فالذي يضيف خلق الحيوان والنبات إلى مادتها أو ما في مادتها من الطبع أليس هو أحمق وأجهل وأظلم وأكفر
وكذلك خلق السحاب والمطر من الهواء والبخار هو كذلك إضافة الزلزلة إلى احتقان البخار وإضافة حركة الرعد إلى مجرد اصطكاك أجرام السحاب إلى غير ذلك من الأسباب التي ضلوا فيها ضلالا مبينا حيث جعلوها هي العلة التامة فاعلا ولم يعرفوا الغاية فجهلوا الوضعين ونازعهم طوائف من الناس فيما يوجد من الأسباب والقوي التي في الطباع وذلك أيضا جهل
المحبة والإرادة أصل كل دين – معاني كلمة الدين
وإذا كانت المحبة والإرادة أصل كل عمل وحركة وأعظمها في الحق محبة الله وإرادته بعبادته وحده لا شريك له وأعظمها في الباطل أن يتخذ الناس من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ويجعلون له عدلا وشريكا علم أن المحبة والإرادة أصل كل دين سواء كان دينا صالحا أو دينا فاسدا فإن الدين هو من الأعمال الباطنة والظاهرة والمحبة والإرادة أصل ذلك كله والدين هو الطاعة والعبادة والخلق فهو الطاعة الدائمة اللازمة التي قد صارت عادة وخلقا بخلاف الطاعة مرة واحدة
ولهذا فسر الدين بالعادة والخلق ويفسر الخلق بالدين أيضا كما في قوله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم قال ابن عباس على دين عظيم وذكره عنه سفيان بن عيينة وأخذه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة وبذلك فسراه
وكذلك يفسر بالعادة كما قال الشاعر
أهذا دينه أبدا وديني
ومنه الديدن يقال هذا ديدنه أي عادته اللازمة فإن ديدن من دان بمنزلة صلصل من صل وكبكب من كب هو تضعيف له والمضعف قد يكون مشددا وقد يكون حرف لين وهم يعاقبون في كلامهم كثيرا بين الحرف المشدد وحرف المثل كما يقال تقضي البازي وتقضض ويقال تسرر وتسري
ودان يكون من الأعلى القاهر ويكون من المطيع يقال دنته فدان أي قهرته فذل كما قال
هو دان الرباب إذ كرهوا الديـ... ـن دراكا بعزة وصيال
ويقال في الأعلى كما تدين تدان وأما دين المطيع فيستعمل متعديا ودائما ولازما يقال دنت الله ودنت لله ويقال فلان لا يدين الله دينا ولا يدين لله لأن فيه معنى الطاعة والعبادة ومعنى الذل فإذا قيل دان الله فهو قولك أطاع الله وأحبه وإذا قيل دان لله فهو كقولك ذل لله وخشع لله
وقد ذكرت أن أسم العبادة يتناول غاية الحب بغاية الذل وهكذا الدين الذي يدين به الناس في الباطن والظاهر لا بد فيه من الحب والخضوع بخلاف طاعتهم للملوك ونحوهم فإنها قد تكون خضوعا ظاهرا فقط
والله سبحانه وتعالى سمي يوم القيامة يوم الدين كما قال مالك يوم الدين وهو كما روى عن ابن عباس وغيره من السلف يوم يدين الله العباد بأعمالهم إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا وذلك يتضمن جزاءهم وحسابهم
فلهذا من قال هو يوم الحساب ويوم الجزاء فقد ذكر بعض صفات الدين قال تعالى كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
وقال تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين أي مقهورين ومدبرين ومجزيين
لا بد لكل طائفة من بني آدم من دين يجمعهم
وإذا كان كل عمل عن محبة وإرادة والترك يكون عن بغض وكراهة وكل أحد همام حارث له حب وبغض لا يخلو الحي عنهما وعمله يتبع حبه وبغضه ثم قد يكون ذلك في أمور هي له عادة وخلق وقد يكون في أمور عارضة لازمة علم أن كل طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين يجمعهم إذ لا غني لبعضهم عن بعض وأحدهم لا يستقل بجلب منفعته ودفع مضرته فلا بد من اجتماعهم وإذا اجتمعوا فلا بد أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم كلهم مثل طلب نزول المطر وذلك محبتهم له وفي دفع ما يضرهم مثل عدوهم وذلك بغضهم له فصار ولا بد أن يشتركوا في محبة شيء عام وبغض شيء عام وهذا هو دينهم المشترك العام
وإما اختصاص كل منهم بمحبة ما يأكله ويشربه وينكحه وطلب ما يستره باللباس فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه بل كل منهم يحب نظير ما يحبه الآخر لا عينه بل كل منهم لا ينتفع في أكله وشربه ونكاحه ولباسه بعين ما ينتفع به الآخر بل بنظيره
وهكذا هي الأمور السماوية في الحقيقة فإن عين المطر الذي ينزل في أرض هذا ليس هو عين الذي ينزل في أرض هذا ولكن نظيره ولا عين الهواء البارد الذي يصيب جسد أحدهم قد لا يكون نفس عين الهواء البارد الذي يصيب جسد الآخر بل نظيره
لكن الأمور السماوية تقع مشتركة عامه ولهذا تعلق حبهم وبغضهم بها عامة مشتركة بخلاف الأمور التي تتعلق بأفعالهم كالطعام واللباس فقد تقع مختصة وقد تقع مشتركة
الدين هو التعاهد والتعاقد
وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم والأمور التي تضرهم يحتاجون أن يحرموها على نفوسهم وذلك دينهم وذلك لا يكون إلا باتفاقهم على ذلك وهو التعاهد والتعاقد
ولهذا جاء في الحديث لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له
فهذا هو من الدين المشترك بين جميع بني آدم من التزام واجبات ومحرمات وهو الوفاء والعهد وهذا قد يكون باطلا فاسدا إذا كان فيه مضرة لهم راجحة على منفعته وقد يكون دين حق إذا كانت منفعة خاصة أو راجحة
كما قال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين
وقال تعالى ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك
وقال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب
الدين الحق هو طاعة الله وعبادته
والدين الحق هو طاعة الله وعبادته كما بينا أن الدين هو الطاعة المعتادة التي صارت خلقا وبذلك يكون المطاع محبوبا مرادا إذ أصل ذلك المحبة والإرادة
ولا يستحق أحد أن يعبد ويطاع على الإطلاق إلا الله وحده لا شريك له ورسله وأولو الأمر أطيعوا لأنهم يأمرون بطاعة الله كما قال النبي في الحديث المتفق عليه من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصي الله ومن عصي أميري فقد عصاني
وأما العبادة فلله وحده ليس فيها واسطة فلا يعبد العبد إلا الله وحده كما قد بينا ذلك في مواضع وبينا أن كل عمل لا يكون غايته إرادة الله وعبادته فهو عمل فاسد غير صالح باطل غير حق أي لاينفع صاحبه
وقد قال سبحانه وما أمروا إلا ليعيدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة
وقال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله
وقال تعالى ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم
وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
وقال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
وفي الصحيحين عن النبي انه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
وقال تعالى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه
وهو الدين الحق الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله دينا غيره
كما قال تعالى إن الدين عند الله الإسلام وقال تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
وقال تعالى أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون
وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسي أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه
وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء
كل دين سوي الإسلام باطل
فإذا كان لا بد لكل آدمي من اجتماع ولا بد في كل اجتماع من طاعة ودين وكل دين وطاعة لا يكون لله فهو باطل فكل دين سوي الإسلام فهو باطل
وأيضا فلا بد لكل حي من محبوب هو منتهى محبته وإرادته وإليه تكون حركة باطنه وظاهره وذلك هو إلهه ولا يصلح ذلك إلا لله وحده لا شريك له فكل ما سوي الإسلام فهو باطل
والمتفرقون أيضا فيه الذين أخذ كل منهم ببعضه وترك بعضه وافترقت أهواؤهم قد بريء الله ورسوله منهم
لا بد في كل دين من شيئين العقيدة والشريعة أو المعبود والعبادة
ولا بد في كل دين وطاعة ومحبة من شيئين أحدهما الدين المحبوب المطاع وهو المقصود المراد
والثاني نفس صورة العمل التي تطاع ويعبد بها وهو السبيل والطريق والشريعة والمنهاج والوسيلة
كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
فهكذا كان الدين يجمع هذين الأمرين المعبود والعبادة والمعبود اله واحد والعبادة طاعته وطاعة رسوله فهذا هو دين الله الذي ارتضاه كما قال تعالى ورضيت لكم الإسلام دينا وهو دين المؤمنين من الأولين والآخرين وهو الدين الذي لا يقبل الله من أحد غيره لأنه دين فاسد باطل كمن عبد من لا تصلح عبادته أو عبد بما لا يصلح أن يعبد به
تنوع الناس في المعبود وفي العبادة
ثم مع اشتراك الأولين والآخرين في هذا الدين فيتنازعون في كل منهما فإن الله سبحانه له الأسماء الحسني وله المثل الأعلى فقد تعرف هذه الأمة من أسمائه وصفاته ما لا تعرف به الأمة الأخرى فهم مشتركون في عبادة نفسه وإن تنوعوا فيما عرفوه وعبدوه به من أسمائه وصفاته
وقد رفع الله بعضهم فوق بعض درجات فهذا تنوعهم في المعبود وكذلك حالهم في معرفة اليوم الآخر
وأما تنوعهم في العبادة والطاعة من الأقوال والأفعال فإنهم متنوعون في ذلك أيضا
وقد قال تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا
وقال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون
وقال تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر
وقال تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
وقال تعالى ولكل وجهة هو موليها
وهذان الأصلان قد جاءت شريعتنا فيهما بأنواع فجاءت في أسماء الله وصفاته بأنواع وجاءت في صفات العبادات بأنواع والأصل الأول ينضم إليه اليوم الآخر وما جاء في نعته من الأسماء والصفات والوعد والوعيد
وهذه الأصول الثلاثة وهي الإيمان بالله وباليوم الآخر والعمل الصالح هي الموجبة للسعادة في كل ملة كما قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون والشرع ما جاءت به الرسل وهو الأصل الرابع
ذم الله التفرق والاختلاف في الكتاب والسنة
فإن هذه الأصول الأربعة متلازمة والتفرق في ذلك بالأمر في بعضه والنهي عن بعض هو من التفرق والاختلاف الذي ذمه الكتاب والسنة من المختلفين
وقال تعالى وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد
وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء
وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات
ولهذا غضب النبي لما اختلفوا في القراءة وقال كلاهما محسن
وقال إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر وكذلك غضب لما تنازعوا في القدر وأخذوا يعارضون بين الآيات معارضة تفضي إلى الإيمان ببعض دون بعض
وهذا التفرق والاختلاف يوجب الشرك وينافي حقيقة التوحيد الذي هو إخلاص الدين كله لله كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون
فإقامة وجهة الدين حنيفا وعبادة الله وحده لا شريك له وذلك يجمع الإيمان بكل ما أمر الله به وأخبر به أن يكون الدين كله لله
ثم قال الله تعالى ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وذلك أنه إذا كان الدين كله لله حصل الإيمان والطاعة لكل ما أنزله وأرسل به رسله وهذا يجمع كل حق ويجمع عليه كل حق
وإذا لم يكن كذلك فلا بد أن يكون لكل قول ما يمتازون به مثل معظم مطاع أو معبود لم يأمر الله بعبادته وطاعته ومثل قول ودين ابتدعوه لم يأذن الله به ولم يشرعه فيكون كل من الفريقين مشركا من هذا الوجه
وأيضا ففي قلوب بني آدم محبة وإرادة لما يتألهونه ويعبدونه وذلك هو قوام قلوبهم وصلاح نفوسهم كما أن فيهم محبة وإرادة لما يطعمونه وينكحونه وبذلك تصلح حياتهم ويدوم شملهم وحاجتهم إلى التأله أعظم من حاجتهم إلى الغذاء فإن الغذاء إذا فقد يفسد الجسم وبفقد التأله تفسد النفس ولن يصلحهم إلا تأله الله وعبادته وحده لا شريك له وهي الفطرة التي فطروا عليها كما قال النبي في الحديث المتفق عليه كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن النبي فيما يروي عن ربه أنه قال إنني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا
لكن أكثر الشرك في بني آدم بإيجاد إله آخر مع الله ودان بذلك كثير منهم في أنواع كثيرة
فصار كل طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين لهذين الأمرين لحاجة نفوسهم إلى الإله الذي هو محبوب مطلوب لذاته ولأنه ينفع ويضر ولحاجتهم إلى التزام ما يحبونه من الحاجات ويدفعونه من المضرات
وهم مشركون في المحبة للأمور المنزلة أعيانها وأنواعها فهم مشركون في محبة الإله الذي يعبدونه وتعظيمه ومحبة من يبلغ عنه ما يختص به ومحبة أوامره ونواهيه مشركين في محبة غير ذلك ومشركون أيضا في محبة جنس ما التزموه من الواجبات والمحرمات العامة التي هي جلب المنفعة لهم جميعا ودفع المضرة عنهم جميعا
فهذه المحبة هي المحبة الدينية كحب الدين الذي هم عليه حقا كان أو باطلا وكذلك محبة ما يعين على ذلك ويوصل إليه لأجل ذلك فهي أيضا محبة دينية
يقول بعض المتفلسفة إن المقصود بالدين مجرد المصلحة الدنيوية
وليس المقصود بالدين الحق مجرد المصلحة الدنيوية من إقامة العدل بين الناس في الأمور الدنيوية كما يقوله طوائف من المتفلسفة في مقصود النواميس والنبوات أن المراد بها مجرد وضع ما يحتاج إليه معاشهم في الدنيا من القانون العدلي الذي ينتظم به معاشهم لكن هذا قد يكون المقصود في أديان من لم يؤمن بالله ورسوله من اتباع الملوك المتفلسفة ونحوهم مثل قوم نوح ونمرود وجنكيزخان وغيرهم
فإن كل طائفة من بني آدم محتاجون إلى التزام واجبات وترك محرمات يقوم بها معاشهم وحياتهم الدنيوية وربما جعلوا مع ذلك ما به يستولون به على غيرهم من الأصناف ويقهرونه كفعل الملوك الظالمين مثل جنكيزخان
فإذا لم يكن مقصود الدين والناموس الموضوع إلا جلب المنفعة في الحياة الدنيا ودفع المضرة فيها فليس لهؤلاء في الآخرة من خلاق ثم إن كان مع ذلك جعلوه ليستولوا به على غيرهم من بني آدم ويقهرونهم كفعل فرعون وجنكيزخان ونحوهما فهؤلاء من أعظم الناس عذابا في الآخرة
كما قال تعالى نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين
وقد قص الله سبحانه قصة فرعون في غير موضع من القرآن وكان هو وقومه على دين لهم من دين الملوك كما قال تعالى في قصة يوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله وهذا الملك كان فرعون يوسف وكان قبل فرعون موسى وفرعون اسم لمن يملك مصر من القبط وهو اسم جنس كقيصر وكسري والنجاشي ونحو ذلك
وهؤلاء المتفلسفة الصابئة المبتدعة من المشائين ومن سلك مسلكهم من المنتسبين إلى الملل في المسلمين واليهود والنصارى يجعلون الشرائع والنواميس والديانات من هذا الجنس لوضع قانون تتم به مصلحة الحياة الدنيا ولهذا لا يأمرون فيها بالتوحيد وهو عبادة الله وحده ولا بالعمل للدار الآخرة ولا ينهون فيها عن الشرك بل يأمرون فيها بالعدل والصدق والوفاء بالعهد ونحو ذلك من الأمور التي لا تتم مصلحة الحياة الدنيا إلا بها ويشرعون التأله للمخلصين والمشركين
وقد تكلمت على أقسام الديانات في غير هذا الموضع وبينت الطبعي والملي والشرعي وإنما جاء ذكر هذا هنا مطردا
ولهذا يقيمون النواميس بأنواع من الحيل والسحر والطلسمات كما وضعوه في كتب ذلك ويقولون في بعض الطيالسم هذا يصلح لوضع النواميس كما تواصت القرامطة والباطنية وكما كان يفعله سحرة فرعون وغيرهم وآثارهم موجودة بذلك إلى اليوم وكما يفعله المشركون من الترك والهند في بلادهم
والمتفلسفة الصابئة تجعل ذلك جنسا لما بعثت به الرسل من الآيات ويجعلون موسى والسحرة والذين عارضوه من جنس واحد
وهؤلاء كما قال تعالى فيهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق هم مقرون بأن منفعة ذلك لا تكون في الآخرة وإنما يرجون منفعته في الدنيا وإن كان فيه بلوغ بعض الأعراض من رئاسة أو شهوة فهو كما قال الله تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم إذ ما فيه من المضرة يربو على ما فيه من الخير قال الله تعالى ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ولهذا كان ما نهي عنه من هذا الجنس إنما هو لكون الضرر فيه أغلب من المنفعة فأما ما ينفع الناس فلم ينه الله عنه
ولهذا لما عرض على النبي الرقى قال من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل وقال لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك
وذكر البخاري في صحيحه في استخراج السحر عن قتادة قال قلت لسعيد بن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه
فصل: الحب أصل كل عمل والتصديق بالمحبة هو أصل الإيمان
وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل وهو أصل الأعمال الدينية وغيرها وأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما ان اصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله فالتصديق بالمحبة هو أصل الإيمان وهو قول وعمل كما قد بين في غير هذا الموضع
ومعلوم أن قوة المحبة لكل محبوب يتفاوت الناس فيها تفاوتا عظيما
ويتفاوت حال الشخص الواحد في محبة الشيء الواحد بحيث يقوي الحب تارة ويضعف تارة بل قد يتبدل أقوي الحب بأقوى البغض وبالعكس
قال تعالى لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق
إلى قوله قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وإبراهيم هو إمام الحنفاء الذين يحبهم الله ويحبونه وهو خليل الله
وقال تعالى أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين
وقال تعالى أيضا لا أحب الأفلين وقال بعد ذلك إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين
وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله
ولا ريب أن محبة المؤمنين لربهم أعظم المحبات وكذلك محبة الله لهم هي محبة عظيمة جدا كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال يقول الله تعالى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولا بد له منه
تأويل طوائف من المسلمين للمحبة تأويلات خاطئة
وقد تأول الجهمية ومن اتبعهم من أهل الكلام محبة الله لعبده على أنها الإحسان إليه فتكون من الأفعال
وطائفة أخري من الصفاتية قالوا هي إرادة الإحسان وربما قال كلا من القولين بعض المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم
وسلف الأمة وأئمة السنة على إقرار المحبة على ما هي عليه
وكذلك محبة العبد لربه يفسرها كثير من هؤلاء بأنها إرادة العبادة له وإرادة التقرب إليه لا يثبتون أن العبد يحب الله
وسلف الأمة وأئمة السنة ومشايخ المعرفة وعامة أهل الإيمان متفقون على خلاف قول هؤلاء المعطلة لأصل الدين بل هم متفقون على أنه لا يكون شيء من أنواع المحبة أعظم من محبة العبد ربه
كما قال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله وقال تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره فلم يرض إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليهم من الأهلين والأموال حتى يكون الجهاد في سبيل الله الذي هو من كمال الإيمان
قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ولهذا وصف الله المحبين له الذين يحبهم هو بالجهاد فقال تعالى من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
تنازع الناس في لفظ العشق
واما تنازع الناس في لفظ العشق فمن الناس من أهل التصوف والكلام وغيرهم من أطلق هذا اللفظ في حق الله كما روى عبد الواحد بن زيد فيما يؤثره عن أحد أنبياء الله أنه قال عشقني وعشقته
وقال هؤلاء العشق هو المحبة الكاملة التامة وأولي الناس بذلك هو الله فإنه هو الذي يجب أن يحب أكمل محبة وكذلك هو يحب عبده محبة كاملة
ولو قيل أن العشق هو منتهى المحبة أو أقصاها أو نحو ذلك فهذا المعنى حق من العبد فإنه يحب ربه منتهي المحبة وأقصاها والله يحب عبده مثل إبراهيم ومحمد صلي الله عليها وسلم تسليما أقصي محبة تكون لعباده ومنتهاها وهما خليلا الله
كما ثبت في الصحيح عن النبي انه قال: إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. وقال: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله.
وذهب طوائف من أهل العلم والدين إلى إنكار ذلك في حق الله ولا ريب أن هذا اللفظ ليس مأثورا عن أئمة السلف
منكرو لفظ العشق لهم من جهة اللفظ مأخذان ومن جهة المعنى مأخذان
والذين أنكروه لهم من جهة اللفظ مأخذان ومن جهة المعنى مأخذان
أما من جهة اللفظ فإن هذا اللفظ ليس مأثورا عن السلف وباب الأسماء والصفات يتبع فيها الألفاظ الشرعية فلا نطلق إلا ما يرد به الأثر
والأولون يستدلون بمثل قول عبد الواحد بن زيد ونحوه
وهؤلاء يقولون هذا من الإسرائيليات التي لا يجوز الاعتماد عليها في شرعنا فإن ثبوت مثل هذا الكلام عن الله لا يعلم إلا من جهة نبينا صلي الله عليه وسلم وذلك غير مأثور عنه ونحن لا نصدق بما ينقل عن الأنبياء المتقدمين إلا أن يكون عندنا ما يصدقه كما لا نكذب إلا بما نعلم أنه كذب وقد قال النبي إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وإما يحدثوكم بحق فتكذبوه وهذا الوجه يقتضي الامتناع من الإطلاق إلا عند الجزم بتحريمه في جميع الشرائع
المأخذ الثاني أن المعروف من استعمال هذا اللفظ في اللغة إنما هو في محبة جنس النكاح مثل حب الإنسان الآدمي مثله ممن يستمتع به من امرأة أو صبي فلا يكاد يستعمل هذا اللفظ في محبة الإنسان لولده وأقاربه ووطنه وماله ودينه وغير ذلك ولا في محبته لآدمي لغير صورته مثل محبة الآدمي لعلمه ودينه وشجاعته وكرمه وإحسانه ونحو ذلك بل المشهور من لفظ العشق هو محبة النكاح ومقدماته فالعاشق يريد الاستمتاع بالنظر إلى المعشوق وسماع كلامه أو مباشرته بالقبلة والحس والمعانقة أو الوطء وإن كان كثير من العشاق لا يختار الوطء بل يحب تقبيل ومعانقة موطوءته فهو يحب مقدمات الوطء وكم ممن اشتغل بالوسيلة عن المقصود
ثم لفظ العشق قد يستعمل في غير ذلك إما على سبيل التواطؤ فيكون حقيقة في القدر المشترك وإما على سبيل المجاز
لكن استعماله في محبة الله إما أن يفهم أو يوهم المعنى الفاسد وهو أن الله يحب ويحب كما تحب صور الآدميين التي نستمتع بمعاشرتها ووطئها وكما تحب الحور العين التي في الجنة
وهذا المعنى من أعظم الكفر وإن كان قد بلغ إلى هذا الكفر الاتحادية الذين يقولون إنه عين الموجودات ويقولون ما نكح سوي نفسه وهو الناكح والمنكوح
وكذلك الذين يقولون بالحلول العام والذين يقولون بالاتحاد في صور معينة أو بحلوله فيها كما يقوله الغالية من النصارى والرافضة وغالية النساك فإن هؤلاء يصفونه بما يوصف به البشر من النكاح تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولو يكن له كفوا أحد
ومن هؤلاء من يعشق الصور الجميلة ويزعم أنه يتجلي فيها وأنه إنما يحب مظاهر جماله وقد بسطنا الكلام في كفرهم وضلالهم في غير هذا الموضع فمن زعم أن الله يحب أو يعشق وأشار إلى هذا المعنى فهو أعظم كفرا من اليهود والنصارى
وأما المأخذ المعنوي فهو أن العشق هل هو فساد في الحب والإرادة أو فساد في الإدراك والمعرفة قيل إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القصد الواجب فإذا أفرط كان مذموما فاسدا مفسدا للقلب والجسم كما قال تعالى فيطمع الذي في قلبه مرض فمن صار مفرطا صار مريضا كالإفراط في الغضب والإفراط في الفرح وفي الحزن
وهذا الإفراط قد يكون في محبة الإنسان لصورته وقد يكون في محبته لغير ذلك كالإفراط في حب الأهل والمال والإفراط في الأكل والشرب وسائر أحوال الإنسان وهذا المعنى ممتنع في حق الله من الجهتين فإن الله لا يحب محبة زيادة على العدل ومحبة عبادة المؤمنين له ليس لها حد تنتهي إليه حتى تكون الزيادة إفراطا وإسرافا ومجاوزة للقصد بل الواجب أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يجب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه منه كما يكره أن يلقي في النار وفي رواية في الصحيح لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما إلى آخره وقال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين
وفي الصحيح أن عمر قال له يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فلأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر
وقد تقدم دلالة القرآن على هذا الأصل بقوله تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره
وقيل إن العشق فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة
وقيل إن العشق هو فساد في الإدراك والتخيل والمعرفة فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبه ما يصيبه من داء العشق ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة
ولهذا يقول الأطباء العشق مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا فيجعلونه من الأمراض الدماغية التي تفسد التخيل كما يفسده المالنخوليا
وإذا كان الأمر كذلك امتنع في حق الله من الجانبين فإن الله بكل شيء عليم وهو سميع بصير مقدس منزه عن نقص أو خلل في سمعه وبصره وعلمه والمحبون له عباده المؤمنون الذين آمنوا به وعرفوه بما تعرف به إليهم من أسمائه وآياته وما قذفه في قلوبهم من أنوار معرفته فليست محبتهم إياه عن اعتقاد فاسد
لكن قد يقال إن كثيرا ممن يكون فيه نوع محبة الله قد يكون معها اعتقاد فاسد إذ الحب يستتبع الشعور لا يستلزم صريح المعرفة لا سيما من كان من عقلاء المجانين الذين عندهم محبة لله وتأله وفيهم فساد عقل فهؤلاء قد يصيب أحدهم ما يصيب العشاق في حق الله ومعهم حب شديد ونوع من الاعتقاد الفاسد
وكثيرا ما يعتري أهل المحبة من السكر والفناء أعظم ما يصيب السكران بالخمر والسكران بالصور كما قال تعالى في قوم لوط إنهم لفي سكرتهم يعمهون فالحب له سكر أعظم من سكر الشراب كما قيل
سكران سكر هوى وسكر مدامة... ومتى إفاقة من به سكران
ومعلوم أنه في حال السكر والفناء تنقص المعرفة والتميز ويضطرب العقل والعلم فيحصل في ضمن ذلك من الاعتقادات والتخيلات الفاسدة ما هو من جنس العشق الذي فيه فساد الاعتقاد
وهؤلاء محمودون على ما معهم من محبة الله والأعمال الصالحة والإيمان به وأما ما معهم من اعتقاد فاسد وعمل فاسد لم يشرعه الله ورسوله فلا يحمدون على ذلك لكن إن كانوا مغلوبين على ذلك بغير تفريط منهم ولا عدوان كانوا معذورين وإن كان ذلك لتفريطهم فيما أمروا به وتعديهم حدود الله فهم مذنبون في ذلك مثل ما يصيب كثيرا ممن يهيج حبه عند سماع المكاء والتصدية والأشعار الغزلية فتتولد لهم أنواع من الاعتقادات والإرادات التي فيها الحق والباطل وقد يغلب هذا تارة وهذا تارة
فباب محبة الله ضل فيه فريقان من الناس فريق من أهل النظر والكلام والمنتسبين إلى العلم جحدوها وكذبوا بحقيقتها
وفريق من أهل التعبد والتصوف والزهد أدخلوا فيها من الاعتقادات والإرادات الفاسدة ما ضاهوا بها المشركين
فالأولون يشبهون المستكبرين وهؤلاء يشبهون المشركين
ولهذا يكون الأول في أشباه اليهود ويكون الثاني في أشباه النصارى
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
فصل: كل محبة وبغضة يتبعها لذة وألم
ومن المعلوم أن كل محبة وبغضة فإنه يتبعها لذة وألم ففي نيل المحبوب لذة وفراقه يكون فيه ألم وفي نيل المكروه ألم وفي العافية منه تكون فيه لذة فاللذة تكون بعد إدراك المشتهى والمحبة تدعو إلى إدراكه
فالمحبة العلة الفاعلة لإدراك الملائم المحبوب المشتهي واللذة والسرور هي الغاية
واللذات الموجودة في الدنيا ثلاثة أجناس فجنس بالجسد تارة كالأكل والنكاح ونحوهما مما يكون بإحساس الجسد فإن أنواع المأكول والملبوس يباشرها الجسد
وجنس يكون مما يتخيله ويتوهمه بنفسه ونفس غيره كالمدح له والتعظيم له والطاعة له فإن ذلك لذيذ محبوب له كما أن فوات الأكل والشرب يؤلمه وأكل ما يضره يؤلمه وكذلك فوات الكرامة بحيث لا يكون له قدر عند أحد ولا منزلة يؤلمه كما يؤلمه ترك الأكل والشرب ويؤلمه الذم والإهانة كما يؤلمه الأكل والشرب الذي يضره
فالمأكول والمنكوح هي أجساد تنال بالجسد يتلذذ بوجودها ويتألم بفقدها ولحصول ما يضر منها وأما الكرامة فهي في النفوس إذا كانت النفوس ملائمة له وموافقة له بأن يعتقد فيه ما يسره ويوافقه بالمحبة والتعظيم كان ذلك مما يوجب لذته ولذته بإدراكه ذلك الملائم من الناس ومدحهم المظهر لاعتقادهم ومن طاعتهم وموافقتهم المظهرة لمحبتهم وتعظيمهم
والجنس الثالث أن يكون ما يعلمه بقلبه وروحه وبعقله كذلك كالتذاذه بذكر الله ومعرفته ومعرفة الحق وتألمه بالجهل إما البسيط وهو عدم الكلام والذكر وإما المركب وهو اعتقاد الباطل كما يتألم الجسد بعدم غذائه تارة وبالتغذي بالمضار أخري
كذلك النفس تتألم بعدم غذائها وهو موافقة الناس وإكرامهم تارة وبالتغذي بالضد وهو مخالفتهم وإهانتهم فكذلك القلب يتألم بعدم غذائه وهو العلم الحق وذكر الله تارة والتغذي بالضد وهو ذكر الباطل واعتقاده أخري
قال النبي إن كل أحد يحب أن تؤتي مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن
وهذه اللذات الثلاث اللذات الحسية والوهمية والعقلية وقد علمت أن كل ما خلقه الله في الحي من قوي الإدراك والحركة فإنما خلقه لحكمة وفي ذلك من جلب المنفعة للحي ودفع المضرة عنه ما هو من عظيم نعم الله عليه
والله سبحانه بعث الرسل لتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويلها وتغييرها وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط والله شرع من الدين ما فيه استعمال هذه القوي على وجه العدل والاعتدال الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة
ومن المعلوم أن قوي الحركة في الجسد التي هي حركات طبعية متي لم تكن على وجه الاعتدال وإلا فسد الجسد وكذلك قوي الإدراك والحركة التي فيه وفي النفس متي لم تكن على وجه الاعتدال وإلا فسد الجسد والحركة الطبعية ليس فيها حس ولا إرادة وهذه لا تكون عن حركة إرادية كما تقدم لكن لا يكون ذلك في نفس المتحرك بطبعه كحركة الغذاء قبل أن يصرفه الخارج من السبيلين وغير ذلك
شرع الله من اللذات ما فيه صلاح حال الإنسان وجعل اللذة التامة في الآخرة
والله سبحانه قد شرع من هذه اللذات ما فيه صلاح حال الإنسان في الدنيا وجعل اللذة التامة بذلك في الدار الآخرة كما أخبر الله بذلك على ألسن رسله بأنها هي دار القرار وإليها تنتهي حركة العباد
واللذة هي الغاية من الحركات الإرادية فتكون الغاية من اللذات عند الغاية من الحركات ولا يخالف ما يوجد في الوسيلة والطريق فإن الموجود فيها من اللذات بقدر ما يعين على الوصول إلى المقصود التام وكل لذة وإن جلت هي في نفسها مقصودة لنفسها إذ المقصود لنفسه هو اللذة لكن من اللذات ما يكون عونا على ما هو أكثر منه أيضا فيكون مقصودا لنفسه بقدره ويكون مقصودا لغيره بقدر ذلك الغير وهذا من تمام نعمة الله على عباده وكل ما يتنعمون به إذا استعملوه على وجه العدل الذي شرعه أوصلهم به إلى ما هو أعظم نعمة منه
ولذات الجنة أيضا تتضاعف وتتزايد كما يشاء الله تعالى فإن الله يقول كما ذكره النبي في الحديث الصحيح أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقد قال الله تعالى في كتابه فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين
ولهذا بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين مبشرين بنعمة الله التامة في جنته لمن أطاعهم فاتبع الذكر الذي أنزل عليهم واستعمل القسط الذي بعثوا به ومنذرين بتعظيمهم عقاب الله لمن أعرض عن ذلك وعصاهم فكان من الظالمين
قال تعالى اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فأما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي وقال تعالى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
غلط المتفلسفة ومن اتبعهم في أمر هذه اللذات
وقد غلطت المتفلسفة من الصابئة والمشركين ونحوهم ومن حذا حذوهم ممن صنف في أصناف هذه اللذات كالرازي وغيره في أمر هذه اللذات في الدنيا والآخرة حتى جرهم ذلك الغلط إلى الدين الفاسد في الدنيا بالاعتقادات الفاسدة والعبادات والزهادات الفاسدة وإلى التكذيب بحقيقة ما أخبر الله به على ألسن رسله من وعده ووعيده فصاروا تاركين لما ينفعهم من لذات الدنيا معرضين عما خلقوا له من لذات الآخرة ومعتاضين عن ذلك بأخذ ما يضرهم مما يظنون أنه لذة في الدنيا أو موصل للذة في الدنيا وهم في ذلك إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدي فجهلوا المقاصد والوسائل فكانوا ضالين يقصدون ما ينفعهم ويلذهم وهم لا يعرفون عين مقصودهم ولا الطريق إليه وصار عامتهم غواة منهمكين في اللذات التي تضرهم
ضل النصارى كذلك في أمر اللذات
والنصارى ضارعوهم في بعض ذلك حين كذبوا بكثير مما وعدوا به في الآخرة من اللذات وضلوا بما ابتدعوه من العبادات فكانوا ضالين كما قال تعالى ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ولهذا يغلب على عوامهم الغي واتباع شهوات الغي إذ لم يحرموا عليهم شيئا من المطاعم والمشارب
اليهود أعلم لكنهم غواة قساة
وأما اليهود فهم أعلم بالمقصود وطريقه لكنهم غواة قساة مغضوب عليهم
ويتبين ذلك بأصلين أحدهما أنهم اعتقدوا أن اللذات الحسية والوهمية ليست لذات في الحقيقة وإنما هي دفع آلام وربما حسنوا العبارة فقالوا ليس المقصود بها التنعم وإنما المقصود بها دفع الألم بخلاف اللذات العقلية الروحانية فإنها هي اللذات فقط وهي المقصودة لذاتها فقط وعن هذا يدفعون أن تكون للنفوس بعد مفارقة الدنيا لذات حسية أو وهمية وإنما يكون لها لذات روحانية فقط
تفصيل مقالة الفلاسفة في اللذة
ثم إن من دخل مع أهل الملل منهم وافق المؤمنين بإظهاره للإقرار بما جاءت به الرسل وقال إن ما أخبرت به الرسل من الوعد والوعيد إنما هو أمثال مضروبة لتفهم العامة المعاد الروحاني وما فيه من اللذة والألم الروحانيين وربما يغرب بعضهم فأثبت اللذات الخيالية بناء على أن النفوس يمكن أن يحصل لها من إشراق الأفلاك عليها ما يحصل لها به من اللذة ما هو من أعظم اللذات الخيالية التي قد يقولون هي أعظم من الحسية
الأصل الثاني أن اللذات العقلية التي أقروا بها لم تحصل لهم ولم يعرفوا الطريق إليها بل ظنوا أن ذلك إنما هو إدراك الوجود المطلق بأنواعه وأحكامه وطلبوا اللذة العقلية في الدنيا بما هو من هذا النمط من الأمور العقلية وتكلموا في الإلهيات بكلام حقه قليل وباطله كثير فكانوا طالبين للذة العقلية التي أثبتوها بالأغذية الفاسدة التي تضر وتؤلم أكثر من طلبها بالأغذية النافعة بل كانوا فاقدين لغذائها الذي لا صلاح لها إلا به وهو إخلاص الدين لله بعبادته وحده لا شريك له فإن هذا هو خاصة النفس التي خلقت له لا تصلح إلا به ولا تفسد فسادا مطلقا مع وجوده قط بل من بات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة
كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال من وجوه متعددة من حديث عثمان بن عفان وأبي ذر ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وعتبان بن مالك وعبادة بن الصامت وغيرهم ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد بل يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان أو مثقال شعيرة من إيمان أو مثقال ذرة من إيمان
وقد تكلمت على رسالة المبدأ والمعاد التي صنفها أبو علي بن سينا وزعم أن فيها من الأسرار المخزونة من فلسفتهم بما يناسب هذا مما ليس هذا موضعه وبينت ما دخل عليهم من الجهل والكفر في ذلك من وجوه بينة من لغاتهم ومعارفهم التي يفقهون بها ويعلمون صحة ما عليه أهل الإيمان بالله ورسوله وبطلان ما هم عليه مما يخالف ذلك من الحقيقة وإن زعموا أنهم موافقون لأهل الإيمان
نعم هم مؤمنون ببعض وكافرون ببعض كما قد بينت أيضا مراتب ما معهم ومع غيرهم من الكفر والإيمان في غير هذا الموضع وذكرت ما كفروا به مما خالفوا به الرسل وما آمنوا به مما وافقوهم فيه
فإن الله أمرنا بالعدل وأمرنا أن نعدل بين الأمم كما قال تعالى لرسوله وأمرت لأعدل بينكم وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقال تعالى وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط
فصل: حب الله أصل التوحيد العملي
وإذا كان أصل الإيمان العملي هو حب الله تعالى ورسوله وحب الله أصل التوحيد العملي وهو أصل التأليه الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له فإن العبادة أصلها أكمل أنواع المحبة مع أكمل أنواع الخضوع وهذا هو الإسلام
وأعظم الذنوب عند الله الشرك به وهو سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والشرك منه جليل ودقيق وخفي وجلي
كما في الحديث الشرك في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله إذا كان أخفي من دبيب النمل فكيف نصنع به أو كما قال فقال ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من قليله وكثيره قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم
أصل الإشراك العملي بالله الإشراك في المحبة
فمعلوم أن أصل الإشراك العملي بالله الإشراك في المحبة قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله فأخبر أن من الناس من يشرك بالله فيتخذ أندادا يحبونهم كما يحبون الله وأخبر أن الذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء والمؤمنون أشد حبا لله من هؤلاء لأندادهم ولله فإن هؤلاء أشركوا بالله في المحبة فجعل المحبة مشتركة بينه وبين الأنداد والمؤمنون أخلصوا دينهم لله الذي أصله المحبة لله فلم يجعلوا لله عدلا في المحبة بل كان الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما ومحبة الرسول هي من محبة الله وكذلك كل حب في الله وهو الحب لله
المؤمنون يحبون لله ويبغضون لله
كما في الصحيحين عن النبي انه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وفي رواية في الصحيح:
لا يجد حلاوة الإيمان إلا من كان فيه ثلاث خصال أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار
ولهذا في الحديث من أحب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله
فقد استكمل الإيمان وفي الأثر ما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه لأن هذه المحبة من محبة الله وكل من كانت محبته لله أشد كان أفضل
وخير الخلق محمد رسول الله وخير البرية بعده إبراهيم كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وكل منهما خليل الله
والخلة تتضمن كمال المحبة ونهايتها ولهذا لم يصلح لله شريك في الخلة بل قال صلي الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله وفي لفظ أنا أبرأ إلى كل خليل من خلته
فمحبة ما يحبه الله لله من الأعيان والأعمال من تمام محبة الله وهو الحب في الله ولله وإن كان كثير من الناس يغلط في معرفة كثير من ذلك أو وجوده فيظن في أنواع من المحبة أنها محبة الله ولا تكون لله ويظن وجود المحبة لله في أمور ولا تكون المحبة لله موجودة بل قد يعتقد وجود المحبة لله وتكون معدومة وقد يعتقد في بعض الحب أنه لله ولا يكون لله كما يعتقد وجود العلم أو العبادة أو غير ذلك من الصفات في بعض الأشخاص والأحوال ولا يكون ثابتا وقد يعتقد في كثير من الأعمال أنه معمول لله ولا يكون لله
فمحبة ما يحبه الله من الأعمال الباطنة والظاهرة وهي الواجبات والمستحبات إذا أحببت لله كان ذلك من محبة الله ولهذا يوجب ذلك محبة الله لعبده
وكما في الحديث الصحيح عن الله تعالى من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه
وكذلك محبة كلام الله وأسمائه وصفاته كما في الحديث الصحيح في الذي كان يصلي بأصحابه فيقرأ قل هو الله أحد إما أن يقرأها وحدها أو يقرأ بها مع سورة أخري فأخبروا بذلك النبي صلي الله عليه وسلم فقال سلوه لم يفعل ذلك فقال لأني أحبها فقال أن حبك إياها أدخلك الجنة
وكذلك محبة ملائكة الله وأنبيائه وعباده الصالحين كما كان عبد الله بن عمر يدعو بالمواقف في حجه فيقول اللهم اجعلني أحبك وأحب ملائكتك وأنبياءك وعبادك الصالحين اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك وعبادك الصالحين
محبة الله مستلزمة لمحبة ما يحبه من الواجبات
بل محبة الله مستلزمة لمحبة ما يحبه من الواجبات كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فإن اتباع رسوله هو من أعظم ما أوجبه الله تعالى على عباده وأحبه وهو سبحانه أعظم شيء بغضا لمن لم يتبع رسوله فمن كان صادقا في دعوى محبة الله اتبع رسوله لا محالة وكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما
الذنوب تنقص من محبة الله
والذنوب تنقص من محبة الله تعالى بقدر ذلك لكن لا تزيل المحبة لله ورسوله إذا كانت ثابتة في القلب ولم تكن الذنوب عن نفاق كما في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب حديث حمار الذي كان يشرب الخمر وكان النبي يقيم عليه الحد فلما كثر ذلك منه لعنه رجل فقال النبي: لا تلعنه فإنه يجب الله ورسوله وفيه دلالة على أنا منهيون عن لعنة أحد بعينه وإن كان مذنبا إذا كان يحب الله ورسوله فكما أن المحبة الواجبة تستلزم لفعل الواجبات وكمال المحبة المستحبة تستلزم لكمال فعل المستحبات والمعاصي تنقض المحبة وهذا معنى قول الشبلى لما سئل عن المحبة فقال ما غنت به جارية فلان
تعصي الإله وأنت تزعم حبه... هذا محال في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته... إن المحب لمن أحب مطيع
وهذا كقوله ﷺ: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حيث يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وقد تكلمنا على هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا أن نفرق بين الحب في الله ولله الذي هو داخل في محبة الله وهو من محبته وبين الحب لغير الله الذي فيه شرك في المحبة لله كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فإن هؤلاء يشركون بربهم في الحب عادلون به جاعلون له أندادا وأولئك أخلصوا دينهم لله فكان حبهم الذي هو أصل دينهم كله لله وهذا هو الذي بعث بالله الرسل وأنزل به الكتب وأمر بالجهاد عليه
كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا
وقد علم أن محبة المؤمنين لربهم أشد من محبة هؤلاء المشركين لربهم ولأندادهم ثم إن اتخاذ الأنداد هو من أعظم الذنوب كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك
قلت ثم أي قال ثم أن تزني بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون فدعاء إله آخر مع الله هو اتخاذ ند من دون الله يحبه كحب الله إذ أصل العبادة المحبة
والمحبة وإن كانت جنسا تحته أنواع فالمحبوبات المعظمة لغير الله قد أثبت الشارع فيها اسم التعبد كقوله في الحديث الصحيح تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش إن أعطي رضي وإن منع سخط
فسمي هؤلاء الأربعة الذين إن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا لأنها محبتهم ومرادهم عبادا لها حيث قال عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة
مراتب العشق
فإذا كان الإنسان مشغوفا بمحبة بعض المخلوقات لغير الله الذي يرضيه وجوده ويسخطه عدمه كان فيه من التعبد بقدر ذلك ولهذا يجعلون العشق مراتب مثل العلاقة ثم الصبابة ثم الغرام ويجعلون آخره التتيم والتتيم التعبد وتيم الله هو عبد الله فيصير العاشق لبعض الصور عبدا لمعشوقه
ذكر الله العشق في القرآن عن المشركين
والله سبحانه إنما ذكر هذا العشق في القرآن عن المشركين فإن العزيز وامرأته وأهل مصر كانوا مشركين كما قال لهم يوسف عليه الصلاة والسلام إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وقال تعالى ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار
وقال تعالى وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين
وأما يوسف عليه السلام فإن الله ذكر أنه عصمه بإخلاصه الدين لله وقال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأي برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء والفحشاء ومن السوء عشقها ومحبتها ومن الفحشاء الزنا وقد يزني بفرجه من لا يكون عاشقا وقد يعشق من لا يزني بفرجه والزنا بالفرج أعظم من الإلمام بصغيرة كنظرة وقبلة
وأما الإصرار على العشق ولوازمه من النظر ونحوه فقد يكون أعظم من الزنا الواحد بشيء كثير والمخلصون يصرف الله عنهم السوء والفحشاء ويوسف عليه السلام كان من المخلصين حيث كان يعبد الله لا يشرك به شيئا وحيث توكل على الله واستعان به كما قال تعالى وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم
وهذا تحقيق قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
المتولون للشيطان هم الذين يحبون ما يحبه
فأخبر سبحانه أن المتوكلين على الله ليس للشيطان عليهم سلطان وإنما سلطانه على المتولين له والمتولي من الولاية وأصله المحبة والموافقة كما أن العداوة أصلها البغض والمخالفة فالمتولون له هم الذين يحبونه ما يحبه الشيطان ويوافقه فهم مشركون به حيث أطاعوه وعبدوه بامتثال أمره كما قال تعالى:
ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
والشياطين شياطين الإنس والجن والعبادة فيها الرغبة والرهبة قال تعالى ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلي يوم الدين قال رب فأنظرنى إلي يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فأقسم الشيطان لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
وقد أخبر الله أنه ليس له سلطان على هؤلاء فقال في الحجر فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين
وقوله إلا من اتبعك من الغاوين استثناء منقطع في أقوي القولين إذ العباد هم العابدون لا المعبودون كما قال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا
وقال تعالى عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا
وقال تعالى الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين
وقال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه
وقال تعالى سبحان الذي أسري بعبده ليلا
وقال تعالى واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار
عباد الله المخلصون ليس للشيطان عليهم سلطان
وإذا كان عباد الله المخلصون ليس له عليهم سلطان وأن سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وقد أقسم أن يغويهم إلا عباد الله المخلصين وأخبر الله أن سلطانه ليس على عباد الله بل على من اتبعه من الغاوين
والغي اتباع الأهواء والشهوات وأصل ذلك أن الحب لغير الله كحب الأنداد وذلك هو الشرك قال الله تعالى فيه إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون فبين أن صاحب الإخلاص مادام صادقا في إخلاصه فإنه يعتصم من هذا الغي وهذا الشرك وإن الغي هو يضعف الإخلاص ويقوي هواه الشرك فأصحاب
العشاق يتولون الشيطان ويشركون به
العشق الذي يحبه الشيطان فيهم من تولي الشيطان والإشراك به بقدر ذلك لما فاتهم من إخلاص المحبة لله والإشراك بينه وبين غيره في المحبة حتى يكون فيه نصيب من اتخاذ الأنداد وحتى يصيروا عبيدا لذلك المعشوق فيفنون فيه ويصرحون بأنا عبيد له فيوجد في هذا الحب والهوي واقتراف ما يبغضه الله وما حرمه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون فيوجد فيه من الشرك الأكبر والأصغر ومن قتل النفوس بغير حق ومن الزنا ومن الكذب ومن أكل المال بالباطل إلى غير ذلك ما ينتظم هذه الأصناف التي يكرمها الله تعالى لأن أصله أن يكون حبه كحب الله وهو من ترك إخلاص المحبة ومن الإشراك بينه وبين غيره أو من جعل المحبة لغير الله فإذا عمل موجب ذلك كان ذلك هو اتباع الهوي بغير هدي من الله
وفي الأثر ما تحت أديم السماء إله يعبد أعظم عند الله من هوي متبع قال تعالى أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا
ولهذا لا يبتلي بهذا العشق ألا من فيه نوع شرك في الدين وضعف إخلاص لله وسبب هذا ما ذكره بعضهم فقال إنه ليس شيء من المحبوبات يستوعب محبة القلب إلا محبة الله أو محبة بشر مثلك أما محبة الله فهي التي خلق لها العباد وهي سعادتهم وقد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع
وأما البشر المتماثل من ذكر أو أنثي فإن فيه من المشاكلة والمناسبة ما يوجب أن يكون لكل شيء من الحب نصيب من المحبوب يستوعبه حبه ولهذا لا يعرف لشيء من المحبوبات التي تحب لغير الله من الاستيعاب ما يعرف لذلك حتى يزيل العقل ويفقد الإدراك ويوجب انقطاع الإرادة لغير ذلك المحبوب ويوجب مرض الموت وإنما يعرض هذا كله لضعف ما في القلب من حب الله وإخلاص الدين له عبادة واستعانة فيكون فيه من الشرك ما يسلط الشيطان عليه حتى يغويه هذا بهذا الغي الذي فيه من تولي الشيطان والإشراك به ما يتسلط به الشيطان
ولهذا قد يطيع هذا المحب لغير الله محبوبه أكثر مما يطيع الله حتى يطلب القتل في سبيله كما يختار المؤمن القتل في سبيل الله وإذا كان محبوبه مطيعه من وجه وعبدا له فهو أولي بأن يكون هو مطيعه وعبدا له من وجه آخر
وإذا كان النبي قال شارب الخمر كعابد وثن ومر علي رضي الله عنه بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وأظنه قلب الرقعة
وذلك أن الله جمع بين الخمر والميسر وبين الأنصاب والأزلام في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون
مع أن الخمر إذا سكر بها الشارب كان سكره يوما أو قريبا من يوم أو بعض يوم وأما سكر الشهوة والمحبة الفاسدة من العشق ونحوه فسكره قوي دائم قال تعالى في قوم لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون
فكيف إذا خرج عن حد السكر إلى حد الجنون بل كان الجنون المطبق لا الحمق كما أنشد محمد بن جعفر في كتاب اعتلال القلوب قال أنشدني الصيدلاني
قالت جننت على رأسي فقلت لها... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق ليس يفيق الدهر صاحبه... وإنما يصرع المجنون في الحين
وقال الآخر
سكران سكر هوى وسكر مدامة... ومتى إفاقة من به سكران
فصاحبه أحق بأن يشبه بعابد الوثن والعاكفين على التماثيل يعملونها على صورة آدمي
وقد قال سبحانه وتعالى وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا أي شغفها حبه أي وصل حبه إلى شغاف القلب وهي جلدة في داخله فهذا يكون قد اتخذ ندا يحبه كحب الله
يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المؤمنين بالعشق
وإذا كان الشيطان يريد أن يوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة فالعداوة والبغضاء التي يريد أن يوقعها بالعشق وصده عن ذكر الله وعن الصلاة بذلك أضعاف غيره كما قد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وبينا أن جميع المعاصي يجتمع فيها هذان الوصفان وأن ذكر ذلك في الخمر والميسر اللذين هما من أواخر المحرمات ينبه على ما في غيرهما من ذلك مما حرم قبلهما كقتل النفوس بغير حق والفواحش ونحو ذلك
ومما يبين هذا أن الفواحش التي أصلها المحبة لغير الله سواء كان المطلوب المشاهدة أو المباشرة أو الإنزال أو غير ذلك هي في المشركين أكثر منها في المخلصين ويوجد فيهم ما لا يوجد في المخلصين لله
قال الله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدي وفريقا حق عليهم الضلالة فاخبر سبحانه أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وهو قوله تعالى افتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقال تعالى إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
وإذا كان سلطانه على أوليائه الذين تولوه والذين هم به مشركون وهم الذين لا يؤمنون بالله وقال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فيكون هؤلاء هم الغاوين وهم الذين قال الشيطان لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين
ولهذا أخبر سبحانه عن أوليائه أنهم وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون فأخبر عن أولياء الشيطان وهم الذين يتولونه والذين هم به مشركون أنهم إذا فعلوا فاحشة احتجوا بالتقليد
لأسلافهم وزعموا مع ذلك أن الله أمرهم بها فيتبعون الظن في قولهم إن الله أمرهم بها وما تهوي الأنفس في تقليد أسلافهم وأتباعهم
وهذا الوصف فيه بسط كثير لكثير من المنتسبين إلى القبلة من الصوفية والعباد والأمراء والأجناد والمتكلمة والمتفلسفة والعامة وغيرهم يستحلون من الفواحش ما حرمه الله ورسوله وأصله العشق الذي يبغضه الله
وكثير منهم يجعل ذلك دينا ويري أنه يتقرب بذلك إلى الله إما لزعمه أنه يزكي النفس ويهديها وإما لزعمه أنه يجمع بذلك قلبه على آدمي ثم ينتقل إلى عبادة الله وحده وإما لزعمه أن الصور الجميلة مظاهر الحق ومشاهده وربما اعتقد حلول الرب فيها واتحاده بها ومنهم من يخص ذلك بها ومنهم من يقول بإطلاق وهؤلاء إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها
وكل هؤلاء فيهم من الإشراك بقدر ذلك ولهذا يظهر الافتتان بالصور وعشقها فيمن فيهم شرك كالنصارى والرهبان والمتشبهين بهم من هذه الأمة من كثير من المتفلسفة والمتصوفة الذين يفتنون بالأحداث وغيرهم فتجد فيهم قسطا عظيما من اتخاذ الأنداد من دون الله يحبونهم كحب الله إما تدينا وإما شهوة وإما جمعا بين الأمرين ولهذا تجد بين أغنيائهم وفقرائهم وبين ملوكهم وأمرائهم تحالفا على اتخاذ أنداد من دون الله من هذين الوجهين
ولهذا تجدهم كثيرا ما يجتمعون على سماع الشعر والأصوات التي تهيج الحب المشترك الذي يجتمع فيه محب الرحمن ومحب الأوثان ومحب الصلبان ومحب الأخوان ومحب الأوطان ومحب المردان ومحب النسوان
وهذا السماع هو سماع المشركين كما قال تعالى وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية
وسبب ما ذكرنا أن الله خلق عباده لعبادته التي تجمع محبته وتعظيمه فإذا كان في القلب ما يجد حلاوته من الإيمان والتوحيد له احتاج إلى أن يستبدل بذلك ما يهواه فيتخذ إلهه هواه فيتخذ الشيطان وذريته أولياء من دون الله وهم لهم عدو بئس للظالمين بدلا
ولهذا كان هذا ونحوه من تبديل الدين وتغيير فطرة الله التي فطر الناس عليها قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم وقال تعالى ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
قال تعالى لا تبديل لخلق الله ونفس ما خلقه الله لا تبديل له لا يمكن أن توجد المخلوقات على غير ما يخلقه الله عليها ولا أن تخلق على غير الفطرة التي خلقها الله عليها لكن بعض الخلق قد يغير بعضها كما قال النبي كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء
أصل العبادة المحبة والشرك فيها أصل الشرك
ومما يبين ذلك أن أصل العبادة هي المحبة وأن الشرك فيها أصل الشرك كما ذكره الله في قصة إمام الحنفاء إبراهيم الخليل حيث قال فلما جن عليه الليل رأي كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين وقال في القمر لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما أفلت الشمس قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين
ولهذا تبرأ إبراهيم من المشركين وممن أشركوا بالله قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فأنهم عدو لي إلا رب العالمين وقال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده
ومما يوضح ذلك أنه قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين وقال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير فأمر بالجهاد حتى لا تكون فتنة وحتى يكون الدين كله لله فجعل المقصود عدم كون الفتنة ووجود كون الدين كله لله وناقض بينهما فكون الفتنة ينافي كون الدين لله وكون الدين لله ينافي كون الفتنة والفتنة قد فسرت بالشرك فما حصلت به فتنة القلوب ففيه شرك وهو ينافي كون الدين كله لله
الفتنة جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات
والفتنة جنس تحته أنواع من الشبهات والشهوات وفتنة الذين يتخذون من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله من أعظم الفتن ومنه فتنة أصحاب العجل كما قال تعالى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري قال موسى إن هي إلا فتنك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وقال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم
قيل لسفيان بن عيينه إن أهل الأهواء يحبون ما ابتدعوه من أهوائهم حبا شديدا فقال أنسيت قوله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وقوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم أو كلاما هذا معناه وكل ما أحب لغير الله فقد يحصل به من الفتنة ما يمنع أن يكون الدين لله
وعشق الصور من أعظم الفتن وقد قال تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة ولهذا قال سبحانه وتعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا
وقد قال سبحانه آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين
ومما يبين ذلك أن رجلا قال للنبي ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده فأنكر عليه أن جعله ندا لله في هذه الكلمة التي جمع فيها بينه وبين الله في المشيئة إذ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله فلا يكون شريكه لما يعلم أن كون الشيء ندا لله قد يكون بدون أن يعبد العبادة التامة فإن ذلك الرجل ما كان يعبد رسول الله تلك العبادة
فصل: محبة الله توجب المجاهدة في سبيله
وبهذا يتبين أن محبة الله توجب المجاهدة في سبيله قطعا فإن من أحب الله وأحبه الله أحب ما يحبه الله وأبغض ما يبغضه الله ووالي من يواليه الله وعادي من يعاديه الله لا تكون محبة قط إلا وفيها ذلك بحسب قوتها وضعفها فإن المحبة توجب الدنو من المحبوب والبعد عن مكروهاته ومتي كان مع المحبة نبذ ما يبغضه المحبوب فإنها تكون تامة
موادة عدو الله تنافي المحبة
وأما موادة عدوه فإنها تنافي المحبة قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه فأخبر أن المؤمن الذي لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما في الحديث المتفق عليه والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين لا تجده موادا لمن حاد الله ورسوله فإن هذا جمع بين الضدين لا يجتمعان ومحبوب الله ومحبوب معاديه لا يجتمعان
فالمحب له لو كان موادا لمحاده لكان محبا لاجتماع مراد المتحادين المتعاديين وذلك ممتنع ولهذا لم تصلح هذه الحالة إلا لله ورسوله فإنه يجب على العبد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ولا يكون مؤمنا إلا بذلك ولا تكون هذه المحبة مع محبة من يحاد الله ورسوله ويعاديه أبدا فلا ولاء لله إلا بالبراءة من عدو الله ورسوله
وأما المؤمنون الذين قد يقاتل بعضهم بعضا فأولئك ليسوا متحادين من كل وجه فإن مع كل منهما من الإيمان ما يحب عليه الآخر وإن كان يبغضه أيضا فيجتمع فيهما المحبة والبغضة وكذلك كل منهما لا يجب أن تكون جميع أفعاله موافقة لمحبة الله وجميع أفعال الآخر موافقة لبغض الله بل لا بد أن يفعل أحدهما ما لا يحبه الله وإن لم يبغضه ولا بد أن يكون في الآخر أيضا ما يحبه الله إذ هو مؤمن فيجب أن يعطي كل واحد من المحبة بقدر إيمانه ولا يجب أن يحب من أحدهما ما لا يحبه وإن كان لا يبغضه بل ولا يحب من واحدهما ما كان خطأ أو ذنبا مغفورا وإن كان لا يبغض على ذلك فلا يحب إلا ما أحبه الله ورسوله فيحب ما كان من اجتهاده من عمل صالح
وهذا الذي ذكرناه أمر يجده الأنسان من نفسه ويحسه أنه إذا أحب الشيء لم يحب ضده بل يبغضه فلا يتصور اجتماع إرادتين تامتين للضدين لكن قد يكون في القلب نوع محبة وإرادة لشيء ونوع محبة وإرادة لضده فهذا كثير بل هو غالب على بني آدم لكن لا يكون واحد منهما تاما فإن المحبة والإرادة التامة توجب وجود المحبوب المراد مع القدرة فإذا كانت القدرة حاصلة ولم يوجد المحبوب المراد لم يكن الحب والإرادة تامة وكذلك البغض التام يمنع وجود البغيض مع القدرة فمتي وجد مع إمكان الامتناع لم يكن البغض تاما
ومن هنا يعرف أن قول النبي لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن على بابه لو كان بغضه لما أبغضه الله من هذه الأفعال تاما لما فعلها فإذا فعلها فإما أن يكون تصديقه بأن الله يبغضها فيه ضعف أو نفس بغضه لما يبغضه الله فيه ضعف وكلاهما يمنع تمام الإيمان الواجب
محبة الله ورسوله على درجتين: واجبة ومستحبة
ومحبة الله ورسوله على درجتين واجبة وهي درجة المقتصدين ومستحبة وهي درجة السابقين
فالأولي تقتضي أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما بحيث لا يحب شيئا يبغضه كما قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وذلك يقتضي محبة جميع ما أوجبه الله تعالى وبغض ما حرمه الله تعالى وذلك واجب فإن إرادة الواجبات إرادة تامة تقتضي وجود ما أوجبه كما تقتضي عدم الأشياء التي نهي الله عنها وذلك مستلزم لبغضها التام
فيجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
وقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم
وقال تعالى والذين آتينهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه
وأما محبة السابقين بأن يحب ما أحبه الله من النوافل والفضائل محبة تامة وهذه حال المقربين الذين قربهم الله إليه فإذا كانت محبة الله ورسوله الواجبة تقتضي بغض ما أبغضه الله ورسوله كما في سائر أنواع المحبة فإنها توجب بغض الضد علم أن الجهاد من موجب محبة الله ورسوله فإن مقصود الجهاد تحصيل ما أحبه الله ودفع ما أبغضه الله
ترك الجهاد لعدم المحبة التامة وهو دليل النفاق
فمن لم يكن فيه داع إلى الجهاد فلم يأت بالمحبة الواجبة قطعا كان فيه نفاق كما قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق
وكذلك جمع بينهما في قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم فقرنه بالمحبة في الآيتين من
قوله قل إن كان أباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره وفي قوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم فأخبر أن القوم الذين يحبهم الله ورسوله هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم كما قال تعالى في الآية الأخرى أشداء على الكفار رحماء بينهم فوصفهم بالذلة والرحمة لأوليائه إخوانهم والعزة والشدة على أعدائه أعدائهم وانهم يجاهدون في سبيل الله
والجهاد من الجهد وهو الطاقة وهو أعظم من الجهد الذي هو المشقة فإن الضم أقوي من الفتح وكلما كانت الحروف أو الحركات أقوى كان المعنى أقوى
ولهذا كان الجرح أقوي من الجرح فإن الجرح هو المجروح نفسه وهو غير الجرح مصدر وهو فعل
وكذلك الكره والمكروه والمكره كما قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وقال تعالى ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها
فالجهد نهاية الطاقة والقدرة قال تعالى والذين لا يجدون إلا جهدهم
وفي الحديث أفضل الصدقة جهد من مقل يسره إلى فقير ولهذا قال النبي الجهاد سنام العمل فإنه أعلى الإرادات في نهاية القدرة وهذا هو أعلى ما يكون من الإيمان كالسنام الذي هو أعلى ما في البعير وقد يكون بمشقة وقد لا يكون
وأما الجهد فهو المشقة وإن لم يكن تمام القدرة
فالجهاد في سبيل الله تعالى من الجهد وهي المغالبة في سبيل الله بكمال القدرة والطاقة فيتضمن شيئين أحدهما استفراغ الوسع والطاقة والثاني أن يكون ذلك في تحصيل محبوبات الله ودفع مكروهاته والقدرة والإرادة بهما يتم الأمر
انقسام الناس إلى أربعة أقسام
وهنا انقسم الناس أربعة أقسام فقوم لهم قدرة ولهم إرادة ومحبة غير مأمور بها فهم يجاهدون ويستعملون جهدهم وطاقتهم لكن لا في سبيل الله بل في سبيل آخر إما محرمة كالفواحش ما ظهر منها وما وبطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم الحق
وإما في سبيل لا ينفع عند الله مما جنسه مباح لا ثواب فيه لكن الغالب أن مثل هذا كثيرا ما يقترن به من الشبه ما يجعله في سبيل الله أو في سبيل الشيطان
وقوم لهم إرادة صالحة ومحبة كاملة لله ولهم أيضا قدرة كاملة فهؤلاء سادة المحبين المحبوبين المجاهدين في سبيل الله لا يخافون لومة لائم كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة
والقسم الثالث قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة لله قوية تامة لكن قدرتهم ناقصة فهم يأتون بمحبوبات الحق من مقدورهم ولا يتركون مما يقوون عليه شيئا لكن قدرتهم قاصرة ومحبتهم كاملة فهو مع القسم الذي قبله
وما زال في المؤمنين على عهد النبي وبعده من هؤلاء خلق كثير وفي مثل هؤلاء قال النبي أن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا سلكتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وقال له سعد بن أبي وقاص يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم يسهم له مثلما يسهم لأضعفهم فقال يا سعد وهل تنصرون إلا بضعفائكم بدعائهم وصلواتهم واستغفارهم
وروي أن النبي كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وقال رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وهذا كثير
والقسم الرابع من قدرته قاصرة وإرادته للحق قاصرة وفيه من إرادة الباطل ما الله به عليم فهؤلاء ضعفاء المجرمين ولكن قد يكون لهم من التأثير بقلوبهم نصيب وحظ مع أهل باطلهم كما يوجد في العلماء والعباد والزاهدين من المشركين وأهل الكتاب ومنافقي هذه الأمة ما فيه مضاهاة لعلماء المؤمنين وعبادهم وذلك أن الشيطان جعل لكل شيء من الخلق نظيرا في الباطل فإن أصل الشر هو الإشراك بالله كما أن أصل الخير هو الإخلاص لله
فإن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده لا يشركوا به شيئا وبذلك أرسل الرسل وبه أنزل الكتب كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت
العبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل
والعبادة تجمع كمال المحبة وكمال الذل فالعابد محب خاضع بخلاف من يحب من لا يخضع له بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم فإن كلا من هذين ليس عبادة محضة وإن كل محبوب لغير الله ومعظم لغير الله ففيه شوب من العبادة كما قال النبي في الحديث الصحيح:
تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش
وذلك كما جاء في الحديث إن الشرك في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل مع أنه ليس في الأمم أعظم تحقيقا للتوحيد من هذه الأمة ولهذا كان شداد بن أوس يقول يا نعايا العرب يا نعايا العرب إن أخوف ما أخوف عليكم الرياء والشهوة الخفية قال أبو داود الشهوة الخفية حب الرياسة
وفي حديث الترمذى عن كعب بن مالك أن النبي قال ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه قال الترمذي حديث حسن صحيح والحرص يكون على قدر قوة الحب والبغض
وقد قال الله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي إذا كان الشرك أخفي من دبيب النمل فكيف نتجنبه فقال النبي ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من قليله وكثيره قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم فأمره مع الاستعاذة من الشرك المعلوم بالاستغفار فإن الاستغفار والتوحيد بهما يكمل الدين
كما قال تعالى فاعلم انه لاإله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات وقال تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه
وفي الحديث: إن الشيطان قال أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يستغفرون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهذا كذلك فإن من اتخذ إلهه هواه صار يعبد من يهواه وقد زين له سوء عمله فرآه حسنا
قال تعالى أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
وقال تعالى وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب
وقال تعالى وإذا زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أري ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم
وقال تعالى وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم
وكمال الدين هو أداء الواجبات وترك المحرمات والفعل والترك أصلهما الحب والبغض فإذا ترك مأمورا أو فعل محظورا فإنما هو لنقص الإيمان الذي هو التصديق وحب ما يحبه الله وبغض ما يبغضه الله
والمحبوبات على قسمين قسم يحب لنفسه وقسم يحب لغيره إذ لا بد من محبوب يحب لنفسه وليس شيء شرع أن يحب لذاته إلا الله تعالى وكذلك التعظيم لذاته تارة يعظم الشيء لنفسه وتارة يعظم لغيره وليس شيء يستحق التعظيم لذاته إلا الله تعالى
وكل ما أمر الله أن يحب ويعظم فإنما محبته لله وتعظيمه عبادة لله فالله هو المحبوب المعظم في المحبة والتعظيم المقصود المستقر الذي إليه المنتهي وأما ما سوي ذلك فيحب لأجل الله أي لأجل محبة العبد لله يحب ما أحبه الله
فمن تمام محبة الشيء محبة محبوب المحبوب وبغض بغيضه ويشهد لهذا الحديث أوثق عري الإيمان الحب في الله والبغض في الله
وفي السنن من أحب لله وأبغض لله وأعطي لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان
فمن أحب شيئا لذاته أو عظمه لذاته غير الله فذاك شرك به وإن أحبه ليتوصل به إلى محبوب آخر وتعظيم آخر سوي الله فهو من فروع هذا والله سبحانه لم يشرع أن يعبد الإنسان شيئا من دونه أو يتخذ إلها ليتوصل بعبادته كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين
من أحب شيئا كما يحب الله أو عظمه كما يعظم الله فقد أشرك
فمن أحب شيئا كما يحب الله أو عظمه كما يعظم الله فقد جعله لله ندا وإن كان يقول إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفي وأنهم شفعاؤنا عند الله
قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله أي يحبونهم كما يحبون الله والذين آمنوا أشد حبا لله منهم لأنهم أخلصوا لله فلم يجعلوا المحبة مشتركة بينه وبين غيره فإن الاشتراك فيها يوجب نقصها والله لا يتقبل ذلك كما في الحديث الصحيح يقول الله تعالى أنا أغني الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك
فالمؤمن الذي يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لا بد أن يكون ما أحبه الله ورسوله أحب إليه مما لم يحبه الله ورسوله وأن يبغض ما يبغضه الله ورسوله فلا يكون ذلك البغيض أحب إليه من محبوب الله ورسوله
والحب التام منا مستلزم للإرادة التامة الموجبة للفعل مع القدرة والبغض التام منا مستلزم للكراهة التامة المانعة للقدرة فإذا كان العبد قادرا على محبات الحق ولا يفعلها فلضعف محبتها في قلبه أو وجود ما يعارض الحق مثل محبته لأهله وماله فإن ذلك قد يمنعه عن فعل محبوب الحق
كما قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا
وقال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وقال له عمر والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر وهذان الحديثان في الصحيح
فإن كانت واجبات نقص من درجة المقتصدين من أصحاب اليمين حتى يتوب أو يمحوها بشيء آخر وإن كانت نوافل فإنها من القرب بحسب ذلك
الإنسان لا يفعل الحرام إلا لضعف إيمانه ومحبته
وإذا فعل مكروهات الحق فلضعف بعضها في قلبه أو لقوة محبتها التي تغلب بعضها فالإنسان لا يأتي شيئا من المحرمات كالفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والشرك بالله مالم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم إلا لضعف الإيمان في أصله أو كماله أو ضعف العلم والتصديق وإما ضعف المحبة والبغض
لكن إذا كان أصل الإيمان صحيحا وهو التصديق فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه فلا بد أن يكون مع فعلها فيه بغض لها وفيه خوف من عقاب الله عليها وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها إما بتوبة وإما حسنات وإما عفو وإما دون ذلك وإلا فإذا لم يبغضها ولم يخف الله فيها ولم يرج رحمته فهذا لا يكون مؤمنا بحال بل هو كافر أو منافق
فكل سيئة يفعلها المؤمن لا بد أن تقترن بها حسنات له لكن قوة شهوته للسيئة وما زين له فيها حتي ظن أنها مصلحة له أوجب وقوعها وهو اتباع الظن وما تهوي الأنفس وهذا القدر عارض بعض إيمانه فترجح عليه حتي ما هو ضد لبعض الإيمان فلم يبق مؤمنا الإيمان الواجب كما قال النبي: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن وهو فيما يفعله متبع للشيطان فيما زينه له حتى رآه حسنا وفيما أمره به فأطاعه وهذا من الشرك بالشيطان كما قال تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم
ولهذا لم يخلص من الشيطان إلا المخلصون لله كما قال تعالى عن ابليس ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين وقال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وقال تعالى إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون
فإذا كان الشيطان ليس له سلطان إلا على من أشرك به فكل من أطاع الشيطان في معصية الله فقد تسلط الشيطان عليه وصار فيه من الشرك بالشيطان بقدر ذلك
والشيطان يوالي الإنسان بحسب عدم إيمانه كما قال تعالى إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين
ويشهد لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي إن الشيطان ينتصب عرشه على البحر ويبعث سراياه
فجميع ما نهي الله عنه هو من شعب الكفر وفروعه كما أن كل ما أمر الله به هو من الإيمان والإخلاص لدين الله ولهذا قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله
لكن قد يكون ذلك شركا أكبر وقد يكون شركا أصغر بحسب ما يقترن به من الإيمان فمتي اقترن بما نهي الله عنه الإيمان لتحريمه وبغضه وخوف العقاب ورجاء الرحمة لم يكن شركا أكبر وأما إن اتخذ الإنسان ما يهواه إلها من دون الله وأحبه كحب الله فهذا شرك اكبر والدرجات في ذلك متفاوتة
وكثير من الناس يكون معه من الإيمان بالله وتوحيده ما ينجيه من عذاب الله وهو يقع في كثير من هذه الأنواع ولا يعلم أنها شرك بل لا يعلم أن الله حرمها ولم تبلغه في ذلك رسالة من عند الله والله تعالى يقول وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فهؤلاء يكثرون جدا في الأمكنة والأزمنة التي تظهر فيها فترة الرسالة بقلة القائمين بحجة الله فهؤلاء قد يكون معهم من الإيمان ما يرحمون به وقد لا يعذبون بكثير مما يعذب به غيرهم ممن كانت عليه حجة الرسالة
فينبغي أن يعرف أن استحقاق العباد للعذاب بالشرك فما دونه مشروط ببلاغ الرسالة في أصل الدين وفروعه ولهذا لما كثر الجهل وانتشر
تزيين الشيطان لكثير من الناس أنواعا من الحرام ضاهوا بها الحلال
زين الشيطان لكثير من الناس نواعا من المحرمات ضاهوا بها حلال وقد لا يعلمون أنها محرمة بغيضة إلى الله بل قد يظنون أن ذلك محبوب لله مأمور به وقد يظنون أن فيها هذا وهذا وهم في ذلك يتبعون الظن وما تهوي الأنفس وقد يعلمون تحريم ذلك ويظهرون عدم الوجه المحرم خداعا ونفاقا فهؤلاء غير المؤمن الذي يحب الله ورسوله ويأتي بالمحرم معتقدا أنه محرم وهو مبغض له خائف راج
وهذه الأمور توجد في الأقسام الثلاثة ونحن نذكر أمثلة ذلك في المحرمات التي ذكرها الله في قوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فالله سبحانه قد حرم الفواحش كما ذكر
وقد قال تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فلم تبح إلا المرأة التي هي زوج أو ملك يمين وقد ذكر ما اشترطه في الحلال بقوله غير مسافحات ولا متخذات اخدان وقوله غير مسافحين ولا متخذي اخدان
كما في الصحيح عن عائشة قالت كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء وذكرت أصحاب الرايات وهن المسافحات وأن إلحاق النسب في وطئهن كان بالقافة وذكرت التي يطأها جماعة محصورة وأن الإلحاق كان بتعيين المرأة وذكرت نكاح الاستبضاع وهو غير نكاح ذوات الأخدان وذكرت النكاح الرابع وهو النكاح المعروف الذي أحله الله
فالشيطان جعل من الحرام ما فيه مضاهاة من للحلال وان سمي باسم آخر لكن المعنى فيه اشتراك فالله أباح للرجل امرأته ومملوكته وكل من الرجل والمرأة زوج الآخر فذوات الأخدان بينهن وبين أخدانهن نوع ازدواج واقتران كذلك ولهذا ميز الله بين هذا وهذا
وأخفى من ذلك مؤاخاة كثير من الرجال لكثير من النساء أو لكثير من الصبيان وقولهم إن هذه مؤاخاة لله إذا لم تكن المؤاخاة على فعل الفاحشة كذوات الأخدان فهذا الذي يظهرونه للناس الذين يوافقونهم ويقرونهم على ذلك ويرون كلهم أن من أحب صبيا أو امرأة لصورته وحسنه من غير فعل فاحشة فإن هذا محبة لله
فهذا من الضلال والغي وتبديل الدين حيث جعل ما كرهه الله محبوبا لله وهو نوع من الشرك والمحبوب المعظم بذلك طاغوت
وذلك أن اعتقاد أن التمتع بالمحبة والنظر أو نوع من المباشرة إلى المرأة الأجنبية والصبيان هو لله وهو حب في الله كفر وشرك كاعتقاد أن محبة الأنداد حب لله وأن الاجتماع على الفاحشة تعاون على البر والتقوى وأن الإقامة على ذلك بالعبادة هي عبادة لله ونحو ذلك
فاعتقاد أن هذه الأمور التي حرمها الله ورسوله تحريما ظاهرا أنها دين الله ومحبة الله نوع من الشرك والكفر
ثم قد يكون منها من خفيها أشياء تروج على من لم يبلغه العلم كما اشتبه على كثير من العلماء والعباد أن استماع أصوات الملاهي تكون عبادة لله واشتبه على من هو أضعف علما وإيمانا أن التمتع بمشاهدة هذه الصور يكون عبادة لله
ثم بعد هذا الضلال وما فيه من الغي هم أربعة أقسام
قوم يعتقدون أن هذا لله ويقتصرون عليه كما يوجد مثل ذلك في كثير من الأجناد والمتنسكة والعامة
وقوم يعلمون أن هذا ليس لله وإنما يظهرون هذا الكلام نفاقا وخداعا لئلا ينكر عليهم وهؤلاء من وجه أمثل لما يرجي لهم من التوبة ومن جهة أخبث لأنهم يعلمون التحريم ويأتون المحرم
وقوم مقصودهم ما وراء ذلك من الفاحشة الكبرى فتارة يكونون من أولئك الظالمين الذين يعتقدون أن هذه المحبة التي لا وطء فيها لله فيفعلون شيئا لله ويفعلون هذا لغير الله وتارة يكونون من أولئك الغاوين المنافقين الذين يظهرون أن هذه المحبة لله وهم يعلمون أنها للشيطان فيجمع هؤلاء بين هذا الكذب وبين الفاحشة الكبرى وهؤلاء في هذه المخادنة والمؤاخاة يضاهون النكاح فإنه يحصل بين هذين من الاقتران والازدواج ما يشبه اقتران الزوجين ويزيد عليه تارة وينقص عنه تارة وما يشبه اقتران المتحابين في الله والمتآخين في الله لكن الذين آمنوا أشد حبا لله
فالمتحابان في الله يعظم تحابهما ويقوي ويثبت بخلاف هذه المؤاخاة الشيطانية فإنه يترتب عليها أنواع من الفساد ثم هذا قد يظهر وينتشر حتى قد يسمونه زواجا ويقولون تزوج هذا بهذا كما يفعل ذلك بعض المستهزئين بآيات الله من فجار الفساق والمنافقين ويقره الحاضرون على ذلك ويضحكون وربما أعجبهم مثل هذا المزاح
كما أن اعتقاد أن هذه المحبة لله أوجب لمن كان من فجار الفساق والمنافقين أن يقول لهم الأمرد حبيب الله والملتحي عدو الله وذلك يعجبهم ويضحكون منه وحتى اعتقد كثير من المردان أن هذا حق وهو داخل في قول النبي: إذا أحب الله العبد نادي في السماء يا جبريل إني أحب فلانا فيصير يعجبه أن يحب ويعتقد الغاوي أنه محبوب
وذلك أن من فقهاء الكوفة من لا يوجب في اللوطية الحد بل التعزير إلا إذا أسرف فيه فإنه يبيح قتله سياسة ومن الفقهاء من يوجب فيه حد الزني كأشهر قولي الشافعي وإحدي الروايتين عن أحمد وقول أبي يوسف ومحمد وأكثر فقهاء الحجاز وأهل الحديث يوجبون قتلهما جميعا كمذهب مالك وظاهر مذهب أحمد
وزعم بعض الفقهاء أن فجور الرجل بمملوكه شبهة في درء الحد وهو موجب للتعزير كما هو أحد القولين في وطء أمته المحرمة عليه برضاع
أو محرمته وأيضا فالعقوبة بالقتل إنما تكون في حق البالغ وأما الصبي وأمثاله فيجوز قتله إذا قاتل مع الكفار فأما بمجرد فعله هو بنفسه فلا يقتل بل يعاقب بما يزجره
وكذلك النوع الثاني من الحلال وهو ملك اليمين فإن المرأة قد تملك الرجل والرجل قد يملك الصبي وقد يكون في هذا الملك نوع من ملك الرجل الأمة فربما استمتعت المرأة بمملوكها بمقدمات النكاح أو بالنكاح مضاهاة لاستمتاع الرجل بمملوكته وربما تأولت القرآن على ذلك واعتقدت أن ذلك داخل في قوله تعالى أو ما ملكت أيمانهم كما رفع إلى عمر ابن الخطاب امرأة تزوجت عبدها وتأولت هذه الآية ففرق بينهما وأدبه وقال ويحك إنما هذه للرجال لا للنساء
وكذلك كثير من جهال الترك وغيرهم قد يملك من الذكران من يحبهم ويستمتع بهم وقد يتأول بعضهم على ذلك إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ومن المعلوم أن هذا كفر بإجماع المسلمين فالاعتقاد بأن الذكران حلال بملك أو غير ملك باطل وكفر بإجماع المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم
ثم من هؤلاء من يتأول هذه الآية ومنهم من يتأول ولعبد مؤمن خير من مشرك ولا يفرق بين المنكوح والناكح كما سألني مرة بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن ويطلب العلم وقد ظن أن معناها إباحة ذكران المؤمنين
وآخرون قد يجتمع بهم من يقول لهم إن في هذه المسألة خلافا ويكذب أئمة المسلمين الذين لا تكون مذاهبهم ظاهرة في بلاده مثل من يكون بأرض الروم فيكذب على مذهب مالك ويقول هو مباح في مذهب مالك ومنهم من يقول هذا مباح للضرورة مثل أن يبقي الرجل أربعين يوما إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء وكان عندهم من هذه الاعتقادات الفاسدة ألوان مختلفة قد صدتهم عن سبيل الله
ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحد في بعض الصور فيظن أن ذلك خلاف في التحريم فربما قال ذلك أو اعتقده ولا يفرق بين الخلاف على الحد المقدر والتحريم وأن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالدم والميتة ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر
ثم ذلك الخلاف قد يكون قولا ضعيفا فيتولد من ذلك القول الضعيف الذي هو خطأ بعض المجتهدين وهذا الظن الفاسد الذي هو خطأ بعض الجاهلين ومن الكذب الذي هو فرية بعض الظالمين تبديل الدين وطاعة الشياطين وسخط رب العالمين حتى نقل أن كثيرا من المماليك يتمدح بأنه لا يعرف إلا سيده كما تتمدح الأمة بأنها لا تعرف إلا سيدها وزوجها وكذلك كثير من المردان الأحداث يتمدح بأنه لا يعرف إلا خدينه وصديقه ومؤاخيه كما تتمدح المرأة بأنها لا تعرف إلا زوجها وكذلك كثير من الزناة بالمماليك والأحداث من الصبيان قد يتمدح بأنه عفيف عما سوي خدنه الذي هو قرينه كالزوجة أو عما سوي مملوكه الذي هو قرينه كما يتمدح المؤمن بأنه عفيف إلا عن زوجته أو ما ملكت يمينه
ولا ريب أن الكفر والفسوق والعصيان درجات كما أن الإيمان والعمل الصالح درجات هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون وقد قال تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر وقال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقال تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم كما قال تعالى يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت وقال وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا كما قال تعالى والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل
فالمتخذ خدنا من الرجل والنساء أقل شرا من المسافح لأن الفساد في ذلك أقل والمستخفي بما يأتيه أقل إثما من المجاهر المستعلن كما في الحديث عن النبي أنه قال من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله
وقد قال من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة
وفي الحديث إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت الجماعة
وفي الحديث عن النبي أنه قال كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب وقد ستره الله فيصبح فيتحدث بذنبه ويقول يا فلان فعلت الليلة كيت وكيت أو كما قال
فالإقلال والاستخفاء خير من هذه الوجوه ولكن قد يقترن بها ما يكون أعظم من بعض المسافحة والمجاهرة وهي المحبة والتعظيم التي توجب محبة ما يحبه الخدن وتعظيم ما يعظمه وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه والاستسرار بذلك والنفاق فيه فقد تكون في هذه الموالاة والمعاداة والنفاق من العدوان والضرر على المسلمين أعظم مما في المجاهرة والمسافحة ويكون ذلك بمنزلة الكافر المعلن كفره وهذا بمنزلة المنافق فأما إذا لم يكن عدوان على الناس وتضييع لحقوقهم لانتفاء المحبة أو لغير ذلك فالأول أخبث وأفحش وتفاوت الشرور في القدر والصفة كثير كما يتفاضل الخير أيضا في القدر والوصف والواجب استعمال الكتاب والسنة في جميع الأمور
ولا ريب أن هذه المخادنة وملك اليمين ونحو ذلك مما فيه اشتراك في محرم مضاد للحلال لا بد أن يتضمن من المباح ما يصير فيه من الشبه بالحلال ومن التمييز عن الحرام ما يكون فيه رواج له إذ الحرام المحض المحض من كل وجه لا يشتبه بالحلال المحض من كل وجه بل بقتني الرجل المملوك لنوع من الاستخدام ويضم إلى ذلك الاستمتاع وقد يكون هذا أغلب في نفسه من الآخر وقد يكون بالعكس وذلك الاستخدام قد يكون مباحا في الشريعة وقد يكون فيه نوع من الظلم والعدوان إما باسترقاق الأحرار وإما باشتراء المماليك لنفسه بالمال المغصوب من بيت المال أو غيره وإما في استخدامهم على وجه الكبرياء والعلو في الأرض بإذلاله لهم في غير طاعة الله وإذلال الناس بهم في غير طاعة الله إلى أمثال ذلك من الوجوه التي يكون فيها من الظلم والعدوان أمور عظيمة وينضم إلى ذلك الفاحشة
وكذلك في المخادنة التي صورتها مؤاخاة قد تكون لأجل الاستئجار لصناعة ونحوها وقد تكون لتعلم صناعة أو كتابة أو قراءة أو علم أو تأديب وتنوير وغير ذلك من الأمور المباحة والمستحبة والواجبة في الدين وقد تكون لكفالة وتربية إما ليتم ذلك الصبي أو غربته أو لقرابة بينهما أو غير ذلك وقد يكون اشتراكا محضا في صناعة أو تجارة أو بحمل مال أو مجاورة وصلة أو تعلم أو تأدب أو غير ذلك مما يشترك الناس فيه لغير فاحشة بشركة مباحة أو مأمور بها أو منهي عنها ويكون بينهم في ذلك من التعاقد والتحالف ما يكون بين المشتركين في الأمور وقد يسمي ذلك صديقا ورفيقا وسمي بالتركية خوشداشا وغير ذلك وهو من قسم التحالف فيكون بين المشتركين في الحلال والحرام من المعاوضة والمشاركة إما على غير فاحشة وإما معاوضة بتلك فتكون شبهة مع الشهوة فغالب وقوع المحرمات من هذا الباب وقد لبس فبه الحق بالباطل وأشرك فيه الحق بالباطل
موقف المؤمن من الشرور والخيرات وما يجب عليه حيالها
والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة ليقدم ما هو أكثر خيرا وأقل شرا على ما هو دونه ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح
وإذا عرف ذلك فلا بد أن يقترن بعلمه العمل الذي أصله محبته لما يحبه الله ورسوله وبغضه لما يبغضه الله ورسوله وما اجتمع فيه الحبيب والبغيض المأمور به والمنهي عنه أو الحلال والمحظور أعطي كل ذي حق حقه ليقوم الناس بالقسط فإن الله بذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل فالعلم بالعدل قبل فعل العدل
فإذا علم وأحب كان من تمامه الجهاد عليه كما قال تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس والعلم هو طريق إلى العمل وسبب كما قيل في قوله تعالى وآتيناه من كل شيء سببا أي علما
فالعلم بالخير سبب إلى فعله والعلم بالشر سبب إلى منعه هذا مع حسن النية وإلا فالنفس الأمارة بالسوء قد يكون علمها بالسوء سبب لفعله وبالخير سبب لمنعه وكذلك الإثم والبغي بغير الحق مثل الخمر الذي اتخذ منه أنواع من المسكرات وقيل إنها حلال وسميت بغير أسماء الخمر وهي من الخمر
وكذلك ظلم العباد في النفوس والأموال والأعراض فيه ما قد سمي حقا وعدلا وشرعا وسياسة وجهادا في سبيل الله وهو من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يحصيه إلا الله وكذلك الإشراك بالله بغير حق والقول بما لا يعلم مثل أنواع الغلو في الدين واتخاذ العلماء والعباد أربابا من دون الله والقول بتحريم الحلال وتحليل الحرام وأنواع الإشراك بالمخلوقات عبادة لها واستعانة بها وغلوا فيها وقولا على الله في أسمائه وصفاته وأحكامه ما قد دخل في ذلك من الباطل الذي سمي بأسماء محمودة أو غير مذمومة كالعبادة والزهادة والتحقيق وأصول الدين والفقه والعلم والتوحيد والكلام والفقر والتصوف ما لا يحصيه إلا الله
ومما ينبغي أن يعرف أن كل تبديل يقع في الأديان بل كل اجتماع في العالم لا بد فيه من التحالف وهو الاتفاق والتعاقد على ذلك من اثنين فصاعدا
بنو آدم لا يمكن عيشهم إلا بالتعاقد والتحالف
فإن بني آدم لا يمكن عيشهم إلا بما يشتركون فيه من جلب منفعتهم ودفع مضرتهم فاتفاقهم على ذلك هو التعاقد والتحالف
ولهذا كان الوفاء بالعهود من الأمور التي اتفق أهل الأرض على إيجابها لبعضهم على بعض وإن كان منهم القادر الذي لا يوفي بذلك كما اتفقوا في إيجاب العدل والصدق فإذا اتفقوا وتعاقدوا على اجتلاب الأمر الذي يحبونه ودفع الأمر الذي يكرهونه أعان بعضهم بعضا على اجتلاب المحبوب ونصر بعضهم بعضا على دفع المكروه ولو لم يتعاقدوا بالكلام فنفس اشتراكهم في أمر يوجب عليهم اجتلاب ما يصلح ذلك الأمر المشترك ودفع ما يضره كأهل النسب الواحد وأهل البلد الواحد فإن التناسب والتجاور يوجب التعاون على جلب المنفعة المشتركة ودفع الضرر المشترك
فصار الاشتراك بينهم تارة يثبت بفعلهم وهو التعاقد على ما فيه خيرهم وتارة يثبت بفعل الله تعالى وقد جمع الله عز وجل هذين الأصلين في قوله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام وذكر في هذه السورة الأمور التي بينهم من جهة الخلق وهي من جهة العقود كما قال تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا
وقال تعالى الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل
وقال تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل
وإذا كان لا بد في كل ما يشتركون فيه من تحالف وغير تحالف من التعاون على جلب المحبوب والتناصر لدفع المكروه فالمحبوب هو الموالي والمكروه هو المعادي فلا بد لكل بني آدم من ولاية وعداوة ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والسماحة فإن السماحة إعانة على وجود المحبوب بالأموال والمنافع وغير ذلك والشجاعة نصر لدفع المكروه بالقتال وغيره ولا قوام لشيء من أمور بني آدم إلا بذلك ومبني ذلك بينهم على العدل في المشاركات والمعاوضات
فظهر أن جميع أمور بني آدم لا بد فيها من تعاون بينهم ودفع ومنع لغيرهم فلا بد لهم من عقد وقدرة والعقد أصله الإرادة كما قال تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به أى يتعاهدون ويتعاقدون والقدرة القدرة
ومعلوم أنه لا بد في كل فعل من إرادة وقدرة والمشتركون لا بد من اتفاقهم في إرادة وفي قدرة فالذي يناله بعضهم من جلب محبوب ودفع مكروه من بعض هو بالإرادة والطوع والذي ينالونه من غيرهم من جلب محبوب ودفع مكروه وهو بالقدرة على ذلك العدو المكروه منه كما أن الوطء بملك النكاح الذي هو عقد أصله الإرادة والطوع وبملك اليمين الذي هو قهر بالقدرة على سبيل الكره واشتراكهم في الجلب والدفع إما أن يكون تبعا لتعاقدهم وإما أن يكون بأمر آمر مطاع فيهم فالأول هو التحالف والثاني ما يطاع بغير تحالف سواء كانت طاعته بحق أو بغير حق
فالذي بحق ما أمر الله بطاعته من أنبياءه وأولي الأمر من المؤمنين وطاعة الوالدين ونحو ذلك وما يجاب به بعضهم إلى مراد بعض بحق فإن ذلك هو معنى الطاعة إذ المقصود بها موافقة المطلوب
وأما بغير حق فكطاعة الطواغيت وهو كل ما عظم بباطل
التحالف يكون وفقا الشريعة منزلة أو شريعة غير منزلة أو سياسة
وكل قوم لا تجمعهم طاعة مطاع في جميع أمورهم فلا بد لهم من التعاقد والتحالف فيما لم يأمرهم به المطاع
ولهذا كانت الشريعة المنزلة من عند الله الأفعال فيها التي تجب لله وتجب لبعض الناس على بعض تارة تجب بإيجاب الله وتارة تجب بالعقد كالنذر وكعقود المفاوضات والمشاركات فلا واجب في الشريعة إلا بشرع أو عقد
وإذا لم يكونوا على شريعة منزلة من عند الله فإما أن يكونوا على شريعة غير منزلة أو سياسة وضعها بعض المعظمين فيهم بنوع قدرة وعلم ونحو ذلك وما بقدرة من هذه الأمور الجامعة أوجب التحالف بينهم فإنه لا ينتظم لهم أمر إلا بطاعة آمر متحالفون عليه أو يأمرهم به من يطيعونه ولهذا أنكر التحالف في الأمم الخارجة عن الشريعة وفي الخارجين عنها وفي الأمور التي لا ترد إلى الشريعة وإنما يظهر ذلك حيث تدرس آثار النبوة المطاعة فيتحالف قوم على طاعة ملك أو شيخ أو طاعة بعضهم لبعض في أمور يتفقون عليها ويتحالفون كما كان العرب في جاهليتهم يتحالفون ومنه الحليف الذي يكون في القبيلة فيصير منهم
قال الله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا
وقال تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون
وكذلك ما يوجد من التحالف بالتآخي وغير التآخي للملوك والمشايخ وأهل الفتوة ورماة البندق وسائر المتفقين على بعض الأمور هو داخل في هذا وأيمان التعاقد والتحالف عام لبني آدم وهم في جاهليتهم تارة يتحالفون تحالفا يحبه الله كما قال النبي لقد شهدت حلفا مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان ما يسرني بمثله حمر النعم أو قال ما يسرني حمر النعم وأن أنقضه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت
وفى مثل هذا ما رواه مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي أنه قال: لا حلف فى الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة
وهذا الحلف يسمي حلف المطيبين كان يقدم إلى مكة من يظلمه بعض أكابرها فيستصرخ فلا ينصره أحد حتى أنشد بعض القادمين
يا آل مكة مظلوم بضاعته... ببطن مكة بين الركن والحجر
وكان عبد الله بن جدعان من خيارهم فاجتمعت قبائل من قريش في بيته على التحالف للتعاون على العدل ونصر المظلوم ووضعوا أيديهم في قصعة فيها طيب فسمى حلف المطيبين
فأما إذا كان القول على الشريعة التى بعث الله بها رسوله فى دينهم ودنياهم فإن ذلك يغنيهم عن التحالف إلا عليها فعليها يكون تحالفهم وتعاقدهم وتعاونهم وتناصرهم كما وصف الله به المحبين المحبوبين في قوله تعالى فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم
وعلى ذلك يبايع المطاعون فيهم من الأمراء والعلماء وغيرهم كما قال أبو بكر الصديق في خطبته للمسلمين أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم
وبذلك أمر الله ورسوله في طاعة أولى الأمر فقال النبي على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه ما لم يؤمر بمعصية الله فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة وقال النبي إنما الطاعة في المعروف ولا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق
وفى الصحيح أن عبد الله بن عمر كتب بيعته إلى عبد الملك بن مروان لما اجتمع الناس عليه لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إنى قد أقررت لك بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت وقد أقر بنى لما أقررت به فأخبره أنه يعاقده على ما أمر الله به من الطاعة له في طاعة الله بحسب قدرته وهذا واجب عليه بالشرع فهو تعاقد على ما أمر الله بمنزلة نفس الدخول فى الإسلام وبيعة النبي كما بايعه الأنصار وكما بايعه المسلمون تحت الشجرة وكما كان يبايع المسلمين على السمع والطاعة ويلقنهم فيما استطعتم
وطاعة الرسول واجبة على الخلق بإيجاب الله بمعاقدتهم على ذلك معاقدة على طاعة الله كما قال تعالى وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
لكن هذا إنما كان ظاهرا فى أيام الخلفاء الراشدين وبعدهم كثرت العقود الموافقة للشريعة تارة والمخالفة لها أخري فلا جرم كان الحكم العام في جميع هذه العقود أنه يجب الوفاء فيها بما كان طاعة لله ولا يجوز الوفاء فيها بما كان معصية لله كما قال النبي في الأحاديث الصحيحة ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق وقال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه وفي السنن المسلمون على شرطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا
فأما أمر الدين وما يحبه الله ويقرب إليه فليس لعقود بنى آدم فيه أثر بل المرجع في ذلك إلى أمر الله ورسوله فلا دين إلا ما أمر الله به ومن اتبع في ذلك عقود بنى آدم فهم الذين اتبعوا شركاءهم الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن الله به وهذه حال جميع ما ابتدع من الدين فإن الذي ابتدعه وافقه عليه غيره وحالفه فاتخذوه دينا فتدين هذا فيه يظهر حال جميع أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة وأن الموافقة عليها هى من هذا الباب
وأكثر ما ينفق بين المسلمين ما فيه حق وباطل إذ الباطل المحض لا يبقى بينهم وذلك يتضمن التحالف على غير ما أمر الله به والتبديل لدين الله بما لبس من الحق بالباطل وهذه حال اليهود والنصارى وسائر أهل الضلال فإنهم عدلوا عما أمرهم الله باتباعه فلبسوه بباطل ابتدعوه بدلوا به دين الله وتحالفوا على ذلك الذى ابتدعوه
وأما المعاملات في الدنيا فالأصل فيها أنه لا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله فلا حرام إلا ما حرم الله ولا دين إلا ما شرعه وإذا لم يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله فكأن ما كان بدله بدون التعاقد يجب بالتعاقد فإن العقد يوجب على كل واحد من المتعاوضين والمتشاركين ما أوجبه الآخر على نفسه له
النبى المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا النبى
ولهذا قال النبي المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا
وهذا الموضع كثر فيه غلط كثير من الفقهاء بتحريم عقود وشروط لم يحرمها الله كما كثر فى الأول غلط كثير من العباد والعلماء بابتداع دين لم يشرعه الله وإيجابه بالتعاقد عليه حتى يوجبون طاعة شخص معين ميت أو حى من العلماء في كل شئ ويحرمون طاعة غيره في كل شئ نازعه فيه لمجرد عقد العامى الذي انتسب إلى هذا دون هذا
وكذلك في المشايخ حتى قد يأمرونه بمخالفه ما تبين له من الشريعة لأجل العقد الذى التزمه للمذهب والطريقة فيشترطون شروطا ليست في كتاب الله ويأمرون بطاعة المخلوق في معصية الخالق وأكثر ذلك يدخله نوع من الاجتهاد الظاهر الذي فيه نوع من اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى
والواجب في جميع هذه الأمور أن ما يتبين أنه طاعة لله ورسوله وجب اتباعه وما اشتبه على الإنسان حاله سلك فيه مسلك الاجتهاد بحسب قدرته ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها واجتهاد العامة هو طلبهم للعلم من العلماء بالسؤال والاستفتاء بحسب إمكانهم
فإذا كان جميع ما عليه بنو آدم لابد فيه من تعاون وتناصر وفيه ما هو شرك بالله وفيه ما هو قول على الله بغير علم وفيه ما هو إثم وبغى وفيه ما هو من الفواحش علم أنه لابد في الإيمان من التعاون والتناصر على فعل ما يحبه الله تعالى ودفع ما يبغضه الله تعالى وهذا هو الجهاد في سبيله وأن أمر الإيمان لا يتم بدون ذلك كما لا يتم غير الإيمان إلا بما هو من نوع ذلك
فكل المتعاونين المتناصرين يجاهدون ولكن في سبيل الله تارة وفي سبيل غير الله تارة ولا صلاح لبنى آدم إلا بأن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هى العليا
قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله وهؤلاء الذين تولوا الله فتولاهم الله والذين يدينون لغير الله هم ظالمون بتولى بعضهم بعضا كما قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولى المتقين
ولا يتم لمؤمن ذلك إلا بأن يجمع بين ما جمع الله بينه ويفرق بين ما فرق الله بينه وهذه حقيقة الموالاة والمعاداة التي مبناها على المحبة والبغضة
فالموالاة تقتضى التحاب والجمع والمعاداة تقتضى التباغض والتفرق والله سبحانه قد ذكر الموالاة والجمع بين المؤمنين فقولة تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وذكر العداوة بينهم وبين الكفار فقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين ثم ذكر حال المستنصرين بهم فإن الموالاة موجبها التعاون والتناصر
فلا يفرق بين المؤمنين لأجل ما يتميز به بعضهم عن بعض مثل الأنساب والبلدان والتحالف على المذاهب والطرائق والمسالك والصداقات وغير ذلك بل يعطى كل من ذلك حقه كما أمر الله ورسوله ولا يجمع بينهم وبين الكفار الذين قطع الله الموالاة بينهم وبينه فإن دين الله هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
والله سبحانه أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فيحتاج المؤمن إلى معرفة العدل وهو الصراط المستقيم وإلى العمل به وإلا وقع إما في جهل وإما في ظلم
وذلك إنما وقع من التبديل والعقود الفاسدة كما ذكرنا من لبس الحق بالباطل حيث صارت المحرمات من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والإشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا والقول على الله بغير علم قد لبس بها من الحق المأذون فيه ما صارت بسببه شبيهة للحق الحسن وإن كانت مشتملة مع ذلك على الباطل السيئ وإن صار أصحابها بين عمل صالح وآخر سيئ فقوم ينكرون ذلك كله لما علموا فيه من المنكر البغيض وأقوام يقرون ذلك كله لما فيه من المحبوب
وهذه القاعدة قد ذكرناها غير مرة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والثواب والعقاب في حق الشخص الواحد كما عليه أهل جماعة المسلمين من جميع الطوائف إلا من شذ عنهم من الخوارج والوعيدية من المعتزلة ونحوهم وغالب المرجئة
فإن هؤلاء ليس للشخص عندهم إلا أن يثاب أو يعاقب محمود من كل وجه أو مذموم من كل وجه وقد بينا فساد هذا في غير هذا الموضع بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وذكرنا أيضا الكلام في الفعل الواحد نوعا وشخصا
والغرض هنا أن هؤلاء الذين لبسوا الحق والباطل حصل في مقابلتهم من أعرض عن الحق والباطل جميعا فصار هؤلاء مذمومين على فعل السيئات محمودين على فعل الحسنات وأولئك يذمون على ترك الحسنات الواجبات ويمدحون على ما قصدوا تركه لله من السيئات
وسبب ذلك أن الإنسان فيه ظلم وجهل فإذا غلب عليه رأى أو خلق استعمله في الحق والباطل جميعا لم يحفظ حدود الله ولهذا يأمر الله بحفظ حدوده
مثال ذلك أن من الناس من يكون في خلقه سماحة ولين ومحبة فيسمح بمحبته وبتعظيمه ونفعه وماله للحسن الذي يحبه الله ويأمر به كمحبة الله ورسوله وأوليائه المؤمنين والإنفاق في سبيله ونحو ذلك ويسمح أيضا بمحبة الفواحش والإنفاق فيها فتجده يحب الحق والباطل جميعا ويصدق بهما ويعين عليهما
ومنهم من يكون في خلقه قوة فيمتنع من فعل الفواحش ويبغضها ويمتنع مع ذلك من محبة نفع الناس والإحسان إليهم والحلم عن سيئاتهم فتجده يبغض الحق والباطل جميعا ويكذب بهما ولا يعين على واحد منهما بل ربما صد عنهما
وذلك لأن النفس أمارة بالسوء والشيطان يزين للمرء سوء عمله فيراه حسنا وهو متبع هواها وما فيها من العلم والإيمان يدعوه إلى الخير حتى تذهب الحسنات بالسيئات وإنما يفعل من الحسنات ما أقبلت عليه إرادته ومحبته دون ما أبغضته
وفي الإنسان قوتان قوة الحب وقوة البغض وإنما خلق ذلك فيه ليحب الحق الذي يحبه الله ويبغض الباطل الذي يبغضه الله وهؤلاء هم الذين يحبهم الله ويحبونه
والنفس تميل إلى الإشراك بحسب الإمكان فإذا غلب على النفوس قوة المحبة لما يناسبها فأحبت الحق فقد تنجذب بسبب ذلك إلى محبة ما يقارنه من الباطل
ومن هنا مال كثير من النساك إلى محبة الأصوات والصور وغير ذلك بسبب ما فيهم من المحبة التي فيها ما هو لله لكن لبسوا فيها الحق بالباطل وكذلك قد يكون الشخص بالمحبة يميل إلى شهوات الغي في بطنه وفرجه وإنفاق الأموال فيها ثم إنه بسبب ما فيه من الحب والدين يحب الحق وأهله ويعظمهم فتجد كثيرا من أهل الشهوات وفيهم من المحبة لله ورسوله ما لا يوجد في كثير من النساك كما قال النبي في خمار الذي كان يشرب الخمر كثيرا لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله والحديث في صحيح البخاري وغيره
فصل: المقصود الأول من كل عمل هو التنعم واللذة
وإذا كان كل عمل أصله المحبة والإرادة والمقصود منه التنعم بالمراد المحبوب فكل حى إنما يعمل لما فيه تنعمه ولذته فالتنعم هو المقصود الأول من كل قصد كما أن التعذب والتألم هو المكروه أولا وهو سبب كل بغض وكل حركة امتناع لكن وقع الجهل والظلم في بنى آدم فعمدوا إلى الدين الفاسد والدنيا الفاجرة طلبوا بهما النعيم وفي الحقيقة فإنما فيهما ضده
وبيان ذلك أن الأعمال التي يعملها جميع بني آدم إما أن يتخذونها دينا أو لا يتخذونها دينا والذين يتخذونها دينا إما أن يكون الدين بها دين حق أو دين باطل فنقول النعيم التام هو في الدين الحق
النعيم التام هو في الدين الحق
فأهل الدين الحق هم الذين لهم النعيم الكامل كما أخبر الله بذلك في كتابه في غير موضع كقوله الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
وقوله عن المتقين المهتدين أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون
وقوله تعالى فأما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمي قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى
وقوله تعالى فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم
ووعد أهل الإيمان والعمل الصالح بالنعيم التام في الدار الآخرة ووعد الكفار بالعذاب التام في الدار الآخرة أعظم من أن يذكر هنا وهذا مما لم ينازع فيه أحد من أهل الإسلام
من الخطأ الظن بأن نعيم الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور
ولكن تذكر هنا نكتة نافعة وهو أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من المصائب وما يصيب كثيرا من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلا وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين وأن العاقبة للتقوى وقول الله تعالى وإن جندنا لهم الغالبون وهو ممن يصدق بالقرآن حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط وقال أما الدنيا فما نري بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ولهم العزة والنصرة والقرآن لا يرد بخلاف المحسوس ويعتمد على هذا فيما إذا أديل أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق فيقول أنا على الحق وأنا مغلوب وإذا ذكره إنسان بما وعده الله من حسن العاقبة للمتقين قال هذا في الآخرة فقط وإذا قيل له كيف يفعل الله بأوليائه مثل هذه الأمور قال يفعل ما يشاء وربما قال بقلبه أو لسانه أو كان حاله يقتضى أن هذا نوع من الظلم وربما ذكر قول بعضهم ما على الخلق أضر من الخالق لكن يقول يفعل الله ما يشاء وإذا ذكر برحمة الله وحكمته لم يقل إلا أنه يفعل ما يشاء فلا يعتقدون أن صاحب الحق والتقوى منصور مؤيد بل يعتقدون أن الله يفعل ما يشاء
وهذه الأقوال مبنية على مقدمتين إحداهما حسن ظنه بدين نفسه نوعا أو شخصا واعتقاد أنه قائم بما يجب عليه وتارك ما نهي عنه في الدين الحق واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك أن دينه باطل نوعا أو شخصا لأنه ترك المأمور وفعل المحظور
والمقدمة الثانية أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا فلا ينبغى الاغترار بهذا
المؤمن يطلب نعيم الدنيا والنعيم التام في الآخرة
ومن المعلوم أن العبد وإن أقر بالآخرة فهو يطلب حسن عاقبة الدنيا فقد يطلب ما لا بد منه من دفع الضرر وجلب المنفعة وقد يطلب من زيادة النفع ودفع الضرر ما يظن أنه مباح فإذا اعتقد أن الدين الحق قد ينافي ذلك لزم من ذلك إعراض القلب عن الرغبة في كمال الدين الحق وفي حال السابقين والمقربين بل قد يعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين فيدخل مع الظالمين بل قد يكفر ويصير من المرتدين المنافقين أو المعلنين بالكفر وإن لم يكن هذا في أصل الدين كان في كثير من أصوله وفروعه كما قال النبي يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا أو يمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا وذلك إذا اعتقد أن الدين لا يحصل إلا بفساد دنياه ولذلك فإنه يفرح بحصول الضرر له ويرجو ثواب ضياع ما لا بد له من المنفعة
وهذه الفتنة التى صدت أكثر بنى آدم عن تحقيق الدين وأصلها الجهل بحقيقة الدين وبحقيقة النعيم الذي هو مطلوب النفوس في كل وقت إذ قد ذكرنا أن كل عمل فلا بد فيه من إرادة به لطلب ما ينعم فهناك عمل يطلب به النعيم ولا بد أن يكون المرء عارفا بالعمل الذى يعمله وبالنعيم الذي يطلبه
ثم إذا علم هذين الأصلين فلابد أن تكون فيه إرادة جازمة على العمل بذلك وإلا فالعلم بالمطلوب وبطريقه لا يحصلان المقصود إلا مع الإرادة الجازمة والارادةالجازمة لا تكون إلا مع الصبر ولهذا قال سبحانه وتعالى والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون
فاليقين هو العلم الثابت المستقر والصبر لابد منه لتحقيق الإرادة الجازمة
والمقدمتان اللتان التي بنيت عليهما هذه البلية مبناهما على الجهل بأمر الله ونهيه وبوعده ووعيده فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور تارك للمحظور وهو على العكس من ذلك وهذا يكون من جهله بالدين الحق
من الخطأ الاعتقاد أن الله ينصر الكفار في الدنيا ولا ينصر المؤمنين
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين ولأهل الفجور على أهل البر فهذا من جهله بوعد الله تعالى
أما الأول فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها بل ما أكثر من يعبد الله بما حرم ويترك ما أوجب وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه وأنه خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه ولا يكون الأمر كذلك بل يكون معه نوع من الباطل والظلم ومع خصمه نوع من الحق والعدل
وحبك الشيء يعمي ويصم والإنسان مجبول على محبة نفسه فهو لا يرى إلا محاسنها ومبغض لخصمه فلا يرى إلا مساوئه وهذا الجهل غالبه مقرون بالهوى والظلم فإن الإنسان ظلوم جهول
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم وتقليدهم في التصديق والتكذيب والحب والبغض والموالاة والمعاداة
كما قال تعالى وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير وقال تعالى يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا
وقال تعالى وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب
وأما الثاني فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين بما فيه بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخري وسبيل آخر ويكذب بوعد الله بنصرهم
والله سبحانه قد بين بكتابه كلا المقدمتين فقال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
وقال تعالى في كتابه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون
وقال تعالى في كتابه إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم
وقال تعالى إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب الله لأغلبن أنا ورسلى إن الله قوى عزيز
وقال تعالى في كتابه إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
وذم من يطلب النصرة بولاء غير هؤلاء فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فتري الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهولاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
وقال تعالى في كتابه بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا
وقال تعالى في كتابه يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون
وقال تعالى في كتابه من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور
وقال في كتابه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا
وقال تعالى في كتابه يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخري تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسي ابن مريم للحواريين من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بنى إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين
وقال تعالى في كتابه يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة
وقال تعالى في كتابه ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا
وقال تعالى في كتابه هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر إلى قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب
وقال تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين
وقال تعالى لما قص قصة نوح وهى نصرة على قومه في الدنيا فقال تعالى تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين
وقال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا إلى قوله وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط
وقال تعالى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين
وقال يوسف وقد نصره الله في الدنيا لما دخل عليه إخوته قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخى قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين
وقال تعالى في كتابه يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم
وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا
وقد روي عن أبى ذر عن النبي أنه قال: لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم.
رواه ابن ماجه وغيره
وأخبر أن ما يحصل له من مصيبة انتصار العدو وغيرها إنما هو بذنوبهم فقال تعالى في يوم أحد أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم
وقال تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم
وقال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير
وقال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
وقال تعالى وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم
وقال تعالى أو يوبقهن بما كسبوا
وذم في كتابه من لا يثق بوعده لعباده المؤمنين وذكر ما يصيب الرسل والمؤمنين فقال تعالى إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا واذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعوره إن يريدون إلا فرارا ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا
وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب
وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون
ولهذا أمر الله رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم وهو طاعته وهو المقدمة الأولى وأمرهم بانتظار وعده وهى المقدمة الثانية وأمرنا بالاستغفار والصبر لأنهم لابد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار ولابد مع انتظار الوعد من الصبر فبالاستغفار تتم الطاعة وبالصبر يتم اليقين بالوعد إن كان هذا كله يدخل فى مسمى الطاعة والإيمان
قال تعالى واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين
وقال تعالى ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين
وقال تعالى فاصبر إن العاقبة للمتقين
وأمرهم أيضا بالصبر إذا أصابتهم مصيبة بذنوبهم مثل ظهور العدو وكما قال تعالى فى قصة أحد ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب
الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين
وأيضا فقد قص سبحانه فى كتابه نصره لرسله ولعباده المؤمنين على الكفار فى قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون وغير ذلك وقال تعالى لقد كان فى قصصهم عبرة لأولى الألباب وقال تعالى ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم
ما سبق يتبين بأصلين: الأصل الأول: حصول النصر وغيره من أنوع النعيم لا ينافي وقوع القتل أو الأذى
وهذا يتبين بأصلين أحدهما أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه ومن أنواع الأذى وذلك أن الخلق كلهم يموتون فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبنى آدم فمن عد القتل في سبيل الله مصيبة مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس بل الفتن التي تكون بين الكفار وتكون بين المختلفين من أهل القبله ليس مما يختص بالقتال فإن الموت يعرض لبني آدم بأسباب عامة وهي المصائب التي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وغيره ومن جوع وغيره وبأسباب خاصة فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما يصيب من لا يقاتل بل الأمر بالعكس كما قد جربه الناس
ثم موت الشهيد من أيسر الميتات ولهذا قال سبحانه وتعالى قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا
فأخبر سبحانه أن الفرار من القتل أو الموت لا ينفع فلا فائدة فيه وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا إذ لا بد من الموت
وأخبر أن العبد لا يعصمه من الله أحد إن أراد به سوءا أو أراد به رحمة وليس له من دون الله ولي ولا نصير فأين نفر من أمره وحكمه ولا ملجأ منه إلا إليه قال تعالى ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين وهذا أمر يعرفه الناس من أهل طاعة الله وأهل معصيته كما قال أبو حازم الحكيم لما يلقي الذي لا يتقي الله من معالجه الخلق أعظم مما يلقاه الذي يتقي الله من معالجة التقوى
والله تعالى قد جعل أكمل المؤمنين إيمانا أعظمهم بلاء كما قيل للنبي أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلي الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة
ومن هذا أن الله شرع من عذاب الكفار بعد نزول التوراة بأيدي المؤمنين في الجهاد ما لم يكن قبل ذلك حتى إنه قيل لم ينزل بعد التوراة عذاب عام من السماء للأمم كما قال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون
فإنه قبل ذلك قد أهلك قوم فرعون وشعيب لوط وعاد وثمود وغيرهم ولم يهلك الكفار بجهاد المؤمنين ولما كان موسى أفضل من هؤلاء وكذلك محمد وهما الرسولان المبعوثان بالكتابين العظيمين كما قال تعالى إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا وقال تعالى قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتى موسى من قبل إلى قوله قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه
وأمر الله هذين الرسولين بالجهاد على الدين وشريعة محمد أكمل فلهذا كان الجهاد في أمته أعظم منه في غيرهم
قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
وقال تعالى ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض
وقال تعالى للمنافقين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا
فالجهاد للكفار أصلح من هلاكهم بعذاب سماء من وجوه أحدها أن ذلك أعظم في ثواب المؤمنين وأجرهم وعلو درجاتهم لما يفعلونه من الجهاد في سبيل الله لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله
الثاني أن ذلك أنفع للكفار أيضا فإنهم قد يؤمنون من الخوف ومن أسر منهم وسيم من الصغار يسلم أيضا وهذا من معنى قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس قال أبو هريرة وكنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة فصارت الأمة بذلك خير أمة أخرجت للناس وأفلح بذلك المقاتلون وهذا هو مقصود الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهذا من معنى كون محمد ما أرسل إلا رحمة للعالمين فهو رحمة في حق كل أحد بحسبه حتى المكذبين له هو في حقهم رحمة أعظم مما كان غيره
ولهذا لما أرسل الله إليه ملك الجبال وعرض عليه أن يقلب عليهم الأخشبين قال لا استأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له
الوجه الثالث أن ذلك أعظم عزة للإيمان وأهله واكثر لهم فهو يوجب من علو الإيمان وكثرة أهله ما لا يحصل بدون ذلك وأمر المنافقين والفجار بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو من تمام الجهاد وكذلك إقامة الحدود
ومعلوم أن في الجهاد وإقامة الحدود من إتلاف النفوس والأطراف والأموال ما فيه فلو بلغت هذه النفوس النصر بالدعاء ونحوه من غير جهاد لكان ذلك من جنس نصر الله للأنبياء المتقدمين من أممهم لما أهلك نفوسهم وأموالهم
وأما النصر بالجهاد وإقامة الحدود فذلك من جنس نصر الله لما يختص به رسوله وإن كان محمد وأمته منصورين بالنوعين جميعا لكن يشرع في الجهاد باليد ما لا يشرع في الدعاء
الأصل الثاني: التنعم إما بالأمور الدنيوية وإما بالأمور الدينية:
وأما الأصل الثاني فإن التنعم إما بالأمور الدنيوية وإما بالأمور الدينية
فأما الدنيوية فهي الحسية مثل الأكل والشرب والنكاح واللباس وما يتبع ذلك والنفسية وهي الرياسة والسلطان
فأما الأولي فالمؤمن والكافر والمنافق مشتركون في جنسها ثم يعلم أن التنعيم بها ليس هو حقيقة واحدة مستوية في بنى آدم بل هم متفاوتون في قدرها ووصفها تفاوتا عظيما
فإن من الناس من يتنعم بنوع من الأطعمة والأشربة الذي يتأذي بها غيره إما لاعتياده ببلده وإما لموافقته مزاجه وإما لغير ذلك
ومن الناس من يتنعم بنوع من المناكح لا يحبها غيره كمن سكن البلاد الجنوبية فإنه يتنعم بنكاح السمر ومن سكن البلاد الشمالية فإنه يتنعم بنكاح البيض
وكذلك اللباس والمساكن فإن أقواما يتنعمون من البرد بما يتأذي به غيرهم وأقواما يتنعمون من المساكن بما يتأذي به غيرهم بحسب العادة والطباع
وكذلك الأزمنة فإنه في الشتاء يتنعم الإنسان بالحر وفي الصيف يتنعم بالبرد
وأصل ذلك أن التنعم في الدنيا بحسب الحاجة إليها والانتفاع بها فكل ما كانت الحاجة أقوي والمنفعة أكثر كان التنعم واللذة أكمل والله قد أباح للمؤمنين الطيبات
فالذين يقتصدون في المآكل نعيمهم بها أكثر من نعيم المسرفين فيها فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقي لهذا عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها وتكثر أمراضهم بسببها
وأما الدين فجماعه شيئان تصديق الخبر وطاعة الأمر
ومعلوم أن التنعم بالخبر بحسب شرفه وصدقه والمؤمن معه من الخبر الصادق عن الله وعن مخلوقاته ما ليس مع غيره فهو من أعظم الناس نعيما بذلك بخلاف من يكثر في أخبارهم الكذب
وأما طاعة الأمر فإن من كان ما يؤمر به صلاحا وعدلا ونافعا يكون تنعمه به أعظم من تنعم من يؤمر بما ليس بصلاح ولا عدل ولا نافع
وهذا من الفرق بين الحق والباطل فإن الله سبحانه يقول في كتابه الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم
وقال والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
وتفصيل ذلك أن الحق نوعان حق موجود وحق مقصود وكل منهما ملازم للآخر
فالحق الموجود هو الثابت في نفسه فيكون العلم به حقا والخبر عنه حقا والحق المقصود هو النافع الذي إذا قصده الحي انتفع به وحصل له النعيم
فصل
ومما يظهر الأمر ما ابتلى الله به عباده في الدنيا من السراء والضراء وقال سبحانه فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكبر من وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا
يقول الله سبحانه ليس الأمر كذلك ليس إذا ما ابتلاه فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكراما مطلقا وليس إذا ما قدر عليه رزقه يكون ذلك إهانة بل هو ابتلاء في الموضعين وهو الاختبار والامتحان فإن شكر الله على الرخاء وصبر على الشدة كان كل واحد من الحالين خيرا له كما قال النبي لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن لم يشكر ولم يصبر كان كل واحد من الحالين شرا له
تنازع الناس فيما ينال الكافر في الدنيا من التنعم هل هو نعمة في حقه أم لا؟
وقد تنازع الناس فيما ينال الكافر في الدنيا من التنعم هل هو نعمة في حقه أم لا على قولين وكان أصل النزاع بينهم هو النزاع في القدرة
والقدرية الذين يقولون لم يرد الله لكل أحد إلا خيرا له بخلقه وأمره وإنما العبد هو الذي أراد لنفسه الشر بمعصيته وبترك طاعته التي يستعملها بدون مشيئة الله وقدرته أراد لنفسه الشر
وهؤلاء يقولون ما نعم به الكافر فهو نعمة تامة كما نعم به المؤمن سواء إذ عندهم ليس لله نعمة خص بها المؤمن دون الكافر أصلا بل هما في النعم الدينيه سواء وهو ما بينه من أدلة الشرع والعقل وما خلقه من القدرة والألطاف ولكن أحدهما اهتدي بنفسه بغير نعمة أخري خاصة من الله والآخر ضل بنفسه من غير خذلان يخصه من الله وكذلك النعم الدنيوية هي في حقهما على السواء
والذين ناظروا هؤلاء من أهل الإثبات ربما زادوا في المناظرة نوعا من الباطل وإن كانوا في الأكثر على الحق فكثيرا ما يرد مناظر المبتدع باطلا عظيما بباطل دونه
ولهذا كان أئمة السنة ينهون عن ذلك ويأمرون بالاقتصاد ولزوم السنة المحضة وأن لا يرد باطل بباطل
فقال كثير من هؤلاء ليس لله على الكافر نعمة دنيوية كما ليس له عليه نعمة دينية تخصه إذ اللذة المستعقبة ألما أعظم منها ليست بنعمة كالطعام المسموم وكمن أعطي غيره أموالا ليطمئن ثم يقتله أو يعذبه
قالوا والكافر كانت هذه النعم سببا في عذابه وعقابه كما قال تعالى إنما نملى لهم ليزدادوا إثما
وقال تعالى أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون
وقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون
وقال تعالى فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدي متين
وخالفهم آخرون من أهل الإثبات للقدر أيضا فقالوا بل لله على الكافر نعم دنيوية
والقولان في عامة أهل الإثبات من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم
قال هؤلاء والقرآن قد دل على امتنانه على الكفار بنعمه ومطالبته إياهم بشكرها فكيف يقال ليست نعما قال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها إلى قوله الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار إلى قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار وقال تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا وكيف يكون كفورا من لم ينعم عليه بنعمه
فالمراد لازم قول هؤلاء أن الكفار لم يحب عليهم شكر الله إذ لم يكن قد أنعم عليهم عندهم وهذا القول يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام فإن الله ذم الإنسان بكونه كفورا غير شكور إذ يقول إن الإنسان لربه لكنود وقال تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عنى إنه لفرح فخور
وقد قال صالح عليه السلام لقومه واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين
وقال تعالى ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا
وقال تعالى وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله
وقال الأولون قد قال تعالى صراط الذين أنعمت عليهم
والكفار لم يدخلوا في هذا العموم فعلم أنهم خارجون عن النعمة وقال تعالى في خطابه للمؤمنين كلوا من طيبات ما رزقناكم وقال تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به وقال تعالى كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله
وأما الكفار فخوطبوا بها من جهة ما هي تنعم ولذة وسرور ولم تسم في حقهم نعمة على الخصوص وإنما تسمي نعمة باعتبار أنها نعمة في حق عموم بني آدم لأن المؤمن سعد بها في الدنيا والآخرة والكافر ينعم بها في الدنيا
وذلك أن كفر الكافر نعمة في حق المؤمنين فإنه لولا وجود الكفر والفسوق والعصيان لم يحصل جهاد المؤمنين للكفار وأمرهم الفساق والعصاة بالمعروف ونهيهم إياهم عن المنكر ولولا وجود شياطين الإنس والجن لم يحصل للمؤمنين من بعض هذه الأمور ومعاداتها ومجاهداتها ومخالفة الهوى فيها ما ينالون به أعلى الدرجات وأعظم الثواب
والإنسان فيه قوة الحب والبغض وسعادته في أن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه الله فإن لم يكن في العالم ما يبغضه ويجاهد أصحابه لم يتم إيمانه وجهاده وقد قال تعالى إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون
قالوا ولو كانت هذه اللذات نعما مطلقة لكانت نعمة الله على أعدائه في الدنيا أعظم من نعمته على أوليائه قالوا ونعمة الله التي بدلوها كفرا هي إنزال الكتاب وإرسال الرسول حيث كفروا بها وجحدوا أنها حق كما قال عليه السلام ألا لا فخر إني من قريش
وكذلك قوله تعالى وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله هم الذين كفروا بما أنزل الله من الكتاب والرسل وتلك نعمة الله المعظمة وقال تعالى أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين
رأي ابن تيمية
وحقيقة الأمر أن هذه الأمر فيها من التنعم باللذة والسرور في الدنيا ما لا نزاع فيه ولهذا قال تعالى بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون وقال تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وقال تعالى وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا وقال تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل وقال تعالى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وهذا أمر محسوس
لكن الكلام في أمرين أحدهما هل هي نعمة أم لا والثاني أن جنس تنعم المؤمن في الدنيا بالإيمان وما يتبعه هل هو مثل تنعم الكافر أو دونه أو فوقه وهذه هي المسألة المقدمة
فأما الأول فيقال اللذات في أنفسها ليست نفس فعل العبد بل قد تحدث عن فعله مع سبب آخر كسائر المتولدات التي يخلقها الله تعالى بأسباب منها فعل العبد
لكن اللذات تارة تكون بمعصية من ترك مأمور أو فعل محظور كاللذة الحاصلة بالزنا وبموافقة الفساق وبظلم الناس وبالشرك والقول على الله بغير علم فهنا المعصية هي سبب للعذاب الزائد على لذة الفعل لكن ألم العذاب قد يتقدم وقد يتأخر وهي تشبه أكل الطعام الطيب الذي فيه من السموم ما يمرض أو يقتل ثم ذلك العذاب يمكن دفعه بالتوبة وفعل حسنات أخر لكن يقال تلك اللذة الحاصلة بالمعصية لا تكون معادلة لها ما في التوبة عنها والأعمال الصالحة من المشقة والألم ولهذا قيل ترك الذنب أمر من التماس التوبة وقيل رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا
لكن فعل التوبة والحسنات الماحية قد يوجب من الثواب أعظم من ثواب ترك الذنب أولا فيكون ألم التائب أشد من التارك إذا استويا من جميع الوجوه وثوابه أكثر وكذلك لما يكفر الله به الخطايا من المصائب مرارة تزيد على حلاوة المعاصى
وتارة تكون اللذات بغير معصية من العبد لكن عليه أن يطيع الله فيها فيتجنب فيها ترك مأموره وفعل محظوره كما يؤتاه العبد من المال والسلطان ومن المآكل والمناكح التى ليست بمحرمة
والله سبحانه أمر مع أكل الطيبات بالشكر فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون وفي صحيح مسلم عن النبي أنه قال إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها وفي الأثر الطاعم الشاكر كالصائم الصابر رواه ابن ماجة عن النبي
وقد قال تعالى ثم لتسألن يومئذ عن النعيم
ولما ضاف النبي أبا الهيثم بن التيهان وجلسوا في الظل وأطعمهم فاكهة ولحما وسقاهم ماء باردا قال هذا من النعيم الذي تسألون عنه
والسؤال عنه لطلب شكره لا لإثم فيه فالله تعالى يطلب من عباده شكر نعمه وعليه أن لا يستعين بطاعته على معصيته فإذا ترك ما وجب عليه في نعمته من حق واستعان بها على محرم صار فعله بها وتركه لما فيها سببا للعذاب أيضا فالعذاب أستحقه بترك المأمور وفعل المحظور على النعمة التي هي من فعل الله تعالى وإن كان فعله وتركه بقضاء الله وقدره بعلمه ومشيئته وقدرته وخلقه
فإن حقيقة الأمر أنه نعم العبد تنعيما وكان ذلك التنعيم سببا لتعذيبه أيضا فقد اجتمع في حقه تنعيم وتعذيب ولكن التعذيب إنما كان بسبب معصيته حيث لم يؤد حق النعمة ولم يتق الله فيها
وعلى هذا فهذه التنعمات هي نعمة من وجه دون وجه فليست من النعم المطلقة ولا هي خارجة عن جنس النعم مطلقها ومقيدها فباعتبار ما فيها من التنعم يصلح أن يطلب حقها من الشكر وغيرها وينهى عن استعمالها في المعصية فتكون نعمة في باب الأمر والنهي والوعد والوعيد
وباعتبار أن صاحبها يترك فيها المأمور ويفعل فيها المحظور الذي يزيد عذابه على نعمها كانت وبالا عليه وكان أن لا يكون ذلك من حقه خيرا له من أن يكون فليست نعمة في حقه في باب القضاء والقدر والخلق والمشيئة العامة وإن كان يكون نعمة في حق عموم الخلق والمؤمنين وعلى هذا يظهر ما تقدم من خيرات الله فإن ذلك استدراج ومكر وإملاء
وهذا الذي ذكرناه من ثبوت الإنعام بها من وجه وسلبه من وجه آخر مثل ما ذكر الله في قوله تعالى فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما آبتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا فإنه قد أخبر أنه أكرمه وأنكر قول المبتلى ربي أكرمن واللفظ الذي أخبر الله به مثل اللفظ الذي أنكره الله من كلام المبتلى لكن المعنى مختلف فإن المبتلي اعتقد أن هذه كرامة مطلقة وهي النعمة التي يقصد بها أن النعم إكرام له والإنعام بنعمة لا يكون سببا لعذاب أعظم منها وليس الأمر كذلك بل الله تعالى ابتلاه بها ابتلاء ليتبين هل يطيعه فيها أم يعصيه مع علمه بما سيكون من الأمرين لكن العلم بما سيكون شيء وكون الشيء والعلم به شيء
وأما قوله تعالى فأكرمه ونعمه فإنه تكريم بما فيه من اللذات ولهذا قرنه بقوله ونعمه ولهذا كانت خوارق العادات التي تسميها العامة كرامة ليست عند أهل التحقيق كرامة مطلقا بل في الحقيقة الكرامة هي لزوم الاستقامة وهى طاعة الله وإنما هي مما يبتلي الله به عبده فإن أطاعه بها رفعه وإن عصاه بها خفضه وإن كانت من آثار طاعة أخري كما قال تعالى وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا
وإذا كان في النعمة والكرامة هذان الوجهان فهي من باب الأمر والشرع نعمة يجب الشكر عليها وفي باب الحقيقة القدرية لم تكن لهذا الفاجر بها إلا فتنة ومحنة استوجب بمعصية الله فيها العذاب وهي في ظاهر الأمر أن يعرف حقيقة الباطن ابتلاء وامتحان يمكن أن تكون من أسباب سعادته ويمكن أن تكون من أسباب شقاوته وظهر بها جانب الابتلاء بالمر فإن الله يبتلي بالحلو والمر كما قال تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون وقال وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون
فمن ابتلاه الله بالمر بالبأساء والضراء والبأس وقدر عليه رزقه فليس ذلك إهانة له بل هو ابتلاء فإن أطاع الله في ذلك كان سعيدا وإن عصاه في ذلك كان شقيا كما كان مثل ذلك سببا للسعادة في حق الأنبياء والمؤمنين وكان شقاء وسببا للشقاء في حق الكفار والفجار
وقال تعالى والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس وقال تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا وقال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلهم نحن تعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم وقال تعالى ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون وقال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون
وكما أن الحسنات وهي المسار الظاهرة التي يبتلي بها العبد تكون عن طاعات فعلها العبد فكذلك السيئات وهي المكاره التي يبتلي بها العبد تكون عن معاصي فعلها العبد كما قال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
وقال تعالى أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أني هذا قل هو من عند أنفسكم
وقال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير
وقال تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله
وقال تعالى وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
ثم تلك المسار التي هي من ثواب طاعته إذا عصي الله فيها كانت سببا لعذابه والمكاره التي هي عقوبة معصيته إذا أطاع الله فيها كانت سببا لسعادته فتدبر هذا لتعلم أن الأعمال بخواتيمها وأن ما ظاهره نعمة هو لذة عاجلة قد تكون سببا للعذاب وما ظاهره عذاب وهو ألم عاجل قد يكون سببا للنعيم وما هو طاعه فيما يري الناس قد يكون سببا لهلاك العبد برجوعه عن الطاعة إذا ابتلي في هذه الطاعة وما هو معصية فيما يري الناس قد يكون سببا لسعادة العبد بتوبته منه وتصبره على المصيبة التي هي عقوبة ذلك الذنب
فالأمر والنهي يتعلق بالشيء الحاصل فيؤمر العبد بالطاعة مطلقا وينهي عن المعصية مطلقا ويؤمر بالشكر على كل ما يتنعم به
وأما القضاء والقدر وهو علم الله وكتابه وما طابق ذلك من مشيئته وخلقه فهو باعتبار الحقيقة الآجلة فالأعمال بخواتيمها والمنعم عليهم في الحقيقة هم الذين يموتون على الإيمان
وقد يذكر تنازع الناس في هذا الباب
فالمثبتة للقضاء والقدر من متكلمه أهل الإثبات وغيرهم يلاحظون القدر من علم الله وكتابه ومشيئته وخلقه وقد يعرضون عما جاء به الأمر والنهي والوعد والوعيد وعن الحكمة العامة وما في تفصيل ذلك من الحكم الخاصة
وأما من لم يلاحظ إلا الأمر والنهي والوعد والوعيد فقط من القدرية ومن ضاهاهم في حاله فقد كفر بما وجب عليه الإيمان به من خلق الله وكتابه ومشيئته وتدبيره لعباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحجة بتدبير خاص ومن قضائه على الكفار بما هو فيه عدل سبحانه كما في الحديث المرفوع ماض فينا أمرك عدل فينا قضاؤك ولا يظلم ربك أحدا
وإذا عرف أن كل واحد من الابتلاء بالسراء والضراء قد يكون في باطن الأمر مصلحة للعبد أو مفسدة له وأنه إن أطاع الله بذلك كان مصلحة له وإن عصاه كان مفسدة له تبين أن الناس أربعة أقسام منهم من يكون صلاحه على السراء ومنهم من يكون صلاحه على الضراء ومنهم من يصلح على هذا وهذا ومنهم من لا يصلح على واحد منهما
والإنسان الواحد قد تجتمع له هذه الأحوال الأربعة في أوقات متعددة أو في وقت واحد باعتبارها أنواع يبتلي بها
وقد جاء في الحديث المرفوع أن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك وذلك أني أدبر عبادي إني بهم خبير بصير
فكما أن التنعم العاجل ليس بنعمة قي الحقيقة قد يكون في الحقيقة بلاء وشرا باعتبار المعصية فيه والطاعة المتقدمة قد تكون حابطة وسببا للشر باعتبار ما يعقبها من ردة وفتنة فكذلك التألم العاجل قد يكون في الحقيقة خيرا ونعمة والمعصية المتقدمة قد تكون سببا للخير باعتبار التوبة والصبر على ما تعقبه من مصيبة لكن تتبدل الطاعة والمعصية
وهذا يقتضي أن العبد محتاج في كل وقت إلى الاستعانة بالله على طاعته وتثبيت قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله
حال الإنسان عند السراء والضراء
وذلك أن الإنسان هو كما وصفه الله بقوله تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤؤس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور وقال تعالى إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير
فأخبر أنه عند الضراء بعد السراء ييأس من زوالها في المستقبل ويكفر بما أنعم الله به عليه قبلها وعند النعماء بعد الضراء يأمن من عود الضراء في المستقبل وينسي ما كان فيه بقوله ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور على غيره يفخر عليهم بنعمة الله عليه
وقال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فأخبر أنه جزوع عند الشر لا يصبر عليه منوع عند الخير يبخل به
وقال تعالى إن الإنسان لظلوم كفار وقال تعالى إن الإنسان لربه لكنود وقال تعالى إنه كان ظلوما جهولا وقال تعالى وكان الإنسان قتورا وقال وإن مسه الشر فيؤوس قنوط وقال تعالى فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا
حال المؤمن عندهما
وقد وصف المؤمنين بأنهم صابرون في البأساء والضراء وحين البأس والصابرون في النعماء أيضا بقوله تعالى إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات والصبر في السراء قد يكون أشد ولهذا قال من قال من الصحابة ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر
وكان النبي يستعيذ بالله من فتنة القبر وشر فتنة الغني وقال لأصحابه والله ما الفقر أخشي عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوا فيها وتهلككم كم أهلكتهم
فمن لم يتصف بحقيقة الإيمان هو إما قادر وإما عاجز فإن كان قادرا أظهر ما في نفسه بحسب قدرته من الفواحش والإثم والبغي والإشراك بالله والقول عليه بغير علم ومن ترك القسط وترك إقامة الوجه عند كل مسجد ودعاء الله مخلصا له الدين ثم يكون شرهم بحسب كل منهم من حيث نفوسهم وقدرتهم فإن العبد لا يفعل إلا بقدرة وإرادة فمن كان أقدر وأفجر كان أمره أشد كفرعون وأمثاله من الجبارين المتكبرين لا يصبرون عن أهوائهم ولا يتقون الله
وأما المؤمن فإنه مع قدرته يفعل ما أمر الله به من البر والتقوى دون ما نهي عنه من الإثم والعدوان
ثم أولئك الذين لم يتصفوا بحقيقة الإيمان بل فيهم من الفجور كفر أو نفاق أو فسوق ما فيهم إذا كانوا عاجزين عن إرادتهم لا يقدرون على أهوائهم بنوع من أنواع القدرة تجدهم أذل الناس وأطوع الناس لمن يستعملهم في أغراضهم وأجزع الناس لما أصابهم ذلك أنه ليس في قلوبهم من الإيمان ما يعتاضون به وتستغني به نفوسهم ويصبرون به عما لا يصلح لهم
وهذه حال الأمم البعيدة عن العلم والإيمان كالترك التتار والعرب في جاهليتهم فإنهم أعز الناس إذا قدروا وأذل الناس إذا قهروا
وأما المؤمنون فكما قال تعالى لهم وقد غلبوا ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين فهم الأعلون إذا كانوا مؤمنين ولو غلبوا
وقال كعب بن زهير في صفة الصحابة
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم... يوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
ولهذا كان المشروع في حق كل ذي إرادة فاسدة من الفواحش والظلم والشرك والقول بلا علم أحد أمرين إما إصلاح إرادته وإما منع قدرته فإنه إذا اجتمعت القدرة مع إرادته الفاسدة حصل الشر
وأما ذو الإرادة الصالحة فتؤيد قدرته حتى يتمكن من فعل الصالحات وذو القدرة الذي لا يمكن سلب قدرته يسعي في إصلاح إرادته بحسب الإمكان
فالمقصود تقوية الإرادة الصالحة والقدرة عليها بحسب الإمكان وتضعيف الإرادة الفاسدة والقدرة معها بحسب الإمكان ولا حول ولا قوة إلا بالله
المؤمن أرجح في النعيم واللذة من الكافر في الدنيا قبل الآخرة وإن كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
وهذا مما يظهر به حسن حال المؤمن وترجحه في النعيم واللذة على الكافر في الدنيا قبل الآخرة وإن كانت الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
فأما ما وعد به المؤمن بعد الموت من كرامة الله فإنه تكون الدنيا بالنسبة إليه سجنا وما للكافر بعد الموت من عذاب الله فإنه تكون الدنيا جنة بالنسبة إلى ذلك
وذلك أن الكافر صاحب الإرادة الفاسدة إما عاجز وإما قادر فإن كان عاجزا تعارضت إرادته وقدرته حتى لا يمكنه الجمع بينهما وإن كان قادرا أقبل على الشهوات وأسرف في التذاذه بها ولا يمكنه تركها
ولهذا تجد القوم من الظالمين أعظم الناس فجورا وفسادا وطلبا لما يروحون به أنفسهم من مسموع ومنظور ومشموم ومأكول ومشروب ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك هذا فيما ينالونه من اللذة وأما ما يخافونه من الأعداء فهو أعظم الناس خوفا ولا عيشة لخائف وأما العاجز منهم فهو في عذاب عظيم لا يزال في أسف على ما فاته وعلى ما أصابه
وأما المؤمن فهو مع مقدرته له من الإرادة الصالحة والعلوم النافعة ما يوجب طمأنينة قلبه وانشراح صدره بما يفعله من الأعمال الصالحة وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه وهو مع عجزه أيضا له من أنواع الإرادات الصالحة والعلوم النافعة التي يتنعم بها ما لا يمكن وصفه
لذات أهل البر أعظم من لذات أهل الفجور
وكل هذا محسوس مجرب وإنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور وذاقها ولم يذق لذات أهل البر ولم يخبرها ولكن أكثر الناس جهال كما لا يسمعون ولا يعقلون وهذا الجهل لعدم شهود حقيقة الإيمان ووجود حلاوته وذوق طعمه انضم إليه أيضا جهل كثير من المتكلمين في العلم بحقيقة ما في أمر الله من المصلحة والمنفعة وما في خلقه أيضا لعبده المؤمن من المنفعة والمصلحة فاجتمع الجهل بما أخبر الله به من خلقه وأمره وما أشهده عباده من حقيقة الإيمان ووجود حلاوته مع ما في النفوس من الظلم مانعا للنفوس من عظيم نعمة الله وكرامته ورضوانه موقعا لها في بأسه وعذابه وسخطه
لما خاض الناس في مسائل القدر ابتدع طوائف منهم مقالات مخالفة للكتاب والسنة
وذلك أن الناس لما خاضوا في مسائل القدر ولم يخلق الله ويأمر ونحو ذلك بغير هدي من الله فرقوا دينهم وكانوا شيعا
بدع القدرية
فزعم فريق أنه لا يخلق أحدا من الأشخاص إلا لأجل مصلحة المخلوق ولا يأمره إلا لأن أمره مصلحة له أيضا وإنما العبد هو الذي صرف عن نفسه المصلحة وفعل المفسدة بغير قدرة الرب وبغير مشيئته وهم إنما قصدوا بها تنزيه الرب عن الظلم والعيب ووصفه بالحكمة والعدل والإحسان لكن سلبوه علمه وقدرته وكتابته وخلقه ونفوا مشيئته وعمومها
فقال قوم منهم إنه لا يعلم ولا يكتب ما يكون من العباد حتى يفعلوه
وقال آخرون بل علم ذلك وعلم أنهم لا يطيعونه ولا يفعلون إلا ما يضرهم ومع هذا فقصد تعريفهم بالخلق والأمر للمنفعة الخالصة الدائمة
فقال لهم الناس من علم أن مقصوده من الخير لا يكون وقد سعي في حصوله بمنتهى قدرته كان من أجهل الفاعلين وأسفههم فنزهوه عن قليل من السفه بالتزام ما هو أكثر منه وزعموا أنه لا يقدر إلا على ما فعل بهم فسلبوه قدرته
بدع طائفة من أهل الإثبات
فرد على هؤلاء من أهل الإثبات فأثبتوا عموم قدرته وعموم مشيئته وخلقه وعلمه القديم وكل هذا حسن موافق للكتاب والسنة وهو مع تمام الإيمان بالقدر بعلم الله القديم ومشيئته وخلقه وقدرته على كل شيء لكن ضموا إلى ذلك أشياء ليست من السنة
فإنه من السنة أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وألا يسأل عما يفعل وهم يسألون وأنه يأمر العباد بطاعته ومع هذا يهدي من يشاء ويضل من يشاء كما قال تعالى { والله يدعوا إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }.
فزعموا مع ذلك أنه يخلق الخلق لا لحكمة في خلقهم ولا لرحمته لهم بل قد يكون خلقهم ليضرهم كلهم وهذا عندهم حكمة؛ فلم ينزهوه عما نزه عنه نفسه من الظلم حيث أخبر أنه إنما يجزي الناس بأعمالهم { ولاتزر وازرة وزر أخرى } وأنه { من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما }
بل زعموا أن كل مقدور عليه فليس بظلم مثل تعذيب الأنبياء والمرسلين وتكريم الكفار والمنافقين وغير ذلك مما نزه الله نفسه عنه فلم يكن الظلم الذي نزه الله نفسه عنه حقيقة عند هؤلاء إذ كل ما يمكن ويقدر عليه فليس بظلم فقوله تعالى { وما الله يريد ظلما للعباد } عندهم لا يريد ما لا يكون ممكنا مقدورا عليه وهو عندهم لا يقدر على الظلم حتي يكون تاركا له وزعموا أنه قد يأمر العباد بما لا يكون مصلحة لهم ولا لواحد منهم لا يكون الأمر مصلحة ولا يكون فعل المأمور به مصلحة بل قد يأمرهم بما إن فعلوه كان مضرة لهم وإن لم يفعلوه عاقبهم به فيكون العبد فيما يأمره به بين ضررين ضرر إن أطاع وضرر إن عصي ومن كان كذلك كان أمره للعباد مضرة لهم لا مصلحة لهم
وقالوا يأمر بما يشاء وأنكروا أن يكون في الأحكام الشرعية من العلل المناسبة للأحكام من جلب المنافع ودفع المضار ما تبقي الأحكام الشرعية ممكنة به حتي كان منهم من دفع علل الأحكام بالكلية ومنهم من قال العلل مجرد علامات ودلالات على الحكم لأنها أمور تناسب الحكم وتلائمه وهو يجوزون مع هذا ألا يكون للعبد ثواب ومنفعة في فعل المأمور به لكن لما جاءت الشريعة بالوعد قالوا هو موعود بالثواب الذي وعد به وربما قالوا إنه في الآخرة فقط فإن الفعل المأمور به قد لا يكون فيه مصلحة للعباد ولا منفعة لهم بحال ولا يكون فيه تنعم لهم ولا لذة بحال بل قد يكون مضرة لهم ومفسدة في حظهم ليس فيه ما ينفعهم ومعلوم أنه إذا اعتقد المرء أن طاعة الله ورسوله فيها أمراه به قد لا يكون فيها مصلحة له ولا منفعة ولا فيها تنعم ولا لذة ولا راحة بل يكون فيها مفسدة له ومضرة عليه وليس فيها إلا ألمه وعذابه كان هذا من أعظم الصوارف له عن فعل ما أمر الله به ورسوله ثم إن كان ضعيف الإيمان بالوعيد والوعد ترك الدين بالكلية وإن كان مؤمنا بالوعيد صارت دواعيه مترددة بين هذا العذاب وذلك العذاب وإن كان مؤمنا بوعد الآخرة فقط اعتقد أنه لا تكون له في الدنيا مصلحة ولا منفعة بل لا تكون المصلحة والمنفعة في الدنيا إلا لمن كفر أو فسق وعصي
الرد عليهم
وهذا أيضا وإن كان هو غاية حال هؤلاء فهو مما يصرف النفوس عن طاعة الله ورسوله ويبقي العبد المؤمن متردد الدواعي بين هذا وهذا وهو لا يخلو من أمرين إما أن يرجح جانب الطاعة التي يستشعر أنه ليس فيها طول عمره له مصلحة ولا منفعة ولا لذة بل عذاب وألم بل مفسدة ومضرة وهذا لا يكاد يصبر عليه أحد
وإما أن يرجح جانب المعصية تارة أو تارات أو غالبا ثم إن أحسن أحواله مع ذلك أن ينوي التوبة قبيل موته
ولا ريب إن كان ما قاله هؤلاء حقا فصاحب هذه الحال أكيس وأعقل ممن محض طاعة الله طول عمره إذ أن هذا سلم من عذاب ذلك المطيع في الدنيا ثم إنه بالتوبة أحبط عنه العقاب وأبدل الله سيئاته بالحسنات فصارت جميع سيئاته حسنات فصار ثوابه في الآخرة قد يكون أعظم وأعظم من ثواب ذلك المطيع الذي محض الطاعة ولو كان ثوابه دون ثواب ذلك لم يكن التفاضل بينهم إلا كتفاضل أهل الدرجات في الجنة وهذا مما يختاره أكثر الناس على مكابدة العذاب والشقاء والبلاء بطول العمر إذ هو أمر لا يصبر عليه أحد فإن مصابرة العذاب ستين أو سبعين سنة بلا مصلحة ولا منفعة ولا لذة ليس هو من جبلة الأحياء إذا جوزوا أن لا يكون في شيء من طاعة الله مصلحة ولا منفعة طول عمره
وهؤلاء يجعلون العباد مع الله بمنزلة الأجراء مع المستأجرين كأن الله أستأجرهم طول مقامهم في الدنيا ليعملوا ما لا ينتفعون به ولا فيه لربهم منفعة ليعوضهم مع ذلك بعد الموت بأجرتهم وفي هذا من تشبيه الله بالعاجز الجاهل السفيه ما يجب تنزيه الله عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
المقالة الصحيحة لأهل السنة والجماعة
والحق الذي يجب اعتقاده أن الله سبحانه إنما أرسل رسوله رحمة للعالمين وان إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة عامة للخلق أعظم من إنزال المطر وإطلاع البذر وإن يحصل بهذه الرحمة ضرر لبعض النفوس
ثم إنه سبحانه كما قال قتادة وغيره من السلف لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه بل أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم
وفي الحديث الصحيح حديث أبي ذر عن النبي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد يسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي إنما هي أعمالكم ترد عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
رفع الله الحرج عن المؤمنين
وقال تعالى في وصف النبي الأمي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم
وقال تعالى لما ذكر الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون فأخبر أنه لا يريد أن يجعل علينا من حرج فيما أمرنا به وهذه نكرة مؤكدة بحرف من فهي تنفي كل حرج وأخبر أنه إنما يريد تطهيرنا وإتمام نعمته علينا
وقال تعالى في الآية الأخرى وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم فقد أخبر أنه ما جعل علينا في الدين من حرج نفيا عاما مؤكدا فمن اعتقد أن فيما أمر الله به مثقال ذرة من حرج فقد كذب الله ورسوله فكيف بمن اعتقد أن المأمور به قد يكون فسادا وضررا لا منفعة فيه ولا مصلحة لنا ولهذا لما لم يكن فيما أمر الله ورسوله حرج علينا لم يكن الحرج من ذلك إلا من النفاق كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
وقال الله تعالى فيما أمر به من الصيام يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر فإذا كان لا يريد فيما أمرنا به ما يعسر علينا فكيف يريد ما يكون ضررا وفسادا لنا بما أمرنا به إذا أطعناه فيه
الإيمان والطاعة خير من الكفر والمعصية للعبد في الدنيا والآخرة
ثم إنه يكون قد أخبر أن الإيمان والطاعة خير من الكفر والمعصية للعبد في الدنيا والآخرة وإن كان لجهله يظن أن ذلك خير له في الدنيا كما يقوله هؤلاء الذين فيهم جهل ونفاق الذين قد يقولون إن المأمور به قد لا يكون فيه للعبد مصلحة ولا منفعة طول عمره بل يكون ذلك في المنهي عنه فقال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون
وقال تعالى عن الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان إلى قوله من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فأخبر أنهم يعلمون أن هذه الأمور لا تنفع بعد الموت بل لا يكون لصاحبها نصيب في الآخرة وإنما طلبوا بها منفعة الدنيا وقد يسمون ذلك العقل المعيشي أي العقل الذي يعيش به الإنسان في الدنيا عيشة طيبة فقال تعالى ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فاخبر أن أولياءه الذين آمنوا وكانوا يتقون ينبههم على أن في ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدنيا لو كانوا يعلمون فيحصل لهم في الآخرة من الخير الذي هو المنفعة ودفع المضرة ما هو أعظم مما يحصلوه بذلك من خير الدنيا
كما قال تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ثم قال ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون
وقال تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين
وقال عن إبراهيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين
وقد قال تعالى ما يبين به أن فعل المكروه من المأمور خير من تركه في الدنيا أيضا قال تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما
وهذا في سياق حال الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وهؤلاء منافقون من أهل الكتاب
والمشركون حالهم أيضا شبيه بحال الذين نبذوا كتاب الله وراءهم ظهريا كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان فإن أولئك عدلوا عما في كتاب الله إلى اتباع الجبت والطاغوت والسحر والشيطان وهذه حال الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت وحال الذين يتحاكمون إلى الطاغوت من المظهرين للإيمان بالله ورسله فيها من حال هؤلاء
والطاغوت كل معظم ومتعظم بغير طاعة الله ورسوله من إنسان أو شيطان أو شيء من الأوثان
وهذه حال كثير ممن يشبه اليهود من المتفقهه والمتكلمة وغيرهم ممن فيه نوع نفاق من هذه الأمة الذين يؤمنون بما خالف كتاب الله وسنة رسوله من أنواع الجبت والطاغوت والذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله
وقال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أي هؤلاء لم يقصدوا ما فعلوه من العدل عن طاعة الله ورسوله إلى اتباع ما اتبعوه من الطاغوت إلا لما ظنوه من جلب منفعة لهم ودفع مضرة عنهم مثل طلب علم وتحقيق كما يوجد في صنف المتكلمة ومثل طلب أذواق ومواجيد كما يوجد في صنف المتعبدة ومثل طلب شهوات ظاهرة وباطنة كما يوجد في صنف الذين يريدون العلو والذين يتبعون شهوات الغي
قال تعالى ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا أي ضلوا عن مطلوبهم الذي هو جلب المنفعة ودفع المضرة فإن ذلك إنما هو في طاعة الله ورسوله دون اتباع الطاغوت فإذا عاقبهم الله بنقيض مقصودهم في الدنيا فأصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم قالوا ما أردنا بما فعلناه إلا إحسانا أي أردنا الإحسان إلى نفوسنا لا ظلمها وتوفيقا أو جمعا بين هذا وهذا لتجتمع الحقائق والمصالح
قال تعالى أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة الظن وما تهوي الأنفس فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا
ثم قال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا انفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فدعاهم سبحانه بعد ما فعلوه من النفاق إلى التوبة وهذا من كمال رحمته بعباده يأمرهم قبل المعصية بالطاعة وبعد المعصية بالاستغفار وهو رحيم بهم في كلا الأمرين بأمره لهم بالطاعة أولا برحمته وأمرهم بالاستغفار من رحمته فهو سبحانه رحيم بالمؤمنين الذين أطاعوه أولا والذين استغفروه ثانيا
فإذا كان رحيما بمن يطيعه والرحمة توجب إيصال ما ينفعهم إليهم ودفع ما يضرهم عنهم فكيف يكون المأمور به مشتملا على ضررهم دون منفعتهم
معنى المجيء إلى الرسول ﷺ بعد مماته
وقوله فجاؤوك المجيء إليه في حضوره معلوم كالدعاء إليه وأما في مغيبه ومماته فالمجيء إليه كالدعاء إليه والرد إليه قال تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول وقال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وهو الرد والمجيء إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة وكذلك المجيء إليه لمن ظلم نفسه هو الرجوع إلى ما أمره به فإذا رجع إلى ما أمره به فإن الجائي إلى الشيء في حياته ممن ظلم نفسه يجيء إليه داخلا في طاعته راجعا عن معصيته كذلك في مغيبه ومماته
واستغفار الله موجود في كل مكان وزمان وأما استغفار الرسول فإنه أيضا يتناول الناس في مغيبه وبعد مماته فإنه أمر بأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات وهو مطيع لله فيما أمره به والتائب داخل في الإيمان إذ المعصية تنقص الإيمان والتوبة من المعصية تزيد في الإيمان بقدرها فيكون له من استغفار النبي بقدر ذلك
فأما مجيء الإنسان إلى الرسول عند قبره وقوله استغفر لي أو سل لي ربك أو ادعو لي أو قوله في مغيبه يا رسول الله ادع لي أو استغفر لي أو سل لي ربك كذا وكذا فهذا لا أصل له ولم يأمر الله بذلك ولا فعله واحد من سلف الأمة المعروفين في القرون الثلاثة ولا كان ذلك معروفا بينهم ولو كان هذا مما يستحب لكان السلف يفعلون ذلك ولكان ذلك معروفا فيهم بل مشهورا بينهم ومنقولا عنهم فإن مثل هذا إذا كان طريقا إلى غفران السيئات وقضاء الحاجات لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على فعله وعلى نقله لا سيما فيمن كانوا أحرص الناس على الخير فإذا لم يعرف أنهم كانوا يفعلون ذلك ولا نقله أحد عنهم علم أنه لم يكن مما يستحب ويؤمر به
بل المنقول الثابت عنه ما أمر الله به النبي من نهيه عن اتخاذ قبره عيدا ووثنا وعن اتخاذ القبور مساجد
وأما ما ذكره بعض الفقهاء من حكاية العتبي عن الأعرابي الذي أتي قبر النبي وقال يا خير البرية إن الله يقول ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم وإني قد جئت وأنه رأي النبي في المنام وأمره أن يبشر الأعرابي فهذه الحكاية ونحوها مما يذكر في قبر النبي وقبر غيره من الصالحين فيقع مثلهما لمن في إيمانه ضعف وهو جاهل بقدر الرسول وبما امر به فإن لم يعف عن مثل هذا لحاجته وإلا اضطرب إيمانه وعظم نفاقه فيكون في ذلك بمنزلة المؤلفة بالعطاء في حياة النبي كما قال إني لأتألف رجالا بما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغني والخير مع أن أخذ ذلك المال مكروه لهم فهذه أيضا مثل هذه الحاجات
وأما المشروع الذي وردت به سنته فهو دعاء المسلم ربه متوسلا به لا دعاؤه في مماته ومغيبه وهو أن يفعل كما في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه أن النبي علم رجلا أن يقول اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا نبي الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم شفعه في وذلك أن الله يقول من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال تعالى ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ثم قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما
فأقسم بنفسه على أنه نفى إيمان من لم يجمع أمرين تحكيمه فيما شجر بينهم ثم أن لا يجد في نفسه حرجا وهذا يوجب أنه ليس في أمره ونهيه ما يوجب الحرج لمن امتثل ذلك فإن حكمه لا بد فيه من أمر ونهي وإن كان فيه إباحة أيضا فلو كان المأمور به والمنهي عنه مضرة للعبد ومفسدة وألما بلا لذة راجحة لم يكن العبد ملوما على وجود الحرج فيما هو مضرة له ومفسدة
على المؤمن أن يحب ما أحب الله ويبغض ما أبغضه الله ويرضى بما قدره الله
ولهذا لم يتنازع العلماء أن الرضا بما أمر الله به ورسوله واجب محبب لا يجوز كراهة ذلك وسخطه وأن محبة ذلك واجبة بحيث يبغض ما أبغضه الله ويسخط ما أسخطه الله من المحظور ويحب ما أحبه ويرضى ما رضيه الله من المأمور
وإنما تنازعوا في الرضا بما يقدره الحق من الألم بالمرض والفقر فقيل هو واجب وقيل هو مستحب وهو أرجح والقولان في أصحاب الإمام احمد وغيرهم وأما الصبر على ذلك فلا نزاع أنه واجب
وقد قال تعالى في الأول ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون
فجعل من المنافقين من سخط فيما منعه الله إياه ورسوله وحضهم بأن يرضوا بما آتاهم الله ورسوله والذي آتاه الله ورسوله يتناول ما أباحه دون ما حظره ويدخل في المباح العام ما أوجبه وما أحبه
وإذا كان الصبر على الضراء ونحو ذلك مما أوجبه الله واحبه كما أوجب الشكر على النعماء وأحبه كان كل من الصبر والشكر مما يجب محبته وعمله فيكون ما قدر للمؤمن من سراء معها شكر وضراء معها صبرا خيرا له كما قال النبي لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن أن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا وإذا له وإذا كان خيرا فالخير هو المنفعة والمصلحة الذي فيه النيعم وال كما تقدم
فيكون كل مقدور قدر للعبد إذا عمل فيه بطاعة الله ورسوله خيرا له وإنما يكون شرا لمن عمل بمعصية الله ورسوله ومثل ذلك فهو بحسبه ونيته بلاء قد يعمل فيه بطاعة الله وقد يعمل فيه بمعصية الله فلا يوصف بواحد من الأمرين
فصل: جميع الحركات ناشئة عن الإرادة والاختيار
وإذا كان كل حركة في الوجود فلا تخلو من أن تكون إرادية أو طبعية أو قسرية وتبين أن الطبيعة والقسرية فرع وتبع للإرادية فثبت أن جميع الحركات ناشئة عن الإرادة والاختيار وذلك يبطل أن يضاف خلق شيء من المخلوقات إلى الطبع الذي في الأجسام مثل أن يكون الخالق للأجنة في الأرحام هو طبع أو الخالق للنبات هو طبع لأن الطبع لا يكون مبدءا لحركة
الجسم وانتقال أصله إلا إذا أخرج عن طبعه بغير طبعه كما يجمع بين الأجسام بالمزج والخلط فتنتقل عن مراكزها ومحالها المخالف لمقتضي طبعها وعند التحقيق يعود الطبع إلى أنه ليس فيها سبب للحركة عن حالها وسكونها فيكون الطبع بمنزلة السكون وعدم الحركة أو أمرا وجوديا منافيا للحركة فالحركة الواردة عليها مخالفة له والطبع جمود وهي تنتقل عن إرادة وحركة فعلم بطلان إصابة شيء من الحوادث العرضية عن مجرد الطبع الذي في الموات فكيف بالحوادث الجوهرية
والإرادة والاختيار مستلزمة للحياة والعلم كما أن الحياة أيضا مستلزمة للعلم وللإرادة بل وللإرادة والحركة كما قرر ذلك عثمان بن سعيد وغيره من أئمة السنة
وكما أن الحركة مستلزمة للإرادة والحياة فالحياة أيضا مستلزمة للحركة والإرادة ولهذا كان أعظم آية في القرآن الله لا إله إلا هو الحي القيوم فالاسم الحي مستلزم لصفاته وأفعاله وهو من أعظم البراهين العقلية على ثبوت صفات الكمال والمصحح لها والمستلزم ثبوتها ونفي نقيضها كالعلم والكلام والسمع والبصر وغير ذلك كما هو مبين في موضعه
فصل
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فتري الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشي أن تصيبنا دائرة فعسي الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون
أصل الموالاة الحب وأصل المعاداة البغض
وأصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعاداة البغض فإن التحاب يوجب التقارب والاتفاق والتباغض يوجب التباعد والاختلاف وقد قيل المولي من الولي وهو القرب وهذا يلي هذا أي هو يقرب منه
والعدو من العدواء وهو البعد ومنه العدوة والشيء إذا ولي الشيء ودنا منه وقرب إليه اتصل به كما أنه إذا عدي عنه ونأي عنه وبعد منه كان ماضيا عنه
فأولياء الله ضد أعدائه يقربهم منه ويدنيهم إليه ويتولاهم ويتولونه ويحبهم ويرحمهم ويكون عليهم منه صلاة وأعداؤه يبعدهم ويلعنهم وهو إبعاد منه ومن رحمته ويبغضهم ويغضب عليهم وهذا شأن المتوالين والمتعادين فالصلاة ضد اللعنة والرحمة والرضوان ضد الغضب والسخط والعذاب ضد النعيم
قال تعالى في حق الصابرين أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
وقال تعالى في حق المنافقين عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا
وقال تعالى في حق المجاهدين يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم
وقال تعالى في قاتل المؤمن متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما
والمتلاعنان يقول الرجل في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وذلك يكون قاذفا وقد قال تعالى إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم وتقول المرأة في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين لأنه إذا كان صادقا كانت زانية فاستحقت الغضب الذي هو ضد الرحمة ولهذا قال تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فنهي عن الرأفة بهما في دين الله
والمؤمن يغار والله يغار وغيرة الله أعظم كما قد استفاض عن النبي في الصحيح من غير وجه أنه قال لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وفي بعض الأحاديث الصحاح لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته وفي بعضها إن الله يغار وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه
والغيرة فيها من البغض والغضب ما يدفع به الإنسان ما غار منه فالزنا وإن كان صادرا عن الشهوة والمحبة منهما أو من أحدهما فإن ذلك مقابل بضرورة التنزه عن الفواحش والتورع عن المحرمات فأمر الله أن لا تأخذنا بهما رأفة في دين الله فنهانا عن أن تكون منا رأفة تدفع العذاب عنهما فضلا عن أن يكون محبة لذلك الفعل ولهذا أخبرنا به بأنه لا يحب ذلك أصلا فقال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء وما لا يأمر به لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب لا يحبه قال لوط عليه السلام إني لعملكم من القالين والقلي بغضه وهجره والأنبياء أولياء الله يحبون ما يحب الله ويبغضون ما يبغض
وربما قيل القلي أشد البغض فالله سبحانه يبغض ذلك وهو سبحانه يبغض كل ما نهي عنه كما أنه يحب كل ما أمر به بل الغيرة مستلزمة لقوة البغض إذ كل من يغار يبغض ما غار منه وليس كل من يبغض شيئا يغار منه فالغيرة أحض وأقوي
ولا ريب أن المرأة المزوجة الزانية استحقت الغضب لشيئين لأجل ما في الزنا من التحريم ولأنها اعتدت فيه على الزوج فأفسدت فراشة ولهذا كان للزوج إذا قذف امرأته ولم يأت بأربعة شهداء أن يلاعنها لما له في ذلك من الحق ولأنه مظلوم إذا كان صادقا وعليه في زناها من الضرر ما يحتاج إلى دفعه بما شرعه الله كالمقذوف الذي له أن يستوفي حد القذف من القاذف الذي ظلمه في عرضه فكذلك الزوج له أن يستوفي حد الفاحشة من البغي الظالمة له المعتدية عليه كما قال النبي ص في حق الرجل على امرأته وأن لا يوطئن فرشكم من تكرهونه فلهذا كان له أن يقذفها ابتداء وقذفها إما مباح له وأما واجب عليه إذا احتاج إليه لنفي النسب ويضطرها بذلك إلى أحد أمرين إما أن تعترف فيقام عليها الحد فيكون قد استوفي حقه وتطهرت هي أيضا من الجزاء لها والنكال في الآخرة بما حصل وإما أن تبوء بغضب الله عليها وعقابه في الآخرة الذي هو أعظم من عقاب الدنيا فإن الزوج مظلوم معها والمظلوم له استيفاء حقه إما في الدنيا وإما في الآخرة قال الله تعالى
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم بخلاف غير الزوج فإنه ليس له حق الافتراش فليس له قذفها ولا أن يلاعن إذا قذفها لأنه غير محتاج إلى ذلك مثل الزوج ولا هو مظلموم في فراشها لكن يحصل بالفاحشة من ظلم غير الزوج ما لا يحتاج إلى اللعان فإن في الفاحشة إلحاق عار بالأهل والعار يحصل بمقدمات الفاحشة
فإذا لم تكن الفاحشة معلومة بإقرار ولا بينة كان عقوبة ما ظهر منها كافيا في استيفاء الحق مثل الخلوة والنظر ونحو ذلك من الأسباب التي نهي الله عنها وهذا من محاسن الشريعة
وكذلك كثيرا ما يقترن بالفواحش من ظلم غير الزانيين فإن إذا حصل بينهما محبة ومودة فاحشة كان ذلك موجبا لتعونهما على أغراضهما فيبقى كل منهما يعين الآخر على أغراضه التي يكون فيها ظلم الناس فيحصل العدوان والظلم للناس بسبب اشتراكهما في القبيح وتعاونهما بذلك على الظلم كما جرت العادة في البغي من النساء والصبيان أن خدنه أو المسافح به يحصل له منه من الإكرام والعطاء والنصر والمعاونة ما يوجب استطالة ذلك الفاجر بترك حقوق الخلق والعدوان عليهم
وأيضا فإن محبته له قد تحمل الطالب الراغب على أخذ أموال الناس بغير حق ليعطيه ذلك وتحمله أيضا على ترك حقوق الناس وقطيعة رحمه لأجل ذلك الشخص فإنه لا يمكن الجمع بين الأمرين ويحمله أيضا على الانتصار له بالعدوان
ففي الجملة المحبة توجب موافقة المحب للمحبوب فإذا كانت المحبة فاسدة لا يحبها الله ولا يرضاها إذا لم يتعد ضررها للاثنين تكون العقوبة لهما حقا لله لكن هي في الغالب بل في اللازم يتعدى ضررها إلى الناس فإن كل واحد من الشخصين عليه حقوق للناس وهو ينهى عن العدوان عليهم فإذا تحابا وتعاونا لم يتمكن كل منهما من القيام بحقوق الناس واحتاج إلى أن يعتدي عليهم
ولا ينبغي للإنسان أن يعتبر بظاهر ما يقال إن الإنسان إذا فعل فاحشة فإن الإثم عليه خاصة وليس ذلك بظلم للغير فإن ذلك إنما هو في الفاحشة المحضة مثل الزنا المحض الذي لم يتعلق به حق الغير فإما زنا الزوجة ففيه ظلم بالاتفاق كما بيناه
وكذلك المحبة والعشق الفاسد فإن هذا أعظم ضررا من الزنا مرة واحدة
فإن الرجل إذا زنا مرة أو مرتين حصل غرضه وكذلك المرأة ثم إنه قد يكون بعوض من أحدهما للآخر وقد لا يكون فربما كان فيه ظلم للغير
وأما المحبة والعشق فإن ذلك مستلزم للعدوان على غيرهما في العادة فإن المحبة توجب أن يعطي المحبوب من المنافع والأموال ما يوجب حرمان الغير والعدوان عليه ويوجب من الانتصار للمحبوب والدفع عنه ما فيه أيضا ترك حق الغير والعدوان عليه ألا تري أن الرجل إذا أحب غير امرأته أو المرأة إذا أحبت غير زوجها قصر كل منهما في حقوق الآخر واعتدي عليه بل إذا أحب الرجل امرأة أو صبيا قصر في حقوق أهله وأصدقائه ممن له عليه حق بل وظلمهم أيضا كما يظلم غيرهم لأجله وهذا سوى ما في ذلك من حق الله الذي يوجب غليظ عقابه وإن كان الرجل العاقل قد يقوم من الحقوق بما يمكن ويدع الظلم بحسب الإمكان إلا أن هذا مظنة وسبب لذلك وهذا مما يوجب تحير الرجل وتردده وتلومه إلى الحق تارة وإلى الباطل أخرى وهذا مرض عظيم كما ذكر الله تعالى ذلك في قوله فيطمع الذي في قلبه مرض وأما ما في ذلك من ظلم كل منهما لنفسه ولخدنه فذاك ظاهر لكنهما ظلما أنفسهما فهما الظالمان المظلومان وأما الغير فظلماه بغير رضاه ولا اختياره
وكذلك ما تفضي إليه هذه المحبة الباطلة من ظلم كل منهما للآخر إما بقتله وإما بتعذيبه بغير الحق وإما منعه من الاتصال بالناس وفعل ما يختار من مصلحة وغيرها ففيها هذه المفاسد كلها وأكبر منها لكن ذلك ظلم منهما لأنفسهما مبدؤه المحبه الفاسدة
ولهذا أمر سبحانه أن لا تأخذنا بهما رأفه في دين الله فإن الرأفة والرحمة توجب أن توصل للمرحوم ما ينفعه وتدفع عنه ما يضره وإذا رأف بهما أحد لأجل ما في قلوبهما من الشهوة والمحبة وغير ذلك وترك عذابهما كان ذلك جالبا لما يضرهما ودافعا لما ينفعهما فإن ذلك مرض في قلوبهما والمريض الذي يشتهي ما يضره ليس دواؤه إعطاءه المشتهي الضار بل دواؤه الحمية وإن آلمته وإعطاؤه ما ينفعه وتعويضه عن ذلك الضار بما أمر مما لا يضر
فهكذا أهل الشهوات الفاسدة وإن أضرمت قلوبهم نار الشهوة ليس رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذلك أو ترك عذابهم فإن ذلك يزيد بلاءهم وعذابهم والحرارة التي في قلوبهم مثل حرارة المحموم متي مكن المحموم مما يضره ازداد مرضه أو انتقل إلى مرض شر منه
فهذه حال أهل الشهوات بل تدفع تلك الشهوة الحلوة بضدها والمنع من موجباتها ومقابلتها بالضد من العذاب المؤلم ونحوه الذي يخرج المحبة من القلب كما قيل
فإني رأيت الحب في القلب والأذى... إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب
فإذا كان يحصل بالمحبة ونيل الشهوة أمر مما يزيد ألمه على لذتها انكفت النفس وكذلك إذا حصل بدله أمر لذيذ أطيب منه اغتاظت النفس فاللذيذ يترك لما يرجح عليه من لذيذ وأليم كما أن الأليم محتمل لما يرجح عليه من لذيذ وأليم وإذا تكافئا تقابلا فلم يغلب أحدهما الآخر بل تبقي الأمور على ما هو عليه إذا استوت الدواعي والصوارف واحتمال الأليم وفوت اللذيذ وإن كان فيه مرارة فذلك يدفع به ما هو أمر منه ويجلب به ما هو أرجح منه من الحلو
ولكن هذا من محبة بني آدم وفتنتهم التي لا بد منها وهي محالفة الأهواء فلا تقوم مصلحة أحد من بني آدم بدون ذلك أبدا لا مصلحة دنياه ولا مصلحة دينه كما قال إبراهيم الحربي أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ولا بد من الصبر في جميع الأمور قال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر
فلا بد من التواصي بالحق والصبر إذ أن أهل الفساد والباطل لا يقوم باطلهم إلا بصبر عليه أيضا لكن المؤمنون يتواصون بالحق والصبر وأولئك يتواصون بالصبر على باطلهم كما قال قائلهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد
فالتواصي بالحق بدون الصبر كما يفعله الذين يقولون آمنا بالله فإذا أوذي أحدهم في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله والذين يعبدون الله على حرف فإن أصاب أحدهم خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة
والتواصي بالصبر بدون الحق كقول الذين قالوا أن امشوا واصبروا على آلهتكم كلاهما موجب للخسران وإنما نجا من الخسران الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وهذا موجود في كل من خرج عن هؤلاء من أهل الشهوات الفاسدة وأهل الشبهات الفاسدة أهل الفجور وأهل البدع
وما ذكرناه من أن المحبة الفاسدة توجب ظلم المتحابين لأنفسهما ولغيرهما موجود في كل محبة يبغضها الله كمحبة الأنداد والشركاء من دونه قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وقال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم وكمحبة أهل الشهوات لجنس الفواحش ومحبة أهل الظلم والقائلين على الله ما لا يعلمون فإن المحبة توجب تعاون المتحابين واتفاقهما فلا بد أن يبغضا ويعاديا من يبغض ذلك منهما ويخالفهم فيه
ومعلوم أن كل مؤمن فإنه يبغض ما يبغضه الله ويحب ما يحبه الله فلا بد أن يكون التحاب الذي يبغضه الله موجبا لنوع بغض المؤمنين بحسبه
فصل: تقسيم العلم إلى فعلي وانفعالي
قد كتبت في غير هذا الموضع أن الناس وإن تنازعوا في العلم هل هو صفة إنفعالية تابعة للمعلوم كما قد يطلقه كثير من أهل الكلام أو هو صفة فعلية مؤثرة في المعلوم كما يقوله طوائف من المتفلسفة، فإن الصواب أنه ينقسم إلى النوعين جميعا فمنه ما هو تابع للمعلوم غير مؤثر فيه بحال وهو العلم النظري القولي الخبري المحض كعلمنا بما لا تأثير لنا في وجوده كالعلم بالخالق سبحانه وتعالى وملائكته وكتبه وأنبيائه وسائر مخلوقاته
ومنه ما هو فعلي له تأثير في المعلوم كعلمنا بأفعالنا الاختيارية وما يترتب عليها من حصول منفعة ودفع مضرة
وهذا التقسيم ثابت في علم الله تعالى فإنه يعلم نفسه ويعلم مخلوقاته أيضا والأول علم بموجود والثاني علم بمقصود
لكن العلم بالموجود المستغني عن أفعالنا يتبع العلم به حبه تارة وبغضه أخري فيكون العلم به سببا لأفعال لنا متعلقة به فيكون هذا العلم الانفعالي فعليا مؤثرا من هذا الوجه وعلمنا بالحسنات والسيئات التي في أفعال غيرنا من هذا الوجه
علم الرب بأفعال عباده الصالحة والسيئة يستلزم حبه للحسنات وبغضه للسيئات
وعلم الرب سبحانه بأفعال عباده الصالحة والسيئة مستلزم أيضا حبه للحسنات وبغضه للسيئات والعلم بالمقصود من أفعالنا وإن كان مؤثرا في المعلوم وهو سبب في حصوله فلا يكون إلا بعد علم بأمور موجودة أوجب قصدا أو اختيارا لتلك الأفعال فإن الفعل الاختياري يتبع الإرادة والإرادة تتبع المراد فلا بد أن يتصور الفاعل المراد قبل قصد الفعل الذي هو سبب إليه كما يقال آخر الفكرة أول العمل وتسمي العلة الغائية فلا بد من تصور ذلك المراد وأن يكون ما يترتب على الفعل من لذة تجلب منفعة وتدفع مضرة فاللذة مشروطة بالإحساس باللذيذ والإنسان لا يفعل ابتداء لطلب لذيذ إلا أن يكون قد أحسه قبل ذلك فأحبه واشتهاه واشتاق إليه وذلك علم بأمر موجود تابع للمعلوم تبعه علم بأمر مقصود تابع للعلم وإن كانت اللذة قد تحصل ابتداء لا عن شوق كمن يذوق الشيء الطيب الذي لم يكن يعرفه فيحبه بعد ذلك لكن هذا لم يتقدم منه طلب وفعل في حصول هذا المحبوب بخلاف من ذاقه ابتداء فأحبه ثم سعي في تحصيل نظائر ما حصل له ابتداء
فقد تبين أن كلا العلمين الفعلي والانفعالي مستلزم للآخر وكذلك علم الرب سبحانه وتعالى بنفسه مستلزم لعلمه بصفاته وافعاله ومفعولاته وهو سبحانه يحمد نفسه ويثني عليها فلا نحصي ثناء عليه بل هو كما أثني على نفسه وعلمه بأفعاله ومفعولا ته مستلزم لعلمه بنفسه وعلمه بالمخلوقات وأفعالها يتبعه حبه وبغضه وأمره ونهيه وعلمه بما يفعله بعباده من ثواب وعقاب وغير ذلك تابع لعلمه بما هي عليه وقد تكلمنا على نحو هذا في غير هذا الموضع
وإنما المقصود في هذا المكان أن هذا التقسيم الوارد في العلم يرد نحوه في الإرادة والمحبة ونحو ذلك
الإرادة والمحبة ينقسمان أيضا إلى فعليتين وانفعاليتين
فإن الإرادة والمحبة تنقسم أيضا إلى فعلية مؤثرة في المراد المحبوب وهي إرادة الفعل وحبه وإن كان المراد المحبوب تابعا مفعولا معدوما وقد ظن بعض الناس أن الإرادة والمحبة ليست إلا هذا النوع حتي قال لا تتعلق الإرادة والمحبة إلا بالمعدوم دون الموجود وبالمحدث دون القديم وهذا قول طوائف من أهل الكلام وأكثر هؤلاء هم أكثر القائلين بأن العلم لا يكون إلا انفعاليا فيجعلون العلم لا يتعلق في الحقيقة إلا بمعلوم متبوع كالموجود ويجعلون الإرادة لاتتعلق إلا بمراد تابع كالمفعول المعدوم
وتنقسم إلى انفعالية تابعة للمراد المحبوب ليست مؤثرة في وجوده أصلا بل يكون المحبوب المراد موجودا بدون الإرادة وإنما يحب المحب ذلك الموجود ويريده ويقال في كثير من أنواع ذلك يهواه ويعشقه ونحو ذلك من العبارات
وهذا القسم في الحقيقة هو الأصل في القسم الأول كما قد تكلمنا عليه في بعض القواعد المتقدمة من سنين وذكرنا أن العلم والإرادة إنما يتعلق أولا بالموجود وأن تعلقه بالمعدوم تابع لتعلقه بالموجود وذكرنا أن الإنسان لا يحب الشيء ويريده حتى يكون له به شعور أو إحساس أو معرفة ونحو ذلك ويكون مع ذلك بنفسه إليه ميل وفيها له حب وكل واحد من هاتين الفرقتين في فطرته وجبلته المعرفة والمحبة ولهذا كان كل مولود يولد على الفطرة فطرة الإسلام وهي عبادة الله وحده وأصل ذلك معرفته ومحبته والنفس لا تحس العدم المحض وإنما تعرف العدم بنوع من القياس المقدر على الوجود كما يقدر في نفسه جبل ياقوت وبحر زئبق فنزل ذلك مما علمه من الجبل ومن الياقوت ثم ينفي ذلك المقدر في ذهنه أن يكون موجودا في الخارج وهو لم يحكم على نفيه حتى صار موجودا في نفسه وجودا تقديريا
الحب يتبع الإحساس والإحساس يكون بموجود لا بمعدوم
فإذا كان الحب يتبع الإحساس والإحساس لا يكون إلا بموجود ما فإن ما يحب لا يكون إلا بموجود وأيضا فإن الإحساس لا يكون أولا إلا لموجود فكذلك الحب في نفسه لا يكون إلا لموجود أو محبوب وإن كان يحب وجود المعدوم فهو لاشيء وما ليس بشيء لا يكون محبوبا وإن كان يحب وجود المعدوم ويريده فلا بد أن يكون قبل ذلك قد ذاقه والتذ به موجودا حتى أحبه بعد ذلك أو ذاق والتذ بنظيره أو بما يشبهه كما ذلك في العلم وهذا مذكور في غير هذا الموضع
ولا يرد على هذا ما يوجد من بكاء الصبي حين يولد قبل أن يذوق طعم اللبن فإذا ذاق اللبن التذ به وسكن فإن الصبي قبل ذوقه اللبن لم يكن يحبه ويشتهيه ولكن يجد ألم الجوع فيبكي من ذلك الألم فلما ذاق اللبن ووجد لذته وأنه أذهب ألم الجوع أحبه من حينئذ صار يشتهيه ويحبه وهكذا كل من جاع فإنه لا يشتهي شيئا معينا إلا أن يكون ذاقه قبل ذلك ولكن يجد طلبا لما يزيل به ألم الجوع ولهذا إذا حضر عنده ماقد ذاقه قبل ذلك ومالم يذقه قبل ذلك اشتاق إلى الأول وأحبه وكان شوقه إلى الثاني ومحبته إياه مشروطا بذوقه إياه وسماع وصفه ممن يخبره فإن سماع الوصف يورث المحبة والشوق كما يورث العلم كما قيل
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
لكون النفس ذاقت طعم الحب لما هو من نظير لذلك أو شبيه به ولو من وجه بعيد فكما أن الشيء لا يتصور إلا بعد الحس به أو بما فيه شبه به من بعض الوجوه فكذلك لا يحب كذلك
الأمور الغائبة لا تعرف ولا تحب وتبغض إلا بنوع من القياس والتمثيل
ولهذا ضربت الأمثال للتعريف والترغيب والترهيب فإن الأمور الغائبة عن المشاهدة والإحساس لا تعرف وتحب وتبغض إلا بنوع من التمثيل والقياس سواء كان الغائب أكمل في الصفات المطلوبة المشتركة كالموعود به من أمر الجنة والنار وكما يصف به الرب نفسه سبحانه وتعالى أو ما كان دون ذلك كما مثل من الأمور بما هو أكمل منه
ومن هنا ضل من ضل من الصابئة المتفلسفة ومن أضلوه من أهل الملل حيث ظنوا أن ما وصف الله به من الجنة والنار إنما هي أمثال مضروبة لتفهيم المعاد الروحاني من غير أن تكون حقائق وضل من رد عليهم من نفاة أهل الكلام كما أصاب الفريقين مثل ذلك في أمر النفس الناطقة حيث تقابلوا بالنفي والإثبات وحيث اتفق الفريقان على مثل هذا الضلال في صفات ذي الجلال فخاضوا في باب الإيمان بالله واليوم الآخر خوضا ليس هذا موضع بسط الكلام فيه وإن كان كل ذي مقالة فلا بد أن تكون في مقالته شبهة من الحق ولولا ذلك لما راجت واشتبهت
وإن كانت الإرادة والمحبة تنقسم إلى متبوعة للمراد تكون له كالسبب الفاعل وإلى تابعة للمراد يكون هو لها كالسبب الفاعل وتكون عنه كالمسبب المفعول وهذا هو الأصل
وإذا علم أن جميع حركات العالم صادرة عن محبة وإرادة ولا بد للمحبة والإرادة من سبب فاعل يكون هو المحبوب المراد علم بذلك أنه لا بد لجميع الحركات من إله يكون المعبود المقصود المراد المحبوب لها وأنها دالة على الإله الحق من هذا الوجه وأنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهذا غير هذا الوجه الذي دلت منه على ربوبيته وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع متعددة إذ هو أجل العلم الإلاهي وأشرفه وإنما كان المقصود هنا التنبيه على أن الإرادة نوعان كالعلم والله أعلم