الرئيسيةبحث

جامع الرسائل/رسالة في تحقيق التوكل



رسالة في تحقيق التوكل

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما أما بعد فهذا

فصل في التوكل: التوكل عند طائفة مجرد عبادة لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة

قد ظن طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة بل ما كان مقدرا بدون التوكل فهو مقدر مع التوكل ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضاء وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب وقول هؤلاء يشبه قول من قال إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار وآخرون يقولون بل الدعاء علامة وأمارة ويقولون ذلك في جميع العبادات وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ويقول إن الله يفعل عندها لا بها وهو قول من طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر كالأشعري وغيره وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية

وأصل هذه البدعة من قول جهم فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات ومن تمام توحيد الأفعال نفى الأسباب حتى أنكر تأثير قدرة العبد بل نفى كونه قادرا وأنكر الحكمة والرحمة وكان يخرج إلى الجذمي فيقول أرحم الراحمين يفعل كل هذا يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة وقوله في القدر قد يقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف

والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع دلالة الحس والعقل والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر

التوكل عند الجمهور يجلب المنفعة ويدفع المضرة وهو سبب عند الأكثرين

والمقصود هنا الكلام على التوكل فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله من جلب المنفعة ودفع المضرة ما لا يحصل لغيره وكذلك الداعي والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة ثم هو سبب عند الأكثرين وعلامة عند من ينفي الأسباب قال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا سورة الطلاق 2 3 والحسب الكافي فبين أنه كاف من توكل عليه وفي الدعاء يا حسب المتوكل فلا يقال هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه ولأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له

توكل المؤمن على الله هو سبب كونه حسبا له

فعلم أن توكله هو سبب كونه حسبا له ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل كما رغب في التقوى فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره لم يكن ذلك مرغبا في التوكل كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب وقد قال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل سورة آل عمران 173 فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل لما توكلوا عليه بقولهم حسبنا الله أي كافينا الله لا يستحق المدح إن لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ويدفع عنه مضرة والله خير من توكل العباد عليه فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شر

وقال تعالى واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا سورة المزمل 8 9 وقال تعالى وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا سورة الإسراء 2 فأمر أن يتخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد والوكالة الجائزة أن يوكل الإنسان في فعل يقدر عليه فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وذلك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل وقدرته فليس له أن يتوكل عليه وإن وكله بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله يحصل وإن توكل على غيره أو يحصل بلا توكل لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد قال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال 64 أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول سواء اتبعوه أو لم يتبعوه لم يكن للإيمان واتباع الرسول ثم أثر في هذه الكفاية ولا كان لتخصصهم بذلك معنى وكان هذا نظير أن يقال هو خالقك وخالق من اتبعك من المؤمنين ومعلوم أن المراد خلاف ذلك

وإذا كان الحسب معنى يختص به بعض الناس علم أن قول المتوكل حسبي الله وقوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه سورة الطلاق 3 أمر مختص لا مشترك وأن التوكل سبب ذلك الإختصاص والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خص أهله بكرامة فلا بد أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا مطلقا وإن عدم التوكل

التوكل سبب نعمة الله وفضله

وقد قال تعالى وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم سورة آل عمران 173 174 فمعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل بحرف الفاء وهي تفيد السبب فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الإنقلاب بنعمة من الله وفضل وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل

وفي الأثر من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة لم يكن المتوكل أقوى من غيره

قال تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا سورة الأحزاب 1 3

وقال في أثناء السورة ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا الآية 48

فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع كقوله فاعبده وتوكل عليه سورة هود 123 وقوله وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا سورة المزمل 8 9 وقوله تعالى ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير سورة الممتحنة 4 وقوله تعالى هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب سورة الرعد 30 وقوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه سورة الطلاق 2 3

وقوله تعالى في الفاتحة إياك نعبد وإياك نستعين وعلم القرآن جمع في الفاتحة وعلم الفاتحة في هذين الأصلين عبادة الله والتوكل عليه

وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل فإنه من عبادة الله تعالى كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم سورة البقرة 21 وقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه

وهذا كلفظ الإسلام والإيمان والعمل ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر ونظائر ذلك متعددة

فكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به بخصوصه ثم قد يقال إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه وقد يقال بل أمر به خاصا وعاما كما في قوله تعالى وملائكته ورسله وجبريل وميكال وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله ثم قال وكفى بالله وكيلا سورة الأحزاب 3 علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه كما يقال في الخطبة والدعاء الحمد لله كافي من توكل عليه

وإذا كان كفى به وكيلا فهذا مختص به سبحانه ليس غيره من الموجودات كفى به وكيلا فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض المأمور وهو لا يفعلها إلا بإعانة الله له وهو عاجز عن أكثر المطالب

فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه كفى به وكيلا علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره في جلب المنافع ودفع المضار إذ لو تبقى شر لم يكن كفى به وكيلا وهذا يقتضي بطلان ظن من ظن أن المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله عليه جلب منفعة ولا دفع مضرة بل يجري عليه من القضايا ما كان يجري لو لم يتوكل عليه

والذين ظنوا هذا أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما سبق به علمه فهو كائن لا محالة صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع

وهذا غلط عظيم ضل فيه طوائف طائفة قالت لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها فإن من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن

وهذه الشبهة سئل عنها النبي ﷺ لما قال ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا أولا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر إلى عمل أهل الشقاء

الأسباب -ومنها التوكل- من قدر الله

وهذا المعنى قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح في مواضع تبيين أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيا فالقدر يتضمن الغاية وسببها لم يتضمن غاية بلا سبب كما تضمن أن هذا ويلد له بأن يتزوج ويطأ المرأة وهذا ينبت أرضه بأن يزرع ويسقى الزرع وأمثال ذلك

وكذلك في السنن أنه قيل له يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله.

بين أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من قدر الله ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب

وكذلك قول من قال إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا هو من هذا الجنس لكن إنكار ما أمر به من الأعمال كفر ظاهر بخلاف تأثير التوكل ولكن الأصل واحد وهو النظر إلى المقدرو مجردا عن أسبابه ولوازمه ومن هذا الباب أن المقتول يموت بأجله عند عامة المسلمين إلا فرقة من القدرية قالوا إن القاتل قطع أجله ثم تكلم الجمهور لو لم يقتل فقال بعضهم كان يموت لأن الأجل قد فرغ وقال بعضهم لا يموت لانتفاء السبب

وكلاء القولين قد قاله من ينتسب إلى السنة وكلاهما خطأ فإن القدر سبق بأنه يموت فبهذا السبب لا بغيره فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب أمكن أن يكون المقدر أنه يموت بغيره وأمكن أن يكون المقدر أنه لا يموت فالجزم بأحدهما جهل فما تعددت أسبابه لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها ولو لم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر بخلاف ما ليس له إلا سبب واحد مثل دخول النار فإنه لا يدخلها إلا من عصى فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها

نصر الله مع التوكل عليه

قال تعالى فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة آل عمران 159 160 فأمره إذا عزم أن يتوكل على الله فلو كان المتوكل لا يعينه على مثل ما عزم عليه لم يكن به عند العزم فائدة يبين سبحانه أنه هو الناصر دون غيره فقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون فنهى عن التوكل على غيره وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره وإلا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى فإنه على هذا القول نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه وهذا يناقض مقصود الآية بل عند هؤلاء قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من توكل عليه فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون

وكذلك قوله تعالى أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد سورة الزمر 36 إلى قوله قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون سورة الزمر 38 فبين أن الله يكفي عبده الذي يعبده الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان الذين هم من عباده المخلصين الذين هم من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الذين هم من عباد الله الذين يشربون من عين يفجرونها تفجيرا

ومثل هذا قوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا سورة الإسراء 1 وقوله تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه سورة الجن 19 وقوله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا سورة البقرة 23 ونظائر ذلك متعددة ثم أمره بقوله حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون

توكل المرسلين يدفع عنهم شر أعدائهم

وقال تعالى واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقتضوا إلي ولا تنظرون سورة يونس 71

وكذلك قال عن هود لما قال لقومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم سورة هود 54 56 فهذا من كلام المرسلين مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه

فنوح يقول إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فدعاهم إذا استعظموا ما يفعله كارهين له أن يجتمعوا ثم يفعلوا به ما يريدونه من الإهلاك وقال تعالى فعلى الله توكلت فلولا أن تحقيقه هذه الكلمة وهو توكله على الله يدفع ما تحداهم به ودعاهم إليه تعجيزا لهم من مناجزته لكان قد طلب منهم أن يهلكوه وهذا لا يجوز وهذا طلب تعجيز لهم فدل على أنه بتوكله على الله يعجزهم عما تحداهم به

وكذلك هو يشهد الله وإياهم أنه بريء مما يشركونه بالله ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها بين أنه توكل على من أخذ بنواصي الأنفس وبسائر الدواب فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا لكان قد أغراهم بالإيقاع به ولم يكن لذكر توكله فائدة إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب عليه وهم كانوا أكثر وأقوى منه فكانوا يهلكونه لولا قوته بتوكله عليه فإن التوكل إن لم يعطه قوة فهم أقوى منه وهو لو قال بأن الله مولاي وناصري ونحو ذلك لعلم أنه قاله مخبرا فالله يدفعهم عنه وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه ولأنه عبده ورسوله

والله تعالى مع رسله وأوليائه فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين التقين كما قال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا سورة الحج 38 علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة يجلب بها المنفعة ويدفع بها المضرة فالتوكل من أعظم ذلك وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضار ليس معلقا بالأسباب بل يحصل بدونها فهو غلط

غلط من أنكر الأسباب أو جعلها مجرد أمارة أو علامة

وكذلك قول من جعل ذلك مجرد أمارة وعلامة لاقتران هذا بهذا في غير موضع من القرآن في خلقه وأمره كقوله تعالى فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقوله تعالى كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية سورة الحاقة 24 وقوله تعالى جزاء بما كانوا يعملون سورة السجدة 17

وأنكر تعالى على من ظن وجود الأسباب كعدمها في قوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين سورة القلم 35 وقوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص 28 وأمثال ذلك

وهؤلاء الذين يقولون بالجبد رقالوا بالأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالمعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ولا لحكمة فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر كما أبطلوا الأسباب والحكم وأبطلوا قدر العباد وهم وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين به فساد قول القدرية فردوا باطلا بباطل وقابلوا بدعة ببدعة كرد اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقاتلهم في المسيح وكلا المقالتين باطلة وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في علي كلاهما باطل على باطل ونظائر متعددة

فصل: فرض الله الدعاء على العباد لافتقارهم إلى هدايته

وإن ما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر في الصلوات بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تضمنته أم القرآن وهو قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذاالدعاء وهو هداية الصراط المستقيم فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين

وهذا الإهتداء لا يحصل إلا بهدى الله فمن يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا سورة الكهف 17 وهذه الآية مما يتبين بها فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الإهتداء إلى الله بل كل عبد عندهم معه ما يحصل به الإهتداء والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر

والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائما إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى فكلام من لم يعرف حقيقة حال الأسباب وما أمر به فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وهذا يحتاج إليه في كل وقت إلى أن يعلم ما أمر به في ذلك الوقت وما نهى عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد بل في كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت نعم حصل له هدى مجمل فإن القرآن حق ودين الإسلام حق والرسول ونحو ذلك ولكن هذا الهدى المجمل لا يعينه إن لم يحصل له هدى مفصل في كل ما يأتيه ويدبره من الجزئيات التي يحار في كثير منها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى أكثر الخلق لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس

والإنسان خلق ظلوما جهولا فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم وقد قال تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا سورة الفتح 1 3 فأخبر أنه فعل هذا ليهديه صراطا مستقيما فإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره

والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية وكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه وإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا وإن كان بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية إلى الإستقامة مات شهيدا وكان القتل من تمام نعمة الله عليه فتبين أن حاجة العباد إلى الهدي أعظم من حاجتهم إلى الرزق بل لا نسبة بينهما فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم

وأيضا فإن الدعاء يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن نصر الله نصره وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر