الرئيسيةبحث

جامع الرسائل/رسالة في لفظ السنة في القرآن




رسالة في لفظ السنة في القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وعليه التكلان

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وسلم تسليما أما بعد فهذا

فصل: لفظ السنن في مواضع من القرآن

اعلم أنه قد ذكر الله تعالى لفظ سننه في مواضع من كتابه فقال تعالى سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا سورة الإسراء 77 وقال تعالى ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا سورة الأحزاب 38 وقال تعالى في آخر السورة ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا سورة الأحزاب 61 62

وقال فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا سورة فاطر 43

وقال سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون سورة غافر 85

وقال ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا سورة الفتح 22 23

وقال تعالى قد خلت من قبلكم سنن سورة آل عمران 137

وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين سورة الكهف 55

سنته نصرة أوليائه وإهانة أعدائه

فهذه كلها تتعلق بأوليائه كمطيعيه وعصاته كالمؤمنين والكافرين فسنته في هؤلاء إكرامهم وسنته في هؤلاء إهانتهم وعقوبتهم

الآية الأولى

فأما الأولى فإنها تتعلق بالرسل لأنه لا حرج عليهم فيما فرض الله تعالى لهم وهذا كقوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم سورة التحريم 2 والمفروض هنا مباح مقدر محدود مثل إباحة زوجة المتبنى بعد أن قضى منها وطرا وطلقها لا بأن تؤخذ منه بغير اختياره وقد قال تعالى وقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم سورة الأحزاب 50 أي أوحينا وحرمنا قبل

وهنا المراد به سنته في رسله أنه أباح لهم الأزواج وغيرها كما قال ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية سورة الرعد 38 وأنه لا حرج عليهم في ذلك فلم يكن محمد ﷺ بدعا من الرسل ولم يقل هنا ولن تجد لسنتنا تبديلا فإنه لا نبي بعد محمد

الأربعة البواقي:

والأربعة البواقي تتضمن عقوبة الكفار والمنافقين فالأولى قوله

الأولى

إنهم لو استفزوه فأخرجوه لم يلبثوا خلفه إلا قليلا كسنة من أرسل قبله من الرسل فإما أن يقال وقع هذا الإخراج بالهجرة ولم يلبثوا خلفه إلا قليلا وهو ما أصابهم يوم بدر وإما أن يقال لم يقع

الثانية

والثانية قوله لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض الآية سورة الأحزاب 60 كما أصاب من قبلهم من أهل الكتاب فإن الله أخرجهم فإن لم ينته غي هؤلاء بل أظهروا الكفر كما أظهره أولئك أخرجناهم كما أخرجناهم بخلاف ما إذا كتموه

وهذه السنه تتضمن أن كل من جاور الرسول ﷺ متى أظهر مخالفته مكن الله الرسول من إخراجه وهذه في أهل العمد والمنافقين وقد يقال هي لهم مع المؤمنين أبدا

الثالثة

والثالثة في أهل المكر السيء وأن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا على أعدائهم وينتقم منهم وقال هنا فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا

الرابعة

والرابعة في حال الكفار مع المؤمنين

السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية ينقضها الله إذا شاء

وهذه السنن كلها سنن تتعلق بدينه وأمره ونهيه ووعده ووعيده وليست هي السنن المتعلقة بالأمور الطبيعية كسنته في الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من العادات فإن هذه السنة ينقضها إذا شاء بما شاءه من الحكم كما حبس الشمس على يوشع وكما شق القمر لمحمد ﷺ وكما ملأ السماء بالشهب وكما أحيا الموتى غير مرة وكما جعل العصا حية وكما أنبع الماء من الصخرة بعصا وكما أنبع الماء من بين أصابع الرسول ﷺ

وقد ذكر بعض هذه الآيات السهروردي في المنقول في الألواح العمادية وفي المبدأ والمعاد محتجا بها على ما يقوله هو أمثاله من المتفلسفة أن العالم لم يزل ولا يزال هكذا بناء على أن هذه سنة الرب عز وجل وعادته وهي لا تبديل لها إذ كان عندهم ليس فاعلا بمشيئته واختياره بل موجب بذاته

فيقال لهم احتجاجكم على هذا بالقرآن في غاية الفساد فإن القرآن يصرح بنقيض مذهبكم في جميع المواضع وقد علم بالإضطرار أن ما يقولونه مخالف لما جاء به الرسول ﷺ فاحتجاجكم بهذا أفسد من احتجاج النصارى على أن محمدا شهد بأن دينهم بعد النسخ والتبديل حق بآيات من القرآن حرفوها عن مواضعها قد تكلمنا عليها في ]]الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح[[ فإن النصارى وإن كانوا كفارا بتبديل الكتاب الأول وتكذيب الثاني فهم خير منكم من وجوه كثيرة فإنهم يقولون بالأصول الكلية التي اتفقت عليها الرسل وإن كانوا حرفوا بعض ذلك كالإيمان بأن الله خالق كل شيء وأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير والإيمان بملائكته ورسله واليوم الآخر والجنة والنار وغير ذلك مما تكذبون أنتم به

الأدلة على ذلك

وأما بيان الدلالة فمن وجوه

الأول

أحدها أن يقال العادات الطبيعية ليس للرب فيها سنة لازمة فإنه قد عرف بالدلائل اليقينية أن الشمس والقمر والكواكب مخلوقة بعد أن لم تكن فهذا تبديل وقع وقد قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات سورة إبراهيم 48

الثاني

وأيضا فقد عرف انتقاض عامة العادات فالعادة في بني آدم ألا يخلقوا إلا من أبوين وقد خلق المسيح من أم وحواء من أب وآدم من غير أم ولا أب وإحياء الموتى متواتر مرات متعددة وكذلك تكثير الطعام والشراب لغير واحد من الأنبياء والصالحين عليهم السلام

الثالث

وأيضا فعندكم تغيرات وقعت في العالم كالطوفانات الكبار فيها تغيير العادة

وهذا خلاف عادته التي وعد بها وأخبر أنها لا تتغير لنصرة أوليائه وإهانة أعدائه فإن هذا علم بخبره وحكمته

أما خبره فإنه أخبر بذلك ووعد به وهو الصادق الذي لا يخلف الميعاد

وهذا يوافق طرق جميع طوائف أهل الملل ويقولون مقتضى حكمته أن يكون العاقبة والنصر لأوليائه دون أعدائه كما قد بسط ذلك في مواضع

وأما الأمور الطبيعية فإما أن تقع بمحض المشيئة على قول وإما أن تقع بحسب الحكمة والمصلحة على قول وعلى كلا التقديرين فتبديلها وتحويلها ليس ممتنعا كما في نسخ الشرائع وتبديل آية بآية فإنه إن علق الآية بمحض المشيئة فهو يفعل ما يشاء وإن علقها بالحكمة مع المشيئة فالحكمة تقتضي تبديل بعض ما في العالم كما وقع كثير من ذلك في الماضي وسيقع في المستقبل فعلم أن هذه السنن دينيات لا طبيعيات

ولكن في قوله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا حجة للجمهور القائلين بالحكمة فإن أصحاب المشيئة المجردة يجوزون نقض كل عادة ولكن يقولون إنما نعلم ما يكون بالخبر

سنته تعالى مطردة في الدينيات والطبيعيات

وقوله تعالى فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا دليل على أن هذا من مقتضى حكمته وأنه يقضي في الأمور المتماثلة بقضاء متماثل لا بقضاء مخالف فإذا كان قد نصر المؤمنين لأنهم مؤمنون كان هذا موجبا لنصرهم حيث وجد هذا الوصف بخلاف ما إذا عصوا ونقضوا إيمانهم كيوم أحد فإن الذنب كان لهم ولهذا قال ولن تجد لسنة الله تبديلا فعم كل سنة له وهو يعم سنته في خلقه وأمره في الطبيعيات والدينيات

نقض العادة لاختصاص معين

لكن الشأن أن تعرف سنته وحقيقة هذا أنه إذا نقض العادة فإنما ينقضها لاختصاص تلك الحال بوصف امتازت به عن غيره فلم تكن سنته

مع ذلك والإختصاص بسنته مع عدمه كما نقول إذا خصت العلة لفوات شرط أو وجود مانع وكما نقول في الإستحسان الصحيح وهو تخصيص بعض أفراد العام بحكم يختص به لامتيازه عن نظائره بوصف يختص به

السنة هي العادة

والسنة هي العادة في الأشياء المتماثلة وسنة هنا تجري على سنه هذا في الإشتقاق الأكبر والسنة من هذا الباب سواء كان أصله سنوة أو سنهة وهما لغتان في السنة

والسنن وأسنان المشط ونحو ذلك بلفظ السنة يدل على التماثل فإنه سبحانه إذا حكم في الأمور المتماثلة بحكم فإن ذلك لا ينتقض ولا يتبدل ولا يتحول بل هو سبحانه لا يفوت بين المتماثلين وإذا وقع تغيير فذلك لعدم التماثل وهذا القول أشبه بأصول الجمهور القائلين بالحكمة في الخلق والأمر وأنه سبحانه يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين كما دل القرآن على هذا في مواضع كقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين سورة القلم 35

ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الإعتبار بها والإعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره كالأمثال المضروبة في القرآن وهي كثيرة

وذكر لفظ التبديل والتحويل كقوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا سورة الإسراء 56 فالتبديل أن تبدل بخلافه والتحويل أن تحول من محل إلى محل

مثل استفزازه من الأرض ليخرجوه فإنهم لا يلبثون خلفه إلا قليلا ولا تتحول هذه السنة بأن يكون هو المخرج وهم اللابثون بل متى أخرجوه خرجوا خلفه ولو مكث لكان هذا استصحاب حال بخلاف ظهور الكفار فإنه كان تبديلا لظهور المؤمنين وظهور الكفار إذ كان لا بد من أحدهما

وأما أهل المكر السيء والكفار فهي سنة تبديل لا بد لهم من العقوبة لا يبدلون بها غيرها ولا نتحول عنهم إلى المؤمنين وهو عيد لأهل المكر السيء أنه لا يحيق إلا بأهله ولن يتبدلوا به خيرا بتضمن نفيا وإثباتا فلهذا نفى عنه التبديل والتحويل

فصل

والقرآن قد دل على هذا الأصل في مواضع كقوله قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون سورة الأنعام 47 وقوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد سورة هود 102 وقوله أكفار كم خير من أولئكم سورة القمر 43 ومنه قوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب سورة يوسف 111 وقوله قد كان لكم آية في فئتين التقتا سورة آل عمران 13 إلى قوله إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار سورة آل عمران 13

فصل

وقد أخبر سبحانه أنه تارة يعاقبهم عقب السراء وتارة يعاقبهم عقب الضراء إذا لم يتضرعوا فقال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون إلى قوله مبلسون سورة المؤمنون 76 77 فهنا أخبر أنه بالعذاب الأدنى ما استكانوا وما تضرعوا حتى أخذهم بالإهلاك كما قال ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون سورة السجدة 21 وقال أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون سورة التوبة 126 والضمير يكون عائدا على الذين لا يؤمنون بالآخرة

وقال في سورة الأنعام ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء إلى قوله والحمد لله رب العالمين سورة الأنعام 42 45 فهذه نظيرها في الأعراف في قوله وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء إلى قوله وهم لا يشعرون الآيات سورة الأعراف 94 95 فقد ذمهم أنهم لم يتضرعوا لما أخذهم بالبأساء والضراء فإنه بعد هذا بدل الحالة السيئة بالحالة الحسنة فلم يطيعوا فأخذهم بالعذاب بغتة فهنا أخذهم أولا بالضراء ليضرعوا فلم يتضرعوا فابتلاهم الله بالسراء ليطيعوا فلم يطيعوا فأخذهم بالعذاب وهذا كقوله تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون سورة الأعراف 168 فهؤلاء ابتلوا بالضراء أولا ثم بالسراء ثانيا وقد أخبر أنه ما أرسل في قرية من نبي إلا كانوا هكذا

وهذا كما ذكره سبحانه في حال قوم فرعون وغيرهم وهذا ذم لمن لم يستقم لا في الضراء ولا في السراء لا دعا بالضراء ولا بالسراء ولا تضرع في الضراء ولا شكر ولا آمن في السراء ابتلاهم بالحسنات وهي النعم والسيئات وهي المصائب فما أطاعوا لا في هذا ولا في هذا

وأما آية المؤمنين فأمراؤهم لم يستكينوا ولم يتضرعوا حتى فتح عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون وهؤلاء قد يكون تقدم لهم ابتلاء بالحسنات أولا فإنه قال في أول الكلام يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم سورة المؤمنون 51 إلى قوله أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون إلى قوله حتى إذا اخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون الآية 64 إلى قوله ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم الآيتان 75 76

فهؤلاء كانوا في حالة حسنة فلما لم يتقوه أخذ مترفيهم بالعذاب ثم أخذهم بالعذاب ليتضرعوا فلما لم يتضرعوا ابتلاهم بالحسنات أولا فلما لم يتقوه استحقوا العذاب فيعتبر الفرق بين هؤلاء وهؤلاء

(آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وسلم تسليما)