الرئيسيةبحث

الصفدية/14


قال تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار سورة إبراهيم 48 وقال تعالى فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان سورة الرحمن 37 وقال تعالى يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن سورة المعارج 8 : 9 وقال تعالى إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا 2 فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة سورة الواقعة 4 7 وقال تعالى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش سورة القارعة 4 5 وقال تعالى إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت وإذا البحار سجرت سورة التكوير 1 6 وقال تعالى إذا السماء انفطرت وإذا الكواكب انتثرت وإذا البحار فجرت وإذا القبور بعثرت سورة الإنفطار 1 4 وقال إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت سورة الإنشقاق 1 4 وأمثال هذه النصوص التي تبين الإستحالة والتغير على السموات والأرض والجبال وأنها تستحيل أنواعا من الإستحالة لتعدد الأوقات

وكذلك أخبر بإحياء الموتى وقيامهم من قبورهم في غير موضع وقرر سبحانه معاد الأبدان بأنواع من التقرير فتارة يخبر بوقوع إحياء الموتى كما أخبر بذلك في سورة البقرة في عدة مواضع في قوله وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون سورة البقرة 55 إلى قوله ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون سورة البقرة 55 56 وقوله فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون سورة البقرة 73 وقوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم سورة البقرة 243 وقوله أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال انى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام سورة البقرة 259 وقوله وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير الآية سورة البقرة 260 وذكر إحياء المسيح الموتى وذكر قصة أصحاب الكهف ونومهم ثلثمائة سنة وتسع سنين والنوم أخو الموت فهذه سبع مواضع

ومنها إحياء الحيوان البهيم وإبقاء الطعام والشراب مائة سنة لم يتغير وذكر سبحانه إمكان ذلك بخلق الحيوان وهو الخلق الأول وبخلق النبات وهو نظيره وبخلق السموات والأرض وأن القادر على خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم فالأول بيان للوقوع وهذا بيان للإمكان

وهؤلاء المتفلسفة المنكرون لمعاد الأبدان ولحدوث الأفلاك عامتهم يقولون إن المعجزات والكرامات قوى نفسانية إما قوة الإدراك والعلم وإما قوة الحركة والعمل فالإدراك هو قوة النفس التي ينال بها العلم فيجعلون ما أخبرت به الرسل وأمرت به كله استفادوه بهذه القوة من غير أن يكون هناك ملائكة هم أحياء ناطقون نزلوا عليهم بوحي ومن غير أن يكون لله كلام تكلم به خارجا عن أنفسهم ومن غير أن يكون هناك رب خلق العالم بقدرته ومشيئته يقدر على تغيير العلويات وتبديل الأرض والسموات

وكل من فهم حقيقة قولهم وحقيقة ما جاءت به الرسل علم مناقضتهم لهم كما قيل لبعض شيوخنا الفضلاء الذين كانوا يعرفون ذلك ما بين الفلاسفة والأنبياء فقال السيف الأحمر

بل حقيقة أمرهم أنهم لايؤمنون لا بالله ولا كتبه ولا ملائكته ولا رسله ولا بالبعث بعد الموت فهم أسوأ حالا من اليهود والنصارى

والمقصود هنا أن ابن سينا وهؤلاء بنوا أصل دينهم على أن الوجود لا بد له من واجب وأن الواجب يشترط أن يكون واحدا ويعنون بالواحد ما لا صفة له ولا قدر ولا يقوم به فعل لئلا يثبتوا له صفة كالعلم والقدرة فيكون في الوجود واجبان وهذا ضاهوا به المعتزلة حيث قالوا أخص صفات الرب أن يكون قديما فلا تكون له صفة قديمة لئلا يكون في الوجود قديمان وهي عبارة موهمة فيظن الظان أن أهل الإثبات للأسماء والصفات أثبتوا إلهين قديمين وهم إنما أثبتوا إلها واحدا لا إله إلا هو وهو موصوف بصفاته التي يستحقها وهو سبحانه قديم بصفاته القديمة والصفة القديمة لا يجب أن تكون مثل الموصوف القديم ولا تكون إلها كما أن صفة الإنسان المحدث لا يجب أن تكون مثل الموصوف المحدث ولا تكون إنسانا وكذلك صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا

وكذلك إذا قيل من أثبت الصفات فقد أثبت واجبين وتعدد الواجب ممتنع كان موهما أن المثبتن أثبتوا إلهين واجبين بذاتهما وإنما أثبتوا إلها واحدا واجبا بنفسه له صفات لازمة له واجبة بوجوبه لا يقبل العدم والتعدد الممتنع في الواجب إنما هو تعدد الإله كما أن التعدد الممتنع في القديم إنما هو تعدد الإله القائم بنفسه لأن ذلك هو تعدده

والمسلمون يقولون كما قال الله تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم سورة البقرة 163 والتوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له وهو متضمن لشيئين أحدهما القول العملي وهو إثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن النقائص وتنزيهه عن أن يماثله احد في شيء من صفاته فلا يوصف بنقص بحال ولا يماثله أحد في شيء من الكمال كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فالصمدية تثبت له الكمال والاحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك كما قد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع

والتوحيد العملي الإرادي أن لا يعبد إلا إياه فلا يدعو إلا إياه ولا يتوكل إلا عليه ولا يخاف إلا إياه ولا يرجو إلا إياه ويكون الدين كله لله قال تعالى قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين سورة الكافرون

وهذا التوحيد يتضمن أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا شريك له في الملك فجاءت الجهمية ومن شاركهم في النفي فأدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهو في الحقيقة تعطيل مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول وأخذ ذلك هؤلاء الملاحدة فزادوا في النفي

وكانت الجهمية تقول الواحد هو الذي لا ينقسم وهذا لفظ مجمل فإن الله تعالى منزه عن قبول التفريق والتبعيض ولكن مقصودهم بذلك نفى الصفات كما يقولون الواحد الذي لا تركيب فيه ومعلوم أن التركيب الذي هو التركيب المعقول منتفي عن الله فإن التركيب المعقول هو أن يكون اثنان مفترقين فيركبهما غيرهما ثم إن تركبا بأنفسهما كان تركبا لا تركيبا لكن هو أعظم امتناعا في حق الله وكل ما يعقل الناس أنه مركب فهو هذا وهو يمتنع في حق الباري بضرورة العقل واتفاق العقلاء

وما يقولونه من تركيب الجسم من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فهو منتف عند جمهور العقلاء في الأجسام المخلوقة فكيف لا يكون منتفيا عن الباري تعالى وما يقولونه من تركيب الأعيان من وجود وماهية هو أيضا منتف عند جمهور العقلاء عن المخلوقات فانتفاؤه عن الخالق أولى

وما يقولونه أيضا من تركيب الأنواع من الصفات الذاتية الداخلة فهي في ماهيتها المقومة لها المشتركة المميزة هو منتف أيضا عند جمهور العقلاء عن المخلوقات فكيف يكون الخالق

وأما اتصاف الرب تعالى بصفات كماله فهذا ليس تركيبا في المخلوقات والواحد منها إذا قيل إنه موجود حي عليم قدير لم يكن في هذا تركيب يعقل أنه تركيب كما يعقل تركيب الكل من أجزائه وإذا سموا هذا تركيبا اصطلاحا لهم أوتوهموه تركيبا ظنا منهم لم يكن لفظهم ووهمهم موجبا لأن ينفي عن الرب ما يستحقه من صفات كماله ويوجب أن يثبت وجودا مطلقا لا حقيقة له إلا في الأذهان وأي موجود قدر في الأذهان كان أكمل منه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا

والمقصود هنا أن هؤلاء القائلين بقدم العالم وإن أقروا بمبدع العالم فقولهم بالحجة التي يثبتون عليها إثبات مبدع العالم حجة ضعيفة بل قولهم مستلزم لنفي الصانع وهذا كان المشهور عند أكثر أهل الكلام عن القائلين بقدم العالم أنهم ينكرون الصانع وأكثر كتب المتكلمين ليس فيها نقل عن القائلين بقدم العالم إلا إنكار الصانع ولكن الذين نقلوا كلام ابن سينا وأمثاله هم الذين صاروا يحكون عنهم قولين أحدهما إنكار الصانع والآخر القول بوجوب العالم عن علة موجبة له ولبسوا بهذا على بعض الناس لكن القول بنفي الصانع أعظم فسادا في العقول والأديان من قولهم

وقد بسطنا الكلام على طرق الناس في إثبات الصانع في غير هذا الموضع وبينا كثرة الطرق في ذلك وأن القرآن جاء بأكمل الطرق في ذلك وتكلمنا على قول من قال إن الإقرار بالصانع فطري ضروري ومن قال إنه نظري استدلالي ومن قال إنه تارة يكون فطريا ضروريا وتارة يكون نظريا استدلاليا وذكرنا ما يذكر في ذلك من المقدمات التي لا يحتاج إليها في أصل الاستدلال وإنما يحتاج إليها من عرضت له الشبهة التي يحتاج إلى إزالتها فتكون الحاجة إلى تلك المقدمة عارضة بحسب حال بعض الناس ليست لازمة لكل من عرف الصانع أو استدل على وجوده فهي من عوارض طريق المعرفة لا من لوازم طريق المعرفة

وهذا مثل إبطال الدور والتسلسل وغير ذلك فإن الناس في هذا الباب تنوعت مسالكهم فمن الناس من سلك في العلم بإثبات الصانع طريقة يزعم أنه لا يمكن معرفته إلا بها كما يفعل ذلك كثير من أهل النظر والكلام ثم تلك الطريقة قد تكون صحيحة مع طولها واختصارها أو قد تكون باطلة وآخرون يقولون كل ما ذكره الناس من الطرق النظرية والمسالك الاستدلالية في هذا الباب فهو بدعة وضلال لا يحتاج إليه ولا ينتفع به

وتحقيق الأمر أن الأدلة المذكورة نوعان حق وباطل والحق نوعان أحدهما فيه تطويل لا يحتاج إليه كل أحد والباطل مذموم مطلقا

والتطويل الذي يذكر على سبيل الحاجة إليه مع أنه يمكن الإستغناء عنه مذموم أيضا

وأما التطويل الذي قد ينتفع به بعض الناس أو يحتاج إليه بعضهم فإذا ذكر على هذا الوجه فهو حسن وإن كان يستغني عنه بعض الناس

والنوع الثاني من الأدلة ما هو صحيح مذكور على أقرب الطرق فهذا حق لا عيب فيه وليس هذا موضع تفصيل الكلام في هذا فإن هذا أعظم من أن يكون تبعا لغيره

والمقصود هنا التنبيه على أن هؤلاء القائلين بأن العالم معلول لعلة مبدعة وأن معجزات الأنبياء قوى نفسانية هم شر من أكثر المشركين وعباد الأصنام ومما يبين ذلك أن هؤلاء لا يقولون إن العبادات التي شرعتها الرسل إنما غايتها إصلاح خلق الإنسان فإن حكمتهم كحكمة سائر الناس نوعان علمية وعملية والعملية هي إصلاح سياسة الخلق والمنزل والمدينة ويزعمون أن الشرائع مقصودها هو هذا وهو السياسة المدنية والمنزلية والخلقية

وقد تقدم أنا لا ننكر ما في قولهم من الحق بل ننكر عليهم ما في قولهم من الباطل وننكر عليهم زعمهم أن لا حق فيما جاءت به الرسل إلا ما ذكروه فننكر تصديقهم بكثير من الباطل وتكذيبهم بكثير من الحق ولا ريب أن فيما جاءت به الرسل إصلاح أخلاق الناس وإصلاح منازلهم في عشرة الأهل والأزواج وغير ذلك وإصلاح المدائن بالسياسة العادلة الشرعية لكن هذا كله جزء من مقاصد الرسل وهؤلاء الفلاسفة إنما قالوا هذا لأن الله عندهم لا يجيب دعاء داع ولا يحدث ثوابا لعابد مطيع وليس للنفوس بعد المفارقة عندهم ثواب منفصل عنها ولا عقاب منفصل عنها ولا يقوم الناس من قبورهم عندهم بل الدعاء عندهم هو تصرف النفس في هيولي العالم والعمل الصالح ثوابه عندهم ما يحصل للنفوس من الهيئة الصالحة والنعيم بعد الفراق عندهم هو نفس تنعمها بما يحصل لها من العلم مع أن في أقوالهم أنواعا من الفساد فإن كمال الإنسان عندهم أن يصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود يتمثل فيه صورة الوجود على ما هو عليه

ثم إنهم يجعلون ذلك هو العلم بالوجود المطلق والمطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان ويقولون الفلسفة الأولى هي العلم بالوجود ولواحقه فيقسمون الوجود إلى واجب وممكن وجوهر وعرض والجوهر خمسة أنواع والعرض تسعة أنواع ونحو ذلك وهذا كله علم بأمور كلية مطلقة لا وجود لها إلا في الذهن فليس هو علما بنفس أعيان الحقائق الموجوده في الخارج وليس في شيء من هذا علم بالله ولا ملائكته ولا بأنبيائه بل ولا بسمواته وأرضه فإن العلم بهذه عندهم من العلم الطبيعي لا من علم ما بعد الطبيعة

فهم ضلوا من وجوه منها ظنهم أن النفس كمالها في مجرد العلم وأن العبادات الشرعية مقصودها تهذيب الأخلاق ورياضة النفس حتى تستعد للعلم فإن هذا باطل قطعا وذلك أن النفس لها قوتان قوة علمية وقوة عملية قوة الشعور والعلم والإحسان وقوة الحب والإرادة والطلب والعمل فالنفس ليس كمالها في أن تعلم ربها فقط بل في أن تعرفه وتحبه وإلا فإذا قدر أن النفس تعرف الواجب وهي تبغضه وتنفر عنه وتذمه كانت شقية معذبة بل هذا الضرب من أعظم الناس شقاء وعذابا وهي حال إبليس وفرعون وكثير من الكفار فإنهم عرفوا الحق ولم يحبوه ولم يتبعوه وكانوا أشد الناس عذابا

بل حب الله تعالى هو الكمال المطلوب من معرفته وهو من تمام عبادته فإن العبادة متضمنة لكمال الحب مع كمال الذل وهذا حقيقة دين إبراهيم الخليل عليه السلام إمام الحنفاء الذي قال الله تعالى فيه إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين سورة النحل 120 والأمة هو الذي يؤتم به كما أن القدوة هو الذي يقتدى به كما قال في الآية الأخرى وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما سورة البقرة 124 وإبراهيم الخليل هو الذي عادى هؤلاء كالنمرود وغيره

فنفس عبادة الله وحده ومحبته وتعظيمه هو من أعظم كمال النفس وسعادتها لا أن سعادتها في مجرد العلم الخالي عن حب وعبادة وتأله وقول هؤلاء من جنس قول جهم وأتباعه الذين يجعلون الإيمان مجرد علم النفس أو تصديقها ولا يجعلون حبها وغير ذلك من أعمالها من الإيمان وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير موضع

وهؤلاء المتفلسفة جمعوا الشر كله فقول جهم بن صفوان الذي عظم السلف الإنكار عليه جزء من قولهم بل المشركون الذين جعلوا مع الله أندادا يحبونهم كحب الله خير من هؤلاء الفلاسفة فإن أولئك أثبتوا محبة الله فجعلوها من كمال الإنسان لكن ضلوا حيث أحبوا مع الله غيره فكانوا مشركين وهؤلاء معطلون لم يثبتوا محبة له لا خالصة له ولا مشتركة مع غيره ولهذا لا يعبدونه بقلوبهم إذ العبادات عندهم إنما مقصودها إعداد النفس لمجرد العلم الذي يزعمون أنه الغاية عندهم

وكذلك الجهمية لا تجد في قلوبهم من محبة الله وعبادته ما في قلوب عباده المؤمنين بل غاية عابدهم أن يعتقد أن العباد من جنس الفعلة الذين يعملون بالكراء فمنتهى مقصوده هو الكراء الذي يعطاه وهو فارغ من محبة الله والفلاسفة تذم هؤلاء وتحتقرهم كما ذكرنا كلامهم في ذلك في غير هذا الموضع لكن هؤلاء خير منهم في الجملة فإنهم يوجبون العبادة ويلتزمونها ويعتقدون لها منفعة غير مجرد كونها سببا للعلم بخلاف الفلاسفة والمتصوفة والمتفلسفة فإن عبادتهم مقصودها الكشف والتأثير كما يذكره أبو حامد وأتباعه ومما يبين أمر هذا أنهم يقولون إن الله يلتذ ويبتهج وهذا وإن كان قد أنكره طوائف من المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام ومن اتبعهم فالسلف والأئمة وأهل السنة مقرون بما جاء به الكتاب والسنة من محبة الله وفرحه ورضاه وضحكه ونحو ذلك وما يثبتون من الحق فهو داخل في هذه المعاني لكن أهل السنة يعبرون بالعبارات الشرعية فيجمعون بين كمال المعنى واللفظ وموجب العقل والشرع

وهؤلاء المتفلسفة أخطأوا من وجه آخر حيث قالوا اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهذا غلط فإن اللذة ليست هي الإدراك ولكن الإدراك سببها فهي حاصلة عنه كحصول الصوت عن الحركة والشبع عن الاكل وذلك أن الإنسان يشتهي الطعام فيأكله فيلتذ به هنا ثلاثة أشياء شهوة وإدراك ولذة فليست اللذة هي نفس الأكل والذوق وإنما هي أمر آخر يحصل بالاكل والذوق وهو أمر يجده الإنسان من نفسه فلا يعبر عنه بعبارة بمعنى أبين منه وكل حي يجد في نفسه اللذة والألم وهؤلاء القوم من عادتهم أنهم يجعلون المعاني المتعددة شيئا واحدا فيجعلون العلم والقدرة والإرادة شيئا واحدا بل يجعلون العلم هو العالم والقدرة هي القادر فكذلك جعلهم اللذة هي الإدراك وفي موضع آخر يجعلون الشيء الواحد أشياء متعددة كما يجعلون الحقائق الموجودة في الخارج شيئين ويجعلون صفاتها اللازمة لها ثلاثة أشياء مقومة داخلة فيها ولازمة لماهيتها

ومما يبين ذلك أن اللذة لا تكون إلا مع محبة فما لا يكون محبوبا لا يكون في إدراكه لذة وحب الشيء زائد على التصور المشروط في محبته فكذلك اللذة به زائدة على الإدراك المشروط في اللذة

وإذا تبين هذا علم أن الرب تعالى موصوف بالعلم والحب والفرح والرضا وغير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة والعبد كماله في أن يعرف الله فيحبه ثم في الآخرة يراه ويلتذ بالنظر إليه

كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي ﷺ أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة

وفي حديث عمار بن يسار عن النبي ﷺ اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة رواه النسائي وغيره

والمقصود هنا أن النفس ليس كمالها في مجرد علم بالله لا يقترن به حب لله ولا عبادة له ولا غير ذلك بل لا تصلح وتكمل إن لم تحب الله وتعبده

وأيضا فلو قدر كمالها في مجرد العلم فليس هو العلم بوجود مطلق وأمور كليات تقوم بنفسه وهذه هي العقليات التي يجعلونها كمال النفس لا سيما على رأي ابن سينا وموافقيه الذين يزعمون أن الأمور المعينة الشخصية لا تدرك إلا بجسم أو قوة في جسم والنفس عندهم ليست كذلك فلا تدرك شيئا من المعينات الموجودة في الخارج وهذا مما نفوا به كون الباري تعالى يعلم المعينات الموجودة المسماه بالجزئيات فهو عندهم لا يعلم إلا أمرا مطلقا كليا وكذلك النفس ومعلوم أن الموجودات الخارجة ليست كلية فلا يكون العلم بتلك المطلقة المجردة عن التعيين علما بموجود في الخارج فليس هذا علما حقيقيا مطلوبا بالقصد الأول وإنما العلم الحقيقي المطلوب بالقصد الأول هو العلم بالموجودات الخارجة الثابتة في نفسها

وأيضا فالعلم الذي تكمل النفس به لا بد أن يتضمن العلم بالله وهم لا يعرفون الله بل إنما يعرفون وجودا مطلقا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان فهم إنما جعلوا العبادات لأجل إصلاح الأخلاق بناء

على أن المقصود بالقصد الأول إنما هو تكميل النفس بهذا العلم وأن تهذيب الأخلاق ورياضة النفس تعد النفس لذلك والعبادات تعين على ذلك فإذا بين فساد الأصل الذي بنوا عليه كلامهم تبين فساده من أصله

وأيضا فقد علم بالاضطرار من النقل المتواتر والتجارب المعروفة أن الأعمال الصالحة توجب أمورا منفصلة من الخيرات في الدنيا وأن الأعمال الفاسدة توجب نقيض ذلك وأن الله تعالى عذب أهل الشرك والفواحش والظلم كقوم عاد وثمود ولوط وأهل مدين وفرعون بالعذاب المنفصل والمشاهد الخارج عن نفوسهم وأكرم أهل العدل والصلاح بالكرامات الموجودة في المشاهدة وهذا أمر تقر به جميع الأمم فكيف يقال إن العبادات والطاعات ليس مقصودها إلا ما يوجد في النفس من صلاح الخلق

وأيضا فقد تبين بما تقدم أن الله تعالى فاعل مختار يفعل بمشيئته وقدرته وأنه يجيب دعاء عباده المؤمنين وأنه يخرق العادات بأمور خارجة عن القوى الطبيعية والنفسانية المعلومة وهذا مما يبين تأثير العبادات والطاعات في الخارج

ومما يبين فاسد قولهم أنهم يزعمون أن المقصود بالرسالة إنما هو إقامة عدل الدنيا وأن الرسل لم تبين للناس حقائق الأمور بل أظهرت خلاف ما أبطنت بناء على أن الحق في نفس الأمر هو قول الفلاسفة

وهذا إذا ظهر للناس أنكرته الفطر وكذب به الناس ولم يبق عندهم إله يخشى ويعبد ولا رب يصلى له ويسجد قالوا فالرسل

ما كان يمكنهم إظهار الحق الذي هو قولنا فأظهرت للناس من التمثيلات ما ينتفعون به وكانت في الباطن تعتقد ما تعتقده الفلاسفة ولهذا يقولون إن الخواص تسقط عنهم العبادات كما يقول ذلك من يقوله من القرامطة الباطنية والفلاسفة وملاحدة المتصوفة وغيرهم قالوا لأن المقصود العلم والمعرفة فإذا حصل المقصود لم يبق في العبادة فائدة

ويقولون إن النبي ﷺ كان يسر إلى خواص أصحابه ما يوافق قولهم ومن عرف حال نبينا ﷺ وحال أصحابه معه علم بالاضطرار أن هؤلاء مخالفون له مناقضون مفترون عليه وأنهم من شرار المنافقين فإن النبي ﷺ وخواص أصحابه كانوا من أعبد الناس لله وأعظمهم إتيانا بأداء الواجبات وترك المحرمات وكان خواص أصحابه من أعظم الناس تقريرا لما بعث به من الإخبار عن الله بأسمائه وصفاته وعن ملائكته وعن اليوم الآخر وغير ذلك من أخباره ومن أعظم الناس تقريرا لما بعث به من الأمر والنهي فكان ما يبطنونه من العلم والحال موافقا لما يظهرونه من القول والعمل ولم يكونوا يبطنون ما يناقض ظاهرهم ولا كانوا يعتقدون مذهب أهل النفي بل قول نفاة الصفات إنما حدث في الأمة بعد انقضاء عصر الصحابة وكبار التابعين وإلا فلم يكن احد يتكلم في زمن الصحابة بشيء من أقوال الجهمية نفاة الصفات فكيف بأقوال هؤلاء الملاحدة الذين نفى الصفات بعض إلحادهم

ولهذا تنازع الناس في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم لا فقالت طائفة من السلف كيوسف بن أسباط وعبدالله بن المبارك الثنتان وسبعون فرقة هم الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وأخرجوا الجهمية من أن تكون من الثنتين وسبعين فرقة وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم

وبكل حال فالجهمية حدثوا في الإسلام بعد حدوث هذه البدع الأربعة فأما الصحابة والتابعون فمتفقون على إثبات ما جاء به الرسول ﷺ من صفات الله واليوم الآخر والعبادات الشرعية واعلم أن النصارى واليهود خير من هؤلاء من وجوه متعددة فيما يتعلق بالإعتقادات والعبادات والإعتقاد يدخل عندهم في الحكمة النظرية والعبادات في الحكمة العملية

والمقصود هنا الحكمة العملية فإن اليهود والنصارى يقرون بالعبادات وبأن الله هو المستحق للعبادة ويقرون بالثواب والعقاب المنفصلين مع القيامة الكبرى ومعاد الأبدان مع معاد النفوس إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل لكن بدلوا بعض ما جاءت به الرسل ولم يتبعوا الناسخ من شرائعهم فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر بعد التبديل والنسخ للكتاب الأول وليس في أصل دين اليهود والنصارى سقوط فعل العبادات الشرعية عن أحد ولا حل المحرمات الشرعية لأحد

وهؤلاء لما ظنوا أن كمال الإنسان في أن يعرف الوجود فقط وظنوا أن ما ذكروه يحصل به معرفة الوجود ظنوا أن العارف منهم لا تجب عليه العبادات الشرعية ولا تحرم عليه المحرمات الشرعية حتى صار المثل يضرب بهم فيقول المترسل في رسائله إنهم استحلوا حرمتي كاستحلال الفلاسفة محظورات الشرائع

ولهذا صارت الملاحدة الباطنية تسلك هذا المسلك فيسقطون الواجبات الشرعية عن البالغين منهم ويبيحون لهم المحرمات الشرعية والملاحدة الباطنية من الصوفية سلكوا نوعا من هذا وإن كانوا لا يصلون إلى إلحاد ملاحدة الإسماعيلية ونحوهم من المنتسبين إلى التشيع مع اتفاق الشيعة المسلمين على أنهم كفار وهؤلاء الطوائف براء من الحنيفية ملة إبراهيم بل من أتباع المرسلين كلهم

فإن الله تعالى أرسل الرسل ليدعوا الخلق إلى عبادته وحده لا شريك له كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون سورة الأنبياء 25 وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت سورة النحل 36 وقال تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون سورة البقرة 21

وأخبر عن كل نبي أنه دعا قومه إلى ذلك فقال عن نوح ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم سورة الأعراف 59 وقال عن هود وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدو الله ما لكم من إله غيره سورة هود 50 وكذلك سائرهم وأمثال ذلك فكمال الإنسان وصلاحه وسعادته في أن يعبد الله وحده لا شريك له وهذه ملة إبراهيم التي قال الله فيها ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه سورة البقرة 130 وقال بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 112

وهذا هو الإسلام العام الذي بعث الله به جميع الرسل وهو الذي لا يقبل من أحد دينا غيره لا من المتقدمين ولا من المتأخرين

قال تعالى عن نوح يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 71 : 72

وقال تعالى عن إبراهيم ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة 130 132

وقال تعالى عن موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84 وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء سورة المائدة 44

وقال تعالى في قصة بلقيس قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44

وقال تعالى عن الحواريين وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون سورة المائدة 111 فهؤلاء السعداء الكاملون من نوح إلى الحواريين على الإسلام

وكذلك الإيمان قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 62

فبين اتصاف السعداء من هذه الأصناف الأربعة بالإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وقد ذكر في سورة الحج ست ملل فقال إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد سورة الحج 17 فهنا لما ذكر فصله بينهم يوم القيامة ذكر الملل الست وهناك لما ذكر السعداء لم يذكر إلا الملل الأربع فإن المجوس والمشركين ليس منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا بل كلهم كفار

والقرآن بين أن السعداء هم الذين اتبعوا الرسل ولا يكون الكامل إلا سعيدا وأن الأشقياء هم المخالفون للرسل فإنما يعذب الله في الآخرة من يخالف الرسل كما قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء 15 وقال تعالى كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير سورة الملك 8 9 وأمثال هذه النصوص

وقد قال تعالى في خطابه لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين سورة ص 85 فأقسم أنه لابد أن يملأها منه ومن أتباعه فدل ذلك على أنه لا يدخلها إلا من اتبع الشيطان إذ لو دخلها غيرهم لامتلأت من هؤلاء وهؤلاء وهو خلاف النص

ولهذا لما تنازع الناس في أطفال الكفار فطائفة جزمت بأنهم كلهم في النار وطائفة جزمت بأنهم كلهم في الجنة كان الصواب الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهو قول أهل السنة أنه لا يحكم فيهم كلهم بجنة ولا بنار بل يقال فيهم كما قال النبي ﷺ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء قيل يا رسول الله أفرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقال الله أعلم بما كانوا عاملين

وكذلك ثبت هذا في الصحيحين عن ابن عباس عن النبي ﷺ وقد جاء في آثار أخرى أنهم يمتحنون يوم القيامة وجاءت بذلك أحاديث صحيحة عن النبي ﷺ فيمن لم تبلغه الدعوة في الدنيا كالمجنون والشيخ الكبير الأصم الذي أدركه الإسلام وهو أصم لا يسمع ما يقال ومن مات في الفترة وأن هؤلاء يؤمرون يوم القيامة فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلا استحقوا العذاب وكان هذا تصديقا لعموم قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء 15 وبذلك استدل أبو هريرة على أن أطفال الكفار لا يعذبون حتى يمتحنوا في الآخرة

وقد قال تعالى في حق السعداء سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله سورة الحديد 21 فبين أن الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله وقال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126 فبين أن من اتبع الهدى الذي جاء من عنده وهو ما جاءت به الرسل فإنه لا يضل ولا يشقى بل يكون من المهتدين المفلحين كما قال تعالى في نعتهم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون سورة البقرة 2 4 ولهذا قال في الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين

فأهل الغضب والضلال هم أهل الشقاء والضلال وهم الذين قيل فيهم إن المجرمين في ضلال وسعر سورة القمر 47 وهم ضد أهل الهدى والفلاح فأهل الهدى الذي يتضمن العلم والسعادة هم المتبعون للكتاب المنزل فمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض كاليهود والنصارى لم يكن من هؤلاء فكيف بمن لم يؤمن بالكتاب بل هو ممن قيل فيه ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون سورة غافر 69 72 إلى قوله في آخر السورة فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون سورة غافر 83 ولهذا قال بعض أهل العلم إن هذه الآية تتناول الفلاسفة

وحقيقة الأمر أن المتفلسفة نوعان نوع معرضون عما جاءت به الرسل بعد بلوغ ذلك لهم وقيام الحجة عليهم بما جاءت به الرسل فهؤلاء كفار أشقياء بلا ريب ومن كان منهم مؤمنا بما جاءت به الرسل ظاهرا وباطنا فهذا مؤمن حكمه حكم أهل الإيمان لكن لا يمكن مع هذا أن نعتقد ما يناقض الإيمان من أقوالهم بل نوافقهم في الأقوال التي توافق أقوال الرسل أو في أقوال لا تتعلق بالدين لا نفيا ولا إثباتا من الأمور الطبيعية والحسابية

وأما من وافقهم على أقوالهم المخالفة لما جاءت به الرسل مع تعظيمه للرسل ولنواميسهم وإيجابه لاتباعهم كالفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام فهؤلاء آمنوا ببعض ما جاء به الرسل وكفروا ببعض وهم يشبهون اليهود والنصارى من هذا الوجه لكن هؤلاء بإيمانهم بمحمد ﷺ خير من اليهود والنصارى واليهود والنصارى بإيمانهم بجنس ما اتفقت عليه الرسل من عبادة الله وحده والإيمان باليوم الآخر والقيامة الكبرى ومعاد الأبدان وإيجاب العبادات الشرعية وتحريم المحرمات الشرعية والتصديق بحقيقة الملائكة وكلام الله هم خير منهم إلا من كان من اليهود والنصارى على مذهب الفلاسفة وهذا اجتمع فيه نقص الكفر من وجهين وهو أسوأ حالا من هؤلاء وهؤلاء

فالسعادة مشروطة بشرطين بالإيمان والعمل الصالح بعلم نافع وعمل صالح بكلم طيب وعمل صالح وكلاهما مشروط بأن يكون على موافقة الرسل كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا فاقشعر جلده من خشية الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات الورق اليابس عن الشجر وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدا وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير عن اجتهاد في خلاف سبيل وسنة فاحرصوا أن تكون أعمالكم إن كانت اجتهادا أو اقتصادا على منهاج الأنبياء وسننهم

وهؤلاء ظنوا أن الكمال ليس إلا في العلم وأن العمل إنما هو وسيلة فقط ثم خرجوا في العلم والعمل عن منهاج الأنبياء وسننهم وإذا كانت النصارى لكونهم أدخلوا في عبادتهم نوعا من الشرك والبدع خرجوا عن الحنيفية إذ كانت الحنيفية أن لا نعبد إلا الله وحده وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع والنصارى كما قال الله تعالى فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 31 وقال تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله سورة الحديد 27 ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة الملك 2 قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

فإذا كانت النصارى على هذه الحال فكيف بهؤلاء الذين هم أضل منهم فإن ما عند هؤلاء من الحكمة هو جزء مما عند النصارى فإن السياسة الخلقية والمنزلية والمدنية داخلة في دين النصارى الذين ابتدعوا بعضه ولم ينزل الله به وكسر الشهوة والغضب جزء من عبادة الرهبان وكذلك الزهد في المال والرئاسة جزء من حال الراهب الناقص الكافر فكيف يكون هذا هو مقصود العبادة والزهد الذي جاءت به الشريعة

وهؤلاء رأوا أن النفس لها قوتان قوة علمية وقوة عملية والقوة العلمية نوعان قوة الحب والبغض والشهوة من الحب والغضب من البغض فبالشهوة تجلب المنفعة والغضب لدفع المضرة وصلاح الجميع بالعدل فجعلوا الحكة العملية في هذه الأربع في العلم والعدل والعفة والشجاعة أو الحلم فالعفة اعتدال قوة الشهوة والحلم أو الشجاعة اعتدال قوة الغضب

وهذا الذي ذكره جزء من العمل الذي أمرت به الرسل وما ذكروه مع هذا أمر مجمل فإن العلم له أنواع كثيرة والشهوة

والغضب يحتاج معرفة صلاحهما والعدل فيهما إلى تفصيل لا يكفي فيه هذا الإجمال وكذلك العدل فلا ريب أنه لا بد في سلوك الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين من إصلاح حال هذه القوى

لكن ما ذكروه فيه قصور وتقصير من وجوه

أحدها أن ما ذكروه كأمر مجمل لا يبين الأنواع التي تستعمل بها الشهوة والغضب والأنواع التي لا تستعمل ولا يبين مقدار ما يستعمل من هذا وهذا ومقدار ما لا يستعمل فكان بمنزلة من علم أن أخلاط البدن تنقسم إلى حار وبارد وأنه ينبغي استعمال ما يوجب اعتدال الأخلاط وهذا كلام مجمل لا يفيد حفظ الصحة ولا إزالة المرض

الثاني أنه هب أنه حصل الإعتدال في الشهوة والغضب فهذا القدر لا يوجب السعادة ولو قدر أنه انضم إليه ما يسمونه علما ولا دليل لهم على أن السعادة تحصل بهذا والرسل متفقون على أن مجرد هذا لا يوجب السعادة

الثالث أن العلم الذي تحصل به السعادة لم يعرفوا لا نوعه ولا قدره

الرابع أن العلم الذي هو أصل السعادة ورأسها هو العلم بالله وهم أبعد الطوائف عنه فلا يعرف في المقالات المشهورة في العلم الإلهي مقالة أبعد عن الحق من مقالتهم فإن مقالة اليهود والنصارى في العلم الإلهي خير من مقالتهم ومقالات أهل البدع الداخلين في الملل حتى الجهمية والمعتزلة ونحوهم من الطوائف التي تذمها أئمة أهل الملل هي خير من مقالتهم وأعني بذلك مقالة أرسطو وأتباعه وأما ما نقل عن الأساطين قبله فقولهم أقرب إلى الحق من قوله

الخامس أن الصفة اللازمة للنفس الناطقة التي هي الحب والإرادة لم يتكلموا في كمالها ولا صلاحها فإن الشهوة والغضب متعلقان بالبدن إما لجلب منافعه وإما لدفع مضاره ولهذا يؤمر فيهما بالعدل بخلاف حب النفس لمعبودها وإلهها وبغضها لغيره وهذا هو حقيقة الحنيفية وهي حقيقة وقول لا إله إلا الله فهذا ليس لهم منه حظ أصلا ولهذا كان الشرك غالبا عليهم بل هم معطلون في العبادة شر من المشركين كما قال الله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين سورة غافر 60 وهؤلاء مستكبرون عن عبادة الله بل وعن جنس العبادة مطلقا وهم ممن يتناوله قوله تعالى إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه سورة غافر 56

وسبب ذلك أنهم لا يجعلون للنفس بعد مفارقتها حركة أصلا بل تبقى عقلا محضا عندهم والعقل في اصطلاحهم هو الروحاني العاقل الذي ليس فيه حركة أصلا ولا له إرادة وطلب ومحبة بل كل ما يمكن أن يكون له فهو له أزلا وأبدا

وهم يزعمون أن الأول الصادر عن واجب الوجود هو العقل الأول ثم عنه العقل الثاني هو إله الفلك التاسع ثم عنه عقل ثالث الذي هو إله الفلك الثامن ثم كذلك إلى أن ينتهي الأمر إلى العقل العاشر الذي هو إله فلك القمر وإله ما تحته وعنه يفيض ما تحت فلك القمر من العلوم والأخلاق وعنه يصدر عندهم ما يوحى إلى الأنبياء وغيرهم من العلوم والذين يريدون أن يجمعوا بين الكتب الإلهية وبين كلام هؤلاء المتفلسفة يزعمون أن ذاك هو جبريل الذي ذكرته الرسل ويقولون إنه ليس على الغيب بضنين على قراءة من قرأ بالضاد الساقطة أي هو فياض ليس ببخيل وتارة يجعلون جبريل هو ما يتشكل في نفس النبي من الصور الخيالية المناسبة للعلم الذي حصل له كما يحصل للنائم

ولهذا قال من سلك سبيلهم كابن عربي إن الولي أو خاتم الأولياء أفضل من الرسل والانبياء وإن الولاية أفضل من النبوة قالوا لأن الذي سموه خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فإن الرسول يأخذ عندهم عن الخيال الذي في نفسه وهو جبريل عندهم والخيال يأخذ عن المعقولات الصريحة والولي بزعمهم يأخذ عن تلك المعقولات ويزعمون أن الملائكة التي أخبرت بها الرسل هي هذه العقول العشرة أو الصور الخيالية التي تمثل في نفوس الناس

وأما النفوس الفلكية فلهم فيها قولان أحدهما أنها أعراض قائمة بالفلك كالقوة الشهوية والغضبية وهذا قول أكثر أتباع أرسطو

والثاني أنها جواهر قائمة بأنفسها كالنفس الناطقة وإليه يميل ابن سينا وغيره وهذا مبسوط في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن النفس الناطقة تتبقى عندهم بعد مفارقة البدن عقلا ليس فيها طلب وإرادة ومحبة لعلم أصلا وهذا هو الكمال عندهم ولهذا لما ذكر أبو البركات مذهبهم بين هذا كما قال الفصل الثاني في ذكر رأي أرسطو وشيعته في بدء الخلق قال من يعتبر كلامه أن الله الذي بدأ منه الخلق واحد من كل وجه لا كثرة فيه بوجه والواحد لا يصدر عنه إلا واحد فأول خلق من الموجودات موجود واحد هو أقرب الموجودات إليه وأشبهها به قال وأسميه عقلا ويكون معنى العقل عنده معروفا من معنى النفس الإنسانية من جهة كونه جوهرا روحانيا لا جسمانيا كالنفس لكن للنفس علاقة بالبدن كنفس الإنسان الشخصية ونفس الفلك ونفس الكوكب المحركة له على أنها تباشر التحريك والعقل بريء من الأجسام وعلائقها وتكون النفس كالقوة من جهة تحريك الأجسام وتبديل حالاتها فتشعر بمتجدداتها في الأين والكيف وغير ذلك مما يتجدد للمتحركات بالحركات والعقل بالفعل فيما يعرفه ويعلمه لا يتجدد له علم ومعرفة بشيء لم يكن يعرفه ويعلمه فهذا بالفعل أبدا فيما يعقله على حال واحدة والنفس على حالات مختلفة من جهة ما تعرفه وتبتديه من الأجسام وفيها بحركاتها وتحريكاتها لها فالنفس عقل بالقوة والعقل عقل بالفعل والعقل يعقل جيمع المعقولات والنفس تعقل بعضها فإن تجردت النفس عن الأجسام وانقطعت علاقتها بها وكانت مما تعقل وممن تعقل صارت عقلا بالفعل أيضا وتكون مرتبتها بحسب نوعها في الموجودات وكسبها من المعلومات قالوا فأول العقول هو هذا الذي وجد عن العلة الأولى وكان أول ما سموا عقلا سموه من جهة النفس الإنسانية حيث قالوا إنها عقل بالقوة وتصير بالفعل وما بالقوة لا يخرج نفسه إلى الفعل وإنما يخرجه إلى الفعل شيء هو بالفعل كالنار بالفعل تجعل النفط الذي هو نار بالقوة نارا بالفعل ولا يشعل النفط نفسه فيجعل نفسه نارا بالفعل فهذا الشيء الذي هو عقل بالفعل الذي يجعل نفس الإنسان عقلا بالفعل يسمونه العقل الفعال ويقولون إنه لنفوسنا كالأستاذ والمعلم

والمبدأ الذي عنه توجد فهو مبدؤها القريب في الوجود ومعادها الأدنى من الكمال قالوا ولكل فلك نفس محركة ولكل نفس عقل مفارق تقتدي به فيما تفعله وتعقله حتى تنتهي إلى الفلك الأول فتكون نفسه أول النفوس وعقله أول العقول وهو أول موجود وجد عن المبدأ الأول ويقولون عن المبدأ الأول إنه عقل أيضا لكنه أعلى العقول مرتبة وهو بالفعل أبدا وكل عقل غيره يقتدي بغيره وقدوته هو مبدؤه القريب وهو تعالى قدوة كل مقتد ومبدأ كل مبدأ فهو المبدأ الأول والإله الأقصى ولا يتحاشون من تسميته عقلا وهذا العقل الذي يقولونه الآن منقول بالعربية من لفظة قيلت في لغة يونان وليس موقعها في تلك اللغة موقع هذه في العربية من جهة الوضع الأول على ما قلنا في علم النفس فإن في اللغة العربية يراد بالعقل الشيء الذي يمنع الخواطر والشهوات من الناس ويمنعها عن أن تمضي العزائم بحسبها فإن الإنسان يؤثر أشياء بخواطره الأولى التي تقتضي شهوته وغضبه ويرده عنها فكره ورأيه ونظره في عواقب أمره فهذا الناظر المفكر الراد عن الخواطر الأولى هو الذي يسمونه عقلا من حيث يصد الإنسان عما هم به كما يصد الناقة عقالها عن الحركة إلى حيث تشاء فهو الذي يسمونه عقلا والعلم بهذا إنما يصح بدليل من جهة النظر حيث يقولون إنه إنما رد الخواطر بفكر صدر عن علم فهو عقل من جهة العمل لا من جهة العلم وهذا الذي يسميه اليونان هو من جهة العلم لا من جهة العمل ويصير مبدءا للعمل إلى أن قال وليس للعقل في عرفهم المعنى الإضافي وله في العربية ذلك فإن العقل عقل لشيء ومعنى العقل المقول في لغتهم لا يراد به الإضافة إلى شيء وإن كانوا يعرفونه بشيء ومن شيء ويسمونه باسم يخصه من ذاته لا من جهة إضافاته وإن أضيف فإلى فعله الخاص به كالعلم والعالم والعاقل والعالم والعقل والعلم عندهم أسماء مترادفة ويقولون أيضا إن فعل العقل الذي هو بالفعل هو ذاته فالعقل والعاقل عندهم واحد

قلت العقل في لغة العرب بتناول العلم والعمل بالعلم جميعا ومن أهل الكلام من يجعله اسما لنوع من العلم فقط فيقول هو نوع من العلوم الضرورية ومن الناس من يريد به العمل بالعلم فقط كما ذكره أبو البركات

وقد يراد بالعقل القوة التي في الإنسان وهي الغريزة التي بها يحصل له ذلك العلم والعمل به ولهذا كان في كلام السلف كأحمد والحارث المحاسبي وغيرهما اسم العقل يتناول هذه الغريزة ومن انكر الغرائز والطبائع والقوى التي في الأعيان وقال إن القادر المختار يحدث جميع الحوادث بمجرد المشيئة التي ترجح أحد المتماثلين على الآخر لا بمرجح كما يقوله أبو الحسن الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الحسن بن الزاغوني وأبي بكر بن عربي وغيرهم فإن هؤلاء لا يجعلون اسم العقل إلا لنوع من العلوم الضرورية إذ ليس عندهم طبيعة تكون بها العلوم والإرادات وليس عندهم في الموجودات أسباب تحصل بها الحوادث ولا يترجح حادث على حادث لمعنى فيه بل يقولون إن القادر المختار يفعل عند هذه الأمور لا بها بمجرد عادة فما يقول الإنسان إنه سبب ومسبب يقولون الخالق المختار قرن أحدهما بالآخر عادة لا لأن في أحدهما قوة اقتضى بها الآخر ولهذا من أثبت القياس من هؤلاء يقول إن علل الشرع مجرد أمارات وإنه إن حصل فيها مناسبة كما يحصل في المخلوقات رحمة فذلك مجرد عادة اقتران لا لأن الخالق خلق هذا بهذا ولا لأجل هذا إذ لا سبب عندهم ولا حكمة يفعل الخالق لأجلها وليس عندهم في القرآن في أفعال الله وأحكامه لام تعليل بل لام عاقبة وهذه مسألة كبيرة قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أن اسم العقل في اصطلاح جميع المسلمين بل وجميع أهل الملل وعامة بني آدم يراد به ما هو قائم بغيره سواء كان علما أو قوة أو عملا بعلم أو نحو ذلك لا يراد به ما هو جوهر قائم بنفسه إلا في اصطلاح هؤلاء الفلاسفة والنفس الكاملة بعد المفارقة تصير عقلا عندهم

ثم إن أتباع أرسطو يقولون إن العقل لا يتجدد له علم أصلا ويقولون إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد ويقولون إن واجب الوجود واحد بمعنى أنه ليس له صفة أصلا إلى غير ذلك من الأقوال التي يخالفهم فيها غيرهم من الفلاسفة ويقول جمهور العقلاء إنها أقوال معلومة الفساد بصريح المعقول

وأبو البركات وغيره من الفلاسفة ممن يخالفهم في ذلك ويبين فساد قولهم فيه ولهذا لما حكى أبو البركات قولهم قال هذا هو الذي نقل عن شيعة أرسطو وما خالفهم فيه مخالف ولا اعترض فيه معترض وهو بالأخبار النقلية أشبه منه بالأنظار العقلية فلنأخذ في تتبعه

قلت قوله لم يخالفهم فيه مخالف إنما قاله بحسب علمه واطلاعه أو أراد من الفلاسفة المشهورين المصنفين على طريقة أرسطو في المنطق الطبيعي والإلهي كبرقلس والأسكندر الأفرديوسي وثامسطيوس والفارابي وابن سينا وإلا فالمنقول في كتب المقالات عن الفلاسفة المتقدمين من مخالفة هذا المذهب موجود في كتب متعددة لكن أولئك ليس لهم كتب مصنفة على هذه الطريقة بل مذهب أرسطو يشبه مذهب أئمة الفقهاء في الفقه كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وإن خالفهم في كثير منها أئمة كبار مثل الأوزاعي والليث بن سعد والثوري وإسحاق بن راهويه فقد يقول القائل إنه لم يخالف أولئك مخالف أي في الكتب المعروفة المصنفة على مذاهبهم وكتب المقالات تنطق بأن أرسطو هو الذي اشتهر عنه القول بقدم العالم وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكن هذا قولهم وهذا يحكيه المعظمون لأرسطو وغير المعظمين له مع أن كلام الرجل في الإلهيات قليل جدا وفيه خطأ كثير وإنما علم الرجل الواسع هو الطبيعيات ففيها يتبجح

والمقصود أن هؤلاء القوم جعلوا النفس بعد فراقها ليس لها علم ولا حركة ولا ازدياد من علم ولا محبة لشيء يطلب حصوله وإنما تلتذ لذة دائمة متماثلة بما حصل لها من العلم كما يقولونه في المبدأ الأول وفي العقول

وظنوا أن هذا هو الكمال وكان ضلالهم في ذلك من أعظم الضلال من جهة أن الكمال ليس إلا في مجرد العلم ومن جهة أنهم لم يثبتوا لها مزيد علم ومن جهة أن ما أثبتوه من العلم لا يكفي في السعادة ومن جهة أن فيه من الجهل ما يناقض العلم فكثير من كلامهم في الإلهيات بل أكثره جهل لا علم

ولكن المقصود في هذا الوجه أنهم لم يثبتوا للنفس بعد المفارقة كمالا من جهة الحب والإرادة بل من نفس العلم فقط ثم إنهم غلطوا من وجه آخر وهم أنهم جعلوا اللذة هي مجرد العلم

ونحن نبين هذا فنقول الوجه السادس أن يقال السعادة وهي اللذة والبهجة والسرور الذي يحصل للنفس بما تعلمه من المعارف ليس هو نفس العلم بل هو أمر يحصل بشرط العلم فالعلم شرط فيه ليس موجبا له فضلا عن أن يكون هو إياه وهؤلاء غلطوا من وجهين من ظنهم أن مجرد العلم موجب لذلك والثاني أنهم جعلوا اللذة نفس الإدراك والعلم فقالوا اللذة هي إدراك الملائم من جهة كونه ملائما وهذا غلط فإن اللذة ليست هي نفس الإدراك ولكن هي حاصلة عقب الإدراك فإن الإنسان يشتهي الطعام مثلا فيذوقه فيلتذ بذلك فاللذة ليست هي الذوق ولكن هي حاصلة بالذوق

وكذلك الأنواع التي يسمونها إدراكا كالسمع والبصر والعلم واللمس ليست هي اللذة بل هي سبب اللذة فإن سمع الصوت الحسن سبب للذة به وكذلك رؤية الشيء الحسن سببب للذة به والعلم بالشيء الملائم سبب للذة به فاللذة لا تحصل إن لم تكن بين الملتذ والملتذ به ملائمة وهي المحبة فإن لم يكن العالم والمدرك محبا لمعلومه ومدركه أو لما يحصل به لم يلتذ بسبب العلم والإدراك ولهذا قد يدرك الإنسان ما يؤذيه ويعلم ما يؤذيه كما يدرك ويعلم ما يلتذ به فتبين أن العلم والإدراك ليس هو اللذة ولا موجبا لها بل هو شرط فيها وسبب لها بمعنى أنه إذا حصل الحب للمعلوم والمدرك وحصل إدراكه ومعرفته حصلت اللذة به وإلا فلا

وهؤلاء يقولون إنه إدراك مخصوص وهو إدراك الملائم فيكون الإدراك على قولهم جنسا تحته نوعان أحدهما اللذة وإذا كان أحدهما اللذة فينبغي أن يكون الألم إدراك المنافي فيكون أحد نوعيه اللذة والآخر الألم ويكون نفس العلم والسمع والبصر والذوق تارة ألما وتارة لذة وفساد هذا معلوم بالضرورة

وينبغي أن يكون قول القائل علمت هذا ورأيته وسمعته إذا كان ملائما له بمنزلة قوله تنعمت به وفرحت به وسررت به وابتهجت به وبمنزلة قوله تأذيت به وتألمت به ونحو ذلك ومعلوم فساد هذا وهذا وهذا ونفيهم فيه نفي الصفات المتعددة كما جعلوا نفس العاقل العالم هو نفس عقله وعلمه ونفس عقله وعلمه هو نفس إرادته ونفس إرادته هو نفس قدرته وكل هذا يعلم فساده بصريح العقل

والله تعالى فطر العباد على الإقرار به ومحبته وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء أخرجاه في الصحيحين

وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ قال يقول الله تبارك وتعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم سورة الروم 30 وهذه ملة إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا

وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء 125 وقوله أسلم وجهه أي أخلص قصده وعمله لله وهو محسن في عمله فيكون الله هو معبوده بالعمل الصالح ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة الملك 2 قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

وأول من أنكر حقيقة محبة الله لعبده والعبد لربه في الإسلام هو الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبدالله القسري بواسط وقال يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه

وكان الجعد هذا أول من ظهر عنه التعطيل بإنكار صفات الله تعالى وبإنكار محبته وتكليمه كما يقول هؤلاء المتفلسفة والجهمية والباطنية ونحوهم من المعطلة والجهمية والمعتزلة ومن اتبعهم فينكرون أن يكون الله يحب أو يحب حقيقة وينكرون التمتع برؤيته وينكرون أن يكون هو سبحانه موصوفا بالفرح ونحوه لزعمهم أن هذا من نوع اللذة والبهجة والله لا يوصف بذلك عندهم

وأما هؤلاء الفلاسفة فيقولون إنه يوصف بذلك لكن يتناقضون فيزعمون أن اللذيذ والملتذ واللذة شيء واحد بالعين فيجعلون الصفة هي الموصوف ويجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويقولون إن نفس العلم هو نفس اللذة وهو نفس العالم وهو الملتذ وهذا مما يعلم بطلانه بصريح المعقول

والذين سلكوا مسلك المتفلسفة من أهل التصوف والكلام وأثبتوا لذة المعرفة بالله ولذة النظر إليه في الآخرة جعلوا ذلك هو نفس العلم بوجوده او نحو ذلك كما يذكر ذلك أبو حامد الغزالي ومن حذا حذوه وقد سلك هذا المسلك أبو نصر الفارابي وغيره من الفلاسفة فأقروا بما أخبر به الرسول من رؤية الله في الآخرة وفسروا الرؤية بهذا المعنى الذي أثبتوه على أصولهم الفاسدة

وهؤلاء الذين خلطوا الفلسفة بالكلام وإن كانوا أقرب إلى الحق المعقول والمنقول منهم فلم يثبتوا لله كل ما يستحقه من الأسماء والصفات كما نطق بذلك الكتاب والسنة ولا أثبتوا كل ما جاءت به الرسل من محبته وعبادته ولذة النظر إليه كما أثبت ذلك سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث

كما ثبت في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إذا دخل أهل الجنة منازلهم نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب من النظر إليه وهو الزيادة

وفي السنن عن النبي ﷺ من حديث عمار بن ياسر وغيره أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك


الصفدية لابن تيمية
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16