→ الصفدية/10 | الصفدية المؤلف: ابن تيمية |
الصفدية/12 ← |
والمقصود هنا بيان فساد قول هؤلاء الفلاسفة ومذهبهم وأنه أعظم فسادا من قول القدرية المعتزلة وغيرهم ومن الكلابية وغيرهم من أصناف أهل الكلام فإن هؤلاء الفلاسفة الدهرية لا سيما معطلة الصفات منهم يحتجون بأن المؤثر التام لا بد أن يقارنه أثره ثم يقولون والرب لا بد أن يكون مؤثرا تاما في الأزل إذ لو لم يكن كذلك للزم حدوث تمام تأثيره والكلام في حدوث ذلك الحادث كالكلام في غيره فيلزم التسلسل بمعنى حدوث تمامات لا نهاية لها في آن واحد للعلة الفاعلة وهو باطل لم يقل به طائفة من الطوائف كما لم يقل بتسلسل علل تامة
وحجتهم مبنية على امتناع التسلسل في المؤثرات وهو متفق عليه بين العقلاء وامتناع الترجيح بغير مرجح والمعتزلة والكلابية والكرامية ونحوهم أبطلوها لجواز الترجيح عندهم من القادر بلا مرجح
وقد عرف ما في هذا الجواب وأنه إنما يستقيم على أصول القدرية والجهمية ولهذا كان النزاع هنا بين القدرية والدهرية وكلاهما مبطل لكن القدرية أمثل لكنهم عارضوها بحدوث الحوادث اليومية فإن حجتهم تستلزم أن لا يحدث شيء وقد حدث
والمعارضة تدل على فساد الحجة لكن لا تحلها ولا تبين وجه فسادها وقد طعن الأرموي وغيره في هذه المعارضة وقد بينا فساد طعنه وصحة هذه المعارضة كما ذكرها الغزالي والرازي والأبهري وغيرهم ممن عارض بها الفلاسفة
وجاء بعد الأرموي الهندي فنقل طعنه فيها نقلا مجردا ولم يجب عنه بشيء وذكر الأرموي جوابه الذي سماه الجواب الباهر وأخذه من كلام الرازي لأنه أجاب بهذا الجواب الذي سماه الباهر من المطالب العالية فأجاب أنه لا يلزم منه قدم العالم الجسماني لجواز أن يوجد عقل في الأزل أو نفس تصدر عنهما تصورات متعاقبة كل واحد منهما بعدما يليه حتى ننتهي إلى تصور خاص يكون شرطا لفيضان العالم الجسماني عن المبدأ القديم
ثم إن الهندي لم يكن عنده غير ما نقله من كلام هؤلاء وهذا الجواب بنى عليه أبو عبدالله القشيري المعروف بابن دقيق العيد حيث جزم بحدوث الأجسام دون سواها مع جعله جميع الممكنات صادرة عن الواجب
وهذا الجواب بنوه على ظنهم الفاسد وهو أن الدليل قد قام على حدوث الأجسام دون ما سواها بناء على أن المتكلمين لم يقيموا دليلا على أنه لا ممكن إلا الجسم أو العرض كما قد ذكر ذلك الشهرستاني والرازي والآمدي وغيرهم من متأخري أهل الكلام المخلوط بالفلسفة من المعتزلة والأشعرية
وهذا الجواب لا يوافق دين أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وهو باطل ولم يحصل به جواب عن أدلة الفلاسفة
وهو باطل من وجوه
أحدها أن يقال فالنفس عند هؤلاء لا تكون إلا مقارنة للجسم فإنها متعلقة به تعلق التدبير وهم متنازعون هل هي جوهر أو عرض وحينئذ فوجود نفوس دون أجسام ممتنع فبطل أصل هذا الجواب
الثاني أن يقال دليل المعتزلة ومن وافقهم على حدوث الأجسام إنما هو لامتناع حوادث لا أول لها وهذا بعينه يقتضي حدوث النفس فإنه تقوم بها الحوادث فإذا امتنع أن تقوم بها الحوادث التي لا تتناهى لزم حدوثها فطريقة المعتزلة ومن وافقهم في حدوث الأجسام إن كانت صحيحة لزم حدوث النفوس مثل هذه الطريقة وإن كان باطلة بطل التفريق بين النفوس والأجسام فلزم على التقديرين أن يكون قول هؤلاء بحدوث الأجسام دون النفوس قولا باطلا
الجواب الثالث أن يقال دليل حدوث الأجسام الذي هو امتناع حوادث لا أول لها يوجب حدوث النفوس كماتقدم وأما العقول فبتقدير ثبوتها كما يدعيها هؤلاء المتفلسفة فهي قديمة لازمة لذات الله وهو تعالى موجب بذاته لها في الأزل إيجابا قديما دائما فقدم العقول مستلزم لكونه موجبا بذاته لشيء معين دائما وكونه محدثا للأجسام أو للأجسام والنفوس بعد أن لم تكن ينافي كونه موجبا بذاته في الأزل فإن الذي يفعل بعد أن لم يكن يفعل لا يكون إن قدر وجوده إلا فاعلا بالاختيار فصار هذا القول مستلزما لكونه موجبا بالذات غير موجب بالذات وذلك جمع بين النقيضين فتبين أن القول بحدوث الأجسام مع قدم العقول جمع بين النقيضين فيكون باطلا
وإيضاح هذا أنه إما أن يجوز أن يفعل بعد أن لم يفعل وإما أن لا يجوز فإن جاز ذلك كما يقوله من يقوله من أهل الكلام جاز حدوث كل ما سواه وإن لم يجز ذلك لزم أنه لم يزل فاعلا وحينئذ فإن قيل لم يزل فاعلا لشيء بعد شيء أمكن دوام الفاعلية مع حدوث كل ما سواه وإن قيل لم يزل فاعلا لشيء معين لم يكن فرق بين العقول وبين غيرها فالقول بقدم العقول مع حدوث الأجسام قول متناقض
وبهذا يتبين أن ما استدل به من استدل من المتكلمين على حدوث الأجسام وإن كان صحيحا يستلزم حدوث كل ما سوى الله ويظهر خطأ متأخريهم الذين اعترضوا على متقدميهم بأن دليلهم على حدوث الأجسام والأعراض لا يتناول حدوث كل ما سوى الله لإمكان وجود العقول والنفوس التي يثبتها المشاؤون من الفلاسفة وإمكان قدمها قالوا والمتكلمون لم يقيموا دليلا صحيحا على نفي ما سوى الأعراض والأجسام وقد بينا بطلان كلام هؤلاء في غير موضع
وللنظار في إبطاله طرق إحداها طريقة من يقول العلم بأن كل ممكن إما جسم وإما عرض قائم بالجسم علم ضروري كما ذكر ذلك غير واحد من أئمة النظار كأبي المعالي وغيره
والثانية طريقة من يقول الوجود لا يكون إلا مشارا إليه أو قائما بمشار إليه وكل موجودين فإما أن يكونا متباينين وإما أن يكونا متحايثين ومن هؤلاء من يصرح بأنه لا موجود إلا الجسم وما يقوم بالجسم كما هو مبسوط في غير هذا الموضع
الطريقة الثالثة أن يقال هب أنه لم يعلم انتفاء ما سوى الأجسام والأعراض لكن دليل حدوثها يستلزم حدوث كل ما سوى الله
وهذا يتبين بالجواب الرابع وهو أن يقال لا ريب أن النظار المثبتين لحدوث أجسام العالم وأعراضه من المعتزلة والكلابية والكرامية والهشامية والنجارية والضرارية والجهمية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث الذين بنوا ذلك على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث هم صنفان صنف يقول إن الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وهؤلاء يقولون بحدوث الأجسام وأعراضها مطلقا
وصنف يقولون إن الجسم نوعان نوع يخلو عن الحوادث ونوع لا يخلو عن الحوادث فالذي لا يخلو عن الحوادث هو الحادث دون الأول كما يقول ذلك من يقوله من الهشامية والكرامية وغيرهم وعلى قول هؤلاء فالسكون أمر عدمي لا وجودي وحدوث الحوادث ابتداء في القديم بعد أن لم يكن كحدوث الحوادث عنه ابتداء بعد أن لم يكن فأدلة هؤلاء على حدوث الجسم
الذي لا يخلو عن الحوادث إن كانت صحيحة لزم حدوث كل ما سوى الله وإن كانت باطلة لم تدل لا على حدوث الأجسام ولا غيرها
فقول القائل إن دليلهم يتضمن حدوث الأجسام دون ما سواها قول باطل وذلك أنه على التقدير الأول يكون كل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث حدوثا مسبوقا بعدم والحادث عن عدم لا يكون صادرا عن قديم موجب بذاته في الأزل فإن الموجب بذاته في الأزل يكون موجبا أزليا لا يكون حادثا مسبوقا بالعدم وسواء كان حدوث الحادث عنه بوسط أو بغير وسط فامتنع على هذا التقدير أن يكون الواجب الوجود بنفسه موجبا بالذات في الأزل وإذا امتنع هذا امتنع أن يكون معه قديم سواء سمي ذلك القديم عقلا أو نفسا أو غير ذلك فإنه إذا قدر عقل قديم ممكن لزم أن يكون صادرا عن علة تامة قديمة وهو الموجب بذاته في الأزل وأن يكون معلوله دائما معه لا يتخلف منه شيء وعلى هذا التقدير فيمتنع حدوث الحوادث بعد أن لم تكن فظهر بذلك أنه إذا قدر أن الحوادث لها ابتداء وأنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها لزم أن يكون الباري فاعلا باختياره وأن لا يكون معه في الأزل قديم أصلا
فتبين بذلك أن أدلة هؤلاء النظار على حدوث الأجسام والأعراض إن كانت صحيحة لزم حدوث كل ما سوى الله وتبين بذلك أن أئمة هؤلاء النظار أحذق من متأخريهم وأقوى ردا على الفلاسفة وغيرهم وأن ما اعترض متأخروهم عليهم باطل
الوجه الخامس أن يقال لو كانت الحوادث تحدث في النفس شيئا بعد شيء لكان لا بد لها من محدث والقديم الذي لا يتجدد له أمر يقوم به لا يحدث عنه شيء كما تقدم فقول هؤلاء بحدوث هذه الأمور عنه كقول الفلاسفة بحدوث حركات الفلك وأنها أزلية
الوجه السادس أن يقال فهذا يقتضي كون الرب موجبا بذاته للعقول والنفوس وأنه ليس فاعلا باختياره يفعل شيئا بعد شيء وأن العقول والنفوس متولدة عنه تولدا ذاتيا وهذا معلوم الفساد عقلا ونقلا وهو مخالف لدين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين والصابئين
الوجه السابع أن يقال فإذا كان موجبا بذاته على هذا التقدير لم يكن اختصاص الزمان الذي حدث فيه الأجسام دون ما قبله وبعده بأولى من العكس والتقدير أن القديم لا تقوم به الأمور الاختيارية وقول القائل إن بعض تلك التصورات تكون سببا لفيض الأجسام عن القديم إنما يصح لو كان هناك سبب يقتضي حدوث تصورات تخالف ما قبلها وهذا إنما يكون إذا كان الرب فاعلا باختياره والأمور الاختيارية تقوم بذاته فأما إذا قدر أنه لا يفعل شيئا باختياره ولا يقوم به أمر إختياري بل هو مجرد عن الصفات والأفعال لا يتجدد منه ما يقتضي الإحداث كان امتناع حدوث الأجسام حينئذ كامتناع حدوثها عن القديم ابتداء
الوجه الثامن أن هذا القول مبني على وجود العقول والنفوس التي يذكرها هؤلاء وأنها أمور قائمة بأنفسها موجودة في الخارج لا يشار إليها ولا هي داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة للعالم ولا حالة فيه ولاتوصف بحركة ولا سكون ولا تجوز رؤيتها ولا هي أجسام ولا قائمة بالأجسام وجمهور العقلاء يقولون إن بطلان هذا معلوم بالاضطرار
فقد تبين فساد جواب هاتين الفرقتين وأن الجواب لهؤلاء الفلاسفة بالمعارضة جواب صحيح لكن ليس فيه حل الشبهة
وأما الجواب عنها بغير المعارضة فمن وجوه
أحدها أن يقال التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت دلالة هذه الحجة على قدم شيء بعينه لا فلك ولا غيره لأنه حينئذ يجوز أن يكون حادثا بسبب كان قبله وهكذا القول في كل ما سوى الله وإن كان ممتنعا لزم أن يكون للحوادث أول ولزم حدوث كل ما تقوم به الحوادث وذلك يستلزم حدوث الأفلاك وهو المطلوب فلزم بطلان حجتهم على تقدير النقيضين
وليست هذه الحجة مبنية على امتناع التسلسل في الآثار كما يظنه من يظنه فإن المحتجين بها لا يمنعون التسلسل في الآثار وإنما يمنعون ما يمنعه سائر العقلاء من التسلسل في المؤثرات ومن التسلسل فيما به أصل التأثير وقد يشتبه تمام التأثير في الشيء المعين وتمام التأثير في جنس التأثير وحجتهم مبنية على امتناع التأثير في الأزل فإنها مبنية على أنه لا يحدث شي إلا بحدوث تمام تأثيره فلو كان لجنس الحوادث ابتداء لزم أن يكون لذلك الحدوث تمام حادث ولذلك التمام تمام حادث وهلم جرا
وتحرير هذا الجواب أن يقال التسلسل نوعان أحدهما التسلسل في المؤثرات وهذا مما اتفق العقلاء على امتناعه وامتناعه معلوم بصريح العقل بل مجرد تصوره التام يكفي في العلم بفساده وأما التسلسل في الآثار بأن يكون الفاعل يفعل شيئا بعد شيء دائما فهذا متنازع فيه هل هو ممتنع أزلا وأبدا أو جائز أزلا وأبدا أو ممتنع أزلا وجائز أبدا على ثلاثة أقوال معروفة للناس
والتسلسل في الآثار قد يقتضي التسلسل في تمام التأثيرات المعينة لا التسلسل في أصول التأثير فإنه إذا كان صدور المؤثر التام موقوفا على صدور الأول كان تمام التأثير فإنه إذا كان صدور المؤثر التام موقوفا على صدور الأول كان تمام التأثير في الأمر الثاني موقوفا على صدور الأثر الأول كالمتحركات كلها من الشمس والقمر وغيرهما فإن الجزء الثاني من الحركة موقوف على صدور الجزء الأول منها
لكن التسلسل في تمام التأثير نوعان تمام التأثير مطلقا وتمام التأثير المعين فإن الشيء قد يكون شرطا في كون الفاعل فاعلا مطلقا فلا يمكن أن يفعل شيئا إلا بذلك الشرط فهذا شرط في التأثير المطلق وهو شرط في جنس التأثير وأصل التأثير وقد يكون شرطا في كونه فاعلا لفعل معين فالتسلسل في هذا القسم الثاني ليس بممتنع عند من يجوز التسلسل في الآثار فإنه إذا جاز أن يفعل شيئا بعد شيء دائما جاز أن يكون الفعل الأول شرطا في الثاني
وأما القسم الأول وهو التسلسل في أصل التأثير فهذا ممتنع كالتسلسل في المؤثرات فإن الشيء إذا امتنع أن يفعل شيئا من الأشياء حتى يفعل شيئا من الأشياء كان جنس وجود الفعل موقوفا على جنس وجود الفعل قبله فلا يكون فعل أصلا حتى يكون قبله فعل ما وهذا ممتنع لذاته فإنه يستلزم وجود الشيء قبل وجوده ووجوده قبل وجوده يقتضي أن يكون موجودا معدوما وهذا جمع بين النقيضين
ولهذا استدل غير واحد من أئمة المسلمين على أن كلام الله غير مخلوق بقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82 فإن النص دل على أنه لا يخلق شيئا حتى يقول له كن فيكون فلو كان كن مخلوقا لزم أن يخلقه بكن وكذلك هذا يجب أن يكون مخلوقا بكلمة أخرى وهذا يستلزم التسلسل في أصل الخلق وهو التسلسل في التأثير وهو ممتنع لذاته فإنه إذا لم يخلق شيئا أصلا حتى يخلق قبل ذلك شيئا آخر كان هذا ممتنعا لذاته فكان وجود مخلوق قبل أن يوجد مخلوق أصلا فيه جمع بين النقيضين بخلاف ما إذا قيل إنه لا يخلق مخلوقا معينا حتى يخلق مخلوقا معينا فإن هذا ليس بممتنع كما انه لا يخلق المولود من غيره حتى يخلق الوالد
إذا تبين هذا فحجة الفلاسفة الدهرية في قدم العالم مبنية على مقدمتين إحداهما امتناع الترجيح بلا مرجح والثانية امتناع التسلسل في أصل التأثير لا في تأثير معين فإنهم قالوا المؤثر التام إن كان في الأزل لزم قدم الأثر فإنه لو حدث بعد ذلك لزم الترجيح بلا مرجح وإن لم يكن المؤثر التام في الأزل امتنع أن يحدث عنه شيء لأن ذلك الحادث يمتنع أن يحدث بدون سبب حادث لما فيه من الترجيح بلا مرجح ويمتنع حدوث سبب حادث لأن القول في حدوث ذلك السبب الذي هو الشرط كالقول في حدوث المشروط به إذ التقدير أنه لم يكن في الأزل مؤثر تام فلا بد من حدوث تمام أصل التأثير وجنسه بحيث يصير المؤثر مؤثرا بعد أن لم يكن مؤثرا بحال
وهذا ممتنع لذاته كما تقدم لأن حدوث كونه مؤثرا لا بد له من مؤثر ولا مؤثر إلا هو فيلزم أن يكون مؤثرا قبل أن يكون مؤثرا بحال وهو جمع بين النقيضين
وأيضا فإذا لم يكن مؤثرا تاما ثم إنه جعل نفسه مؤثرا تاما لزم الترجيح بلا مرجح فإن امتناع جعل نفسه مؤثرا بعد أن لم يكن مع تساوي الحالين أبلغ في الإمتناع من إحداث أثر منفصل عنه بعد أن لم يكن مع تساوي الحالين
فإذا قيل المؤثر التام يستلزم أثره بعد ذلك كان تخصيصا بلا مخصص، قيل وما ليس بمؤثر تام يمتنع أن يصير بعد ذلك مؤثرا تاما بنفسه لما فيه من التخصيص بلا مخصص
لكن هذا القسم يدل على امتناعه أيضا دليل آخر وهو أنه إذا لم يكن مؤثرا تاما ثم قدر أنه أحدث ما به صار مؤثرا تاما فذلك الإحداث يقتضي أن يكون مؤثرا تاما فيما أحدثه والتقدير أنه ليس بمؤثر تام في شيء من الأشياء فيلزم أن يكون مؤثرا في شيء حتى لا يكون مؤثرا في شيء من الأشياء وهو جمع بين النقيضين
وهذا القسم هو من باب الدور القبلي فإنه لا يكون مؤثرا حتى يكون مؤثرا ولا يكون مؤثرا حتى يكون مؤثرا وهو مثل أن يقال لا يكون موجودا إلا بعد أن يصير موجودا ولا يصير موجودا إلا بعد أن يصير موجودا وهذا دور ممتنع لذاته وهو أيضا من باب التسلسل في أصل التأثير ولكن سماه المتأخرون تسلسلا لأنهم قالوا مجموع ما يتوقف عليه وجود العالم إن كان ثابتا في الأزل لزم وجوده لأن تخلف الأثر عن المؤثر ممتنع وإن لم يكن ثابتا في الأزل ثم حدث ما به يصير مؤثرا في العالم فالقول في ذلك الحادث كالقول فيما قبله ويلزم التسلسل ومعناه أن ذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث قبله ما به يصير الفاعل فاعلا وذلك الحادث لا يحدث حتى يحدث قبله ما به يصير الفاعل فاعلا فالفاعل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا ولا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا فباعتبار كون الثاني غير الأول سمي تسلسلا وباعتبار كون جنس الإحداث موقوفا على جنس الإحداث يسمى دورا فهو تسلسل إذا أخذ حادث بعد الحادث وهو دور إذا أخذ جنس الحوادث ووجود حادث بعد حادث إنما يمكن إذا كان هناك فاعل محدث يحدث شيئا بعد شيء فأصل كونه فاعلا لا يتوقف على حدوث شيء من الأشياء بل يكون من لوازم ذاته وإحداثه للمعين قد يكون موقوفا على إحداثه للمعين
فحقيقة حجة هؤلاء أن القول بحدوث جنس الفعل يستلزم تأخر الأثر عن المؤثر التام أو وجوده بدون المؤثر التام فالذي سموه تسلسلا مضمونه وجود الأثر بدون المؤثر التام فلما كانت حجتهم مبنية على مقدمتين إحداهما امتناع الترجيح بلا مرجح والثانية امتناع التسلسل كان مضمون الأولى امتناع أن يتأخر الأثر عن مؤثره التام تأخر بينونة وانفصال ومضمون الثانية امتناع صدور أثر بدون مؤثر تام فالأمر يرجع إلى أصل واحد وهو تلازم المؤثر التام وأثره فلا يكون مؤثر تام إلا وأثره لازم له ولا يكون أثر إلا ومؤثره التام لازم له ثم هل ترتب الأثر على مؤثره التام ترتبا زمانيا أو ترتبا عقليا بحث آخر في غير هذا الموضع
فإذا عرف حقيقة الأصل الذي بنوا عليه حجتهم فقول القائل في الجواب التسلسل في الآثار إن كان ممكنا بطلت هذه الحجة لأن مبناها على امتناع التسلسل في الآثار يرد عليه أن مبناها على امتناع التسلسل في أصل التأثير وجنسه والممكن إنما هو التسلسل في جنس الآثار وأعيان التأثيرات لا في جنس التأثير فإن الفرق بين التسلسل في الآثار والتسلسل في التأثير ثابت كما سبق والممتنع التسلسل في التأثير أي في جنسه فهذا السؤال هو الوارد على هذا الجواب وجواب
هذا الإيراد أن يقال إذا كان التسلسل في الآثار ممكنا وفي أعيان التأثيرات أمكن أن تكون هذه الأفلاك حادثة مخلوقة من شيء آخر قبلها كما أخبرت بذلك الرسل فإنهم أخبروا أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء وأخبروا أنه استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت 11 والدخان فيما ذكره المفسرون هو البخار وهو بخار ذلك الماء فقد أخبروا أنها مخلوقة من مادة كانت موجودة قبلها وتلك المادة يمكن أن تكون مخلوقة من مادة كانت كما خلق الله الإنسان من مادة وخلق المادة من مادة
وإذا كان كذلك كان ما جوزوه في الآثار مبطلا لحجتهم على قدم هذا العالم وهذا هو المطلوب فإنهم إنما احتجوا على قدمه بكون المؤثر التام لا بد أن يكون ثابتا في الأزل فإنه لو لم يكن مؤثرا ثم صار مؤثرا افتقر حدوث تأثيره إلى مؤثر وذلك المؤثر أو تمام تأثيره يفتقر إلى مؤثر وذلك يقتضي التسلسل في أصل التأثير وتمام كونه مؤثرا والتسلسل في تمام أصل التأثير ممتنع كالتسلسل في نفس المؤثر
فيقال لهم هب أن هذا ممتنع لكن أنتم تجوزون التسلسل في أعيان التأثيرات والآثار فهذا التسلسل إن كان ممكنا بطلت الحجة التي يحتج بها على قدم العالم أو قدم شيء من العالم وهذا هو المطلوب
وأما قدم نوع التأثير فهذا لا ينفعهم في مطلوبهم ولا يقدح فيما جاءت به الرسل بل هو دليل على تصديق ما جاءت به الرسل وأن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن لامتناع المؤثر التام في الأزل لشيء من الأشياء لأن كل ما سوى الله ملزوم للحدوث فوجوده بدون الحوادث المقارنة له محال ووجود الحوادث عن مؤثر تام يستلزم أثره محال ووجود حادث بعد حادث من مؤثر تام محال فإنه لا يكون مؤثرا تاما في الشيء إلا إذا استعقبه أثره وليس شيء من الحوادث المتعاقبة يستعقب المؤثر الأزلي لأنه يقتضي كون شيء من الحوادث المتعاقبة أزليا وهو ممتنع لأن ما قارن الأزلي فهو أزلي ليس له مبدأ محدود حتى يكون الشيء عقبه فلا يكون المقارن له إلا أزليا فإذا كان كل ما سوى الرب لا يوجد إلا مقارنا لحادث ولا يمكن وجود الحوادث لا معينة ولا متعاقبة عن مؤثر تام أزلي ولا يمكن شيء من العالم إلا مقارنا للحادث امتنع وجود شيء من العالم في الأزل إذ وجوده في الأزل ممتنع بدون الحادث وممتنع مع الحادث
ولا يمكن أن يقال القول في حوادثه المتعاقبة عليه كحركات الفلك كالقول في كلمات الرب المتوالية وأفعاله المتوالية لأن الرب هو الموجود بنفسه الواجب الوجود بنفسه الغني بنفسه القيوم بنفسه فلا يتوقف قوله وفعله على غيره ولا يمتنع أن يكون فعله الثاني أو كلامه الثاني مشروطا بوجود الأول قبله إذ ما يكون بذاته حادثا شيئا بعد شيء يمتنع وجوده كله في الأزل وأما ما سواه فهو مفعول مصنوع مفتقر من كل وجه إلى غيره فإذا كانت الحوادث تقارنه شيئا بعد شيء امتنع أن تصدر عن مؤثر تام أزلي وامتنع أن يكون المؤثر التام الأزلي يحدث شيئا بعد شيء بل يجب أن يقارنه أثره وامتنع أن يكون المؤثر التام الأزلي موجبا لذاته في الأزل ومقتضيا لحوادثه شيئا بعد شيء لأن حدوث الحوادث المتوالية عن مؤثر تام باق على حالة واحدة وحينئذ فيجوز ترجيح القادر المختار بلا مرجح فتبطل حجتهم
وإن كانت تحدث الحوادث بحدوث أمور منه بحيث تكون ذاته مؤثرا تاما لذات الفلك في الأزل وأفعاله المتوالية موجبة لحوادثه المتوالية فهو لم يكن قط إلا مقارنا لأفعال متوالية قائمة به وحدوث مفعول بلا فعل ممتنع وقدم فعل معين ممتنع لأن الفعل لذاته يقتضي أن يكون شيئا بعد شيء ولا يعقل قدم عين الفعل
وهذا دليل مستقل على حدوث كل ما سوى الله فإن المفعول القديم لا بد له من فعل قديم وتقدير فعل قديم العين ليس كله ممتنع لذاته لأن العقل لا يعقل إلا حادث الأعيان وإن فرض قدم نوعه لحدوثه شيئا بعد شيء كالحركة التي لا تعقل إلا حادثة الأعيان وإن فرض قدم نوعها
وأيضا فإن الفعل لا بد أن يتقدم المفعول الأزلي لا يتقدمه غيره وهذا أيضا دليل ثان مستقل على حدوث كل ما سوى الله
وقول القائل الأثر يقارن المؤثر والمعلول يقارن العلة إذا أريد به أن يكون عقبه فهذا ممكن وأما إذا أريد به أنهما يكونان معا فهذا ممتنع والتقدم الحقيقي بدون الزمان لا يعقل
وقول القائل إن تقدم العلة على المعلول تقدم عقلي لا زماني دعوى مجردة وتمثيل ذلك بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم والكم تمثيل غير مطابق فإن حركة اليد ليست علة تامة لا لهذا ولا لهذا بل هي ملزومة لها والشيئان المتلازمان الصادران عن فاعل واحد ليس أحدهما معلولا لآخر وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر
وأيضا فهذا يستلزم أن يكون للذات فعل معين قديم معها لازم لها بأفعال متوالية قائمة بها بحيث تضاف الحوادث إلى تلك الأفعال المتوالية ويضاف المفعول القديم إلى الفعل القديم وذلك يقتضي أن يكون ذلك الفعل القديم تناول الملزوم دون اللازم فإنه يتناول العين الملزومة للحوادث دون حوادثها اللازمة كالفلك مثلا والفاعل إذا فعل مفعولا بفعل امتنع أن يفعل بدون لوازمه فإن ذلك يقتضي أن يكون الفعل القديم تناول ذلك المفعول وأفعال أخر تناولت لوزامه المتعاقبة ومعلوم أن الواجب بالذات أوجب ذاته ذلك الموجب وإيجاب ذاته لها هو فعلها إياها وهذا الفعل القديم الذي هو الإيجاب القديم لا بد أن يكون من لوازم الذات فيمتنع وجودها بدون ذلك الفعل القديم وذلك الفعل القديم يمتنع وجوده بدون لوزامه المتوالية وتلك اللوازم المتوالية مفتقرة إلى الفعل القديم والفعل القديم يفتقر إليها بمعنى أنه يمتنع وجود أحدهما إلا مع الآخر لامتناع وجود مفعول أحدهما إلا مع الآخر
والقديم لا يجوز أن يكون مفتقرا إلى الحوادث لافتقار المعلول إلى العلة ولافتقار المشروط إلى الشرط ولكن قد تكون الحوادث لازمة له مفتقرة إليه وأما هو فلا يكون مفتقر لا إلى عينها ولا إلى نوعها لأن النوع إنما يوجد شيئا فشيئا فيكون القديم الأزلي مفتقرا إلى ما لا يوجد إلا شيئا بعد شيء وما وجب قدمه امتنع عدمه ودام وجوده وما دام وجوده ووجب ذلك لا يكون مفتقرا إلى حوادث متعاقبة إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقال إن الرب الذي يفعل دائما مفتقر إلى فعله لكون فعله لازما له فإن غاية ما يقال في ذلك إن الفعل القديم مشروط بمقارنة الأفعال المتوالية بحيث لا يتصور أن يكون ذلك القديم إلا مع هذه الحوادث المتعاقبة
وحينئذ فيكون وجود فعله القديم بدون الحوادث ممتنع وفعله من لوزام ذاته بمنزلة صفاته اللازمة له فيكون ذلك بمنزلة أن يقال إن صفاته اللازمة له يمتنع وجودها إلا مع الحوادث المتعاقبة والحوادث المتعاقبة أفعاله وهذا بمنزلة أن ذاته مفتقرة أو مشروطة بأفعاله المتعاقبة
ومعلوم أن أفعاله مفتقرة إليه من كل وجه فيمتنع أن يفتقر إلى ما هو مفتقر إليه
وهذا دليل ثالث مستقل في المسألة فإن وجود العالم بدون الحوادث ممتنع فلو كان فعله العالم كصفاته الذاتية اللازمة له مفتقرا إلى الحوادث كان صفاته اللازمة له مفتقرة إلى الحوادث وهذا ممتنع وذلك لأن ما لزم ذاته وما قام بها فهو صفة لها
وهؤلاء إن قالوا إن المفعول نفس الفعل والموجب نفس الإيجاب كما هو قول طائفة من النظار فهذا باطل قطعا فإنا نعلم أن خلق المخلوق ليس هو نفس المخلوق ولا ذلك يقتضي أن تكون المخلوقات وجدت بدون فعل من الرب
ولأن الذين قالوا ذلك من أهل الكلام كالأشعري ومن وافقه كابن عقيل وغيره إنما قالوا ذلك لئلا يلزم التسلسل في الآثار وهو باطل عندهم فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق والتأثير غير الأثر فذلك الخلق إن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو ممتنع وإن كان حادثا افتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل
والذين خالفوهم ثلاث طوائف طائفة قالت بل الفعل قديم أزلي ومفعوله محدث كما يقول ذلك طوائف من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث والصوفية ومن أهل الكلام
وهؤلاء يقولون كما وافقتمونا على أن الإرادة قديمة والمراد متأخر فكذلك نقول الفعل قديم والمفعول متأخر
وطائفة ثانية قالت بل الفعل حادث العين قائم بذاته ولا يلزم التسلسل كما يلزم التسلسل إذا كانت المفعولات حادثة الأعيان وهذا قول طوائف من الكرامية والمرجئة وغيرهم
وطائفة ثالثة قالت بل أعيان الفعل حادثة وإن جاز أن يكون نوعه قديما
والمقصود هنا أن الذين قالوا إن الفعل عين المفعول إنما فروا من التسلسل وهو جائز عند هؤلاء الفلاسفة وحينئذ فلا يمكنهم أن يحتجوا بحجة هؤلاء فلا تكون حجة على أن الفعل نفس المفعول إلا قولهم بنفي الصفات مطلقا أو قولهم بنفي الأمور الاختيارية وكلا القولين في غاية الفساد وهم متنازعون في كلا الأصلين
فقول النفاة منهم ومن غيرهم ضعيف فيهما كما بسط في موضعه مع أن القول بحدوث العالم مستلزم لهذين الأصلين كما أن هذين الأصلين يستلزمان لحدوث العالم
وإذا كان كذلك تبين أنه لا يمكنهم القول بأن الفعل نفس المفعول فيلزم أن يكون غيره فإذا قدر الفعل قديم العين كانت صفة لازمة له قديمة العين وإذا كان كذلك فإنه يمتنع أن يفتقر إلى شيء من الحوادث سواء كانت حادثة النوع أو الأعيان كما يمتنع ذلك في ذاته القديمة فإنها إن كانت مفتقرة افتقار المعلول إلى علته امتنع كون الحادث علة للقديم وإن كانت مفتقرة افتقار المشروط إلى شرطه فلا ريب أن المحدث مشروط بالقديم فإذا كان القديم مشروطا به كان كل من الأمرين مشروطا بالآخر
وهذا ممكن فما كان معلولي علة واحدة وهما حادثان كالأبوة والبنوة أو ما كانا قديمين متلازمين لا علة لهما كالذات والصفات أما إذا كان أحدهما قديم العين والآخر حادث الأعيان كان وجود القديم مشروطا بأمور لم توجد بعد وكان الشرط متأخرا عن المشروط
وإن قيل المشروط هو النوع وهو ملازم للعين لكن النوع لا يوجد إلا شيئا فشيئا فلا وقت من الأوقات إلا والمقرون بالقديم واحد محدث فيكون ذلك المحدث شرطا في وجود ذلك القديم لا يوجد إلا مع وجوده كما لا يوجد أحد المحدثين إلا مع الآخر ولا الذات القديمة إلا مع الصفة القديمة والقديم لازم للذات وكل من الحوادث ليس بلازم بل عارض وإن كان النوع لازما
أقصى ما يقال إن الذات هي الموجبة للمعين اللازم وللنوع الحادث أعيانه فيشبه ذلك أحد الصفتين مع الأخرى فيقال الأمر اللازم لا وجود للذات بدونه وإذا كان قائما بالذات فقد دخل في مسماها وصار منها فإن أسماء الله تعالى متناولة لصفاته فما قام بذاته من الصفات اللازمة فهو داخل في اسمه تعالى
فإذا كان ذلك مشروطا بأفعال يحدثها شيئا بعد شيء صار ما هو واجب الوجود مفتقرا إلى ما هو ممكن الوجود مع أن هذا المقام إذا تحرر كان مفسدا لأصل مذهبهم وكان دليلا مستقلا رابعا
فإن حقيقة قولهم إن الفلك لازم لذات الله تعالى لا يمكن وجود الرب بدون وجود الفلك بل هو مستلزم له كما أن الفلك مستلزم له فهما متلازمان وهذا بعينه قول بأن مفعوله شرط في وجوده وأن وجوده بدون وجود مفعوله ممتنع وهو قول بافتقار الواجب بذاته إلى الممكن بذاته وهو ممتنع
وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن ذكرناها هنا تنبيها على حجتهم العظمى وأن إبطال حجتهم قد يتضمن بطلان قولهم ويكون دليلا على صحة ما أخبرت به الرسل صلوات الله عليهم
الوجه الثاني أن يقال إحدى المقدمتين في هذه الحجة بطلان التسلسل وأنتم قائلون بجوازه ولكن منازعوكم يقولون بامتناعه فتكون الحجة على أصلكم إلزامية لا علمية فلا تفيدكم المطلوب.
هذا إذا فسروا التسلسل بالتسلسل في الآثار دون التأثير وإن فسروه بالتسلسل في أصل التأثير فهذا لا يقوله أحد وهذا هو مراد أئمتهم بالتسلسل في هذا الموضع وإن فهم منه بعض الناس الأول لكن هذه الحجة حنيئذ إنما تدل على دوام نوع الحادث فمن قال لم يزل مؤثرا متكلما إذا شاء وفى بموجب هذه الحجة ولا تدل على قدم شيء من العالم أصلا
ومنازعوكم قد عارضوكم وألزموكم امتناع الحوادث مطلقا فتبين فسادها أيضا
فإن قالوا نحن نجوز التسلسل في الحوادث القائمة بالعالم وهذه تقتضي التسلسل قبل حدوث العالم أو قبل حدوث شيء من العالم وذلك لا نقول به
قيل لهم أولا إذا كان التسلسل في الأزل ممكنا لم يكن فرق بين هذا وهذا بل يجوز أن يقال إن الرب تقوم به أمور اختيارية لا أول لها
وقيل لهم ثانيا هذا لا ينفعكم في قدم الأفلاك وما فيها لإمكان أن يكون حدوثها موقوفا على أسباب قبلها حادثة وكذلك الأخرى
وقيل لهم ثالثا إذا أمكن التسلسل في الأفعال اللازمة القائمة بالصانع أو في المفعولات المتعدية كان كل منهما مبطلا لاحتجاجكم على قدم الأفلاك والعناصر فكيف إذا اجتمع هذا وهذا
الوجه الثالث أن يقال هذا مبني على امتناع التسلسل في الآثار والتسلسل سواء عنى به التسلسل في أصل التأثير أو في الآثار فإنه لا يدل على مطلوبكم والذي يليق بهذه الحجة إنما هو التسلسل في أصل الفعل وهو ممتنع وفاقا
وأما التسلسل في الآثار فهذا فيه قولان معروفان للناس أحدهما منعه كقول كثير من أهل الكلام والفلسفة وأهل الحديث
والثاني جوازه كما هو قول كثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة
وحينئذ فهؤلاء يقولون بجواز هذا التسلسل وأن كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن سواء قالوا بقدم نوع الفعل اللازم أو نوع الفعل اللازم والمتعدي فعلى التقديرين يمكن أن يكون كل ما سوى الله مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بالعدم والرب فاعل بمشيئته وقدرته سائر الأشياء
وليس للفلاسفة حجة تعارض هذا القول أصلا إذ ليس لهم حجة تقتضي قدم الأفلاك والعناصر ولا قدم شيء من العالم أصلا بل جميع ما يحتجون به إنما يدل على دوام كون الرب فاعلا سواء في ذلك الحجج العائدة إلى الفاعل والمادة والصورة والغاية وغير ذلك فالأولى مثل قولهم إن كونه فاعلا أمر لازم لنفسه لأنه لو كان عارضا لهذا لاقتضى حدوث ما يجعله كذلك وذلك لا يكون إلا فعلا له ولا يكون عارضا لما تقدم فلا بد أن يكون كونه فاعلا من لوازمه ذاته
وكذلك قولهم هو جواد وعلة جوده ذاته ونحو ذلك فإن هذا يدل على كون نوع الفعل من لوازمه لا على فعل معين ولا مفعول معين فليس في ذلك ما يدل على قدم السموات ولا مادة السموات ولا غير ذلك من أصناف العالم بل هذا دل على أنه لا يلزمه عين الفعل إذ لو لزمه ذلك لكان فعله كله قديما والمؤثر التام يستلزم أثره فكان تكون جميع المفعولات قديمة فلا يكون في العالم شيء حادث وهو خلاف الحس
وبهذا يظهر كشف عوار هذه الحجة التي حارت فيها عقول جمهور النظار فإنهم إذا قالوا كل ما لا بد منه في كونه مؤثرا لا بد وأن يكون موجودا في الأزل وإلا لزم حدوثه بعد ذلك بدون مؤثر تام وهو ممتنع وإذا كان موجودا في الأزل لزم حصول الأثر معه كان لفظ التأثير مجملا فإنه يراد به جنس التأثير ويراد به التأثير المعين ويراد به التأثير العام في كل شيء فإنه إما عام وإما مطلق وإما معين فإن أريد به التأثير في كل شيء لزم كون كل شيء قديما وهو مخالف للحس
وكذلك إن أريد به معين فإنها لا تدل على امتناعه لجواز أن يكون مشروطا بحادث قبله وهم وسائر العقلاء يسلمون حدوث الشيء المعين وإن أريد به الجنس لم يدل إلا على دوام النوع لا على قدم شيء بعينه فلم يكن فيها ما يدل على قدم شيء من العالم
والأزل ليس عبارة عن وقت بعينه فإذا قيل جميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا هي قديمة أزلية قيل في كونه مؤثرا في الجملة وكونه مؤثرا في شيء بعينه أو في كونه مؤثرا في كل شيء
الأول مسلم عند السلف والأئمة ولا ينفعهم والثاني ممنوع وكذلك ثالثهم وذلك لأن كونه مؤثرا في شيء بعد شيء يقتضي دوام مؤثرتيه ولا يقتضي قدم شيء من العالم ودوام التأثير في شيء بعد شيء هو ممكن عندهم وهو لا يخلو إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا فإن كان ممكنا حصل المقصود وإن كان ممتنعا لزم حدوث كل ما سواه
فتبين أن قولهم بقدم شيء من العالم لا حجة عليه بوجه من الوجوه وكذلك قولهم إن التقدم والتأخر لا يعقل إلا بالزمان الذي هو مقدار الحركة وقولهم إن كون الشيء حادثا يقتضي أنه كان بعد أن لم يكن والقبلية والبعدية من لوازم الزمان فإن هذا يستلزم دوام نوع الفعل لا دوام حركة الفلك والشمس والقمر بل السموات والأرض إذا كان الله قد خلقهما في ستة أيام كان هذا الشمس والقمر وهذا الليل والنهار مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن وإن كان بعد قيام القيامة انشقاق السموات وتكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر الكواكب تكون حركات أخرى ولها زمان آخر
كما قال تعالى في الجنة ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا سورة مريم 62 وفي الجنة يوم الجمعة يوم المزيد فهناك أيام معروفة بأمور أخر جعلها الله في الجنة غير الشمس والقمر وكذلك قولهم إن كل حادث مسبوق بالإمكان المفتقر إلى مادة غايته أن قبل كل حادث حادثا وهذا لا يوجب قدم شيء من العالم وإنما يقتضي تسلسل الحوادث
وكذلك إذا قيل إن المؤثرية وصف وجودي فإن كانت حادثة افتقرت إلى أخرى ولزم التسلسل وكونه محلا للحوادث وإن كانت قديمة لزم قدم الأثر فإن لازم هذا الدليل ليس بممتنع عندهم وعند السلف وجمهور أهل الحديث وهو كون القديم تقوم به الحوادث المتسلسلة ثم إن كان هذا ممتنعا لزم حدوث الأفلاك فبطلت الحجة الدالة على قدمها وإن لم يكن ممتنعا بطلت الحجة فهي باطلة على التقديرين وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
والمقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم ولكن الذين ناظروهم من الجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم جعلوا نوع فعله ومفعوله محصور الإبتداء والإنتهاء كما قاله الجهم بن صفوان وأبو الهذيل إماما هاتين الطائفتين أو جعلوه ممتنع الدوام في الإبتداء دون الإنتهاء كما قال ذلك كثير من أتباعهما وجعلوا الرب يمتنع عليه الكلام باختياره في الأزل ويمتنع عليه الفعل الاختياري في الأزل بل جعلوه غير قادر على الكلام والفعل في الأزل كما يقوله المعتزلة والكرامية أو غير قادر على الفعل في الأزل ولا قادر على الكلام لا في الأزل ولا فيما يزال كما يقوله الكلابية والأشعرية والسالمية بل الكلام عندهم كالحياة لا يوصف بأنه قادر عليه ولا أنه يتكلم بمشيئته وقدرته واختياره
وكثير من هؤلاء يقول إن العالم يعدم بالكلية فلا يبقى الرب فاعلا لشيء كما لم يكن قبل ذلك على قولهم وهو فناء هذا العالم عندهم ويقول إن ذلك دل عليه السمع والعقل ومنهم من يقول بل دل عليه السمع وإن إعادة الله للعالم هو بأن يعدمه بالكلية ثم يعيد العالم الذي كان أعدمه
فهؤلاء وأمثالهم تكلموا في تعطيل الرب عن الفعل وعن الكلام وقالوا إن كلامه مخلوق أو محدث النوع او محدث العين كان الكلام بعد أن لم يكن متكلما في الأزل بل ولا كان عندهم قادرا على الكلام وإن اطلق بعضهم أنه لم يزل قادرا فهم يقولون مع ذلك بامتناع المقدور في الأزل ومعلوم أنه مع امتناع المقدور يمتنع كونه قادرا وقالوا إن هذا هو القول بحدوث العالم الذي أخبرت به الرسل ونسبوا هذا القول إلى أهل الملل هم ومناظروهم من الفلاسفة
ولهذا استظهرت الفلاسفة على أهل الملل بسبب ظنهم أن هذا هو قولهم حتى آل الأمر إلى أن يقول الفلاسفة إن الرسل لم تخبر بعلم وإنما أخبرت بما فيه تخييل وتمثيل ومعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا حديث عن رسول الله ولا في أثر عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين شيء من هذه الأقوال ولا ما يستلزم هذه الأقوال بل هي أقوال مبتدعة في الدين وهي من الكلام الذي أنكره السلف والأئمة وعابوه وذموه
وقول أولئك بأن السموات أزلية وأنها لا تنشق أعظم إلحادا وضلالا ومخالفة لدين الرسل وهؤلاء أثبتوا قدم الأعيان المخلوقة وأولئك نفوا قدرة الرب على الفعل والكلام دائما فادعوا حدوث النوع
وهذا كما في مسألة القرآن طائفة ادعت قدم أعيان الكلام إما المعنى الواحد المعين وإما الحروف المعينة أو الأصوات والحروف المعينة حتى قالوا إن ما سمعه موسى كان قديما لم يزل الله متصفا به وإنما تجدد السماع فقط وقالوا إنه لم يناده في ذلك الوقت كما دل عليه القرآن حيث يقول فلما أتاها نودي يا موسى سورة طه 11 بل ما زال مناديا له في الأزل ولكن تجدد سماع موسى لذلك النداء
وطائفة قالت بل نوع الكلام حادث بعد أن لم يكن إما حادثا في غيره فيكون مخلوقا وإما في نفسه فيكون حادثا أو محدثا غير مخلوق وقال هؤلاء لم يكن في الأزل متصفا بأنه متكلما إلا إذا فسروا المتكلم بالقارد على الكلام ثم كان تفسيره بهذا مع امتناع الكلام في الأزل جمع بين النقيضين بل لم يزل عندهم غير متكلم ويمتنع عندهم أن يكون لم يزل متكلما إذا شاء
والسلف والأئمة قالوا لم يزل الله متكلما إذا شاء فالفرق بين دوام النوع وقدمه ودوام الشيء المعين وقدمه يكشف الحجاب عن الصواب في هذا الباب الذي اضطرب فيه أولو الألباب والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
وليس للفلاسفة حجة تعارض هذا القول ولكن حجتهم تقتضي دوام فاعلية الرب وأن الفعل ولازمه الذي هو تقرير الفعل المسمى بالزمان لا أول له وأن إمكان حدوث الحوادث لا أول له وإمكان تأثير الرب فيها لا أول له وهذا كله يقتضي دوام نوع الفعل لا دوام فعل معين
وقد تقدم بيان أن قولهم يقدم العالم عن العلة التامة باطل قطعا وأن العلة التامة لا يجوز تأخر شيء من معلولها عنها بل وجود علة تامة لم تزل مقارنة لمعلول ممتنع ويمتنع أن يكون المقارن في الزمان مفعولا للفاعل
والحوادث متعاقبة شيئا بعد شيء لا يجوز حدوثها عن علة تامة أزلية فبطلت حجتهم وبطل قولهم بقدم العالم وتبين إمكان حدوث كل ما سوى الله وأنه يمتنع أن يكون العالم صادرا عن علة تامة أزلية موجبة بالذات وهو المطلوب
وتبين أنه لا يمكن حدوث شيء من الحوادث إلا عن فاعل يفعل شيئا بعد شيء وإن قدر أنه غير فاعل بالإرادة فكيف إذا تبين أنه لا تحدث الحوادث إلا عن فاعل مختار بأمور اختيارية تقوم به
والعالم مستلزم للحوادث فيمتنع ثبوت الملزوم دون اللازم فيمتنع صدور العالم عن موجب بالذات فيمتنع قدمه ويمتنع قدم شيء منه فإن أي شيء قدر قدمه لم يصدر إلا عن موجب بذاته سواء قدر موجب بذات مجردة أو موجب بالإرادة لذلك القديم يكون إيجابه له قديما دائما بدوامه فيكون ذلك الإيجاب الذي هو التأثير والإقتضاء والفعل المعين لذلك المفعول المعين في الأزل قديما أزليا دائما بدوام الرب تعالى وهو إنما يلزمه نوع الفعل لا فعل معين إذا الفعل لا يعقل ولا يمكن إلا شيئا فشيئا فأما شيء معين دائم ملزوم للحوادث أو غير ملزوم للحوادث فلا يعقل أنه فعل لا سيما ومثل هذا لا يكون إلا مفعولا بالاختيار بل لا يكون إلا عن ذات تختار شيئا بعد شيء فهي لا تكون مجردة عن الاختيار ولا تكون علة تامة أزلية فضلا عن أن يجتمع فيها عدم الاختيار مع كونه علة تامة أزلية
أقصى ما يقال إنه قد تقوم بها الأمور الاختيارية شيئا بعد شيء وكل ما قام بها شيء من ذلك حصل تمام التأثير لما يحدث حينئذ وهي بمجردها علة تامة للمعين الذي يلزمه الحوادث لكن هذا باطل أيضا فإنها لا تكون مجردة قط ولا يمكن أن تكون بمجردها فاعلة لشيء
وأيضا فلا يمكن أن يقارن المفعول فاعله في الزمان وذلك أنه لو قدر تجردها في وقت لم يجز حصول قيام شيء من الأمور الاختيارية لها بعد ذلك لأن ذلك يقتضي حدوث حادث بلا سبب وبتقدير تجردها عن الأمور الاختيارية القائمة بها يمتنع أن يحدث عنها أو فيها شيء لامتناع حدوث الشيء بدون علة تامة وهي مع تجردها ليست علة تامة إذ لو كانت كذلك للزم مقارنة الأمور الأختيارية المتجددة شيئا بعد شيء لها في الأزل وذلك جمع بين النقيضين
والأمور الاختيارية الحاصلة شيئا بعد شيء لازمة لها فيمتنع تقدير تجردها عنها فلا يمكن تجردها ولو قدر تجردها لم يجز أن يكون مجردها علة تامة أزلية لشيء معين لأن ذلك المعين مستلزم للحوادث إذ كل ممكن فإنه لم يسبق الحوادث فلو كانت علة تامة أزلية للزم وجود كل واحد من الحوادث في الأزل وهو جمع بين النقيضين وإذا امتنع تجردها وامتنع بتقدير تجردها أن يصدر عنها شيء امتنع أن يصدر شيء عنها إلا مع قيام الأمور الاختيارية بها
والأمور الاختيارية حاصلة شيء بعد شيء فامتنع أن تكون علة تامة لشيء معين دائما إذ مجموع الأمور المشروطة فى التأثير إذا لم تكن إلا حاصلة شيئا فشيئا امتنع أن تكون دائمة لشيء معين فامتنع قدم شيء معين فإنه إذا كان قديما أزليا دائما لم يكن بد من أن يكون المقتضي التام له قديما أزليا دائما ومقتضي تام أزلي ممتنع فقدمه ممتنع لأن المقتضي التام إما الذات المجردة عن قيام الأمور المتعاقبة بها التي تصير بها فاعلة شيئا فشيئا أو الذات الموصوفة بذلك والأول الذي يقوله من الفلاسفة من يقوله ممتنع لامتناع تجردها وامتناع حصول شيء عنها في حال التجريد لو قدر ذلك لأن المعلول ملزوم للحوادث فلا يجوز وجوده عن علة تامة أزلية وهي المجردة
وأما الذات الموصوفة بذلك فهي لاتصير فاعلة إلا شيئا فشيئا كما تقدم فيمتنع أن يكون لها فعل معين قديم أزلي فضلا عن أن يكون لها مفعول معين قديم أزلي
ولا يمكن أن يقال هي بمجردها مقتضية لمحل الحوادث وما يقوم بها مقتض لتلك الحوادث لأن الفاعل بقدرته ومشيئته لا يتوزع بعض فعله عليه مجردا عن الإرادة وبعضه عليه مقرونا بالإرادة إذ فعل الموصوف بالإرادة بدون الإرادة ممتنع وكذلك ما يقدر قائما به من الأمور المتجددة فإنها قائمة به فليس موجودا دونها حتى يقال إنه يفعل بدونها وتقدير الإنفصال لا يقتضي تحقيق الإنفصال
وهذا كما لو قيل مجرد الذات تفعل منفكة عن الصفات لا سيما وتلك الأمور شرط في الفعل فلا يوجد المشروط بدون شرطه كما أن الحوادث القائمة بالمفعول شرط في وجوده فيمتنع وجود المستلزم للحوادث بدون الحوادث
وكذلك يمتنع أن تفعل الذات الملزومة دون لوازمها إذ فعلها لملزوم الحوادث مشروط بفعلها لحوادثه اللازمة وفعلها ذلك لا يوجد إلا شيئا فشيئا فصار ذلك الفعل مشروطا بما لا يوجد إلا شيئا فشيئا ووجود المشروط بدون الشرط ممتنع ففعل الملزوم وحده ممتنع فكما أن وجود ذات مجردة عن الصفات ممتنع فوجود فعله مجردا عن ما يقوم به ممتنع ففعله لا يوجد إلا مع اللوازم ولا يكون فعلا له إلا مع اللوازم كما أن المفعول لا يكون موجودا ولا مفعولا إلا مع اللوازم وإذا لم يكن فعلا له إلا مع اللوازم المتعاقبة لم يكن فعلا أزليا فلا يكون المفعول أزليا لأن اللوازم المتعاقبة ليس مجموعها أزليا ولا واحدا منها أزليا ولكن النوع أزلي بمعنى وجوده شيئا فشيئا فيكون الفعل المشروط به موجودا شيئا فشيئا لامتناع وجود المشروط بدون الشرط وإذا كان ذلك الفعل يوجد شيئا فشيئا كان المفعول كذلك بطريق الأولى لامتناع تقدم المفعول على فعله فلا يكون فعل دائم معين فلا يكون مفعول معين دائم
يبين ذلك أن الفعل هو الإبداع والخلق الذي يسمى اقتضاء وإيجابا وتأثيرا ونحو ذلك
فإذا قيل إبداع الملزوم واحد معين أزلي وإبداع اللوازم نوع يتجدد شيئا فشيئا فأحد الإبداعين ملزوم للآخر كما أن أحد المبدعين ملزوم للآخر والثاني شرط في نفس كون الأول إبداعا للمفعول لا في مجرد وجوده فإنه لا يصير الإبداع إبداعا إلا مع لازمه الحاصل شيئا فشيئا فلا يكون الإبداع إلا شيئا فشيئا
وليس لزوم هذا لهذا كلزوم نوع الفعل للذات لأن الذات تستلزم صفاتها اللازمة لها وليست مفعولة لها وفعلها صادر عنها وليس أحد الإبداعين صادر عن الآخر بل إبداع المعين إذا قدر أنه أزلي لم يزل كان نوع الإبداع للأمور المتعاقبة قديما أيضا لم يزل وكل منها فعل وخلق وإبداع