وهؤلاء يجيبون هؤلاء الباطنية بجواب خامس وهو أن الخالق والمخلوق إذا سمي كل واحد منهما فاعلا أو قادرا أو غير ذلك فإنما لم يتماثلا في ذاتيهما وإنما يكون التماثل في الذات إذا كان هذا جسما أو جوهرا والآخر كذلك وهؤلاء يقولون كل من قال بأن الرب جسم كان مشبها ومن نفى ذلك لم يكن مشبها ولا ينفصلون بهذا الجواب فإن منازعهم يقول فإذا أثبتم الصفات أو الأسماء لزم أن يكون الموصوف المسمى جسما كما تقولون أنتم ذلك لمن أثبت ما نفيتموه وجعلتموه مجسما ولا يمكنهم أن يذكروا فرقا صحيحا وكل ما يقولونه يمكن المثبت أن يقول لهم مثله فيلزم بطلان هذا الفرق بين ما سموه تجسيما وما لم يسموه تجسيما فلزم إما إثبات الجميع وإما نفي الجميع
ونفي الجميع ممتنع لأنه قد علم بالضرورة أن الموجود ينقسم إلى واجب قديم قيوم غني خالق وإلى ممكن محدث مدبر فقير مخلوق فلا سبيل إلى جعل الوجود كله واحدا واجبا كما يقوله أهل الوحدة ولا إلى جعله كله مخلوقا مربوبا محدثا كما يذكر عن بعضهم أنه ادعى حدوث الوجود كله بدون محدث فإن فساد كل من القولين من أبين العلوم الضرورية البديهية ولهذا كان أهل الوحدة متناقضين لا يلتزمون قولهم وأما حدوث الوجود جميعه بدون محدث فلا تعرف طائفة قالته وإنما يقدر تقديرا ذهنيا كما تقدر كثير من الأقوال السوفسطائية لتبيين بطلانها وانتفائها
فقد تبين أن أقوال نفاة الصفات كقول أهل الإلحاد المعطلة للصانع وأن القول الثاني قول من يقول بالوجود المطلق عن النفي والإثبات هو أحد قولي القرامطة الباطنية والأول قول القرامطة الباطنية الذين يلونهم نفاة الصفات الثبوتية الذين لا يصفونه إلا بالسلوب
فابن سينا وأمثاله من أئمة هؤلاء وكان أهل بيته من أهل دعوة الحاكم وأمثاله من أئمة القرامطة الباطنية الإسماعيلية
وقول من قال المطلق لا بشرط الذي يصدق على كل موجود فهو يشبه قول من يجمع بين النقيضين فيصفه بصفة كل موجود وإن كانت متناقضة ويجعل وجود الخالق هو وجود المخلوق أو جزء منه
وعلى كل تقدير فحقيقة قول هؤلاء نفي الوجود الواجب المباين للوجود الممكن ونفي وجود الخالق المباين للمخلوقات ونفي وجود القديم المباين للمحدثات وهذا قول المعطلة وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
والمقصود هنا بيان أن طريقة ابن سينا وأتباعه في الوجود الواجب لا يفيد إلا إثبات وجود واجب فقط وأنها لا تفيد أنه مباين للعالم إلا بطريقة نفي الصفات وهي باطلة ولو صحت لم تفد إلا إثبات هذا الوجود المطلق لا تفيد وجودا مباينا للمخلوقات منفصلا عنها فتفيد إثبات وجود في الذهن أو إثبات وجود مشترك بين الموجودات لا تفيد إثبات وجود مباين لوجود الممكنات
وهو إنما أخذه من كلام المعتزلة لما قسموا الموجود إلى محدث وقديم وبينوا ثبوت القديم أخذ هو يقسمه إلى واجب وممكن وغرضه إثبات وجود الواجب بدون إثبات حدوث العالم وجعل وجود العالم ممكنا وخالف بذلك طريقة سلفه الفلاسفة كأرسطو وأتباعه فإن الممكن عندهم لا يكون موجودا وهم لم يقسموا الوجود إلى واجب وممكن كما فعله ابن سينا بل أثبتوا العلة الأولى بالحركة فقالوا الفلك يتحرك حركة شوقية للتشبه بالعلة الأولى وهو عندهم محرك للفلك كتحريك المحبوب لمحبه وقولهم أعظم فسادا من قول ابن سينا
وهذه الطريقة التي سلكها ابن سينا وأتباعه والمعتزلة يمكن سلوكها بأنواع أخر مثل أن يقال الوجود ينقسم إلى غنى عن غيره وفقير إلى غيره والفقير لا يوجد بدون الغنى فيلزم وجود الغني على التقديرين والوجود ينقسم إلى قيوم يقوم بنفسه ويقيم غيره وإلى ما ليس بقيوم وما ليس بقيوم لا يوجد إلا بالقيوم فيلزم وجود القيوم على التقديرين
وكذلك يقال الوجود ينقسم إلى مخلوق وإلى غير مخلوق والمخلوق لا بد له من وجود خالق غير مخلوق فثبت وجود الموجود الذي ليس بمخلوق على التقديرين ثم يقال وهذا الموجود الذي ليس بمخلوق هو الخالق للمخلوقات فإن وجوده إنما علم بضرورة وجود المخلوقات فثبت وجود الخالق على كل تقدير
ثم يقال والقديم إما قديم بنفسه وإما قديم بغيره والقديم بغيره ممتنع لأنه لا يكون قديما بنفسه إلا إذا كان لازما للقديم بنفسه وإلا فلو جاز أن يوجد معه وجاز أن لا يوجد معه لم يترجح أحدهما إلا بمرجح لكن القديم المحدث للمخلوقات لا يجوز أن يلزمه شيء من آثاره لأن آثاره لا تلزمه إلا إذا كان موجبا بنفسه بحيث لا يتخلف عنه موجبه ولو كان كذلك لم تصدر عنه الحوادث لا بوسط ولا بغير وسط فإذا صدرت عنه الحوادث علم أنه ليس مستلزما لمفعوله
وإذا قيل إن العقول لازمة له وهي موجبة للأفلاك ولأنفس الأفلاك
قيل فالأفلاك مستلزمة للحوادث والحوادث مقارنة للعقول اللازمة له فلم يزل فاعلا للحوادث وعلى عبارتهم لم يزل علة لها أو موجبا والعلة القديمة المستلزمة لمعلولها لا يكون معلولها حادثا ولا مستلزما للحوادث ولا مقارنا لحادث ولا شيء من معلولها لأنه يقتضي أن ذلك الحادث قديم معها معلول لها والحادث لا يكون مقارنا للقديم ولا معلولا له ولا يمكن أن يقال بتسلسل الحوادث وحدوثها شيئا بعد شيء على هذا التقدير لأنها على هذا التقدير لا تكون في الأزل علة لشيء من الحوادث ولكن تكون علة لكل واحد عند حدوثه إذ العلة التامة هي المستلزمة للمعلول وتكون عليتها وتأثيرها حادثة شيئا فشيئا كحدوث المعلولات التي هي الآثار وإذا كان المعلول لا يخلو عن حادث فيكون مستلزما للحوادث ومقارنا لها لم يمكن وجوده إلا مع لازمه المقارن له ووجود لازمه عنها في الأزل محال فوجود الملزوم عنها في الأزل محال سواء جعل اللازم مجموع الحوادث أو واحد من الحوادث أو نوع الحوادث شيئا بعد شيء فعلى التقديرات الثلاثة لا يمكن وجود ذلك عن علة أزلية وهي الموجب بذاته وهذا لأن الجميع معلول لها
أما إذا قدر أنها هي تحدث الحوادث شيئا بعد شيء فلا تكون علة تامة للحوادث وقدر هناك موجب بذاته لشيء آخر وهو مقارن للحوادث أمكن أن يقال إن نوع الحوادث دائم مع وجود شيء آخر باق أزلي فإنما الكلام هنا إذا كان العالم جميعه معلولا للعلة التامة الأزلية فإن هذا ممتنع على كل تقدير سواء قدر العالم لا يخلو من الحوادث أو قدر أن الحوادث حصلت فيه بعد أن لم تكن
أما على الأول فلأنه لم يوجد بدون الحوادث ولا يمكن وجوده مع الحوادث عن علة تامة مستلزمة لمعلولها وأما إذا قدر أن الحوادث حصلت فيه بعد أن لم تكن فلأنه يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب وترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح ولأنه على هذا التقدير لا يكون يحدث الحوادث بعد أن لم يكن موجبا بذاته في الأزل لأنه جمع بين النقيضين بل لا بد أن يقال هو فاعل باختياره يمكنه أن يفعل بعد أن لم يكن فاعلا بحال
وعلى هذا التقدير إن لم يكن فعله في الأزل امتنع قدم شيء من العالم وإن أمكن فعله في الأزل لزم ثبوت فعله في الأزل وأن يكون فاعلا دائما لأن المقتضى موجود والمانع مفقود فإن المقتضى لكونه فاعلا ليس شيئا خارجا عن نفسه لامتناع كونه مفتقرا إلى غيره وكون غيره مؤثرا فيه والتقدير أن الفعل ممكن في الأزل وإذا كان المقتضي قائما والمانع زائلا لزم ثبوت الفعل
ولهذا كان المانعون من هذا إنما منعوا منه لاعتقادهم امتناع الفعل في الأزل إما لامتناع حوادث لا أول لها عندهم أو لأن الفعل ينافي الأزلية أو لغير ذلك وعلى كل تقدير فإنه يمتنع قدم شيء بعينه من العالم وكذلك إذا قدر أن الفعل دائم فإنه دائم باختياره وقدرته فلا يكون الفعل الثاني إلا بعد الأول وليس هو موجبا بذاته في الأزل لشيء من الأفعال ولا من الأفعال ما هو قديم أزلي
والأفعال نوعان لازمة ومتعدية فالفعل اللازم لا يقتضي مفعولا والفعل المتعدي يقتضي مفعولا فإن لم يكن الدائم إلا الأفعال اللازمة وأما المتعدية فكانت بعد أن لم تكن لم يلزم وجود ثبوت شيء من المفعولات في الأزل وإن قدر أن الدائم هو الفعل المتعدي أيضا والمستلزم لمفعول فإذا كان الفعل يحدث شيئا بعد شيء فالمفعول المشروط به أولا بالحدوث شيئا بعد شيء لأن وجود المشروط بدون الشرط محال فثبت أنه على كل تقدير لا يلزم أن يقارنه في الأزل لا فعل معين ولا مفعول معين فلا يكون في العالم شيء يقارنه في الأزل وإن قدر أنه لم يزل فاعلا سبحانه وتعالى فهذه الطريقة قرر فيها ثبوت القديم المحدث للحوادث وحدوث كل ما سواه من غير احتياج إلى طريقة الوجوب والإمكان ولا إلى طريقة الجواهر والأعراض
ويمكن تقدير هذا على طريقة الوجوب بأن يقال قد ثبت أن الوجود ينقسم إلى واجب بنفسه وممكن والذي لا ريب في إمكانه هو الحوادث فإنا نعلم وجودها بعد العدم فلزم إمكان وجودها وعدمها بخلاف ما لم يعلم إلا وجوده فإنا نحتاج أن يعلم إمكانه بطريق آخر
وإذا كانت الحوادث ممكنة والممكن لا بد له من الواجب بنفسه ثبت أن المحدث للحوادث هو الواجب بنفسه وإذا كان المحدث لها هو الواجب بنفسه امتنع أن يكون علة تامة لها في الأزل لكون العلة التامة تستلزم معلولها فيجب أن تكون جميع الحوادث صادرة عن علة تامة أزلية وهذا باطل سواء قدر صدور مجموعها عنه في الأزل أو صدور واحد بعينه أو صدورها واحدا بعد واحد كما تقدم فإن كون مجموعها أو واحد من الحوادث بعينه أزليا ممتنع لذاته وكون النوع حادثا شيئا بعد شيء يمنع أن يكون المحدث له علة أزلية فإن العلة الأزلية يقارنها المعلول والمتجدد لا يكون مقارنا للأزلي في الأزل ولأن كلا من الحوادث لا تكون علته التامة إلا عند وجوده وإلا لزم حدوث الحادث عن العلة التامة من غير أن يتجدد تمامها له عند حدوثه فتمام العلة للحوادث وأزليتها جمع بين النقيضين
وقد تقدم بيان هذا وتمام الدليل وهكذا يمكن إذا قسم الموجود إلى غني وفقير وقيل إن الفقير لا بد له من غنى ثم قيل والحوادث فقيرة فيلزم صدروها عن الغنى
أو قيل إنه ينقسم إلى قيوم وغير قيوم وغير القيوم مفتقر إليه والحوادث مفتقرة إلى القيوم ويساق الدليل إلى آخره
وكذلك إذا قيل الوجود ينقسم إلى كامل وناقص والناقص لا بد له من الكامل لأن الناقص مفتقر إلى الكامل إذ لو كان مستغنيا بنفسه لكان كاملا فإن الغنى من أعظم صفات الكمال ولو كان الكامل مفتقرا إليه لكان هو الناقص ولو كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر للزم الدور القبلي السبقي وهو باطل وإذا ثبت وجود الكامل فلا بد أن يكون قديما إذ لو كان حادثا لكان الوجود كله حادثا والحادث مفتقر إلى القديم فلا بد من القديم
وأيضا فالحوادث هي الناقصة لأن نفس الحدوث يوجب الافتقار إلى الغنى والفقر أعظم صفات النقص فيلزم افتقار الحوادث إلى الكامل ويساق الكلام إلى آخره
وأيضا فيقال الوجود ينقسم إلى خالق ومخلوق كما تقدم والخالق يستحيل أن يكون شيء ممن مخلوقاته أزليا معه لأنه لو كان كذلك لكان علة موجبة له وذلك ممتنع كما تقدم
ويمكن تقدير صفات الكمال لله سبحانه بهذه الطرق كلها فإنه إذا ثبت وجود الواجب بنفسه أو وجود القديم أو الغنى أو وجود القيوم أو الكامل أوالخالق أو نحو ذلك من خصائص الرب تبارك وتعالى فإنه يقال الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود من حيث هو موجود إما أن يكون ممكنا له وإما أن يكون ممتنعا عليه والثاني باطل لأن هذا الكمال ممكن للمحدثات الممكنات الفقيرة إليه المخلوقات فإن الواحد منها يمكن أن يكون حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما فإن لم يمكن ذلك فيه لزم إمكان اتصاف المفضول بالكمال الذي لا نقص فيه دون اتصاف الأفضل به وهذا ممتنع
وأيضا فكل كمال في المحدثات الممكنات المخلوقات فمنه فمن جعل غيره كاملا فهو أحق بالكمال فالخالق أولى بالكمال والمدح والثناء من المخلوقات
وهم يقولون كمال المعلول من كمال العلة فثبت إمكان اتصافه بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه وإذا ثبت إمكان ذلك فإما أن يفتقر في ثبوت هذا الكمال له إلى غيره وإما أن لا يفتقر والأول باطل لأنه قد ثبت أنه غني ولأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره ولأن الخالق الذي ليس بمخلوق لا يكون فقيرا إلى غيره ولأن القديم الذي أحدث كل ما سواه لا يكون فقيرا إلى غيره ولأن القيوم القائم بنفسه المقيم كل ما سواه لا يكون فقيرا إلى غيره ولأنه لو افتقر إلى غيره فذلك 2 الغير إما أن يكون من مفعولاته وإما أن يكون واجبا بنفسه
فإن كان الأول لزم الدور القبلي وهو ممتنع ولأن كل ما لمفعولاته من الكمال فهو منه فلو لم يستفد كماله إلا من مفعوله لزم أن لا يحصل الكمال له حتى يحصل الكمال لمفعوله ولا يحصل الكمال لمفعوله حتى يحصل له لأن جاعل الكامل كاملا أولى بالكمال وإن افتقر إلى واجب غيره يجعله كاملا كان ذلك الغير هو الرب الكامل وكان الأول مفعولا له مخلوقا ونحن تكلمنا في الأزلي القديم الواجب بنفسه القيوم الفاعل لكل ما سواه
فثبت بهاتين المقدمتين أن كل كمال لا نقص فيه ممكن للوجود فهو ممكن له وثبت أنه لا يتوقف ثبوت ذلك له على غيره فحينئذ يلزم ثبوت ذلك الكمال له ولزومه إياه لأنه إذا حصل المقتضى التام الذي لا يتوقف اقتضاؤه على شيء لزم ثبوت مقتضاه والعلة التامة يلزمها معلولها فإذا كان الواجب التام يلزمه موجبه فهو سبحانه وحده الموجب لكمال نفسه المقتضي لذلك فيلزم أن يكون الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه ثابتا له لازما دائما وهو المقصود
وإثبات صفاته اللازمة له بطريق الإيجاب الذاتي هو الحق دون إثبات مخلوقاته وحينئذ فيكون طريقة الوجوب وغيرها من الطرق العقلية دلت على إثبات صفات الكمال له ونفى النقائص عنه وهذا وغيره مما بين دل على أن الطرق العقلية كلها مثبتة لصفات الكمال لله وأن من استدل بوجوبه أو قدمه أو غير ذلك على نفي صفاته كان مخطئا ضالا وتبين أن هذه الطرق العقلية كلها يمكن إثبات الصفات والأفعال بها وإثبات حدوث كل ما سواه
ونحن نبهنا على هذه الفوائد الجليلة منها أن طائفة من أهل الكلام كصاحب الإرشاد ومن اتبعه يزعمون أن تنزيهه عن النقائص لم يعلموه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع على ذلك وجعلوا عمدتهم فيما ينفونه عنه هو نفي الجسم كما فعلت ذلك المعتزلة واعتمدوا في نفي الجسم على إثبات حدوث الأجسام واعتمدوا في ذلك على امتناع حوادث لا أول لها وكذلك نفاة الفلاسفة جعلوا عمدتهم فيما ينفونه هو نفي التركيب واعتمدوا في نفي التركيب على إمكان التركيب واعتمدوا في إمكان ذلك على أن المجموع لا يكون واجبا لافتقاره إلى بعض أفراده
وهذا الكلام قد تقدم التنبيه على فساده وبينا ما في هذه الحجة من الألفاظ المجملة وأن كون الموصوف بصفات لازمة واجبا بنفسه إذا قيل إنه يتضمن افتقاره إلى بعض لوازم ذاته أو ما يدخل في مسمى ذاته كان مضمونه أنه لا يوجد إلا به وليس في ذلك ما يقتضي كون ذلك الفرد فاعلا له ولا علة فاعلة له والواجب بنفسه هو الذي لا يكون له فاعل ولا علة فاعلة له
وأما إذا قدر موجود بنفسه ذو صفات لازمة فذلك لا ينافي أن لا يكون له فاعل ولو قدر مجموع واجب بنفسه لا يوجد إلا بوجود كل من أجزائه لم يكن في العقل ما يمنع أن يكون هذا غير مفتقر إلى فاعل
ولفظ الوجوب بالنفس قد صار فيه بحسب كثرة الخوض فيه اشتراك لفظي فإن عني به أنه لا يكون له صفة ولا لازم فهذا لا دليل على ثبوته
ثم من العجب أن هؤلاء يجعلونه معلولاته لازمة له مع زعمهم أنه واجب بنفسه فكيف يمتنع أن تكون صفاته لازمة له مع كونه واجبا بنفسه فإن كان الواجب بنفسه هو الذي لا يكون له لازم أصلا فليس في الوجود واجب بنفسه على قولهم وإن كان استلزامه لشيء لا يمنع وجوبه بنفسه فأحق الأشياء بذلك صفاته فاستلزامه إياها لا يمنع وجوبه بنفسه وإن عنى به أنه لا يكون له محل يقوم به ولا علة قابلة فالصفات على هذا الوجه لا تكون واجبة بنفسها بل تكون واجبا بالذات التي لا تفتقر إلى محل مع أن الدليل الذي دل على أن الممكنات لا بد لها من واجب بذاته دل على أنه لا بد لها من موجود بنفسه لا يكون له فاعل ولا علة فاعلة
ولا ريب أنه لا بد أن يكون غنيا عن الممكنات لأن افتقاره إليها يمنع كونه موجودا بنفسه فلا يجوز له أن يفتقر إلى الممكنات لا إلى محل ولا إلى غير محل لكن هذا لا يمنع أن تكون صفاته واجبة أيضا وداخلة في مسمى الواجب بنفسه وكونها لا تقوم إلا به لا يوجب احتياجها إلى فاعل ولا إلى علة فاعلة مباينة للمعلول
وإذا سميت الذات علة كما تقدم بمعنى أنها موجبة للصفات مستلزمة لها فهذا معنى صحيح لكن العلة الفاعلة التي يدعونها في علة العالم ليست من هذا الباب فينبغي أن يبين المراد في العبارات المجملة فإنه قد قيل إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع
وأما طريقة الذين اعتمدوا في النفي على حدوث الجسم فإن أئمة أهل الملل وأئمة الفلاسفة نازعوهم في امتناع دوام الحوادث وقالوا إن هذا يخالف العقل والنقل وقالوا أنتم زعمتم أنكم بهذه الطريق تثبتون حدوث العالم وإثبات الصانع وهذه الطريق تناقض ذلك فإن هذه لا تتم إلا بإثبات ذات معطلة عن الفعل فعلت بلا سبب أصلا وهذا يستلزم ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وهو يسد إثبات الصانع
قالوا وما ذكرتموه من الأدلة على امتناع دوام الأفعال والحوادث في الماضي يرد عليكم في المستقبل وليس بين هذين فرق معقول فإنه ما من ماض إلا وقد كان مستقبلا ولا مستقبل إلا ولا بد أن يصير ماضيا فالفرق بين الماضي والمستقبل فرق إضافي بحسب حال الوقت الذي جعل حاضرا وبحسب من يكون في ذلك الوقت فإن ما مضى هو ماض بالنسبة إليه وما سيكون مستقبل بالنسبة إليه ولا ريب أن الماضي عدم والمستقبل لم يوجد بعد فهذا وجد ثم عدم وهذا سيوجد ثم يعدم فكلاهما داخل في الموجود وكلاهما غير دائم الوجود
قالوا ولهذا لما عرف أئمة طريقكم بطلان الفرق سووا بين الماضي والمستقبل وهما الجهم بن صفوان إمام الجهمية وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة والجهم كان قبل أبي الهذيل وهو أسبق منه إلى هذه الحجة ونفى الصفات ولهذا زعم أن العالم كله يفنى ويفنى نعيم الجنة وأهل الجنة حتى لا يبقى موجود إلا الله كما كان الأمر في الابتداء كذلك
والذين سلكوا سبيله أعجزتهم حجته فمنهم من يقول كان القياس ما قاله لكن النصوص جاءت بدوام الدارين كما يذكر ذلك طائفة من المصنفين كصاحب الإيضاح وغيره وهذا كلام فاسد فإن الدليل العقلي متى انتقض بطل والنصوص لا تأتي بخلاف المعقول الصريح أبدا
ومنهم من يقول نحن نقول بفناء الحركات دون فناء الأجسام كما قاله أبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وهذا يستلزم وجود الأجسام خالية عن الحركة وإذا جوز ذلك في المستقبل فليجوزه في الماضي فيلتزم ما فر منه من قدم الأجسام وكثير منهم فرق بين الماضي والمستقبل بأن هذا دخل في الوجود وهذا لم يدخل فهذا يمكن فيه التطبيق بخلاف هذا
وهذا فرق ضعيف لوجهين أحدهما أن الماضي عدم فلا يمكن فيه التطبيق كما ذكروه
والثاني أن دليلكم دليل التطبيق والموازاة مبناه على أن ما لا يتناها لا يكون بعضه أكثر من بعض
قالوا فإذا فرضنا الحوادث من الطوفان والحوادث من الهجرة وطبقنا بينهما فإن تساويا لزم أن يكون الزائد كالناقص وهو محال وإن تفاضلا لزم فيما لا يتناهى أن يكون بعضه أزيد من بعضه قالوا وهذا محال
فقيل لهم هذا ينقض عليكم بالحوادث في المستقبل فإن الحوادث المستقبلة من الطوفان أزيد منها في الهجرة ففرق بعضهم بأن ذاك وجد وهذا لم يوجد وهو فرق ضعيف كما ترى
وأما قولهم ما لا يتناهى لا يتفاضل فإنهم منعوهم ذلك وقالوا بل كلما دام الشيء كان بقاؤه أطول وإن كان لا أول له وكلما حدثت الحوادث كانت أكثر مما وجد وإن كان لا نهاية له كما أن العدد كلما ضعفته كان أزيد وإن كان لا نهاية له وإذا ضعفت الواحد والعشرة والألف تضعيفا دائما فآحاد الألف أكثر من آحاد العشرة وآحاد العشرة أكثر من آحاد الواحد فتضعيف الجميع لا يتناهى
ومنهم من فرق بين الماضي والمستقبل
فإنك إذا قلت لا أعطيتك درهما إلا أعطيتك آخر كان ممكنا وإذا قلت لا أعطيك درهما حتى أعطيك درهما كان غير ممكن
وهذا ذكره صاحب الإرشاد وغيره وليس هو بتمثيل مطابق إنما المطابق أن يقال ما أعطيتك درهما إلا وقد أعطيتك قبله درهما فأما إذا قال لا أعطيك حتى أعطيك فهنا نفى المستقبل حتى يحصل المستقبل
والمقصود أن ما هو إثبات ماض قبله ماض لا إثبات مستقبل قبله مستقبل فالتقديرات أربعة مستقبل بعده مستقبل وماض قبله ماض ومستقبل قبله مستقبل وماض بعده ماض فهذان متماثلان وذانك متماثلان والممتنع هنا ذانك لا هذان
وأيضا فالاعتماد في تنزيه الباري على نفي الجسم طريقة مبتدعة في الشرع متناقضة في العقل فلا تصح لا شرعا ولا عقلا
أما الشرع فإنه لم يرد بذلك كتاب ولا سنة ولا قول أحد من السلف والأئمة بل الكلام في صفات الله بنفي الجسم أو إثباته بدعة عند السلف والأئمة ولو كان ذلك مما يعتمد في الشرع لدل الشرع عليه وقد عاب الله على اليهود ما وصفوه به من النقائص كقولهم إن الله فقير وقولهم يد الله مغلولة وقولهم استراح والتوراة مملوءة من الصفات فلم يعب عليهم ما فيها ولا ذكر أنهم حرفوا ذلك
وكثير من أهل الكلام يرد على اليهود بالطريقة المبتدعة ويدع طريقة القرآن
وأما التناقض في العقل فإنه ما من أحد يثبت شيئا وينفي شيئا لكونه مستلزما للتجسيم إلا أمكن النافي أن يقول له فيما أثبته نظير ما قاله له فيما نفاه
وهذه عادة الطوائف بعضها مع بعض فالمعتزلة لما قالت للصفاتية من الأشعرية وغيرهم إذا قلتم إن لله حياة وعلما وقدرة وكلاما فلا تعقل هذه المعاني إلا أعراضا والعرض لا يقوم إلا بجسم
فقالت لهم الصفاتية نحن وأنتم متفقون على أن الله حي عليم قدير ونحن لا نعقل حيا عليما قديرا إلا جسما فإذا جاز إثبات حي عليم قدير ليس بجسم فكذلك قد يجوز إثبات حياة وقدرة تقوم به وليست عرضا وليس هو جسما
وطائفة من الباطنية والفلاسفة قالت للمعتزلة إذا قلتم إن الله حي عليم قدير فلا نعقل مسمى بهذه الأسماء إلا جسما
فقالت لهم المعتزلة وأنتم قلتم إن الله موجود قائم بنفسه ولا يعقل موجود قائم بنفسه إلا جسما فإن جاز إثبات موجود قائم بنفسه ليس بجسم جاز إثبات كونه حيا عليما قديرا ولا يكون جسما
وقالت معتزلة الصفاتية الذين ينفون الصفات الخبرية كصاحب الإرشاد وأتباعه لأئمتهم كأبي الحسن الأشعري وأبي عبدالله ابن مجاهد والقاضي أبي بكر وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك وأبي القاسم القشيري وغيرهم واليد لا تعقل إلا أبعاض الجسم فإذا أثبتموها وقلتم ليست أبعاض جسم كان هذا غير معقول
فقال المثبتون كما أنا لا نعقل حياة وعلما وقدرة وكلاما وسمعا وبصرا إلا عرضا قائما بجسم ثم أثبتنا هذه الصفات وقلنا جميعا نحن وأنتم إنها ليست أعراضنا فكذلك نثبت هذه الصفات ونقول ليست أبعاضا فليس نفي الأعراض عن هذه بأولى من نفي الأبعاض عن هذه
ثم إن المثبتة دارت على النفاة فقالوا للمعتزلة إذا أثبتم حيا عليما قديرا بلا حياة ولا علم ولا قدرة كان هذا تناقضا مثل إثبات أسود بلا سواد وأبيض بلا بياض وطويلا بلا طول وجميلا بلا جمال فإن اسم الفعل المشتق يستلزم ثبوت ما منه الإشتقاق فإثبات اسم فاعل بلا مسمى مصدر تناقض عقلا وسمعا
وقالوا للفلاسفة إذا قلتم موجود ومعقول وعاقل وعقل وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ وجعلتم هذا كله واحدا فهذا مكابرة للعقل وإذا قلتم العشق هو العاشق واللذة هو الملتذ به والعلم هو العالم فهذا أعظم تناقضا فمن جعل الصفة هي الموصوف أو هذه الصفة هي تلك كان مكابرا للعقل
وقال المثبتون للصفات الشرعية لنفاتها لماذا نفيتم أن الله يرضى ويغضب ويحب ويفرح ونحو ذلك مما نطق به الكتاب والسنة
قالوا لأن هذه الصفات تستلزم التجسيم والتشبيه فإنا لا نعقل الغضب إلا غليان دم القلب لطلب الإنتقام أو ما يحصل عنه الغليان وكذلك سائرها
قالوا وكذلك إثبات السمع والبصر والكلام والإرادة ونحو ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم فإنا لا نعقل الإرادة إلا ميل المريد إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره أو ما يلازم هذا المعنى وإلا فإرادة لمراد لا ينفع صاحبه ولا يضره لا يعقل في الشاهد قالوا إرادة الحق لا تشبه إرادة المخلوقين
قالوا وكذلك غضب الحق ورضاه لا يشبه غضب خلقه ورضاهم فالقول في أحدهما كالقول في الآخر أما تجويز أحدهما ومنع الآخر فهو مكابرة
قالوا الدليل العقلي دل على إثبات الإرادة دون الغضب
قالوا فالدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول ونحن أنكرنا عليكم نفيكم لما لم يقم دليل على نفيه فكيف إذا دل السمع على إثباته
وأيضا فيمكن أن تثبت هذه بأدلة عقلية من جنس أدلة تلك الصفات فإن الفعل دل على القدرة والإحكام دل علىالعلم والتخصيص دل على الإرادة وإكرام المطيع وعقوبة العاصي دل على الحب والبغض والرضا والغضب أو يقال هذه صفات كمال لا نقص فيها فيجب اتصاف الرب بها ونحو ذلك من الطرق العقلية ولهذا وصف الرب بالرضا والغضب والحب والبغض والفرح ولم يوصف بالحزن والبكاء فإن هذه صفات نقص تستلزم العجز وأما الأولى فصفات كمال تستلزم القدرة وغيرها من صفات الكمال
وقد تقدم أن العقل يدل على استحقاق الرب لصفات الكمال وتنزيهه عن النقائص وهو يوجب أن لا يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإن المثلين ما يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو جاز مماثلة شيء من الأشياء له في شئ من الأشياء للزم أني جوز عليه ما يجوز عليه ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وهو سبحانه يجب له الوجود والقدم والبقاء ويمتنع عليه الحدوث والعدم والإمكان فلو ماثله شيء من المحدثات الممكنات للزم أن يجب للمحدث القدم وللممكن الوجوب وأن يجب للواجب القديم الحدوث والإمكان وذلك يستلزم الجمع بين النقيضين من وجوه متعددة
فإن قيل فالواجب والممكن يتفقان في مسمى الوجود والقيام بالنفس وأن كلا منهما حي عليم قدير فيلزم أن يجوز على أحدهما ما جاز على الآخر
قيل هما لم يتماثلا في هذا الذي اتفقا فيه ولم يتساويا في ذلك بل الثابت لله من ذلك ليس مماثلا للثابت للمخلوق من ذلك بل بينهما من التفاضل أعظم من التفاضل الذي بين أعظم المخلوقات وأدناها
وإذا قيل اشتركا في ذلك فمعناه أنهما اشتركا في الكلي المطلق الذي لا يوجد كليا مطلقا إلا في الذهن لا في الخارج وإلا فما لكل منهما من ذلك يختص به لا يشركه فيه غيره ثم ذلك المشترك لا يلزمه شيء من صفات النقص وما وجب له وجاز عليه وامتنع عليه فلا محذور في اتصاف الرب به فمسمى كون الشيء موجودا قائما بنفسه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا وإن قيل إنه متفق مشترك فما لزم هذا المشترك ووجب له وجاز عليه أو امتنع عليه فالرب موصوف به ولا محذور في ذلك فإنما المحذور فيما كان من خصائص المخلوق فالرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوقين إذ خصائصهم كلها تنافي ما استحقه من الكمال الواجب له فهي نقائص بالنسبة إليه وإن قدر أنها كمال للمخلوق