الرئيسيةبحث

جامع الرسائل/رسالة في الصفات الاختيارية



رسالة في الصفات الاختيارية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما.

قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين بن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه.

فصل

في الصفات الاختيارية: وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه؛ ومثل خلقه وإحسانه وعدله؛ ومثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة.

مقالة الجهمية والمعتزلة

فالجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من هذه الصفات ولا غيرها.

مقالة الكلابية والسالمية

والكلابية ومن وافقهم من السالمية وغيرهم يقولون: تقوم به صفات بغير مشيئته وقدرته؛ فأما ما يكون بمشيئته وقدرته: فلا يكون إلا مخلوقا منفصلا عنه لا يقوم بذات الرب.

مقالة السلف وأهل السنة

وأما السلف وأئمة السنة والحديث فيقولون: إنه متصف بذلك؛ كما نطق به الكتاب والسنة؛ وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة أو أكثرهم كما قد ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع.

صفة الكلام

ومثل هذا الكلام، فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته؛ وكلامه ليس بمخلوق؛ بل كلامه صفة له قائمة بذاته.

وممن ذكر أن ذلك قول أئمة السنة: أبو عبد الله ابن منده وأبو عبد الله ابن حامد وأبو بكر عبد العزيز وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم؛ وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في الاستواء.

وأئمة السنة - كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومن لا يحصى من الأئمة وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني عن سعيد بن منصور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وسائر أهل السنة والحديث - متفقون على أنه يتكلم بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء.

وقد سمى الله القرآن العزيز حديثا، وقال: { الله نزل أحسن الحديث } وقال: { ومن أصدق من الله حديثا }. وقال { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }.

وقال النبي ﷺ " إن الله يحدث من أمره ما يشاء " وهذا مما احتج به البخاري في صحيحه وفي غير صحيحه؛ واحتج به أيضا غير البخاري كنعيم بن حماد وحماد بن زيد.

ومن المشهور عن السلف: أن القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.

مقالة الجهمية والمعتزلة في صفة الكلام:

وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته؛ بل كلامه مخلوق منفصل عنه. والمعتزلة يطلقون القول: بأنه يتكلم بمشيئته؛ ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما منفصلا عنه.

مقالة الكلابية والسالمية فيها

و الكلابية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل كلامه قائم بذاته بدون قدرته ومشيئته مثل حياته؛ وهم يقولون: الكلام صفة ذات؛ لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته؛ وأولئك يقولون: هو صفة فعل؛ لكن الفعل عندهم: هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته.

وأما السلف وأئمة السنة وكثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وطوائف غير هؤلاء فقولون: إنه " صفة ذات وفعل " هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم: فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم.

والكلام صفة كمال؛ لا صفة نقص ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته؛ فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق ولكن الجهمية والمعتزلة بنوا على أصلهم أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عرض والعرض لا يقوم إلا بجسم.

و الكلابية يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة ولا تكون بمشيئته؛ فأما ما يكون بمشيئته فإنه حادث والرب - تعالى - لا تقوم به الحوادث. ويترجمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته كان ذلك النداء والكلام حادثا.

قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ قالوا: ولأن كونه قابلا لتلك الصفة إن كان من لوازم ذاته كان قابلا لها في الأزل فيلزم جواز وجودها في الأزل والحوادث لا تكون في الأزل؛ فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول لها وذلك محال: " لوجوه " قد ذكرت في غير هذا الموضع.

قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام وبه عرفنا حدوث العالم وبذلك أثبتنا وجود المانع وصدق رسله؛ فلو قدحنا في ذلك لزم القدح في أصول " الإيمان " و" التوحيد ".

وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلا لها بعد أن لم يكن قابلا فيكون قابلا لتلك القابلية فيلزم التسلسل الممتنع. وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب وبينا فساده وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فهم هذا الباب.

مقالة الرازي

وفضلاؤهم المتأخرون كالرازي والآمدي والطوسي والحلي وغيرهم - معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك؛ بل ذكر الرازي وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف ونصره في آخر كتبه كالمطالب العالية - وهو من أكبر كتبه الكلامية [ وخالف بذلك قوله في أجل ما صنفه في الكلام وهو كتابه ] الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول - ولما عرف فساد قول النفاة لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن ". فإن عمدتهم في مسألة القرآن إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته - قالوا - لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث؛ فلما عرف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن. فإن عمدتهم عليه؛ بل استدل بإجماع مركب وهو دليل ضعيف إلى الغاية لكن لم يكن عنده في نصر قول الكلابية غيره؛ وهذا مما يبين أنه وأمثاله تبين لهم فساد قول الكلابية.

مقالة الآمدي

وكذلك الآمدي ذكر في أبكار الأفكار ما يبطل قولهم وذكر أنه لا جواب عنه وقد كشفت هذه الأمور في مواضع؛ وهذا معروف عند عامة العلماء حتى الحلي بن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي حلول الحوادث لا دليل عليه، فالمنازع جاهل بالعقل والشرع.

مقالة الجويني

وكذلك من قبل هؤلاء كأبي المعالي وذويه إنما عمدتهم أن الكرامية قالوا ذلك وتناقضوا فيبينون تناقض الكرامية ويظنون أنهم إذا بينوا تناقض الكرامية - وهم منازعوهم - فقد فلجوا؛ ولم يعلموا أن السلف وأئمة السنة والحديث - بل من قبل الكرامية من الطوائف - لم يكن يلتفت إلى الكرامية وأمثالهم؛ بل تكلموا بذلك قبل أن يخلق الكرامية: فإن ابن كرام كان متأخرا بعد أحمد بن حنبل في زمن مسلم بن الحجاج وطبقته وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء وما زال السلف يقولون بموجب ذلك.

لكن لما ظهرت الجهمية النفاة في أوائل المائة الثانية بين علماء المسلمين ضلالهم وخطاؤهم؛ ثم ظهر محنة الجهمية في أوائل المائة الثالثة وامتحن العلماء: الإمام أحمد وغيره فجردوا الرد على الجهمية وكشف ضلالهم حتى جرد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن تدل على بطلان قولهم وهي كثيرة جدا. بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرة جدا.

الآيات الدالة على صفة الكلام

وهذا كقوله تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } فهذا بين في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم؛ لم يأمرهم في الأزل.

وكذلك قوله: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فإنما قال له كن بعد أن خلقه من تراب؛ لا في الأزل.

وكذلك قوله في قصة موسى: { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } وقال تعالى: { فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } فهذا بين في أنه إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل كما يقوله " الكلابية " يقولون: إن النداء قائم بذات الله في الأزل وهو لازم لذاته لم يزل ولا يزال مناديا له لكنه لما أتى خلق فيه إدراكا لما كان موجودا في الأزل.

ثم من قال منهم إن الكلام معنى واحد: منهم من قال: سمع ذلك المعنى بأذنه كما يقوله الأشعري ومنهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم؛ كما يقوله: القاضي أبو بكر وغيره.

فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد فموسى فهم المعنى كله أو بعضه؟ إن قلتم كله فقد علم علم الله كله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وعندكم لا يتبعض.

ومن قال من أتباع الكلابية: بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب كما يقوله السالمية ومن وافقهم يقولون: إنه يخلق له إدراكا لتلك الحروف والأصوات؛ والقرآن والسنة وكلام السلف قاطبة يقتضي أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى؛ لم يكن النداء موجودا قبل ذلك فضلا عن أن يكون قديما أزليا.

وقال تعالى: { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين }، وهذا يدل على أنه لما أكلا منها ناداهما، لم ينادهما قبل ذلك.

وقال تعالى: { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين }. { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون }. فجعل النداء في يوم معين وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن وهو حينئذ يناديهم؛ لم ينادهم قبل ذلك.

وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد }. فبين أنه يحكم فيحلل ما يريد ويحرم ما يريد ويأمر بما يريد؛ فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقا بإرادته. وهذه أنواع الكلام، فدل على أنه يأمر بإرادته وينهى بإرادته، ويحلل بإرادته ويحرم بإرادته.

و الكلابية يقولون: ليس شيء من ذلك بإرادته؛ بل هو قديم لازم لذاته غير مراد له ولا مقدور. والمعتزلة مع الجهمية " يقولون: كل ذلك مخلوق منفصل عنه ليس له كلام قائم به لا بإرادته ولا بغير إرادته ومثل هذا كثير في القرآن العزيز.

فصل: صفة الإرادة

وكذلك في الإرادة والمحبة كقوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }. وقوله: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وقوله: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وقوله: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول } وقوله: { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له } وقوله:

{ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } وقوله: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } وأمثال ذلك في القرآن العزيز.

فإن جوازم الفعل المضارع ونواصبه تخلصه للاستقبال مثل إن وأن وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان؛ فقوله: { إذا أراد } و{ إن شاء الله } ونحو ذلك يقتضي حصول إرادة مستقبلة ومشيئة مستقبلة.

صفتا المحبة والرضا

وكذلك في المحبة والرضا قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فإن هذا يدل على أنهم إذا اتبعوه أحبهم الله؛ فإنه جزم قوله "يحببكم الله" فجزمه جوابا للأمر وهو في معنى الشرط فتقديره: إن تتبعوني يحببكم الله.

ومعلوم أن جواب الشرط والأمر إنما يكون بعده لا قبله؛ فمحبة الله لهم إنما تكون بعد اتباعهم للرسول؛ والمنازعون: منهم من يقول: ما ثم محبة بل المراد ثوابا مخلوقا ومنهم من يقول: بل ثم محبة قديمة أزلية إما الإرادة وإما غيرها والقرآن يدل على قول السلف وأئمة السنة المخالف للقولين.

وكذلك قوله: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } فإنه يدل على أن أعمالهم أسخطته فهي سبب لسخطه وسخطه عليهم بعد الأعمال؛ لا قبلها.

وكذلك قوله: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } وكذلك قوله: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } علق الرضا بشكرهم وجعله مجزوما جزاء له وجزاء الشرط لا يكون إلا بعده.

وكذلك قوله: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } و{ يحب المتقين } و{ يحب المقسطين } و{ يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } ونحو ذلك فإنه يدل على أن المحبة بسبب هذه الأعمال وهي جزاء لها والجزاء إنما يكون بعد العمل والسبب.

فصل: صفتا السمع والبصر

وكذلك السمع والبصر والنظر. قال الله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } هذا في حق المنافقين وقال في حق التائبين: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } فقوله { فسيرى الله } دليل على أنه يراها بعد نزول هذه الآية الكريمة والمنازع إما أن ينفي الرؤية؛ وإما أن يثبت رؤية قديمة أزلية فقط.

وكذلك قوله { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ولام "كي" تقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول فنظره كيف يعملون هو بعد جعلهم خلائف.

وكذلك { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } أخبر أنه يسمع تحاورهما حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله.

وقال النبي ﷺ { إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم }. فجعل سمعه لنا جزاء وجوابا للحمد فيكون ذلك بعد الحمد والسمع يتضمن مع سمع القول قبوله وإجابته.

ومنه قول الخليل { إن ربي لسميع الدعاء }. وكذلك قوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } وقوله لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى }.

و العقل الصريح يدل على ذلك فإن المعدوم لا يرى ولا يسمع بصريح العقل واتفاق العقلاء؛ لكن قال من قال من السالمية: إنه يسمع ويرى موجودا في علمه لا موجودا بائنا عنه ولم يقل أحد: إنه يسمع ويرى بائنا عن الرب. فإذا خلق العباد وعملوا وقالوا؛ فإما أن نقول: إنه يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم؛ وإما لا يرى ولا يسمع. فإن نفي ذلك تعطيل لهاتين الصفتين وتكذيب للقرآن وهما صفتا كمال لا نقص فيه فمن يسمع ويبصر أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر.

والمخلوق يتصف بأنه يسمع ويبصر فيمتنع اتصاف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق سبحانه وتعالى وقد عاب الله تعالى من يعبد من لا يسمع ولا يبصر في غير موضع؛ ولأنه حي والحي إذا لم يتصف بالسمع والبصر اتصف بضد ذلك وهو العمى والصمم وذلك ممتنع وبسط هذا له موضع آخر.

وإنما المقصود هنا أنه إذا كان يسمع ويبصر الأقوال والأعمال بعد أن وجدت؛ فإما أن يقال: إنه تجدد شيء، وإما أن يقال: لم يتجدد شيء، فإن كان لم يتجدد، وكان لا يسمعها ولا يبصرها، فهو بعد أن خلقها لا يسمعها ولا يبصرها. وإن تجدد شيء: فإما أن يكون وجودا أو عدما؛ فإن كان عدما فلم يتجدد شيء وإن كان وجودا: فإما أن يكون قائما بذات الله أو قائما بذات غيره والثاني يستلزم أن يكون ذلك الغير هو الذي يسمع ويرى فيتعين أن ذلك السمع والرؤية الموجودين قائم بذات الله وهذا لا حيلة فيه.

و الكلابية يقولون في جميع هذا الباب: المتجدد هو تعلق تعلق بين الأمر والمأمور وبين الإرادة والمراد وبين السمع والبصر والمسموع والمرئي.

فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودا وإما أن يكون عدما فإن كان عدما فلم يتجدد شيء فإن العدم لا شيء وإن كان وجودا بطل قولهم.

وأيضا فحدوث تعلق هو نسبة وإضافة من غير حدوث ما يوجب ذلك ممتنع فلا تحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجودي يقتضي ذلك. وطائفة منهم ابن عقيل يسمون هذه النسب أحوالا.

و الطوائف متفقون على حدوث نسب وإضافات وتعلقات لكن حدوث النسب بدون حدوث ما يوجبها ممتنع. فلا تكون نسبة وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية؛ كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية والتيامن والتياسر فإنها لا بد أن تستلزم أمورا ثبوتية.

أفعال الرب الاختيارية

وكذلك كونه خالقا ورازقا ومحسنا وعادلا فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته إذ كان يخلق بمشيئته ويرزق بمشيئته. ويعدل بمشيئته ويحسن بمشيئته. والذي عليه جماهير المسلمين من السلف. والخلف أن الخلق غير المخلوق؛ فالخلق فعل الخالق والمخلوق مفعوله.

ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ بأفعال الرب وصفاته كما في قوله ﷺ { أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. } فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه.

وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأنه استعاذ به فقال: { من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل منه }. فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوق لأنه استعاذ به والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة فإنها نتيجة معافاته.

وإذا كان الخلق فعله والمخلوق مفعوله وقد خلق الخلق بمشيئته دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته ويمتنع قيامه بغيره فدل على أن أفعاله قائمة بذاته مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته.

وقد حكى البخاري إجماع العلماء على الفرق بين الخلق والمخلوق وعلى هذا يدل صريح المعقول. فإنه قد ثبت بالأدلة العقلية والسمعية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وأن الله انفرد بالقدم والأزلية.

وقد قال تعالى: { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } فهو حين خلق السموات ابتداء؛ إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقا للسموات والأرض وإما أن لا يحصل منه فعل؛ بل وجدت المخلوقات بلا فعل ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها ومع خلقها وبعده سواء لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص.

و أيضا فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بدايه العقل وإذا قيل: الإرادة والقدرة القديمة خصصت. قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء.

وأيضا فلا تعقل إرادة تخصص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص.

وأيضا فلا بد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا؛ للزم وجوده قبل ذلك لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور.

وقد احتج من قال الخلق هو المخلوق - كأبي الحسن ومن اتبعه مثل ابن عقيل - بأن قالوا: لو كان غيره لكان إما قديما وإما حادثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق لأنهما متضايفان؛ وإن كان حادثا لزم أن تقوم به الحوادث ثم ذلك المخلوق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل.

فأجابهم الجمهور - كل طائفة على أصلها - فطائفة قالت: الخلق قديم وإن كان المخلوق حادثا كما يقول ذلك كثير من أهل المذاهب الأربعة وعليه أكثر الحنفية؛ قال هؤلاء: أنتم تسلمون لنا أن الإرادة قديمة أزلية؛ والمراد محدث فنحن نقول في الخلق ما قلتم في الإرادة.

وقالت طائفة: بل الخلق حادث في ذاته ولا يفتقر إلى خلق آخر؛ بل يحدث بقدرته. وأنتم تقولون: إن المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم يكن فإن كان المنفصل يحصل بمجرد القدرة فالمتصل به أولى وهذا جواب كثير من الكرامية والهشامية وغيرهم.

و طائفة يقولون: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله فلم قلتم: إن ذلك ممتنع؟ وقولكم: هذا تسلسل.

فيقال: هذا ليس تسلسلا في الفاعلين والعلل الفاعلة؛ فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء؛ بل هو تسلسل في الآثار والأفعال وهو حصول شيء بعد شيء.

وهذا محل النزاع. فالسلف يقولون: لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء؛ وقد قال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا }. فكلمات الله لا نهاية لها وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.

فصل

و الأفعال نوعان: متعد ولازم. فالمتعدي مثل: الخلق والإعطاء ونحو ذلك واللازم: مثل الاستواء والنزول والمجيء والإتيان.

قال تعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } فذكر الفعلين: المتعدي واللازم وكلاهما حاصل بقدرته ومشيئته وهو متصف به؛ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

الأدلة على هذا الأصل من السنة

والمقصود هنا: أن القرآن يدل على هذا الأصل في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب كما في الصحيحين: عن زيد بن خالد الجهني { أن النبي ﷺ صلى بأصحابه صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل ثم قال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا ونوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب }.

وفي الصحاح في حديث الشفاعة { يقول كل من الرسل إذا أتوا إليه: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله } " وهو بيان أن الغضب حصل في ذلك اليوم لا قبله.

وفي الصحيح: { إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجر السلسلة على الصفوان } فقوله: إذا تكلم الله بالوحي سمع يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه وذلك ينفي كونه أزليا وأيضا فما يكون كجر السلسلة على الصفا يكون شيئا بعد شيء والمسبوق بغيره لا يكون أزليا.

وكذلك في الصحيح { يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي؛ فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل } فقد أخبر أن العبد إذا قال { الحمد لله } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي.. الحديث.

وفي الصحاح حديث النزول أنه { ينزل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ } فهذا قول وفعل في وقت معين وقد اتفق السلف على أن النزول فعل يفعله الرب كما قال ذلك الأوزاعي وحماد بن زيد والفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهم.

وأيضا فقد قال ﷺ { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } وفي الحديث الصحيح الآخر { ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به }

أذن يأذن أذنا: أي استمع يستمع استماعا { وأذنت لربها وحقت }. فأخبر أنه يستمع إلى هذا وهذا.

وفي الصحيح { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به؛ وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها } فأخبر أنه لا يزال يتقرب بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه، و"حتى" حرف غاية، يدل على أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.

وفي الصحيحين عنه ﷺ فيما يروي عن ربه تعالى قال: { قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منهم } وحرف "إن" حرف الشرط؛ والجزاء يكون بعد الشرط فهذا يبين أنه يذكر العبد بعد أن يذكره العبد، إن ذكره في نفسه ذكره في نفسه وإن ذكره في ملإ ذكره في ملإ خير منهم والمنازع يقول ما زال يذكره أزلا وأبدا ثم يقول: ذكره وذكر غيره وسائر ما يتكلم الله به هو شيء واحد لا يتبعض ولا يتعدد فحقيقة قوله إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا يذكر أحدا.

وفي صحيح مسلم في حديث تعليم الصلاة { وإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد؛ يسمع الله لكم فإن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده } " فقوله: سمع الله لمن حمده؛ لأن الجزاء بعد الشرط فقوله "يسمع الله لكم" مجزوم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين وهذا يقتضي أنه يسمع بعد أن تحمدوا.

فصل: مواقف النفاة من مسألة الصفات والرد عليهم

والمنازعون النفاة كذلك. منهم من ينفي الصفات مطلقا فهذا يكون الكلام معه في الصفات مطلقا؛ لا يختص بالصفات الاختيارية. ومنهم من يثبت الصفات ويقول لا يقوم بذاته شيء بمشيئته وقدرته؛ فيقول: إنه لا يتكلم بمشيئته واختياره ويقول: لا يرضى ويسخط ويحب ويبغض ويختار بمشيئته وقدرته ويقول: إنه لا يفعل فعلا هو الخلق يخلق به المخلوق ولا يقدر عنده على فعل يقوم بذاته بل مقدوره لا يكون إلا منفصلا منه وهذا موضع تنازع فيه النفاة.

فقيل: لا يكون مقدوره إلا بائنا عنه؛ كما يقوله الجهمية والكلابية والمعتزلة وقيل: لا يكون مقدوره إلا ما يقوم بذاته؛ كما يقوله: السالمية والكرامية والصحيح: أن كليهما مقدور له.

أما الفعل فمثل قوله تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم }.

وقوله: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى }.

وقول الحواريين: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء }.

وقوله: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقوله: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } إلى أمثال ذلك مما يبين أنه يقدر على الأفعال كالإحياء والبعث ونحو ذلك.

وأما القدرة على الأعيان ففي الصحيح عن أبي مسعود قال: { كنت أضرب غلاما فرآني النبي ﷺ فقال: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود: لله أقدر عليك منك على هذا } فقوله: "لله أقدر عليك منك على هذا" دليل على أن القدرة تتعلق بالأعيان المنفصلة: قدرة الرب وقدرة العبد.

ومن الناس من يقول: كلاهما يتعلق بالفعل كالكرامية ومنهم من يقول: قدرة الرب تتعلق بالمنفصل وأما قدرة العبد فلا تتعلق إلا بفعل في محلها كالأشعرية.

و النصوص تدل على أن كلا القدرتين تتعلق بالمتصل والمنفصل فإن الله تعالى أخبر أن العبد يقدر على أفعاله كقوله: { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم } فدل على أن منا من يستطيع ذلك ومنا من لم يستطع.

وقال النبي ﷺ { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء }. أخرجاه في الصحيحين.

وقوله: { إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل }.

وقوله في الحديث الذي في الصحيح: { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقد أخبر أنه قادر على عبده وهؤلاء الذين يقولون: لا تقوم به الأمور الاختيارية عمدتهم أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.

وقد نازعهم الناس في كلا المقدمتين وأصحابهم المتأخرون كالرازي والآمدي قدحوا في المقدمة الأولى في نفس هذه المسألة وقدح الرازي في المقدمة الثانية في غير موضع من كتبه وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.

وقولهم: إنما عرفنا حدوث العالم بهذه الطريق وبه أثبتنا الصانع فيقال لهم: لا جرم ابتدعتم طريقا لا يوافق السمع ولا العقل فالعالمون بالشرع معترفون أنكم مبتدعون محدثون في الإسلام ما ليس منه والذين يعقلون ما يقولون يعلمون أن العقل يناقض ما قلتم وأن ما جعلتموه دليلا على إثبات الصانع لا يدل على إثباته بل هو استدلال على نفي الصانع.

وإثبات الصانع حق وهذا الحق يلزم من ثبوته إبطال استدلالكم بأن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث.

وأما كون طريقكم مبتدعة ما سلكها الأنبياء ولا أتباعهم ولا سلف الأمة؛ فلأن كل من يعرف ما جاء به الرسول - وإن كانت معرفته متوسطة لم يصل في ذلك إلى الغاية - يعلم أن الرسول ﷺ لم يدع الناس في معرفة الصانع وتوحيده وصدق رسله إلى الاستدلال بثبوت الأعراض وأنها حادثة ولازمة للأجسام؛ وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها، بل يعلم بالاضطرار أن هذه الطريق لم يتكلم بها الرسول ولا دعا إليها أصحابه، ولا أصحابه تكلموا بها ولا دعوا بها الناس.

وهذا يوجب العلم الضروري من دين الرسول بأنه عند الرسول والمؤمنين به أن الله يعرف ويعرف توحيده وصدق رسله بغير هذه الطريق فدل الشرع دلالة ضرورية على أنه لا حاجة إلى هذه الطريق ودل ما فيها من مخالفة نصوص الكتاب والسنة على أنها طريق باطلة. فدل الشرع على أنه لا حاجة إليها وأنها باطلة.

وأما العقل فقد بسط القول في جميع ما قيل فيها في غير هذه المواضع وبين أن أئمة أصحابها قد يعترفون بفسادها من جهة العقل. كما يوجد في كلام أبي حامد والرازي وغيرهما بيان فسادها.

ولما ظهر فسادها للعقل تسلط الفلاسفة على سالكيها وظنت الفلاسفة أنهم إذا قدحوا فيها فقد قدحوا في دلالة الشرع ظنا منهم أن الشرع جاء بموجبها إذ كانوا أجهل بالشرع والعقل من سالكيها فسالكوها لا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا بل سلطوا الفلاسفة عليهم وعلى الإسلام. وهذا كله مبسوط في مواضع.

وإنما المقصود هنا: أن يعرف أن نفيهم للصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث ليس لهم دليل عقلي عليه وحذاقهم يعترفون بذلك وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقضه والعقل أيضا يدل نقيضه من وجوه نبهنا على بعضها.

ولما لم يمكن مع أصحابها حجة لا عقلية ولا سمعية: من الكتاب والسنة احتال متأخروهم فسلكوا طريقا سمعية ظنوا أنها تنفعهم فقالوا: هذه

الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقدا لها قبل حدوثها وعدم الكمال نقص؛ فيلزم أن يكون كان ناقصا وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع.

الرد على حجة للنفاة من وجوه

وهذه الحجة من أفسد الحجج وذلك من وجوه:

أحدها: أن هؤلاء يقولون: نفي النقص عنه لم يعلم بالعقل وإنما علم بالإجماع - وعليه اعتمدوا في نفي النقص هنا - فيعود الأمر إلى احتجاجهم بالإجماع ومعلوم أن الإجماع لا يحتج به في موارد النزاع؛ فإن المنازع لهم يقول أنا لم أوافقكم على نفي هذا المعنى وإن وافقتكم على إطلاق القول بأن الله منزه عن النقص؛ فهذا المعنى عندي ليس بنقص ولم يدخل فيما سلمته لكم فإن بينتم بالعقل أو بالسمع انتفاءه وإلا فاحتجاجكم بقولي مع أني لم أرد ذلك كذب علي؛ فإنكم تحتجون بالإجماع؛ والطائفة المثبتة من أهل الإجماع وهم لم يسلموا هذا.

الثاني: أن يقال: لا نسلم أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص؛ بل لو وجدت قبل وجودها لكان نقصا؛ مثال ذلك تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له فنداؤه حين ناداه صفة كمال؛ ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصا؛ فكل منها كمال حين وجوده؛ ليس بكمال قبل وجوده؛ بل وجوده قبل الوقت الذي تقتضي الحكمة وجوده فيه نقص.


الثالث: أن يقال: لا نسلم أن عدم ذلك نقص فإن ما كان حادثا امتنع أن يكون قديما وما كان ممتنعا لم يكن عدمه نقصا؛ لأن النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال.

الرابع: أن هذا يرد في كل ما فعله الرب وخلقه. فيقال: خلق هذا إن كان نقصا فقد اتصف بالنقص وإن كان كمالا فقد كان فاقدا له؛ فإن قلتم: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال. قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال.

الخامس: أن يقال: إذا عرض على العقل الصريح ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها ألبتة بل هي بمنزلة الزمن الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره قضى العقل الصريح بأن هذه الذات أكمل وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص؛ والكمال في اتصافه بهذه الصفات؛ لا في نفي اتصافه بها.

السادس: أن يقال: الحوادث التي يمتنع كون كل منها أزليا ولا يمكن وجودها إلا شيئا فشيئا إذا قيل: أيما أكمل أن يقدر على فعلها شيئا فشيئا أو لا يقدر على ذلك؟ كان معلوما - بصريح العقل - أن القادر على فعلها شيئا فشيئا أكمل ممن لا يقدر على ذلك. وأنتم تقولون: إن الرب لا يقدر على شيء من هذه الأمور؛ وتقولون إنه يقدر على أمور مباينة له.

ومعلوم أن قدرة القادر على فعله المتصل به قبل قدرته على أمور مباينة له؛ فإذا قلتم لا يقدر على فعل متصل به لزم أن لا يقدر على المنفصل؛ فلزم على قولكم أن لا يقدر على شيء ولا أن يفعل شيئا فلزم أن لا يكون خالقا لشيء؛ وهذا لازم للنفاة لا محيد لهم عنه.

ولهذا قيل: الطريق التي سلكوها في حدوث العالم وإثبات الصانع: تناقض حدوث العالم وإثبات الصانع ولا يصح القول بحدوث العالم وإثبات الصانع إلا بإبطالها؛ لا بإثباتها. فكأن ما اعتمدوا عليه وجعلوه أصولا للدين ودليلا عليه هو في نفسه باطل شرعا وعقلا وهو مناقض للدين ومناف له، كما أنه مناقض للعقل ومناف له.

ولهذا كان السلف والأئمة يعيبون كلامهم هذا ويذمونه ويقولون: من طلب العلم بالكلام تزندق؛ كما قال أبو يوسف. ويروى عن مالك. ويقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

وقال الإمام أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.

وقد صدق الأئمة في ذلك فإنهم يبنون أمرهم على " كلام مجمل " يروج على من لم يعرف حقيقته فإذا اعتقد أنه حق تبين أنه مناقض للكتاب والسنة فيبقى في قلبه مرض ونفاق وريب وشك؛ بل طعن فيما جاء به الرسول.

وهذه هي الزندقة. وهو كلام باطل من جهة العقل كما قال بعض السلف: العلم بالكلام هو الجهل فهم يظنون أن معهم عقليات وإنما معهم جهليات: { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }. هذا هو الجهل المركب؛ لأنهم كانوا في شك وحيرة فهم في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

أين هؤلاء من نور القرآن والإيمان؟ قال الله تعالى: { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم }.

فإن قيل: أما كون الكلام والفعل يدخل في الصفات الاختيارية فظاهر. فإنه يكون بمشيئة الرب وقدرته وأما الإرادة والمحبة والرضا والغضب ففيه نظر فإن نفس الإرادة هي المشيئة وهو سبحانه إذا خلق من يحبه كالخليل فإنه يحبه ويحب المؤمنين ويحبونه.

وكذلك إذا عمل الناس أعمالا يراها وهذا لازم لا بد من ذلك، فكيف يدخل في الاختيار؟

قيل: كل ما كان بعد عدمه فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فما شاءه وجب كونه وهو يجب بمشيئة الرب وقدرته وما لم يشأه امتنع كونه مع قدرته عليه. كما قال تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } { ولو شاء ربك ما فعلوه }.

فكون الشيء واجب الوقوع لكونه قد سبق به القضاء، وعلم أنه لا بد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعا بمشيئته وقدرته وإرادته وإن كانت من لوازم ذاته كحياته وعلمه. فإن " إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضي { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته؛ فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة.

والناس قد اضطربوا في مسألة إرادة الله سبحانه وتعالى على أقوال متعددة. ومنهم من نفاها ورجح الرازي هذا في مطالبه العالية لكن - ولله الحمد - نحن قد قررناها وبيناها وبينا فساد الشبه المانعة منها؛ وأن ما جاء به الكتاب والسنة هو الحق المحض الذي تدل عليه المعقولات الصريحة وأن صريح المعقول موافق لصحيح المنقول.

وكنا قد بينا أولا أنه يمتنع تعارض الأدلة القطعية فلا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا؛ ثم بينا بعد ذلك: أنها متوافقة متناصرة متعاضدة. فالعقل يدل على صحة السمع والسمع يبين صحة العقل وأن من سلك أحدهما أفضى به إلى الآخر. وأن الذين يستحقون العذاب هم الذين لا يسمعون ولا يعقلون.

كما قال الله تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }.

وقال تعالى: { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }.

وقال تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.

وقال تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }.

فقد بين القرآن أن من كان يعقل أو كان يسمع: فإنه يكون ناجيا وسعيدا ويكون مؤمنا بما جاءت به الرسل وقد بسطت هذه الأمور في غير موضع والله أعلم.

فصل: فساد حجج النفاة لحلول الحوادث

وفحول النظار كأبي عبد الله الرازي وأبي الحسن الآمدي وغيرهما ذكروا حجج النفاة لحلول الحوادث وبينوا فسادها كلها. فذكروا لهم أربع حجج:

إحداها: الحجة المشهورة وهي أنها لو قامت به لم يخل منها ومن أضدادها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. ومنعوا المقدمة الأولى؛ والمقدمة الثانية؛ ذكر الرازي وغيره فسادها وقد بسط في غير هذا الموضع.


والثانية: أنه لو كان قابلا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته فكان القبول يستدعي إمكان المقبول ووجود الحوادث في الأزل محال وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه قادر على إحداث الحوادث والقدرة تستدعي إمكان المقدور و" وجود المقدور " وهو الحوادث في الأزل محال.


و هذه الحجة باطلة من وجوه:

أحدها أن يقال وجود الحوادث دائما إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا؛ فإن كان ممكنا أمكن قبولها والقدرة عليها دائما وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعا؛ بل يمكن أن يكون جنسها مقدورا مقبولا؛ وإن كان ممتنعا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى؛ وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنة؛ لا مقدورة ولا مقبولة؛ وحينئذ فلا يلزم من امتناعها في الأزل امتناعها بعد ذلك. فإن الحوادث موجودة؛ فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها؛ وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذه الحجة.

الوجه الثاني: أن يقال: لا ريب أن الرب تعالى قادر؛ فإما أن يقال إنه لم يزل قادرا، وإما أن يقال بل صار قادرا بعد أن لم يكن. فإن قيل: لم يزل قادرا - وهو الصواب - فيقال: إذا كان لم يزل قادرا فإن كان المقدور لم يزل ممكنا أمكن دوام وجود الممكنات فأمكن دوام وجود الحوادث؛ وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلا لها في الأزل.

وإن قيل: بل كان الفعل ممتنعا ثم صار ممكنا. قيل: هذا جمع بين النقيضين، فإن القادر لا يكون قادرا على ممتنع، فكيف يكون قادرا مع كون المقدور ممتنعا؟ ثم يقال: بتقدير إمكان هذا كما قيل: هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، قيل: وكذلك في القبول، يقال: هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال.

الوجه الثالث: أنه سبحانه إذا قيل - هو قابل لما في الأزل فإنما هو قابل لما هو قادر عليه يمكن وجوده فإن ما يكون ممتنعا لا يدخل تحت القدرة فهذا ليس بقابل له.

الرابع: أن يقال - هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له؛ وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمتنع مثله لوجود المقدور المباين ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه فالفعل أن يكون ممكنا مقدورا أولى.


الحجة الثالثة لهم: أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره والتغير على الله محال وأبطلوا هم هذه الحجة الرازي وغيره؛ بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به للزم تغيره، أتريدون بالتغير نفس قيامها به أم شيئا آخر؟ فإن أردتم الأول كان المقدم هو الثاني والملزوم هو اللازم وهذا لا فائدة فيه فإنه يكون تقدير الكلام لو قامت به الحوادث لقامت به الحوادث وهذا كلام لا يفيد.

وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك فهو ممنوع فلا نسلم أنها لو قامت به لزم تغير غير حلول الحوادث فهذا جوابهم.

المعنى الصحيح للتغير

وإيضاح ذلك: أن لفظ التغير لفظ مجمل فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها قد تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب إنه تغير إذا كان ذلك عادته بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة كالشمس ما زال نورها ظاهرا لا يقال إنها تغيرت فإذا اصفرت قيل قد تغيرت.

وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير وكذلك إذا تغير خلقه ودينه مثل أن يكون فاجرا فيتوب ويصير برا أو يكون برا فينقلب فاجرا فإنه يقال قد تغير.

ومنه الحديث: "رأيت وجه رسول الله ﷺ متغيرا"، وهو لما رأى به أثر الجوع، ولم يزل يراه يركع ويسجد، فلم يسم حركته تغيرا.

وكذلك يقال: فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة فأما إذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيرا. وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير.

قال الله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }. ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر وباعتقادهم الحق اعتقاد الباطل قيل: قد غيروا ما بأنفسهم مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة فهذا قد غير ما في نفسه.

وإذا كان هذا معنى التغير فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام وكماله من لوازم ذاته فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله ويمتنع أن يصير ناقصا بعد كماله.

وهذا الأصل عليه يدل قول السلف وأهل السنة: أنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل قادرا ولم يزل موصوفا بصفات الكمال ولا يزال كذلك فلا يكون متغيرا.

وهذا معنى قول من يقول: يا من يغير ولا يتغير، فإنه يحيل صفات المخلوقات ويسلبها ما كانت متصفة به إذا شاء، ويعطيها من صفات الكمال ما لم يكن لها، وكماله من لوازم ذاته؛ لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال.

قال تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } وقال تعالى: { كل من عليها فان } { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }.

ولكن هؤلاء النفاة هم الذين يلزمهم أن يكون قد تغير؛ فإنهم يقولون: كان في الأزل لا يمكنه أن يقول شيئا؛ ولا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ وكان ذلك ممتنعا عليه لا يتمكن منه ثم صار الفعل ممكنا يمكنه أن يفعل.

ولهم في الكلام قولان. فمن أثبت الكلام المعروف وقال: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته قال أيضا: إنه صار الكلام ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه.

ومن لم يصفه بالكلام المعروف؛ بل قال: إنه يتكلم بلا مشيئته وقدرته كما تقوله الكلابية فهؤلاء أثبتوا كلاما لا يعقل ولم يسبقهم إليه أحد من المسلمين.

بل كان المسلمون قبلهم على قولين: فالسلف وأهل السنة يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه غير مخلوق. والجهمية يقولون: إنه مخلوق بقدرته ومشيئته فقال هؤلاء بل يتكلم بلا مشيئته وقدرته وكلامه شيء واحد لازم لذاته وهو حروف أو حروف وأصوات: أزلية لازمة لذاته كما قد بسط في غير هذا الموضع.

والمقصود أن هؤلاء كلهم الذين يمنعون أن يكون الرب لم يزل يمكنه أن يفعل ما يشاء ويقولون ذلك يستلزم وجود حوادث لا تتناهى وذلك محال فهؤلاء يقولون صار الفعل ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه.

وحقيقة قولهم إنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا وهذا حقيقة التغير مع أنه لم يحدث سبب يوجب كونه قادرا.

وإذا قالوا: هو في الأزل قادر على ما لا يزال.

قيل: هذا جمع بين النفي والإثبات فهو في الأزل كان قادرا. فكان القول ممكنا له أو ممتنعا عليه؟

إن قلتم: ممكن له فقد جوزتم دوام كونه فاعلا وأنه قادر على حوادث لا نهاية لها.

وإن قلتم: بل كان ممتنعا. قيل: القدرة على الممتنع ممتنعة، فمع كون الفعل ممتنعا غير ممكن - لا يكون مقدورا للقادر إنما المقدور هو الممكن لا الممتنع.

فإذا قلتم: أمكنه بعد ذلك. فقد قلتم: إنه أمكنه أن يفعل بعد أن كان لا يمكنه أن يفعل وهذا صريح في أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وهو صريح في التغير.

فهؤلاء النفاة الذين قالوا: إن المثبتة يلزمهم القول بأنه تغير قد بان بطلان قولهم وأنهم هم الذين قالوا بما يوجب تغيره.

وإذا قال المنازع: أنا أريد بكونه تغير: أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب من أطاعه، ويفرح بتوبة التائب، ويأتي يوم القيامة.

قيل: فهب أنك سميت هذا تغيرا، فلم قلت: إن هذا ممتنع؟

فهذا محل النزاع، كما قال الرازي: فالمقدم هو التالي.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة، وهي مشتقة من التغير. فقال ﷺ في الحديث الصحيح: "لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته".

وقال أيضا { لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل وأنزل الكتب ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن }.

وفي الحديث الصحيح أيضا لما قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاع - يعني امرأة سعد - قد تفخذها رجل لضربته بالسيف، فقال: { أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني }.

الحجة الرابعة: قالوا: حلول الحوادث به أفول؛ والخليل قد قال: { لا أحب الآفلين } والآفل هو المتحرك الذي تقوم له الحوادث فيكون الخليل قد نفى المحبة عمن تقوم به الحوادث فلا يكون إلها.

والجواب: أن قصة الخليل حجة عليهم لا لهم؛ وهم المخالفون لإبراهيم ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وذلك أن الله تعالى قال: { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } { فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }.

فقد أخبر الله في كتابه: أنه من حين بزغ الكوكب والقمر والشمس وإلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين ولا المتحركين ولا المتحولين ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث ولا قال شيئا مما يقوله النفاة حتى أفل الكوكب والشمس والقمر.

و الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير: هو المغيب والاحتجاب؛ بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو المراد باتفاق العلماء.

فلم يقل إبراهيم: { لا أحب الآفلين }، حتى أفل وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئيا ولا مشهودا، فحينئذ قال: { لا أحب الآفلين }. وهذا يقتضي أن كونه متحركا منتقلا تقوم به الحوادث؛ بل كونه جسما متحيزا تقوم به الحوادث لم يكن دليلا عند إبراهيم على نفي محبته.

فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين - كما زعموا -: لزم من ذلك أن يكون ما تقدم الأفول - من كونه متحركا منتقلا - تحله الحوادث؛ بل ومن كونه جسما متحيزا: لم يكن دليلا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين وحينئذ فيلزم أن تكون قصة إبراهيم حجة على نقيض مطلوبهم؛ لا على نفس مطلوبهم. وهكذا نجد أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية ولا عقلية إلا وهي عند التأمل حجة عليهم؛ لا لهم.

ولكن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله { هذا ربي } إنه رب العالمين ولا كان أحد من قومه يقول: إنه رب العالمين، حتى يرد ذلك عليهم؛ بل كانوا مشركين مقرين بالصانع؛ وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابا يدعونها من دون الله ويبنون لها الهياكل وقد صنفت في مثل مذهبهم كتب، مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وغيره من الكتب.

ولهذا قال الخليل: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }.

وقال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }.

ولهذا قال الخليل في تمام الكلام: { إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }. فقوله: { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } يبين أنه إنما يعبد الله وحده، فله يوجه وجهه، فإنه إذا توجه قصده إليه تبع قصده وجهه، فالوجه موجه حيث توجه القلب، فصار قلبه وقصده ووجهه متوجها إلى الله تعالى.

ولهذا قال: { وما أنا من المشركين } لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع فإن هذا كان معلوما عند قومه لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض،

وإنما كان النزاع في عبادة غير الله واتخاذه ربا؛ فكانوا يعبدون الكواكب السماوية ويتخذون لها أصناما أرضية.

وهذا النوع الثاني من الشرك فإن الشرك في قوم نوح كان أصله من عبادة الصالحين - أهل القبور - ثم صوروا تماثيلهم فكان شركهم بأهل الأرض؛ إذ كان الشيطان إنما يضل الناس بحسب الإمكان فكان تزيينه أولا الشرك بالصالحين أيسر عليه.

ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات فالكواكب، وضعوا لها الأصنام بحسب ما رأوه من طبائعها يصنعون لكل كوكب بيتا وطعاما وخاتما وبخورا وأقوالا تناسبه.

وهذا كان قد اشتهر على عهد إبراهيم إمام الحنفاء؛ ولهذا قال الخليل: { ماذا تعبدون } { أئفكا آلهة دون الله تريدون } { فما ظنكم برب العالمين } وقال لهم: { أتعبدون ما تنحتون } { والله خلقكم وما تعملون }.

وقصة إبراهيم قد ذكرت في غير موضع من القرآن مع قومه: إنما فيها نهيهم عن الشرك؛ خلاف قصة موسى مع فرعون فإنها ظاهرة في أن فرعون كان مظهرا الإنكار للخالق وجحوده.

وقد ذكر الله عن إبراهيم أنه حاج الذي حاجه في ربه في قوله: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } فهذا قد يقال: إنه كان جاحدا للصانع ومع هذا فالقصة ليست صريحة في ذلك؛ بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق مثل إنكار فرعون.

وبكل حال فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم وهذا بين - ولله الحمد - بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن الله؛ فإن إبراهيم قال: { إن ربي لسميع الدعاء } والمراد به: أنه يستجيب الدعاء كما يقول المصلي سمع الله لمن حمده وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده؛ لا قبل وجوده.

كما قال الله تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما }. فهي تجادل وتشتكي حال سمع الله تحاورهما؛ وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقال: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } فهذه رؤية مستقلة ونظر مستقل وقد تقدم أن المعدوم لا يرى ولا يسمع منفصلا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء فإذا وجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها.

و الرؤية والسمع أمر وجودي لا بد له من موصوف يتصف به فإذا كان هو الذي رآها وسمعها امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع وهذه الرؤية. وأن تكون قائمة بغيره فتعين قيام هذا السمع وهذه الرؤية به بعد أن خلقت الأعمال والأقوال وهذا قطعي لا حيلة فيه.

وقد بسط الكلام على هذه المسألة وما قاله فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع وحكيت ألفاظ الناس وحججهم بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية؛ وأن الأدلة العقلية الصريحة موافقة لمذهب السلف وأهل الحديث؛ وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة مع الكتب المتقدمة: التوراة والإنجيل والزبور فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء وأقوال السلف وأئمة العلماء ودلت عليها صرائح المعقولات.

فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها ممن ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية بل هو شبيه بالذين قالوا: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }. قال الله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.

ولكن هذه المسألة ومسألة الزيارة وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه. وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك نقول في الأصلين بقول أهل البدع؛ فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فكان الواجب هو اتباع الرسول؛ وأن لا نكون ممن قيل فيه: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا }.

وقد قال تعالى: { قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم }.

وقال تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون }.

فالواجب اتباع الكتاب المنزل والنبي المرسل وسبيل من أناب إلى الله فاتبعنا الكتاب والسنة كالمهاجرين والأنصار؛ دون ما خالف ذلك من دين الآباء وغير الآباء والله يهدينا وسائر إخواننا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

والله سبحانه أنزل القرآن وهدى به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور؛ وأم القرآن هي فاتحة الكتاب. قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح { يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي فإذا

قال: { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي - وقال مرة: فوض إلي عبدي - فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل }.

فهذه السورة فيها لله الحمد في الدنيا والآخرة، وفيها للعبد السؤال، وفيها لله العبادة له وحده، وللعبد الاستعانة، فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان حمد الرب وتوحيده يدور عليهما جميع الدين.

و مسألة الصفات الاختيارية هي من تمام حمده فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود ألبتة ولا أنه رب العالمين فإن الحمد ضد الذم والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له والذم هو الإخبار بمساوئ المذموم مع البغض له.

وجماع المساوئ فعل الشر كما أن جماع المحاسن فعل الخير. فإذا كان يفعل الخير - بمشيئته وقدرته استحق الحمد. فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به؛ بل ولا يقدر على ذلك لا يكون خالقا ولا ربا للعالمين.

والله تعالى يحمد نفسه بأفعاله، لقوله: { الحمد لله رب العالمين }، وقوله: { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض }، { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } - ونحو ذلك - فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره امتنع ذلك كله. فإنه من المعلوم بصريح العقل أنه إذا خلق السموات والأرض فلا بد من فعل يصير به خالقا لها؛ وإلا فلو استمر الأمر على حال واحدة ولم يحدث فعلا، لكان الأمر على ما كان عليه قبل أن يخلق وحينئذ فلم يكن المخلوق موجودا فكذلك يجب أن لا يكون المخلوق موجودا إن كان الحال في المستقبل مثل ما كان في الماضي لم يحدث من الرب فعل هو خلق السموات والأرض.

وقد قال تعالى: { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم }. ومعلوم أنهم قد شهدوا نفس المخلوق فدل على أن " الخلق " الذي لم يشهدوه وهو تكوينه لهما وإحداثه لهما؛ غير المخلوق التالي.

وأيضا فإنه قال { خلق السماوات والأرض في ستة أيام }. فالخلق لها كان في ستة أيام وهي موجودة بعد الستة فالذي اختص بالستة غير الموجود بعد الستة.

وكذلك قال { الرحمن الرحيم } فإن الرحمن الرحيم هو الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته فإن لم يكن له رحمة إلا نفس الإرادة القديمة؛ أو صفة أخرى قديمة: لم يكن موصوفا بأنه يرحم من يشاء ويعذب من يشاء.

قال الخليل: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير } { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } فالرحمة ضد التعذيب والتعذيب فعله وهو يكون بمشيئته؛ وكذلك الرحمة تكون بمشيئته؛ كما قال: { ويرحم من يشاء }. والإرادة القديمة اللازمة لذاته - أو صفة أخرى كذلك - ليست بمشيئته؛ فلا تكون الرحمة بمشيئته.

وإن قيل: ليس بمشيئته إلا المخلوقات المباينة لزم أن لا تكون الرحمة صفة للرب بل تكون مخلوقة له وهو إنما يتصف بما يقوم به لا يتصف بالمخلوقات فلا يكون هو الرحمن الرحيم.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي } - وفي رواية - تسبق غضبي. وما كان سابقا لما يكون بعده لم يكن إلا بمشيئة الرب وقدرته. ومن قال: ما ثم رحمة إلا إرادة قديمة أو ما يشبهها امتنع أن يكون له غضب مسبوق بها فإن الغضب إن فسر بالإرادة فالإرادة لم تسبق نفسها وكذلك إن فسر بصفة قديمة العين فالقديم لا يسبق بعضه بعضا وإن فسر بالمخلوقات لم يتصف برحمة ولا غضب.

وهو قد فرق بين غضبه وعقابه بقوله: { فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وقوله: { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا }.

وفي الحديث الذي رواه [ عبد الله بن عمرو بن العاص ] عن النبي ﷺ أنه كان يقول: { أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون }.

ويدل على ذلك قوله: { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } فعلق الرحمة بالمشيئة كما علق التعذيب بالمشيئة. وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية.

وكذلك كونه مالكا ليوم الدين، يوم يدين العباد بأعمالهم: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر: { وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله }. فإن " الملك " هو الذي يتصرف بالأمر يأمر فيطاع ولهذا إنما يقال " ملك " للحي المطاع الأمر لا يقال في الجمادات: لصاحبها ملك؛ إنما يقال له: مالك ويقال ليعسوب النحل: ملك النحل لأنه يأمر فيطاع والمالك القادر على التصرف في المملوك.

وإذا كان الملك هو الآمر الناهي المطاع فإن كان يأمر وينهى بمشيئته كان أمره ونهيه من الصفات الاختيارية وبهذا أخبر القرآن قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد }.

وإن كان لا يأمر وينهى بمشيئته - بل أمره لازم له حاصل بغير مشيئته ولا قدرته - لم يكن هذا مالكا أيضا؛ بل هذا إلى أن يكون مملوكا أقرب، فإن الله تعالى خلق الإنسان وجعل له صفات تلزمه - كاللون والطول والعرض والحياة ونحو ذلك مما يحصل لذاته بغير اختياره - فكان باعتبار ذلك مملوكا مخلوقا للرب فقط وإنما يكون " ملكا " إذا كان يأمر وينهى باختياره فيطاع - وإن كان الله خالقا لفعله ولكل شيء.

ولكن المقصود أنه لا يكون ملكا إلا من يأمر وينهى بمشيئته وقدرته، فمن نفى الصفات الاختيارية وقال: ليس للرب أمر ونهي يقوم به بمشيئته بل من قال: إنه لازم له بغير مشيئته، أو قال: إنه مخلوق له، فكلاهما يلزمه أنه لا يكون ملكا.

وإذا لم يمكنه أن يتصرف بمشيئته لم يكن " ملكا " أيضا. فمن قال إنه لا يقوم به فعل اختياري لم يكن عنده في الحقيقة مالكا لشيء وإذا اعتبرت سائر القرآن وجدت أنه من لم يقر بالصفات الاختيارية لم يقم بحقيقة الإيمان ولا القرآن.

فهذا يبين أن الفاتحة وغيرها يدل على الصفات الاختيارية وقوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } فيه إخلاص العبادة لله والاستعانة به وأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا بالله؛ فمن دعا غير الله من المخلوقين أو استعان بهم: من أهل القبور أو غيرهم لم يحقق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } ولا يحقق ذلك إلا من فرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية. فإن الزيارة الشرعية عبادة لله وطاعة لرسوله وتوحيد لله وإحسان إلى عباده وعمل صالح من الزائر يثاب عليه. والزيارة البدعية شرك بالخالق وظلم للمخلوقات وظلم للنفس.

فصاحب الزيارة الشرعية هو الذي يحقق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين }. ألا ترى أن اثنين لو شهدا جنازة فقام أحدهما يدعو للميت ويقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وجيرانا خيرا من جيرانه وأهلا خيرا من أهله وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر وأفسح له في قبره ونور له فيه ونحو ذلك من الدعاء له. وقام الآخر فقال: يا سيدي أشكو لك ديوني وأعدائي وذنوبي، وأنا مستغيث بك مستجير بك أجرني أغثني ونحو ذلك؛ لكان الأول عابدا لله ومحسنا إلى خلقه محسنا إلى نفسه بعبادة الله ونفع عباده وهذا الثاني مشركا بالله مؤذيا ظالما معتديا على هذا الميت ظالما لنفسه.

فهذا بعض ما بين البدعية والشرعية من الفروق. والمقصود أن صاحب " الزيارة الشرعية " إذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } كان صادقا؛ لأنه لم يعبد إلا الله ولم يستعن إلا به وأما صاحب الزيارة البدعية فإنه عبد غير الله واستعان بغيره.

فهذا بعض ما يبين أن الفاتحة أم القرآن: اشتملت على بيان المسألتين المتنازع فيهما: مسألة الصفات الاختيارية ومسألة الفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية. والله تعالى هو المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

ومما يوضح ذلك أن النبي ﷺ قال: { إذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال أثنى علي عبدي. فإذا قال: { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي فذكر الحمد والثناء والمجد، ثم بعد ذلك يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } إلى آخرها.

هذا في أول القراءة في قيام الصلاة. ثم في آخر القيام بعد الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض. إلى قوله: أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد }.

وقوله: أحق ما قال العبد. خبر مبتدأ محذوف: أي هذا الكلام أحق ما قال العبد. فتبين أن حمد الله والثناء عليه وتمجيده أحق ما قاله العبد وفي ضمنه توحيده، لأنه قال: ولك الحمد، أي لك لا لغيرك. وقال في آخره: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، وهذا يقتضي انفراده بالعطاء والمنع فلا يستعان إلا به ولا يطلب إلا منه. ثم قال: ولا ينفع ذا الجد منك الجد فبين أن الإنسان وإن أعطي الملك والغنى والرئاسة فهذا لا ينجيه منك؛ إنما ينجيه الإيمان والتقوى وهذا تحقيق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } وكان هذا الذكر آخر القيام مناسبا للذكر أول القيام.

وقوله: أحق ما قال العبد، يقتضي أن يكون حمد الله أحق الأقوال بأن يقوله العبد؛ وما كان أحق الأقوال كان أفضلها وأوجبها على الإنسان.

ولهذا افترض الله على عباده في كل صلاة أن يفتتحوها بقولهم: { الحمد لله رب العالمين } وأمرهم أيضا أن يفتتحوا كل خطبة بالحمد لله فأمرهم أن يكون الحمد لله مقدما على كل كلام سواء كان خطابا للخالق أو خطابا للمخلوق.

ولهذا يقدم النبي ﷺ الحمد أمام الشفاعة يوم القيامة. ولهذا أمرنا بتقديم الثناء على الله في التشهد قبل الدعاء وقال النبي ﷺ { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم }.

وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء.

وقوله { الرحمن الرحيم } جعله ثناء. وقوله { مالك يوم الدين } جعله تمجيدا. وقوله: { الحمد لله } حمد مطلق. فإن الحمد اسم جنس له كمية وكيفية؛ فالثناء تثنيته، وتكبيره تعظيم كميته المنفصلة، والمجد هو السعة والعلو فهو تعظيم كيفيته وقدره وكميته المتصلة.

وذلك أن هذا وصف له بالملك، والملك يتضمن القدرة وفعل ما يشاء و{ الرحمن الرحيم } وصف بالرحمة المتضمنة لإحسانه إلى العباد بمشيئته وقدرته أيضا والخير يحصل بالقدرة والإرادة التي تتضمن الرحمة. فإذا كان قديرا مريدا للإحسان: حصل كل خير وإنما يقع النقص لعدم القدرة أو لعدم إرادة الخير " فالرحمن الرحيم الملك قد اتصف بغاية إرادة الإحسان وغاية القدرة؛ وذلك يحصل به كل خير خير الدنيا والآخرة.

وقوله: { مالك يوم الدين } مع أنه ملك الدنيا لأن يوم الدين لا يدعي أحد فيه منازعة وهو اليوم الأعظم فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع.

و الدين عاقبة أفعال العباد وقد يدل بطريق التنبيه أو بطريق العموم عند بعضهم: على ملك الدنيا فيكون له الملك وله الحمد كما قال تعالى: { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } وذلك يقتضي أنه قادر على أن يرحم ورحمته وإحسانه وصف له يحصل بمشيئته وهو من الصفات الاختيارية.

وفي الصحيح { أن النبي ﷺ كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرا لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري: فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه؛ وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان }.

فسأله بعلمه وقدرته ومن فضله وفضله يحصل برحمته وهذه الصفات هي جماع صفات الكمال لكن العلم له عموم التعلق: يتعلق بالخالق والمخلوق،

والموجود والمعدوم. وأما القدرة فإنما تتعلق بالممكن، والإرادة إنما تتعلق بالموجود المخلوق، والرحمة أخص منها فإنما تتعلق بالمخلوق، وكذلك الملك إنما يكون ملكا على المخلوقات.

فالفاتحة اشتملت على الكمال في الإرادة، وهو: الرحمة، وعلى الكمال في القدرة، وهو: مالك يوم الدين. وهذا وهذا إنما يتم بالصفات الاختيارية، كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.