الرئيسيةبحث

جامع الرسائل/رسالة في المعاني المستنبطة من سورة الإنسان



رسالة في المعاني المستنبطة من سورة الإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

فصل

تفسير السورة إجمالا

اعلم أن سورة هل أتى على الإنسان سورة عجيبة الشأن من سور القرآن على اختصارها

الآيتان: 1، 2

فإن الله سبحانه ابتدأها بذكر كيفية خلق الإنسان من النطفة ذات الأمشاج والأخلاط التي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يصرفه عليها أطوارا وينقله من حال إلى حال إلى أن تمت خلقته وكملت صورته فأخرجه إنسانا سويا سميعا بصيرا ثم لما تكامل تمييزه وإدراكه هداه طريقي الخير والشر والهدى والضلال

الآية الثالثة

وأنه بعد هذه الهداية إما أن يشكر ربه وإما أن يكفره ثم ذكر مآل أهل الشكر والكفر وما أعد لهؤلاء وهؤلاء وبدأ أولا بذكر عاقبة أهل الكفر ثم عاقبة أهل الشكر وفي آخر السورة ذكر أولا أهل الرحمة ثم أهل العذاب فبدأ السورة بأول أحوال الإنسان وهي النطفة وختمها بآخر أحواله وهي كونه من

الآية الرابعة

أهل الرحمة أو العذاب ووسطها بأعمال الفريقين فذكر أعمال أهل العذاب مجملة في قوله إنا اعتدنا للكافرين سورة الإنسان 4 وأعمال أهل الرحمة مفصلة وجزاءهم مفصلا

فتضمنت السورة خلق الإنسان وهدايته ومبدأه وتوسطه ونهايته وتضمنت المبدأ والمعاد والخلق والأمر وهما القدرة والشرع وتضمنت إثبات السبب وكون العبد فاعلا مريدا حقيقة وأن فاعليته ومشيئته إنما هي بمشيئة الله ففيها الرد على طائفتين القدرية والجبرية وفيها ذكر أقسام بني آدم كلهم فإنهم إما أهل شمال وهم الكفار أو أهل يمين وهم نوعان أبرار ومقربون

الآية الخامسة

وذكر سبحانه أن شراب الأبرار يمزج من شراب عباده المقربين لأنهم مزجوا أعمالهم ويشربه المقربون صرفا خالصا كما أخلصوا أعمالهم وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته لما حصل لقلوبهم ووصل إليها في الدنيا مع ما في ذلك من مقابلته للسعير

وأخبر سبحانه أن لهم شرابا آخر ممزوجا من الزنجبيل لما فيه من طيب الرائحة ولذة الطعم والحرارة التي توجب تغير برد الكافور وإذابة الفضلات وتطهير الأجواف ولهذا وصفه سبحانه بكونه شرابا طهورا أي مطرها لبطونهم

فوصفهم سبحانه بجمال الظاهر والباطن كما قال ولقاهم نضرة وسرورا الآية 11 فالنضرة جمال وجوههم والسرور جمال قلوبهم كما قال تعرف في وجوههم نضرة النعيم سورة المطففين 24

وقريب من هذا قول امرأة العزيز في يوسف فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم سورة يوسف 32 فأخبرت بجمال ظاهره حين أشارت إليه بالخروج عليهن ثم ضمت إلى ذلك إخبارها بأن باطنه أجمل من ظاهره بأني راودته فأبى إلا العفة والحياء والإستعصام

ثم ذكر سبحانه من أعمال الأبرار ما ينبه سامعه على جمعهم لأعمال البر كلها فذكر سبحانه وفاءهم بالنذر وخوفهم من ربهم وإطعامهم الطعام على محبتهم له وإخلاصهم لربهم في طاعتهم

الآية السابعة

وذكر سبحانه الوفاء بالنذر وهو أضعف الواجبات فإن العبد هو الذي أوجبه على نفسه بالتزامه فهو دون ما أوجبه الله سبحانه عليه فإذا وفى لله بأضعف الواجبين الذي التزمه هو فهو بأن يوفى بالواجب الأعظم الذي أوجبه الله عليه أولى وأخرى

ومن ههنا قال من قال من الفسرين المقربون يوفون بطاعة الله ويقومون بحقه عليهم وذلك أن العبد إذا نذر لله طاعة فوفى بها فإنما يفعل ذلك لكونها صارت حقا لله يجب الوفاء بها وهذا موجود في حقوقه كلها فهي في ذلك سواء

ثم أخبر عنهم بأنهم يخافون اليوم العسير القمطرير وهو يوم القيامة

ففي ضمن هذا الخوف إيمانهم باليوم الآخر وكفهم عن المعاصي التي تضرهم في ذلك اليوم وقيامهم بالطاعات التي ينفعهم فعلها ويضرهم تركها في ذلك اليوم

الآية الثامنة

ثم أخبر عنهم بإطعام الطعام على محبتهم له وذلك يدل على نفاسته عندهم وحاجتهم إليه وما كان كذلك فالنفوس به أشح والقلوب به أعلق واليد له أمسك فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل

فذكر من حقوق العباد بذل قوت النفس على نفاسته وشدة الحاجة منبها على الوفاء بما دونه كما ذكر من حقوقه الوفاء بالنذر منبها على الوفاء بما هو فوقه وأوجب منه ونبه بقوله على حبه الآية 8 أنه لولا أن الله سبحانه أحب إليهم منه لما آثروه على ما يحبونه فآثروا المحبوب الأعلى على الأدنى

الآية التاسعة

ثم ذكر أن مصرف طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير الذين لا قوة لهم ينصرونهم بها ولا مال لهم يكافئونهم به ولا أهل ولا عشيرة يتوقعون منهم مكافأتهم كما يقصده أهل الدنيا والمعاوضون بإنفاقهم وإطعامهم

ثم أخبر عنهم أنهم إنما فعلوا ذلك لوجه الله وأنهم لا يريدون ممن أطعموه عوضا من أموالهم ولا ثناء عليهم بألسنتهم كما يريده من لا إخلاص له بإحسانه إلى الناس من معاوضتهم أو الشكور منهم فتضمن ذلك المحبة والإخلاص والإحسان

الآية العاشرة

ثم أخبر سبحانه عنهم بما صدقهم عليه قبل أن يقولوه حيث قالوا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا الآية 10 فصدقهم قبل قولهم

إذ يقول تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا الآية 7

الآية: 11

ثم أخبر سبحانه بأنه وقاهم شر ما يخافونه ولقاهم فوق ما كانوا يأملونه

الآيات: 12-20

وذكر سبحانه أصناف النعيم الذي حياهم به من المساكن والملابس والمجالس والثمار والشراب والخدم والنعيم والملك الكبير

ولما كان في الصبر من حبس النفس والخشونة التي تلحق الظاهر والباطن من التعب والنصب والحرارة ما فيه كان الجزاء عليه بالجنة التي فيها السعة والحرير الذي فيه اللين والنعومة والإتكاء الذي يتضمن الراحة والظلال المنافية للحر

الآية: 21

ثم ذكر سبحانه لون ملابس الأبرار وأنها ثياب سندس خضر وإستبرق وحليتهم وأنها أساور من فضة فهذه زينة ظواهرهم ثم ذكر زينة بواطنهم وهو الشراب الطهور وهو بمعنى التطهير

فإن قيل فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب ومعلوم أن الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما

قيل سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين فإنه سبحانه إنما أشار إليه أشارة تنبه على ما سكت عنه وهو أن شارب الأبرار يمزج من شرابهم

فالسورة مسوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل وذلك والله أعلم

لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين

وأيضا فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

وأيضا فإنه سبحانه ذكر أهل الكفر وأهل الشكر وأهل الشكر نوعان أبرار أهل يمين ومقربون سابقون وكل مقرب سابق فهو من الأبرار ولا ينعكس فاسم الأبرار والمقربين كاسم الإسلام والإيمان أحدهما أعم من الآخر

الآية: 22

وأيضا فإنه سبحانه أخبر أن هذا جزاء سعيهم المشكور وكل من الأبرار والمقربين سعيهم مشكور فذكر سبحانه السعي المشكور والسعي المسخوط

الآيتان: 23، 24

ثم ذكر سبحانه نبيه ﷺ بما أنعم عليه من تنزيل القرآن عليه وأمره بأن يصبر لحكمه وهو يعم الحكم الديني الذي أمره به في نفسه وأمره بتبليغه والحكم الكوني الذي يجري عليه من ربه فإنه سبحانه امتحن عباده وابتلاهم بأمره ونهيه وهو حكمه الديني وابتلاهم بقضائه وقدره وهوحكمه الكوني وفرض عليهم الصبر على كل واحد من الحكمين وإن كان الحكم الديني في هذه الآية أظهر إرادة وأنه أمر بالصبر على تبليغه والقيام بحقوقه

ولما كان صبره عليه لا يتم إلا بمخالفته لمن دعاه إلى خلافه من كل آثم أو كفور نهاه عن طاعة هذا وهذا وأتى بحرف أو دون الواو ليدل على أنه منهي عن طاعة أيهما كان إما هذا وإما هذا فكأنه قيل له لا تطع أحدهما وهو أعم في النهي من كونه منهيا عن طاعتهما فإنه لو قيل له لا تطعهما أو لا تطع آثما وكفورا لم يكن صريحا في النهي عن طاعة كل منهما بمفرده

الآيتان: 25، 26

ولما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيء هو أحب إليه من فوات ما يصبر على فوته أمره بأن يذكر ربه سبحانه بكرة وأصيلا فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر وأن يصبر لربه بالليل فيكون قيامه بالليل عونا على ما هو بصدده بالنهار ومادة لقوته ظاهرا وباطنا ولنعيمه عاجلا وآجلا

الآية: 27

ثم أخبر سبحانه عما يمنع العبد من إيثار ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة وهو حب العاجلة وإيثارها على الآخرة تقديما لداعي الحس على داعي العقل

الآية: 28

ثم ذكر سبحانه خلقهم وإحكامه وإتقانه بما شد من أسرهم وهو ائتلاف الأعضاء والمفاصل والأوصال وما بينها من الرباطات وشد بعضها

ببعض وحقيقته القوة ومنه قول الشاعر

من كل مجتنب شديد أسره... سلس القياد تخاله مختالا

ولا يكون ذلك إلا فيما له شد ورباط ومنه الإسار وهو الحبل الذي يشد به الأسير

ثم أخبر سبحانه أنه قادر على أن يبدل أمثالهم بعد موتهم وأنه إذا شاء ذلك فعله وإذا للمحقق فهذا التبديل واقع لا محالة فهو الإعادة التي هي مثل البداءة

هذا هو معنى الآية ومن قال غير ذلك لم يصب معناها ولا توحشك لفظة المثل فإن المعاد مثل للمبدوء وإن كان هو بعينه فهو معاد أو هو مثله من جهة المغايدة بين كونه مبدءا ومعادا وهذا كالدار إذا تهدمت وأعيدت بعينها فهي الأولى وكذلك الصلاة المعادة هي الأولى وهي مثلها

وقد نطق القرآن بأنه سبحانه يعيدهم ويعيد أمثالهم إذ شاء وكلاهما واحد فقال كما بدأكم تعودون سورة الأعراف 29 وقال تعالى وإلينا ترجعون سورة الأنبياء 35 وقال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده سورة الروم 27 وقال أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم سورة يس 81 وقال إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون سورة الواقعة 61 62

فهذا كله معاد الأبدان وقد صرح سبحانه بأنه خلق جديد في موضعين من كتابه وهذا الخلق الجديد هو المثل

الآية: 29

ثم ختم سبحانه السورة بالشرع والقدر كما افتتحها بالخلق والهداية فقال فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا الآية 29 فهذا شرعه ومحل أمره ونهيه

الآية الثلاثون

ثم قال وما تشاءون إلا أن يشاء الله الآية 30 فهذا قضاؤه وقدره ثم ذكر الإسمين الموجبين للتخصيص وهما اسم العليم الحكيم

وقوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله فأخبر أن مشيئتهم موقوفة على مشيئته ومع هذا فلا يوجب ذلك حصول الفعل منهم إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين ولا يقع الفعل إلا حين يشاؤه منهم كما قال تعالى فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله سورة المدثر 55 56 وقال لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله سورة التكوير 28 29 ومع هذا فلا يقع الفعل منهم حتى يريد من نفسه إعانتهم وتوفيقهم

فهنا أربع إرادات إرادة البيان وإرادة المشيئة وإرادة الفعل وإرادة الإعانة والله أعلم

(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما)