الرئيسيةبحث

الصفدية/2


الوجه الثاني أن يقال أن هذه الحجة إنما تتضمن أن الفاعل لم يزل فاعلا ليس فيها ما يدل على أنه علة تامة في الأزل ولا على أن شيئا من العالم قديم لا الأفلاك ولا غيرها فإذا كان كذلك فليس فيها ما يدل على مطلوبه وإنما يدل على بطلان قول من يجعل الفاعل صار فاعلا بعد أن لم يكن بلا سبب أصلا لكن هذا قول طائفة من أهل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة ليس هذا القول معروفا عند سلف المسلمين وأئمة الدين فضلا عن الانبياء والمرسلين وليس في بطلان هذا القول إن بطل إثبات قدم العالم ولا شيء منه بل إنما يدل على بطلان ما يقوله أهل الكلام المبتدع كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم وهذا مما يتبين به أن أدلة العقول موافقة لما جاء به الرسول ﷺ ومما يبين فساد قول هؤلاء القائلين بقدم العالم عن الموجب بالذات أن يقال إما أن يكون مجرد ذاته هي الموجب للعالم أو هي متوقفة على أمر آخر فإن كان الأول لزم قدم كل شيء في العالم ودوامه بقدم الموجب ودوامه فإنه إذا لم يكن هنا إلا مؤثر تام قديم مستلزم لأثره لزم أن يكون أثره قديما معه بقدمه وهو مكابرة للحس وإن كان تأثيره موقوفا على غيره كان هذا مع بطلانه بالاتفاق مبطلا لقولهم بقدم العالم وأن يقال ذلك الغير إن كان قديما واجبا معه ومجموعهما هو العلة التامة لزم قدم الآثار بقدمهما فسواء فرض المؤثر القديم الموجب واحدا أو عددا متى قيل إنه موجب بذاته في الأزل لزم حصول جميع موجبه في الأزل فيلزم ألا يحدث شيء وهو مخالف للعيان وإن قيل أن تأثيره موقوف على حادث غيره كان القول في حدوث ذلك الحادث كالقول في غيره فيمتنع صدوره عنه فتبين أنه يلزمهم كون الحوادث لا محدث لها كيفما داروا ويلزمهم أيضا ألا يكون واجبا بذاته لأن الواجب بذاته لا بد أن يكون غنيا عن غيره من كل وجه فإذا افتقر في فعله إلى غيره لم يكن غنيا من كل وجه لا سيما إذا كان فعله من لوازم ذاته وكان ذلك موقوفا على غيره كان لوازم ذاته موقوفا على غيره ووجود الملزوم بدون اللازم محال فيكون وجود ذاته موقوفا على ذلك الغير وما كان كذلك لم يكن واجبا بنفسه فكان قولهم مستلزما لكونه غير واجب بنفسه وكونه غير مبدع لشيء لا بالإيجاب ولا غيره

وأيضا فإذا كانت ذاته غير كافية في الأحداث كانت مفتقرة في الأحداث إلى امر عدمي لامتناع حدوث الحوادث عن غيره وإذا كان افتقاره إلى موجود غيره ممتنعا فافتقاره إلى المعدوم أولى بالامتناع ولأن المعدوم لا يكون مؤثرا ولا جزءا من المؤثر في الوجود وأيضا فهم يزعمون أنهم قالوا بقدم العالم نفيا للشركة عن الله لأنه إذا كان فعله مجرد ذاته مستقلا بالفعل لزم قدم الفعل وإذا كان حادثا كان موقوفا على غيره

فيقال لهم بل قولكم أن فعله متوقف على غيره لأن الحوادث التي تحدث ليست ذاته موجبة لها لامتناع كون الذات القديمة الموجبة بذاتها لآثارها موجبة للحوادث فلا يكون ممكنا من فعل الحوادث إلا بشريك وأما القائلون بالحدوث فلهم قولان أحدهما قول من يقول الأول لم يزل فاعلا للحوادث شيئا بعد شيء فعلى هذا تكون ذاته مستلزمة للفعل مع كون الأفعال والمفعولات حادثة شيئا بعد شيء ليس فيها ما هو قديم ومن غير أن يكون له شريك وإذا كان فعله للثاني موقوفا على فعله الأول مع أنه هو فاعل للجميع لا يفتقر في ذلك إلى غيره لم يكن في ذلك مفتقرا إلى شيء غيره

والقول الثاني قول من يقول أنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا فهؤلاء يقولون أنه فعل لمجرد قدرته أو لقدرته أو لمشيئته أو قدرته وداعيه لا يقولون أن فعله متوقف على موجود غيره وإذا قالوا أنه موقوف على انقضاء الأول لم يكن هذا الانقضاء مفتقرا عندهم إلى سبب وجودي فتبين أنهم على كل واحد من القولين أبعد عن الشرك من الفلاسفة

وهؤلاء الفلاسفة ليس معهم قط دليل يدلهم على قدم شيء من العالم ولا أن الخالق قارنه شيء من مخلوقاته ولكن غاية ما معهم أنه لم يزل فاعلا وإثبات نوع الفعل لا يستلزم إثبات فعل معين ولا مفعول معين

فقولهم بقدم الأفلاك أو مادة الأفلاك أو العقول والنفوس أو غير ذلك ليس لهم عليه حجة أصلا وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتكلمنا على جميع ما ذكر في هذا الباب وأنه ليس في شيء منها ما يقتضي قدم شيء من العالم وهذا منتهى نظر العقلاء في هذا المقام ولهذا ذكر أبو عبدالله الرازي في خاتمة كتابه المسمى بالأربعين المسألة الأربعون وهي خاتمة الكتاب في ضبط المقدمات التي يكون الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية وختم ذلك بأن قال واعلم أن هنا مقدمتين يفرع المتكلمون والفلاسفة أكثر مباحثهم عليها المقدمة الأولى مقدمة الكمال والنقصان كقولهم هذه الصفة من صفات الكمال فيجب إثباتها لله عز و جل وهذه الصفة من صفات النقصان فيجب نفيها عن الله عز و جل وقال وأكثر مذاهب المتكلمين مفرعة على هذه المقدمة

إلى أن قال وأما المقدمة الثانية فهي مقدمة الوجوب والإمكان وهذه المقدمة في غاية الشرف والعلو وهي غاية عقول العقلاء قالوا الموجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب وذلك الواجب لا بد وأن يكون واجبا في ذاته وفي صفاته إذ لو كان ممكنا لافتقر إلى مؤثر آخر وتكلم على المقدمة الاولى قال والمقدمة الثانية وجوبه في جميع صفاته السلبية والثبوتية قالوا والدليل على أن الأمر كذلك أن ذاته إن كفت في تحقق تلك الصفة وجب دوامها بدوام الذات وإن لم تكف افتقرت ذاته في تلك الصفة إلى أمر آخر ولا بد في الآخر من الانتهاء إلى الواجب بذاته فيعود ما ذكرناه من أنه يلزم من دوام ذاته دوام تلك الصفة قال ثم إن الفلسفي يقول ما لأجله كان مؤثرا في غيره إما أن يكون هو ذاته أو لوازم ذاته فيلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته ودوام أثره والمتكلم يقول لما وجب في الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فالفيلسوف يستدل بحال المؤثر على حال الأثر والمتكلم يستدل بحال الأثر على حال المؤثر وهي المعركة الكبرى والطامة العظمى في هذا الموضع قلت مقدمة الكمال والنقصان أشرف من مقدمة الوجوب والإمكان كما قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أنه لقائل أن يقول كل من المتكلم والمتفلسف لو أعطي تمام الهداية لعلم أن ما دل عليه العقل موافق لما أخبرت به الرسل ولما دل عليه الدليل الآخر العقلي فإن أدلة العقول لا تتناقض في نفسها ولا تناقض ما أخبرت به الرسل فيقال للمتفلسف أتعني بقولك يلزم من دوام ذاته دوام مؤثريته في شيء معين كالأفلاك أو غيرها وكذلك تعني أنه يلزم دوام أثر معين كالأفلاك أو غيرها أو تعني به دوام مؤثريته في كل شيء أم تعني دوام مطلق التأثير والأثر فإن عنيت الاول لم يكن قولك صحيحا من وجوه أحدها أن هذا الدليل لا يستلزم دوام تأثير في أثر معين وإنما يستلزم دوام مطلق التأثير ومطلق الأثر وعلى هذا التقدير فإذا قيل لم يزل الله موصوفا بصفات الكمال حيا متكلما إذا شاء فعالا أفعالا تقوم به أو مفعولات محدثة شيئا بعد شيء أعطي هذا الدليل موجبه ولم يلزم من دوام النوع دوام كل واحد من أعيانه وأشخاصه ولا دوام شيء منها كما تقوله أنت في حركات الفلك والحوادث الأرضية فإنك تقول نوع الحوادث دائم باق لا أول له فليس فيها شيء بعينه قديم فهي كلها محدثة وإن كانت الأحداث لم تزل وإذا قلت مثل هذا في فعل الواجب كنت قد وفيت بموجب هذا الدليل ولم تخالف شيئا من أدلة العقل ولا الشرع

الوجه الثاني أن يقال لو كان مؤثريته في شيء معين من لوازم ذاته دون غيره من الموجودات لم يكن التأثير في غيره من لوازم ذاته فيلزم أن يكون من التأثير ما ليس من لوازم ذاته في الأزل فكان من التأثير ما هو حادث ليس بقديم وحينئذ فإن كان ذلك بدون أن تقوم بذاته أمور متعاقبة أمكن أن يقال ذلك في جميع العالم فلا يكون شيء منه قديما وإن كان لا بد من قيام أمور متعاقبة أمكن أن يكون كل ما صدر عنه حادثا بعد أن لم يكن بهذا السبب من غير قدم شيء من العالم

الوجه الثالث أن كون الفاعل فاعلا لشيء مع كونه قديما بقدمه جمع بين النقيضين كما ذكره المتكلمون وأما كون الموجب لكونه فاعلا ذاته ولوازم ذاته فذلك لا يقتضي أن يكون فاعلا لشيء معين كما لا يقتضي أن يكون فاعلا لكل شيء وأما إن أريد مؤثريته في كل شيء فيقال محال أن يكون اللازم دوام مؤثريته التامة وأثره كله فإن هذا لو كان حقا لم يحدث شيء في هذا العالم فحدوث الحوادث دليل على أنه لا يلزمه آثاره كلها وليست المؤثرية التامة المستلزمة الآثار ثابتة في الأزل بل تحدث عنه الأثار فيكون مؤثرا في هذا الحادث ثم في هذا الحادث وقد تقدم أنه لو لزم دوام الآثار لم يكن في العالم تغير أصلا وإن قلت بل اللازم دوام مطلق التأثير

فيقال ليس في هذا ما يقتضي قدم شيء من العالم بل كونه فاعلا للشيء يقتضي كون المفعول له مسبوقا بالعدم ودوام كونه فاعلا لا يناقض ذلك وحينئذ فليس مع الفلسفي ما يوجب قدم شيء من العالم

وأما قول المتكلم لما وجب في الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم لزم أن يقال أنه أوجد بعد أن لم يكن موجدا فيقال له أوجب في كل مفعول معين وكل فعل معين أن يكون مسبوقا بالعدم أم أوجب في نوع الفعل فإن قلت بالأول فلا منافاة بين أن يكون كل من الأفعال والمفعولات مسبوقة بالعدم مع دوام نوع المؤثرية والأثر وأذن ما دل عليه دليل العقل لا يناقض ما دل عليه ذلك الدليل الآخر العقلي ومن اهتدى في هذا الباب إلى الفرق بين النوع والعين تبين له فصل الخطأ من الصواب في مسألة الأفعال ومسألة الكلام والخطاب واعلم أن أولي الألباب هم سلف الأمة وأئمتها المتبعون لما جاء به الكتاب بخلاف المختلفين في الكتاب المخالفين للكتاب الذين قيل فيهم وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة 176 وحينئذ فالرب تعالى أوجد كل حادث بعد أن لم يكن موجدا له وكل ما سواه فهو حادث بعد أن لم يكن حادث ولا يلزم من ذلك ان يكون نفس كماله الذي يستحقه متجددا بل لم يزل عالما قادرا مالكا غفورا متكلما كما شاء كما نطق بهذه الألفاظ ونحوها الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف فإن قال أن نوع الفعل يجب أن يكون مسبوقا بالعدم قيل له من أين لك هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه ولا في المعقول ما يرشد إليه وهذا يستلزم أن يصير الرب قادرا على نوع الفعل بعد أن لم يكن قادرا عليه فإنه إن لم يزل قادرا أمكن وجود المقدور فإن كان المقدور ممتنعا ثم صار ممكنا صار الرب قادرا بعد أن لم يكن وانتقل الفعل من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء ولا تجدده فإن الأزل ليس هو شيئا معينا بل هو عبارة عن عدم الأولية كما أن الأبد عبارة عن عدم الآخرية فما من وقت يقدر إلا والأزل قبله لا إلى غاية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ومما ينبغي أن يعلم أن الرازي وأتباعه مضطربون في هذه الحجة وأمثالها فتارة يكونون مع أهل الكلام وتارة يكونون مع الفلاسفة ولهذا يحتج بهذه الحجة في كتابه الذي صنفه في السحر ودعوة الكواكب وعبادة الأصنام المبنية على ذلك وقال فيه هذا ملخص ما وصل إلينا من علم الطلسمات والسحريات والعزائم ودعوة الكواكب مع التبري عن كل ما يخالف الدين ويثلم اليقين

قال في المقالة الأولى في تقرير الأصول الكلية لهذا العلم وفيه فصول الفصل الأول في تحديد الطلسمات وتحقيق الكلام فيها علىالوجه الكلي الطلسم علم بأحوال تمزيج القوى الفعالة السماوية والقوى المنفعلة الأرضية لأجل التمكن من إظهار ما يخالف العادة والمتع مما يوافقها قال وتحقيق الكلام فيه يستدعي بيان مقامين أحدهما إثبات القوى الفعالة السماوية وتقريره أن الحوادث الحادثة في هذا العالم العنصري لا بد لها من أسباب وأسبابها إما أن تكون حادثة وإما أن تكون قديمة فإن كانت حادثة افتقرت إلى أسباب أخرى ولزم التسلسل وذلك محال لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في وجود كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال لأن ذلك المجموع ممكن وحادث بمجموعه وبكل واحد من أجزائه وكل ممكن محدث فله سبب مغاير له فاذن ذلك المجموع مفتقر لمجموعه ولكل واحد من أجزائه لمجموع الممكنات أجزاء ذلك المجموع ليس بممكن ولا حادث فإذن ثبت انتهاء جميع الممكنات إلى موجود واجب الوجود فقد بطل القول بالتسلسل وإذا ثبت انتهاء جميع الممكنات والمحدثات إلى سبب قديم واجب الوجود فنقول ذلك القديم إما أن يكون كل ما لا بد منه في مؤثريته حاصلا في الأزل أو ليس كذلك ويدخل في هذا القسم قول من يقول انه إنما خلق هذا الحادث في هذا الحين لأن خلقه فيه أصلح من خلقه في حين آخر

ولأن خلقه كان موقوفا على حضور وقت معين أو محقق أو مقدر فإنه على جميع هذه الأقوال صح القول بأن كل ما لا بد منه في مؤثريته في حدوث ذلك الحادث ما كان حاصلا في الأزل فأما إن قلنا إن كل ما لا بد منه في هذه المؤثرية كان حاصلا في الأزل لزم أن يكون الأثر واجب الترتيب عليه في الأزل لأن الأثر لو لم يكن واجب الترتيب عليه فهو إما ممتنع الترتيب عليه وإما ممكن الترتيب عليه فإن كان ممتنع الترتيب عليه فليس هو بمؤثر أصلا وقد فرضناه مؤثرا هذا خلف وإن كان ممكن الترتيب عليه وممكنا أن لا يترتب عليه أيضا فلنفرضه تارة مصدرا لذلك الأثر بالفعل وأخرى غير مصدر له بالفعل لأن كل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال وامتياز الحين الذي صار المؤثر فيه مصدر الأثر بالفعل عن الحين الذي لم يصر كذلك إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أولا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل انضمام القيد إليه تاما في المؤثرية وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن لم يتوقف فقد ترجح الممكن من غير مرجح ألبتة وتجويزه يسد باب الاستدلال بالممكن على المرجح وأما إن قلنا أن كل ما لا بد منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل فإن استمر ذلك السبب أبدا وجب ألا يصير ألبتة مؤثرا لكنا فرضناه مؤثرا فيما لا يزال هذا خلف فإن كان بسبب نقلنا الكلام إلى كيفية حدوثه ويلزم التسلسل فهو على وجهين أحدهما أن يكون التسلسل واقعا في أسباب ومسببات يكون مجموعها موجودا دفعة واحدة

وذلك مما أبطلناه الثاني أن يكون التسلسل واقعا على وجه يكون واحد منها مسبوقا بآخر لا إلى بداية وأول ذلك هو المتعين فإنه لما بطل جميع الأقسام إلا هذا القسم تعين هو للمصير إليه وتقريره أن يقال ذلك المؤثر القديم الواجب لذاته فياض أيضا لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر حتى يكون انقضاء المتقدم شرطا لفيضان المتأخر عنه وبهذا الطريق يصير المبدأ الأول مبدأ الحوادث المتغيرة قالوا ولهذا مثال في الحركات الطبيعية وفي الحركات الإرادية أما الحركات الطبيعية فلأن المدرة المرمية إلى فوق تعود بسبب ثقلها إلى الأرض فالموجب لتلك الحركة من أول المسافة إلى آخرها هو ذلك الثقل إلا أن ذلك الثقل إنما أوجب انتقال الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث لأن الحركة السابقة أوصلته إلى الثاني فكان حصول الجزء الأول من الحركة وانقضاؤه شرطا لإمكان أن يصير ذلك الثقل مؤثرا في حركة الجسم من الحيز الثاني إلى الحيز الثالث وهكذا القول في جميع الأجزاءالتي في الحركة وأما في الحركة الإرادية فلأن من أراد الذهاب إلى زيارة صديق له فتلك الإرادة هي المؤثرة في حركة البدن من ذلك المكان إلى مكان ذلك الصديق إلا أن تأثير تلك الإرادة في إيجاد الخطوة الثانية مسبوق بحصول الخطوة الأولى وانقضائها وعلى هذا الطريق فإن كل خطوة سابقة فهي شرط لإمكان تأثير تلك الإرادة في حصول اللاحقة وعلى هذا الترتيب إلى آخر المسافة فثبت أنه لا بد من توسط حركة سرمدية دائمة بين المبدأ الأول وبين هذه الحوادث وهذه الحركة الدائمة يمتنع أن تكون مستقيمة وإلا لزم القول بوجود أبعاد غير متناهية وهو محال فإذن لا بد من جرم متحرك بالاستدارة وهو الفلك فثبت أن حركات الأفلاك هي المبادىء القريبة للحوادث الحادثة في هذا العالم فكان الفلك جرما بسيطا والنسب بين صفة الأجزاء المتشابهة متشابهة والأمور المتشابهة في تمام الماهية لا يمكن أن تكون عللا للأمور المختلفة فوجب أن تكون في أجرام الأفلاك أجرام مختلفة الطبائع وتكون تلك الأجرام بحيث تختلف نسبها وتشكلاتها حتى يمكن أن تكون تلك التشكلات هناك مبادىء لحدوث الحوادث المختلفة في هذا العالم والأجرام المختلفة الطبائع المركوزة في أجرام الأفلاك هي الكواكب فثبت أن المبادىء القريبة لحدوث الحوادث في عالم الكون والفساد هي اتصالات الكواكب قال الرازي ثم إن القائلين بهذا المذهب وهم الفلاسفة والصابئة قالوا بربوبيتة هذه الكواكب واشتغلوا بعبادتها واتخذوا لكل واحد هيكلا مخصوصا وصنما معينا واشتغلوا بخدمتها وساق الكلام إلى آخره قلت فهذا غاية تقرير أصل هؤلاء ومطلوبهم في هذا التقرير وهو مع هذا يدل على نقيض مطلوبهم لمن فهم حقيقة مقدمات هذه الحجة إذ ثبوت المؤثر التام في الأزل ممتنع فإن الأزل ليس وقتا بعينه ولكنه عبارة عن نفي الأولية وهو الدوام الذي لا ابتداء له فلو كان لم يزل مؤثرا تاما والتام هو المستلزم لأثره لم يزل كل شيء موجودا قديما وهو خلاف المشاهدة فعلم أنه صار مؤثرا في الحوادث بعد أن لم يكن مؤثرا فيها وحينئذ فإذا قيل لم يزل مؤثرا في حادث بعد حادث وعنى بالمؤثر هذا لم يدل هذا على قدم شيء من العالم بل هذا يقتضي انقضاء مدة وأن المؤثرية المعتبرة في حدوث الحوادث ما كانت موجودة من الازل هذا نقيض ما طلبوه في ذلك التقدير فإنهم طلبوا أن تكون جميع الأمور المعتبرة في التأثير موجودة في الأزل ليكون العالم مقارنا له وقد بينا أن هذا ممتنع وأنه يمتنع وجود المؤثر التام في الأزل لأن ذلك يستلزم امتناع حدوث الحوادث كما قرروه هنا ونحن نبين بطلان استدلالهم على قدم العالم على هذا التقدير الآخر فقولهم لأن السبب المؤثر لا بد وأن يكون موجودا مع الأثر فلو كان المؤثر في كل حادث حادثا آخر لا إلى نهاية لزم حصول تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها دفعة واحدة لكن ذلك محال فيقال هذا بعينه يدل على حدوث ما سوى الله تعالى فإنه لا بد عند كل حادث من وجود المؤثر التام فيجب أن تكون مجموع الأمور المعتبرة في تأثير كل حادث موجودة عند ذلك الحادث وحينئذ فالحادث الأول لا بد أن يكون شرطا في وجود الثاني حتى يوجد بعده سببا به يصير المؤثر مؤثرا وهؤلاء يقولون المؤثر القديم باق على حال واحدة ولكن الحادث الأول شرط في الثاني فلا يوجبون أن يكون عند كل امر حادث مؤثره التام موجودا لأن كل ما يعتبر في التأثير فهو داخل في المؤثر التام فلا بد أن تكون شروط التأثير موجودة عند التأثير وهؤلاء يجعلون شرط التأثير سابقا على وجود الأثر ليس بمقارن له فهذا الأصل مما يدل على نقيض قولهم وأيضا فقوله فإن كان حدوث الحادث بسبب لزم التسلسل على وجه التعاقب كما ذكره فيقال هذه الحجة تتضمن أن المؤثر القديم الواجب لذاته فياض لذاته إلا أن كل حادث مسبوق بحادث آخر وذلك يقتضي أن يكون هو الذي يحدث الحوادث المتعاقبة فتكون صادرة عنه فلا يحدث الثاني حتى يحدث الأول فإذا كان إحداثه الثاني مشروطا بإحداثه الأول امتنع أن يكون موجبا بذاته وعلة تامة مستلزمة لمعلولها لأن الموجب لا يتأخر عنه موجبه والعلة لا يتأخر عنها معلولها وإذا لم يكن موجبا بذاته كان فعله لما يفعله بمشيئته وقدرته وكان تأثيره في كل واحد من الحوادث حاصلا بعد أن لم يكن مؤثرا فيه وحينئذ فالمحدث لكمال ذلك التأثير لا يجوز أن يكون غيره لأن كل ما سواه مفعول له وإحداثه لذلك الغير هو من جملة إحداثاته فلا يجوز أن يكون ما به صار الخالق فاعلا مؤثرا هو أمرا يستفيده من غيره بل هو بنفسه الخالق لكل شيء والأفعال المتقدمة المشروطة في المفعولات المتأخرة هي أفعاله لا أفعال غيره فلو كان هو نفسه لم يفعل شيئا بنفسه بل الحوادث تحدث منفصلة عنه شيئا بعد شيء وهو نفسه لم يفعل بنفسه شيئا لزم ألا تكون تلك الحوادث صادرة عنه فإنه كل واحد من أجزاء الحركة حادث فلا بد له من سبب حادث والمتحرك جسم ممكن فما يحدث فيه من الاسباب المقتضية للحركة كالتصورات والإرادات المتعاقبة هي أيضا حادثة فيه شيئا بعد شيء وهو نوع حركة أيضا والفاعل لذلك يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبة بذاتها لمعلولها فإن ذلك لو كان كذلك لم يصدر عنها شيء من تلك الحركات والحركات حادثة ممكنة فلا بد لها من فاعل ونفس الجسم الذي هو متحرك دائما لا يجوز أن يكون موجبا بذاته علة تامة في الأزل مستلزمة لمعلولها لأن من معلولها الحركة التي توجد شيئا بعد شيء وتلك لا يكون المستلزم لها أزليا فإنه يلزم أن يكون أزليا وذلك تناقض لا سيما مع كثرة الحركات والحوادث واختلاف أنواعها، فصدور الأمور الحادثة المختلفة عن علة تامة بسيطة مستلزمة لمعلولها ممتنع في بدائه العقول سواء صدرت عنه بواسطة أو بغير واسطة

وهؤلاء يقولون أن الواجب بذاته بسيط ليس له صفة ثبوتية ولا فعل قائم به ويقولون أنه علة تامة مستلزمة لمعلولها فكان لازم قولهم أنه لا يصدر عنه إلا واحد بسيط قديم وكذلك عن الصادر عنه فلما تيقن وجود الكثرة المختلفة الحادثة كان هذا مناقضا لقولهم وفضلاؤهم معترفون بهذا كما بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع وهذا الكلام يدل على أمور تدل على امتناع حدوث الحوادث عن علة تامة فإن قولهم بحدوثها عن علة تامة قول باطل كيفما كان ويدل على أن محدث الحوادث لا يكون إلا فاعلا تقوم به الأفعال وكما أنه يدل على إبطال حجتهم على القدم فيدل أيضا على حدوث العالم من وجه آخر وذلك أن يقال العالم كله بما فيه من الأجسام والأعراض والعقول والنفوس إن قدر أنها خارجة عن الأجسام والأعراض بل كل ما سوى الله تعالى إما أن يكون خاليا عن الحوادث المتعاقبة كالجسم الساكن وإما أن يكون متضمنا لها كالجسم المتحرك وكل من الأمرين يمتنع قدمه لانه لو كان شيء من العالم قديما لكان صادرا عن موجب بالذات وعلة تامة أزلية باتفاق العقلاء وهو معلوم بالدليل العقلي فإنه إذا كان قديما فإن كان فاعله فاعلا بغير قدرة ومشيئته فهو موجب بذاته وإن كان فاعلا بقدرته ومشيئته فإن كان الفاعل بالقدرة والاختيار لا يقارنه شيء من مفعولاته امتنع أن يكون مفعوله مقارنا له فامتنع قدم مفعوله وإن قيل أنه يمكن أن يقارنه شيء من مفعولاته فهو مثل الموجب بذاته لكن هذا موجب بذاته مع مشيئته وقدرته والمقصود أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون فاعله مستلزما له لا يجوز أن يكون فاعله ممن يتراخى عنه مفعوله فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه وإما أن يجوز فيه الأمران فلو كان العالم قديما لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله لأن ذلك جمع بين النقيضين كيف يكون مفعوله قديما أزليا ويكون متأخرا عنه حادثا بعد أن لم يكن فتعين أن يكون فاعله إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجوز فيه الأمران والثاني باطل أيضا فإنه إذا جاز أن يقترن به المفعول وجاز ألا يقترن كان وجود المفعول ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والقول في هذا المرجح كالقول في غيره إن كان فاعله مستلزما له كان مقارنا له فيلزم مقارنة الأول له فإن لم تجب مقارنته له كان ممكنا مفتقرا إلى مرجح آخر وهلم جرا فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مرجح تام مستلزم لمفعوله فتبين أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون مبدعه مرجحا تاما مستلزما لمفعوله سواء عبر عنه بالعلة التامة أو المؤثر التام أو المرجح التام وسواء قيل أنه يفعل بدون قدرة وإرادة أو بقدرة وإرادة مستلزمة لمرادها أو غير ذلك من الأمور التي يجب معها أن يكون صادرا عن فاعل مستلزم لمفعوله وإذا كان قدمه مستلزما للمؤثر التام فوجود المؤثر التام في الأزل ممتنع وذلك لأن أثره إن كان خاليا عن الحوادث وأثر أثره كذلك لزم ألا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف الحس سواء قيل إن ذلك الأثر هو العقول التي لا حركة فيها أو قيل هو أجسام ساكنة فعلى التقديرين إذا كان الصادر عنه لا حادث فيه لزم أن يكون الصادر عن الصادر لا حادث فيه وإلا لزم صدور ما فيه الحوادث عما لا حوادث فيه وهذا هو القسم الثاني وهو أن يكون أثره متضمنا للحوادث وهذا أيضا ممتنع لأن تلك الحوادث هي أيضا من الصادر عنه وإما أن يقال هي لازمة لذلك المحل أو عارضة له حادثة بعد أن لم تكن وكلاهما ممتنع

أما الثاني فلأن حدوثها بعد أن لم تكن هو أمر حادث فلا بد له من سبب حادث والتقدير أن الفاعل لم يحدث عنه سبب حادث فامتنع ابتداء الحوادث بلا سبب حادث وإن قيل أنه مستلزم للحوادث وهو قولهم كما في الفلك قيل ما كان مستلزما للحوادث امتنع وجوده بدونها فالمبدع له لا بد أن يبدع الحوادث اللازمة له التي هي شرط في وجوده والعلة التامة يمتنع أين يصدر عنها حادث فإن العلة التامة الأزلية معلولها معها قديم والحادث لا يكون قديما

وإن قيل صدر عنها حادث بعد حادث لم يكن في الأزل علة تامة لشيء بل هي علة تامة لكل حدث حال حدوثه فتبين أن العلة التامة الأزلية لا يصدر عنها لاحادث معين ولا نوع الحوادث وإن قيل هي علة تامة للنوع قيل النوع لا يوجد إلا متعاقبا فيكون تمامها متعاقبا لا أزليا وذلك إنما يكون بما يقوم بها شيئا بعد شيء فأما أن يكون تمامها لمفعولها من غير فعل يقوم بها فهو ممتنع وهو مستلزم لأن يكون المخلوق مؤثرا في الخالق بدون فعل يقوم بالخالق يؤثر به في المخلوق وأيضا فصدور الحوادث والمختلفات عن بسيط لا يقوم به فعل ولا صفة ممتنع في بدائه العقول وأيضا فمقارنة المفعول لفاعله ممتنعة وأيضا فإن الحادث متأخر والعلة التامة لا يتأخر عنها معلولها وإذا كان صدور الحوادث اللازمة التي هي شرط ممتنعا وصدور الملزوم بدون اللازم ممتنع امتنع صدور العالم كله لازمه وملزومه وهوالمطلوب ونكتة الدليل أن قدم العالم لا يكون إلا مع كون المبدع موجبا بذاته وصدور الحوادث عن الموجب بذاته ممتنع فصدور العالم عن الموجب بذاته ممتنع فقدم العالم ممتنع

فالقول بالعلة التامة يقتي بطلان القول بقدم العالم المستلزم للحوادث وإنما كان القول بذلك ممكنا لو كان المعلول غير مستلزم للحوادث وغير قابل للحوادث وإن كان ذلك ممتنعا من وجه آخر كامتناع مقارنة المفعول لفاعله يوضح هذا انه إذا قال القائل قد يكون علة تامة للأفلاك وليس علة تامة لحركات الأفلاك بل يصدر عنه شيء بعد شيء قيل صدورها شيئا بعد شيء عن علة تامة ممتنع فلا بد أن يكون قد قامت به أحوال اوجبت حدوث تلك الحركات فلا يكون علة تامة لشيء من الحركات وإذا لم يكن علة تامة لشيء من الحركات لم يكن علة تامة لما يستلزم الحركات لأنه إذا كان علة لها بدون الحركات لزم أن تكون مقارنة له خالية عن الحركات والتقدير أنها مستلزمة للحركات فيلزم اجتماع النقيضين وإن قيل انه يستلزم حركة واحدة منها قيل الحركات الدائمة الأزلية لا يتعين فيها شيء دون شيء بل لم تزل ولا تزال أفرادها متعاقبة فيمتنع أن يكون علة تامة لواحد منها دون الآخر في الأزل مع أنه ليس فيها شيء أزلي بعينه ويمتنع أن يكون علة تامة لجميعها في الأزل لامتناع وجودها في الأزل فامتنع أن يكون علة تامة لشيء من الحركات الأزلية فالحركة التي توجد شيئا بعد شيء يمتنع أن تكون صادرة عن علة تامة أزلية كيفما قدر الأمر فإذا كان القديم مستلزما للحركة إما لحركة فيه كالفلك وإما لحركة لازمة له معلولة كما يقولونه في العقل امتنع أن تكون العلة الموجبة موجبة له دون الحركة اللازمة وامتنع أن يكون موجبا للحركة اللازمة فامتنع أن يكون موجبا له على التقديرين فامتنع قدم العالم أو شيء من العالم وهو المطلوب وهذا برهان شريف على حدوث ما سوى الله مطلقا وهو مبنى على المقدمات الصحيحة التي تسلمها الفلاسفة وغيرهم فإن الموجب بالذات لا بد أن يقارنه موجبه بالاتفاق وأما الفاعل بالاختيار فهل يجب مقارنة مراده لإرادته أو يمتنع ذلك فيها أو يجوز الأمران على ثلاثة أقوال للناس وعلى كل تقدير فإنه يجب حدوث كل ما سوى الله أيضا فإنه إن قيل بوجوب مقارنة مراده له امتنع أن تكون إرادته لشيء معين أزلية فإنه يكون مستلزما له في الازل ويكون القول فيه كالقول في الموجب بالذات وقد تبين امتناع الموجب بالذات في الأزل فيمتنع أن يكون شيء من مراده أزليا فإن قيل بوجوب تأخر مفعوله لزم حدوث مراده وإن قيل بجواز الأمرين فحدوث المراد بعد أن لم يكن يقتضي سببا حادثا والقول فيه كالقول في الأول فامتنع حدوث شيء عنه إلا بسبب حادث وحدوث الحادث عن إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع وقدم العالم بدون إرادة أزلية مستلزمة لمرادها ممتنع فثبت حدوثه وحاصل الأمر أن مقارنة المراد للإرادة أن قيل أنها واجبة ألحقت بالقسم الأول وإن قيل بأنها ممتنعة اقتضت حدوث العالم وأما القول بأنه يمكن مقارنة مفعوله له ويمكن تأخره عنه في الواجب الوجود فهذا لم يقله طائفة معروفة لأن المعتزلة الذين يقولون أن الممكن لا يقف على المرجح التام المستلزم لمقتضاه بل يكفي فيه القادر الذي له أن يرجح وألا يرجح يقولون أنه يجب تأخير مفعول القادر عن الازل

وأما من يقول أن الممكن يقف على المرجح المستلزم لمقتضاه كما هو قول أكثر الناس من أهل الكلام والفلاسفة وغيرهم فهؤلاء يمتنع عندهم أن يكون الفاعل يمكن أن يوجد فعله وأن لا يوجد ويكون فاعلا مع إمكان الطرفين بل أن تمت أسباب الفعل وجب المفعول وإن لم تتم أسبابه امتنع المفعول فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والممكن باعتبار غيره أما واجب بغيره أو ممتنع لغيره فإن حصل المقتضى التام كان واجبا وإن لم يحصل كان ممتنعا فتبين أنه ليس في العقلاء المعروفين من يقول أن المفعول القديم يصدر عن فاعل يجوز أن يتأخر عنه مفعوله بل هم متفقون على ما قام عليه الدليل من أنه لو كان قديما لكان فاعله مستلزما لمفعوله لكن العالم مستلزم للحوادث وصدور الحوادث والمستلزم للحوادث عن الفاعل المستلزم لمفعوله محال وإذا قدر أنه اوجب العالم ثم أحدث فيه الحوادث كان ذلك أيضا ممتنعا لأنه يقتضي حدوث الحوادث بلا سبب حادث وذلك ممتنع كما تقدم وإن شئت قلت إن كان حدوث الحوادث بلا سبب حادث جائزا أمكن حدوث العالم وبطل القول بوجوب قدمه وإن كان ممتنعا بطل القول بقدمه لامتناع حدوث الحوادث عن الموجب الأزلي فبطل قول الفلاسفة بوجوب قدمه على التقديرين وبطلت حجتهم على قدمه وهذا كما تقول إن كان تسلسل الحوادث ممتنعا لزم حدوثه وإن كان ممكنا أمكن حدوث كل شيء منه بحادث قبله فبطلت الحجة الدالة على قدم شيء منه وبطل القول بوجوب ذلك على التقديرين وهذه الطريق فيها تقرير حدوث كل شيء من العالم من غير احتياج إلى جعل الرب قادرا بعد أن لم يكن أو فاعلا بعد أن لم يكن وهي موافقة لمذهب السلف والأئمة ليس فيها ابطال أفعال الله القائمة به ولا ابطال صفاته ولا تعطيله عن الأفعال وصفات الكمال ولا إثبات حادث بلا سبب حادث ولا ترجيح الممكن بلا مرجح فهي جامعة للأدلة العقلية السليمة عن المعارض والنصوص السمعية المزكية لما دل عليه العقل ومبينة أن الرب لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال كما وصفه أئمة السنة من أنه لم يزل متكلما إذا شاء لم يزل حيا فاعلا أفعالا تقوم به لم يزل قادرا وكل ما سواه مخلوق له حادث عنه وأن حدوث الأشياء عنه شيئا بعد شيء فليس فيها شيء كان معه ولا قارنه بوجه من الوجوه والله أعلم فهذا مما يدل على حدوث كل واحد واحد من العالم وليس هذا موضع بسطه وإنما تكلمنا هنا في فساد حجتهم التي هي عمدتهم ذكرنا أن قولهم يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل وتسلسل العلل وذلك ممتنع بصريح العقل وبموافقة المنازعين

وما ذكرناه من البراهين يتبين بالبرهان الثالث وإن كان فيما تقدم تنبيه عليه وهو أن يقال العلة التامة لا بد أن تكون موجودة عند وجود المعلول لا قبله وهم يسلمون ذلك فيلزم أن يكون لكل حادث علة تامة موجودة عند وجوده فلو كان الحادث الأول الذي حدث قبله هو تمام العلة لكان جزء العلة موجودا قبل المعلول فلا تكون علته التامة موجودة عند حدوثه بل يلزم من ذلك حدوث الحوادث بشرط متقدم على وجودها وإذا جاز وجود الموجودات بفاعل متقدم على وجودها وشرط حادث قبل وجودها لم يجب أن يكون لها علة تامة فلا يكون لشيء من الحوادث علة تامة بحيث تكون جميع أجزائها حاصلة عند وجوده فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية وليس لشيء من الحوادث علة تامة بطل أن يكون لها محدث وذلك ممتنع

فإن قيل لم لا يجوز تمام العلة للحادث الثاني عدم الأول وهذا العدم مقارن للحادث الثاني قيل لأن العدم إذا لم يستلزم أمرا وجوديا لم يكن جزءا من علة الموجود فإن العدم لا تأثير له اصلا في وجود بخلاف الماشي في الأرض فإنه كلما قطع مسافة تجدد له قدرة وإرادة لقطع المسافة الثانية والاول إذا قيل أنه يفعل شيئا بعد شيء بذاته يقتضي كمال فاعليته لكل مفعول عند وجوده وذاته فعلها للأول أمر وجودي ووجود الثاني مع الأول الذي يضاده ممتنع وعدم الممتنع يقتضي كمال القدرة المقارنة للفعل بخلاف ما إذا قيل أن حال الذات مع الحادث الأول والثاني واحد ولم يتجدد منها ولا من غيرها ما يقتضي كمال فاعليتها للثاني عند وجوده وتبين هذا بالبرهان الرابع وهو أن الحادث الثاني إذا كان مشروطا بالحادث الأول الذي هو موجود قبله والواجب الوجود أيضا موجود قبله وهو علة تامة أزلية كان هذا متناقضا فإنه على الأول يلزم أن يكون كل ما به تصير الحوادث موجودة موجودا قبلها ولا يكون شيء من المحدث لها حادثا معها وهذا يمنع أن يكون لشيء من الحوادث علة إذ العلة يجب مقارنتها للمعلول فضلا عن أن يكون لها علة أزلية فتبين أن إثبات العلة التامة يناقض هذا القول المتضمن حدوث الحوادث بشروط متقدمة عليها وهو أيضا يناقض القول بحدوث تمام العلل مع حدوث المعلومات

إذ لو كان حادثا معها لزم أن يكون تمام علة كل حادث حادثا معه فلا يكون للحوادث علة تامة أزلية مع أن حدوث تمام العلل ممتنع على هذا التقدير فإنه يستلزم وجود حوادث متسلسلة في آن واحد من غير محدث إذ لم يكن هناك إلا علة تامة أزلية وهذا أيضا مما يوافقون على امتناعه وهو يستلزم حدوث الحوادث بلا فاعل فتبين أن القول بالعلة التامة الأزلية باطل سواء قيل إن شرط حدوث الحادث موجود قبله أو موجود معه وحدوث الشروط علىالتقديرين عن العلة التامة ممتنع فتبين امتناع حدوث كل واحد من الحوادث وشروطها عن العلة التامة الأزلية على كل تقدير والقول بالقدم يستلزم العلة التامة الأزلية وما استلزم الباطل فهو باطل

وكل من العالم مقارن لشيء من الحوادث فإذا ظهر امتناع حدوث الحوادث عن العلة التامة الأزلية تبين امتناع قدم شيء من العالم لأنه لا يوجد إلا مع حادث ووجود ذلك عن العلة التامة الأزلية محال لا سيما وهم يقولون كل من الحوادث تمام علة حادث قبله فليس لشيء منها علة تامة مقارنة له وإنما الذي يقارنه جزء العلة وهو السبب الدائم الذي يتوقف فيضه على حدوث هذا الحادث فلا يحدث الثاني حتى ينقضي الأول وذلك السبب ليس هو علة تامة لشيء من الحوادث لا احداثه للثاني مقارنا لوجود الأول وليس عند حدوث شيء من الحوادث علة تامة أصلا فتبين أنهم يقولون في الحقيقة أن الحوادث لا تحدث عن علة تامة فضلا عن أن تكون أزلية

وهذه الوجوه من تدبرها وفهمها علم فساد مذهب القوم بالضرورة وأن صانع العالم يمتنع أن يكون علة تامة أزلية موجبا بذاته بل يجب أن يكون فاعلا للأشياء شيئا بعد شيء وهذا لا يكون إلا إذا فعل بمشيئته وقدرته وهو المطلوب

واعلم أن هذا كلام المتأخرين منهم كابن سينا وأمثاله وهو خير من كلام متقدميهم كأرسطوطاليس فإن أرسطوطاليس في كتاب ما بعد الطبيعة الذى هو غاية حكمتهم وعلمهم إنما اعتمد في إثبات العلة الأولى على الحركة الشوقية فإنه لما قرر أن حركة الفلك شوقية إرادية وأن المتحرك بالشوق والإرادة لا بد أن يكون له مراد وهو محبوبه ومطلوب وجب ان يكون هناك علة غائية هي المحبوب المعشوق المراد وقالوا أن الفلك يتحرك للتشبه بها كتحريك المؤتم بإمامه ثم قد يقولون إن الفلك يتشبه بالمبدأ الأول وقد يقولون يتشبه بالعقل والعقل يتشبه بالأزل

وهذا التقدير إنما يثبت وجود علة غائية لا يثبت وجود علة فاعلية فيقال هب أن الحركة إرادية وأن الحركة الإرادية لا بد لها من محبوب مراد فما السبب المحدث الفاعل لتلك الحركة الإرادية الشوقية فإن كان الفلك واجب الوجود بذاته لم يكن هذا قولهم وكان باطلا من وجهين أحدهما أن واجب الوجود بذاته لا يكون مفتقرا إلى غيره لا إلى علة فاعلية ولا غائية فإذا جعلت له علة غائية يحتاج إليها في إرادته وحركته لم يكن مستغنيا بنفسه عنها فلا يكون واجبا بذاته

الثاني أنه إذا جاز أن يكون الفلك واجبا بذاته أمكن أن يكون هو العلة الغائية لحركته كما أنه هو العلة الفاعلة لحركته وقد بسط الكلام على فساد قولهم في غير هذا الموضع وأما ابن سينا وأتباعه فإنهم عدلوا عن هذه الطريق وسلكوا طريقة مركبة من طريق المتكلمين وطريق هؤلاء الفلاسفة فقالوا الموجود إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا والممكن لا بد له من واجب كما يقول المتكلمون الموجود إما محدث وإما قديم والمحدث لا بد له من قديم فلا بد من موجود واجب قديم ثم إنه أثبت أن الأفلاك ممكنة بناء على أنها أجسام والجسم مركب والمركب مفتقر إلى جزئه فلا يكون واجبا بنفسه كما يقول المعتزلة الأجسام محدثة لأن الأجسام مركبة والمركب لا بد له من مركب فلا يكون قديما وجعلوا هذا عمدة في نفى صفات الله تعالى

وهؤلاء أخذوا لفظ المركب بالاشتراك فإن المركب إذا أريد به ما ركبه غيره أو ما كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمع أو ما يقبل التفريق امتنع أن يكون واجبا بنفسه وقديما وأما إذا أريد به الموصوف بصفات الكمال اللازمة كالعلم والقدرة ونحوهما لم يلزم من ذلك أن يكون محدثا ولا ممكنا يقبل العدم كما قد بسط في غير هذا الموضع ولفظ الافتقار والجزء والغير ألفاظ مجملة فيراد بالغير ما يباين غيره وعلى هذا فالصفة اللازمة لا يقال أنها غير الموصوف ويراد بالغير ما ليس هو الآخر وعلى هذا فالصفة غير الموصوف وواجب الوجود بنفسه يمتنع أن يفتقر إلى أمر مباين له ولكن لا يمتنع أن يكون مستلزما لصفات الكمال التي يمتنع أن تفارقه وتسمية الصفة اللازمة جزءا تلبيس وتسمية استلزام الموصوف لصفته واستلزام الصفة للموصوف افتقارا تلبيس أيضا كما قد بسط في غير هذا الموضع وهؤلاء القوم من أسباب ظهور كلامهم وظلال كثير من الناس به أنهم يحتجون على طوائف أهل القبلة بما يشاركونهم فيه من المقدمات الضعيفة المبتدعة فلا يزالون يلزمون صاحب ذلك القول بلوازم قوله حتى يخرجوه من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين فإن الحسنة تدعو إلى الحسنة والسيئة تدعو إلى السيئة كما قال ﷺ في الحديث المتفق عليه عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا وقال بعض السلف أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها والإنسان قد يعتقد صحة قضية من القضايا وهي فاسدة فيحتاج أن يعتقد لوازمها فتكثر اعتقاداته الفاسدة ومن هذا الباب دخلت القرامطة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم على طوائف المسلمين فإن هؤلاء قالوا للمعتزلة ألستم قد وافقتمونا على نفي الصفات حذرا من التشبيه والتجسيم فقالوا نعم فقالوا وهذا المحذور يلزمكم في إثبات أسماء الله تعالى له فإذا قلتم هو حي عليم قدير كان في هذا تشبيه له بغيره ممن هو حي عليم قدير وكان في هذا من التجسيم كما في إثبات الحياة والعلم والقدرة له لأنه لا يعرف مسمى بهذه الأسماء إلا جسم كما لا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا جسم فأخذوا ينفون أسماء الله الحسنى ويقولون ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير ثم اقتصر بعضهم على نفي الإثبات فقال لهم الصنف الآخر إذا قلتم ليس بموجود ولا بحي ولا عليم ولا قدير فقد شبهتموه بالمعدوم كما أن في الإثبات تشبيها بالموجود فيجب أن يقال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء يقولون في انفسهم أنهم من أذكى الناس وأفضلهم وهم من أجهل الناس وأضلهم وأكفرهم فإنه يقال لهم أولا سلبتم النقيضين والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان فكما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين وكما يمتنع أن يقال في شيء واحد أنه موجود معدوم يمتنع أن يقال ليس بموجود ولا معدوم وأما إثبات سلب الحياة والموت والعلم والجهل والكلام والخرس فقد يقولون أن هذين متقابلان تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ويفرقون بين هذا وبين هذا بأن سلب الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له هو العدم وتقابله الملكة كسلب العلم والسمع والبصر عن الحيوان بخلاف سلب ذلك عن الجماد قالوا فالحيوان يقال له أعمى أصم أبكم إذا عدم عنه ما من شأنه أن يقبله بخلاف الجماد فإنه لا يقال له أعمى أصم أبكم لأنه لا يقبل ذلك وحينئذ فلا يلزم من سلب الحياة والعلم والقدرة والكلام عن واجب الوجود أن يكون موصوفا بما يقابل ذلك من الموت والجهل والعجز والخرس إلا أن يكون قابلا لذلك وهذا ممنوع أو غير معلوم وهذه الشبهة قد أضلت خلقا من أذكياء المتأخرين حتى الآمدي وأمثاله وهي باطلة من أوجه أحدها أن يقال إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك وإما ألا يكون قابلا لذلك فإن لم يكن قابلا لذلك كان ذلك أعظم في النقص من كونه قابلا لذلك غير متصف به فإن الجماد أنقص من الحيوان الأعمى وإذا كان اتصافه بكونه أعمى أصم أبكم ممتنعا مع كون المتصف بذلك أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بهذا وبضده علم أن كونه غير قابل للاتصاف بذلك أعظم في نقصه وإذا كان ذلك ممتنعا فهذا أعظم امتناعا فامتنع أن يقال أنه غير قابل للاتصاف بصفات الكمال وإذا كان قابلا للاتصاف بذلك تقابلا تقابل العدم والملكة باصطلاحهم فإن لم يتصف بالحياة والعلم والقدرة لزم اتصافه بالموت والعجز والجهل وهذا ممتنع بالضرورة فنقيضه حق

الوجه الثاني أن يقال كل كمال ثبت للمخلوق فالخالق أحق به وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق أحق بتنزيهه عنه لأن الموجود الواجب القديم أكمل من الموجود الممكن والمحدث ولأن كل كمال في المفعول المخلوق هو من الفاعل الخالق وهم يقولون كمال المعلول من كمال العلة فيمتنع وجود كمال في المخلوق إلا من الخالق فالخالق أحق بذلك الكمال ومن المعلوم بضرورة العقل أن المعدوم لا يبدع موجودا والناقص لا يبدع ما هو أكمل منه فإن النقص أمور عدمية ولهذا لا يوصف الرب من الأمور السلبية إلا بما يتضمن أمورا وجودية وإلا فالعدم المحض لا كمال فيه كما قال تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم سورة البقرة 255 فنزه نفسه عن السنة والنوم لأن ذلك يتضمن كمال الحياة والقيومية وكذلك قوله وما مسنا من لغوب سورة ق 38 يتضمن كمال القدرة وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سورة سبأ 3 يتضمن كمال العلم وكذلك قوله لا تدركه الأبصار سورة الأنعام 103 فمعناه على قول الجمهور لا تحيط به ليس معناه لا تراه فإن نفي الرؤية يشاركه فيه المعدوم فليس هو صفة مدح بخلاف كونه لا يحاط به ولا يدرك فإن هذا يقتضي أنه من عظمته لا تدركه الأبصار وذلك يقتضي كمالا عظيما تعجز معه الأبصار عن الإحاطة فالآية دالة على إثبات رؤيته ونفي الإحاطة به نقيض ما تظنه الجهمية من أنها دالة على نفي رؤيته الوجه الثالث أن يقال الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه الممكن للموجود إما أن يكون ممكنا للواجب وإما أن يكون ممتنعا عليه فإن كان ممتنعا عليه لزم أن يكون الموجود غير قابل للكمال فإن الموجود إما واجب وإما ممكن والواجب إذا لم يقبل الكمال فالممكن أولى ونحن قد ذكرنا الكمال الممكن للموجود الذي لا نقص فيه فيمتنع أن يكون الكمال الممكن للموجود غير ممكن للموجود وإذا كان ذلك ممكنا له فإما أن يكون لازما أو يكون جائزا فإن كان لازما له ثبت أن الكمال الممكن للموجود لازم للقديم تعالى واجب له وهو المطلوب وإن كان جائزا كان مفتقرا في حصوله إلى غيره وحينئذ فذلك الغير أكمل منه لأن معطي الكمال أكمل من الآخذ له وذلك المعطي إن كان مخلوقا له لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق وأيضا فشرط إعطائه الكمال اتصافه بصفات الكمال والكمال إنما يستفيده من الكامل فيمتنع أن يكون معطيا له لئلا يلزم الدور في الفاعلين والعلل الفاعلة فإنه ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء

وإن كان الغير ليس مخلوقا له كان واجب الوجود بنفسه وحينئذ فإن كان متصفا بصفات الكمال بنفسه فهو الرب الخالق والأول مفعول له ليس له من نفسه صفات الكمال فهو عبد لا رب وإن لم يكن متصفا بصفات الكمال بنفسه بل هذا يستفيد الكمال من هذا وهذا يستفيده من هذا كان هذا دورا ممتنعا وهذا من أعظم ما يحتج به على توحيد الربوبية وأنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إما أن يكون كل منهما فاعلا لجميع العالم وهذا ممتنع بالضرورة فإنه إذا كان هذا فاعلا للجميع لم يكن الآخر فاعلا لشيء منه فضلا عن أن يكون فاعلا لجميعه فلو كان هذا فاعلا لجميعه وهذا فاعلا لجميعه كان كل منهما فاعلا غير فاعل وإن كانا متشاركين فإن كان كل منهما قادرا حين الانفراد لزم امتياز مفعول كل منهما عن الآخر فذهب كل إله بما خلق ولهذا كل مشاركين فلا بد أن يكون فعل كل منهما مميزا عن الآخر وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا لزم أن يقدر أحدهما على فعل العالم حين قدرة الآخرة عليه فيلزم كون كل منهما قادرا على فعله كله حال قدرة الآخر على فعله كله وهذا ممتنع كما تقدم فامتنع أن يكون أحدهما قادرا على فعله حال قدرة الآخر على فعله كما هو المعروف في القادرين على تحريك شيء ولا يقدر أحدهما على تحريكه إلا حال ما لا يكون الآخر محركا له فإذن لا يكون احدهما قادرا إلا عند تمكين الآخر له فلا يكون أحدهما قادرا إلا بأقدار الآخر له فلا يكون قادرا حال الانفراد وأيضا فإذا كان كل منهما قادرا حال الانفراد أمكن أن يفعل ضد مفعول الآخر وأن يريد خلاف مراده مثل أن يريد هذا تحريك جسم والآخر تسكينه فيمتنع وجود المرادين جميعا لامتناع اجتماع الضدين فيلزم تمانعهما فلا يكون واحد منهما قادرا فثبت أنه يمتنع كون كل منهما قادرا حين الانفراد وإن لم يكن واحد منهما قادرا إلا عند الاجتماع كان كل منهما مؤثرا في جعل الآخر قادرا فلا يكون هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له ولا هذا قادرا إلا بأقدار الآخر له فيلزم كون كل منهما مؤثرا في الآخر وهذا هو الدور في الفاعلين والعلل وهو ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء من وجوه كثيرة فإن كون الشيء فاعلا لنفسه ممتنع فكيف يكون فاعلا لفاعله ولأن الفاعل متقدم بذاته على المفعول فيلزم تقدم هذا بذاته على هذا وهذا بذاته على هذا فيلزم تقدم الشيء على نفسه بدرجتين والدور كما هو ممتنع في المؤثر فهو ممتنع في تمام كونه مؤثرا كما أن التسلسل لما امتنع في المؤثر امتنع في تمام كونه مؤثرا

وهذا بخلاف الدور المعي في الآثار فإنه جائز باتفاق العقلاء وأما التسلسل في الآثار ففيه نزاع مشهور وهذه الأمور كلها مبسوطة في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن الكمال الذي لا نقص فيه الممكن للموجود هو واجب لواجب الوجود لازم له لا يجوز أن يكون ممتنعا عليه مع كونه ممكنا للموجود فلا يجوز أن يكون ممكن الوجود والعدم لأنه حينئذ يفتقر في اتصافه به إلى غيره لأنه إما أن يكون كل منهما معطيا للآخر الكمال وإما أن يكون هذا الثاني هو المعطي فإن كان هذا فذلك الغير المتصف بصفات الكمال هو حينئذ الرب الكامل المعطي لغيره الكمال وإن كان الأول لزم كون كل منهما معطيا للآخر صفات الكمال وهو يقتضي كون كل منهما مؤثرا في الآخر مثل أن يكون كل منهما فاعلا للآخر عالما قادرا حيا وذلك دور ممتنع كما تبين فثبت أن اتصافه بصفات الكمال أمر لازم له يمتنع زواله عنه وهو المطلوب

الوجه الرابع أن يقال لهؤلاء قولكم أن هذين يتقابلان تقابل العدم والملكة اصطلاح اصطلحتموه وإلا فكل ما لا حياة فيه يسمى مواتا وميتا قال الله تعالى والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء سورة النحل 20 21 فسمى الأصنام الجامدات أمواتا وتسمى الأرض مواتا كما قال النبي ﷺ من أحيا أرضا ميتة فهي له

الوجه الخامس أن يقال كل عين من الأعيان تقبل الحياة فإن الله قادر على خلق الحياة وتوابعها في كل شيء

الوجه السادس أن يقال هب أنكم لا تسمونه ميتا ولا جاهلا ولا عاجزا لكن يجب أن يقال ليس بحي ولا عالم ولا قادر ونفس سلب هذه الصفات فيه من النقص ما في قولنا ميت وجاهل وعاجز وزيادة ولهذا كان نقص الجماد أعظم من نقص الأعمى فكل محذور في عدم الملكة هو ثابت في السلب العام وزيادة

الوجه السابع أن يقال لهؤلاء النفاة أنتم نفيتم هذه الأسماء فرارا من التشبيه فإن اقتصرتم على نفي الأثبات شبهتموه بالمعدوم وإن نفيتم الأثبات والنفي جميعا فقلتم ليس بموجود ولا معدوم شبهتموه بالمتنع فأنتم فررتم من تشبيهه بالحي الكامل فشبهتموه بالحي الناقص ثم شبهتموه بالمعدوم ثم شبهتموه بالممتنع فكنتم شرا من المستجير من الرمضاء بالنار وهذا لازم لكل من نفى شيئا مما وصف الله به نفسه لا يفر من محذور إلا وقع فيما هو مثله أو شر منه مع تكذيبه بخبر الله وسلبه صفات الكمال الثابتة لله ومن هؤلاء طائفة ثالثة تقول نحن لا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فلا ننفي النقيضين بل نسكت عن هذا وهذا فنمتنع عن كل من المتناقضين لا نحكم لا بهذا ولا بهذا فلا نقول ليس بموجود ولا معدوم ولكن لا نقول هو موجود ولا نقول هو معدوم

ومن الناس من يحكي نحو هذا عن الحلاج وحقيقة هذا القول هو الجهل البسيط والكفر البسيط الذي مضمونه الإعراض عن الإقرار بالله ومعرفته وحبه وذكره وعبادته ودعائه، وهؤلاء من جنس السوفسطائية المتجاهلة اللاأدرية الذين يقولون لا نعلم هل الحقائق ثابتة أو منتفية وهل يمكن العلم أو لا يمكن فإن السفسطة أنواع أحدهما قول هؤلاء

الثاني قول أهل التكذيب والجحود والنفي الذين يجزمون بنفي الحقائق والعلم بها

والثالث الذين يجعلون الحقائق تتبع العقائد فمن اعتقد ثبوت الشيء كان في حقه ثابتا ومن نفاه كان في حقه منتفيا ولا يجعلون للحقائق أمرا هي عليه في أنفسها والصنف الرابع قول من يقول الحقائق موجودة لكن لا سبيل إلى العلم بها إما لكون العالم في السيلان فلا يمكن العلم بحقيقته وإما لغير ذلك وهذه الأنواع الأربعة موجودة في هؤلاء الملاحدة فمنهم الواقفة المتجاهلة الذين يقولون لا نثبت ولا ننفي ومنهم المكذبة الذين ينفون ومنهم من يجعل الحقائق تتبع العقائد كما يحكى عن طائفة تصوب كل واحد من القائلين للأقوال المتناقضة وكما يقوله من يقوله من أصحاب الوحدة ابن عربي ونحوه بأن كل من اعتقد في الله عقيدة فهو مصيب فيها حتى قال

عقد الخلائق في الإله عقائدا ... وأنا أعتقدت جميع ما عقدوه ...

وأما الرابع فهو منتهى قول أئمة الجهمية وهو الحيرة والشك لتكافؤ الأدلة عند بعضهم أو لعدم الدليل المرشد عند بعضهم وهذا عند أصحاب الوحدة هو أعلى العلم بالله تعالى والكلام في هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا التنبيه على مجامع الأقوال ومنشأ الضلال حيث أخذوا الفظ التشبيه بمعنى مشترك مجمل فأرادوا نفيه بكل معنى من المعاني ومن المعلوم أنه ما من موجودين إلا وبينهما قدر يتفقان فيه وإن كان المعنى الكلي المشترك وجوده في الاذهان لا في الأعيان فلا بد أن يكون بين أفراد الاسم العام الكلي نوع من المشابهة باعتبار اتفاقهما في ذلك المعنى العام وهذا موضع غلط فيه كثير من الناس في أحكام الأمور الكلية التي تشتبه فيها أعيانها منهم من يجعل الكلي ثابتا في الخارج كليا ومنهم من يقول أفراده لم تتفق إلا في مجرد اللفظ وهي مسألة الأحوال التي اضطرب فيها كثير من الناس والتحقيق أنه لا بد من تشابه في الخارج ومعنى كلي عام في الذهن من غير أن يكون في الخارج على أو شيء لا موجود ولا معدوم فيقال لهؤلاء التشبيه الممتنع إنما هو مشابهة الخالق للمخلوق في شيء من خصائص المخلوق أو أن يماثله في شيء من صفات الخالق فإن الرب تعالى منزه عن أن يوصف بشيء من خصائص المخلوق أو أن يكون له مماثل في شيء من صفات كماله وكذلك يمتنع أن يشاركه غيره في شيء من أموره بوجه من الوجوه بل يمتنع أن يشترك مخلوقان في شيء موجود في الخارج بل كل موجود في الخارج فإنه مختص بذاته وصفاته القائمة به لا يشاركه غيره فيها ألبتة وإذا قيل هذان يشتركان في كذا كان حقيقته أن هذا يشابه هذا في ذلك المعنى كما إذا قيل هذا الإنسان يشارك هذا في الإنسانية أو يشارك هذا الحيوان في الحيوانية فمعناه أنهما يتشابهان في ذلك المعنى وإلا فنفس الإنسانية التي لزيد لا يشاركه فيها غيره وإنما يشتركان في نوع الإنسانية المطلقة لا في الإنسانية القائمة به والإنسانية المشتركة المطلقة هي في الأذهان لا تكون في الأعيان مشتركة مطلقة فما هو موجود في الخارج لا اشتراك فيه وما وقع فيه الاشتراك هو الكلي المطلق الذي لا يكون كليا مطلقا إلا في الذهن فإذا كان المخلوق لا يشاركه غيره فيما له من ذاته وصفاته وأفعاله فالخالق أولى أن لا يشاركه غيره في شيء مما هو له تعالى لكن المخلوق قد يماثل المخلوق ويكافئه ويساميه والله سبحانه وتعالى ليس له كفؤ ولا مثيل ولا سمي وليس مطلق الموافقة في بعض الأسماء والصفات الموجبة نوعا من المشابهة تكون مقتضية للتماثل والتكافؤ بل ذلك لازم لكل موجودين فإنهما لا بد أن يتفقا في بعض الأسماء والصفات ويشتبها من هذا الوجه فمن نفى ما لا بد منه كان معطلا ومن جعل شيءا من صفات الله مماثلا لشيء من صفات المخلوقين كان ممثلا والحق هو نفي التمثيل ونفي التعطيل فلا بد من إثبات صفات الكمال المستلزمة نفى التعطيل ولا بد من إثبات اختصاصه بما له على وجه ينفي التمثيل ولكن طائفة من الناس يجعلون التمثيل والتشبيه واحدا ويقولون يمتنع أن يكون الشيء يشبه غيره من وجه ويخالفه من وجه بل عندهم كل مختلفين كالسواد والبياض فإنهما لم يشتبها من وجه وكل مشتبهين كالأجسام عندهم يقولون بتماثلها فإنها مماثلة عندهم من كل وجه لا اختلاف بينهما إلا في أمور عارضة لها

وهؤلاء يقولون كل من أثبت ما يستلزم التجسيم في اصطلاحهم فهو مشبه ممثل وهذه طريقة كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى في المعتمد وغيره وأما جمهور الناس فيقولون أن الشيء قد يشبه غيره من وجه دون وجه وهذا القول هو المنقول عن السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره ولهذا ينكر هؤلاء على من ينفي مشابهة الموجود للموجود من كل وجه ويقولون ما من موجودين إلا وأحدهما يشبه الآخر من بعض الوجوه

فالصفات نوعان أحدهما صفات نقص فهذه يجب تنزيهه عنها مطلقا كالموت والعجز والجهل والثاني صفات كمال فهذه يمتنع أن يماثله فيها شيء وكذلك ما كان مختصا بالمخلوق فإنه يمتنع اتصاف الرب به فلا يوصف الرب بشيء من النقائص ولا بشيء من خصائص المخلوق وكل ما كان من خصائص المخلوق فلا بد فيه من نقص وأما صفات الكمال الثابتة له فيمتنع أن يماثله فيها شيء من الأشياء

وبهذا جاءت الكتب الإلهية فإن الله تعالى وصف نفسه فيها بصفات الكمال على وجه التفصيل فأخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه عزيز حكيم غفور ودود سميع بصير إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته وأخبر أنه ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد وقال تعالى هل تعلم له سميا سورة مريم 65 فأثبت لنفسه ما يستحقه من الكمال بإثبات الأسماء والصفات ونفى عنه مماثلته المخلوقات ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون له الأسماء والصفات وينفون عنه مماثلة المخلوقات إثبات بلا كمثيل وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سورة الشورى 11 فقوله ليس كمثله شيء رد على أهل التمثيل وقوله وهو السميع البصير رد على أهل التعطيل وهؤلاء نفاة الأسماء من هؤلاء الغالية من الجهمية الباطنية والفلاسفة وإنما استطالوا على المعتزلة بنفي الصفات وأخذوا لفظ التشبيه بالاشتراك والإجمال كما أن المعتزلة فعلت كذلك بأهل السنة والجماعة مثبتة الصفات فلما جعلوا إثبات الصفات من التشبيه الباطل ألزمهم أولئك بطرد قولهم فألزموهم نفي الأسماء الحسنى والأمر بالعكس فإن إثبات الأسماء حق وهو يستلزم إثبات الصفات فإن إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة كإثبات متحرك بلا حركة ومتكلم بلا كلام ومريد بلا إرادة ومصل بلا صلاة ونحو ذلك مما فيه إثبات اسم الفاعل ونفى مسمى المصدر اللازم لاسم الفاعل ومن أثبت الملزوم دون اللازم كان قوله باطلا


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16