والمقصود هنا التنبيه على أصل أقوال هؤلاء أهل الوحدة الذين يدعون التحقيق وأنهم تعدوا مراتب الأمم كلهم حتى الأنبياء وغيرهم كابن عربي وابن سبعين وأمثالهما وكان ابن سبعين أحذق بالفلسفة وابن عربي أحذق بالتصوف وأظهر انتسابا إلى الإسلام ولهذا كان منتهى ابن عربي دعواه أنه كان خاتم الأولياء وأن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن الأنبياء يستفيدون منه العلم بالله فراعى كون النبي ﷺ خاتم النبيين في الصورة وإن كان في الحقيقة قد ادعى ما هو أعظم من مرتبة خاتم النبيين
وأما ابن سبعين فعلم أن هذه منافقة ظاهرة الفساد لا تخفى إلا على أجهل الناس فكان يقول لقد زرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان يطمع أن يصير نبيا وذكروا أنه جدد غار حراء لينزل عليه فيه الوحي كما يجيء بعض الناس يجدد بعض معابد المشايخ ليفتح عليه كما فتح عليه
وكل من هذين في كثير من كلامه يعظم النبي ﷺ تعظيما بليغا لكن قد تكون أحوالهم مختلفة وقد يكون ذلك نفاقا وقد يكونون معظميه على ما سواه ومعظمي أنفسهم عليه كما كان ابن هود لما سلك هذه السبيل وأراد أن يظهر بأمر أعظم مما ظهرت به الأنبياء فكان يتكلم على الأنبياء الثلاثةأصحاب الملل الذين هم موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم ثم جعل الرابع المنتظر أعظم من هؤلاء الثلاثة ويرجو أن يكون هو ذلك الرابع أو يصرح بذلك ويقول على طريقة الفلاسفة موسى في الجسم وعيسى في النفس ومحمد في العقل أو يقول سبحان الله لموسى والحمد لله لعيسى ولاإله إلا الله لمحمد والله أكبر لهذا الرابع المنتظر ويقول موسى له علم اليقين وعيسى له عين اليقين ومحمد له حق اليقين وهذا الرابع له حقيقة حق اليقين والرابع هو صاحب الوجود الواجب وهو الإحاطة عندهم
ولهذا أمر ابن سبعين أن ينقش على قبره صاحب نقش فص خاتم الإحاطة والإحاطة عندهم هي الوجود المطلق المجرد الذي لا يتقيد بقيد وهو الكلي الذي لا يتقيد بإيجاب ولا إمكان ثم بعده الوجود الذي يصدق على الواجب والممكن أو الذي لا يصدق على واحد منهما فإن المطلق لا بشرط يصدق عليهما والمطلق بشرط الإطلاق لا يصدق على واحد منهما
وكان قد اجتمع بي حذاق هؤلاء لما أظهروا محنة أهل السنة لينصروا طريقهم واستعانوا في الظاهر بمن يوافقهم على نفي الصفات إما نفي علو الله على خلقه وصفاته الخبرية أو نفي الصفات مطلقا ونفي الأفعال والكلام ونحو ذلك من مذاهب الجهمية فإنهم إنما يتظاهرون بقول معتزلة الأشعرية النافين للصفات الخبرية ولغيرها وبقول متفلسفة الأشعرية نفاة الصفات مطلقا كما أن الباطنية القرامطة إنما يتظاهرون بالتشيع
ولهذا كان ابن سبعين يقول للشيخ الجليل تقي الدين الحوراني الذي كان بمكة مجاورا وكان من أهل العلم والدين وكان يناقض ابن سبعين ويرد عليه قال له إنما أنت تبغضني لأني أشعري فقال لو كنت أشعريا لقبلتك أو كما قال وهل أنت مسلم وهذا كما يقول القرمطي لأهل السنة إنما تبغضوني لأني من الشيعة فيقال له لو كنت من الشيعة لأكرمناك وهل أنت مسلم فإن ما في أقوال الشيعة من الأقوال المخالفة للسنة هي الباب الذي دخل منه القرامطة الباطنية وما في أقوال المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية من الأقوال التي تخالف السنة هي الباب الذي دخل منه هؤلاء الملاحدة الجهمية وكلام الملاحدة من الشيعة وأهل الكلام مقرون بكلام ملاحدة المتفلسفة ولهذا كان عبدالرحمن بن مهدي يقول هما صنفان احذروهما الرافضة والجهمية
ولهذا انتصر هؤلاء بمن وافقهم على نفي علو الله على خلقه ونفي الصفات الخبرية وغير ذلك مما يخالف الكتاب والسنة مما دخل فيه من دخل من أهل الكلام الأشعرية وغيرهم كما ينتصر أولئك الملاحدة بالشيعة وكان مما سلط هؤلاء جميعا على النفي قصور المنتسبين إلى السنة وتقصيرهم تارة بأن لا يعرفوا معاني نصوص الكتاب والسنة وتارة بأن لا يعرفوا النصوص الصحيحة من غيرها وتارة لا يردون ما يناقضها ويعارضها مما يسميه المعارضون لها العقليات
ومعلوم أن العلم إنما يتم بصحة مقدماته والجواب عن معارضاته ليحصل وجود المقتضي وزوال المانع
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله معرفة الحديث والفقه فيه أحب إلي من حفظه وكثير من المنتسبين إلى السنة المصنفين فيها لا يعرفون الحديث ولا يفقهون معناه بل تجد الرجل الكبير منهم يصنف كتابا في أخبار الصفات أو في إبطال تأويل أخبار الصفات ويذكر فيه الأحاديث الموضوعة مقرونة بالأحاديث الصحيحة المتلقاه بالقبول ويجعل القول في الجميع واحدا وقد رأيت غير واحد من المصنفين في السنة على مذهب أهل الحديث من أصحاب مالك وأحمد والشافعي وغيرهم من الصوفية وأهل الحديث وأهل الكلام منهم يحتجون في أصول الدين بأحاديث لا يجوز أن يعتمد عليها في فضائل الأعمال فضلا عن مسألة فقه فضلا عن أصول الدين والأئمة كانوا يروون ما في الباب من الأحاديث التي لم يعلم أنها كذب من المرفوع والمسند والموقوف وآثار الصحابة والتابعين لأن ذلك يقوي بعضه بعضا كما تذكر المسألة من أصول الدين ويذكر فيها مذاهب الأئمة والسلف
فثم أمور تذكر للاعتماد وأمور تذكر للاعتضاد وأمور تذكر لأنها لم يعلم أنها من نوع الفساد ثم بعد المعرفة بالنصوص لا بد من فهم معناها
وكثير من المنتسبين إلى السنة وغيرهم ظنوا أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو معنى الكلام الذي أنزل القرآن لبيانه فصاروا يجعلون كثيرا من القرآن كلاما خوطب به الناس وأنزل إليهم وأمروا بتلاوته وتدبره وهو كلام لا يفهم معناه ولا سبيل إلى معرفة مراد المتكلم به
وقد يحكى عن بعضهم أنه سمع كلام لا معنى له في نفس الأمر كما حكى الرازي في محصوله عمن سماهم بحشوية أنهم قالوا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا لكن هذا القول لا أعرف به قائلا بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين
ولهذا كنا مرة في مجلس فجرت هذه المسألة فقلت هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين وإن كان أحد ذكره فليس فيما ذكره حجة على إبطاله فقال بعض الذابين عنه هذا قالته الكرامية فقلت هذا لم يقله لا كرامي ولا غير كرامي ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم وبتقدير أن يكون قولا فإنما احتج على فساده بأن هذا عبث والعبث على الله محال وهذه الحجة فاسدة على أصله لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة هل يجوز أن ينزل حروفا لا معنى لها والحروف عنده من المخلوقات وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء لأن فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا وإنما النزاع المشهور هل يجوز أن ينزل الله تعالى ما لا يفهم معناه والرازي ممن يجوز هذا في أحد قوليه ووافق من قال أن التأويل لا يعلمه إلا الله مع قولهم أن التأويل هو المعنى
وأصل الخطأ في هذا أن لفظ التأويل مجمل يراد به ما يؤول إليه الكلام فتأويل الخبر نفس المخبر عنه وتأويل أسماء الله وصفاته نفسه المقدسة بمالها من صفات الكمال ويراد بالتفسير التأويل وهو بيان المعنى المراد وإن لم نعلم كيفيته وكنهه كما أنا نعلم أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وعسلا وذهبا وحريرا وغير ذلك وإن كنا لا نعرف كيفية ذلك ويعلم أن كيفيته مخالفة لكيفية الموجود في الدنيا
ويراد بلفظ التأويل صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح وهذا لا يوجد الخطاب به إلا في اصطلاح المتأخرين وأما خطاب الصحابة والتابعين فإنما يوجد فيه الأولان ولهذا قال أكثرهم أن الوقف على قوله وما يعلم تأويله إلا الله سورة آل عمران 7 بناء على أن التأويل هو ما استأثر الله بعلمه وهو الكيف الذي لا نعلمه نحن كما قال الإمام مالك الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة
وكذلك سائر الأئمة قولهم مثل قول مالك ينفون علم الخلق بالكيف وعلمهم بالحكمة فلا يقولون في صفاته كيف ولا في أفعاله لم لأنهم لا يعلمون كيفية صفاته ولا لمية أفعاله وكثير من المتأخرين نفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر لم ينفوا علم المخلوق به فالأولون يقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ويقولون منع الخلق أن يتفكروا في ماهية ذاته كما يقول مثل ذلك أبو محمد بن أبي زيد والشريف أبو علي بن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهم
وكلام السلف كله موافق لقول هؤلاء كما في كلام عبدالعزيز بن الماجشون نظير مالك بالمدينة قال أما بعد فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتباعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاتت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره إلى أن قال فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو فكيف يعرف
والذين نازعوهم من المتأخرين قالوا لا ماهية فتجري في مقال ولا كيفية له فتخطر ببال والنزاع موجود في أصحاب الأئمة الأربعة
والمقصود هنا أن السلف كان أكثرهم يقفون عند قوله وما يعلم تأويله إلا الله بناء على أن التأويل الذي هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها لا يعلمها إلا هو وطائفة منهم كمجاهد وابن قتيبة وغيرهما قالوا بل الراسخون يعلمون التأويل ومرادهم بالتأويل المعنى الثاني وهو التفسير فليس بين القولين تناقض في المعنى
وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال أنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هوالتفسير لكونه تفسيرا للكلام وبيانا لمراد المتكلم به أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجا في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر
وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده وقد ينكرون من التأويل الذي هو التفسير ما لا يعلم صحته فننكر الشيء للعلم بأنه باطل أو لعدم العلم بأنه حق ولا ينكرون ترجمة الكلام لمن لا يحسن اللغة وربما أنكروا من ذلك ما لا يفهمه المستمع أو ما تضره معرفته كما ينكرون تحديث الناس بما تعجز عقولهم عن معرفته أو بما تضرهم معرفته كما قال علي عليه السلام حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقال عبدالله بن مسعود ما من رجل يحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم
وهذا قد تحمله الباطنية على مذهب النفاة المعطلة التي بينا فسادها والأمر على نقيض ذلك فإن قوله أتحبون أن يكذب الله ورسوله دليل على أن ذلك قد قاله رسول الله ﷺ لم يسكت عنه
وهذا نظير الحديث المأثور إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا أهل العلم بالله فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله فإن هذا الحديث وإن لم يكن ثابتا فقد ذكره شيخ الإسلام وكما ذكره أبو حامد الغزالي وقال يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري المذكور وغيرهما أن هذا مثل أحاديث الصفات التي يضيق عنها من لم يسعها عقله وهؤلاء يردون على من حمل هذه الآثار على أقوال الباطنية كما يوجد شيء من ذلك في كلام أبي حامد وغيره فإنه من المعلوم بالاضطرار لمن عرف نصوص الرسول أنه جاء بالإثبات لا بالنفي وأن الرسل جاءوا بإثبات الصفات لله على وجه التفصيل مع التنزيه العام عن التعطيل والتمثيل
وإنما جماع الشر تفريط في حق أو تعدي إلى باطل وهو تقصير في السنة أو دخول في البدعة كترك بعض المأمور وفعل بعض المحظور أو تكذيب بحق وتصديق بباطل
ولهذا عامة ما يؤتى الناس من هذين الوجهين فالمنتسبون إلى أهل الحديث والسنة والجماعة يحصل من بعضهم كما ذكرت تفريط في معرفة النصوص أو فهم معناها أو القيام بما تستحقه من الحجة ودفع معارضها فهذا عجز وتفريط في الحق وقد يحصل منهم دخول في باطل إما في بدعة ابتدعها أهل البدع وافقوهم عليها واحتاجوا إلى إثبات لوزامها وإما في بدعة ابتدعوها هم لظنهم أنها من تمام السنة كما أصاب الناس في مسألة كلام الله وغير ذلك من صفاته
ومن ذلك أن أحدهم يحتج بكل ما يجده من الأدلة السمعية وإن كان ضعيف المتن والدلالة ويدع ما هو أقوى وأبين من الأدلة العقلية إما لعدم علمه بها وإما لنفوره عنها وإما لغير ذلك وفي مقابلة هؤلاء من المنتسبين إلى الإثبات بل إلى السنة والجماعة أيضا من لا يعتمد في صفات الله على أخبار الله ورسوله بل قد عدل عن هذه الطريق وعزل الله ورسوله عن هذه الولاية فلا يعتمد في هذا الباب إلا على ما ظنه من المعقولات ثم هؤلاء مضطربون في معقولاتهم أكثر من اضطراب أولئك في المنقولات تجد هؤلاء يقولون أنا نعلم بالضرورة أمرا والآخرون يقولون نعلم بالنظر أو بالضرورة ما يناقضه وهؤلاء يقولون العقل الصريح لا يدل إلا على ما قلناه والآخرون يناقضوهم في ذلك
ثم من جمع منهم بين هذه الحجج أداه الأمر إلى تكافؤ الأدلة فيبقى في الحيرة والوقف أو إلى التناقض وهو أن يقول هنا قولا ويقول هنا قولا يناقضه كما تجد من حال كثير من هؤلاء المتكلمين والمتفلسفة بل تجد أحدهم يجمع بين النقيضين أو بين رفع النقيضين والنقيضان اللذان هما الإثبات والنفي لا يجتمعان ولا يرتفعان بل هذا يفيد صاحبه الشك والوقف فيتردد بين الإعتقادين المتناقضين الإثبات والنفي كما يتردد بين الإرادتين المتناقضتين
وهذا هو حال حذاق هؤلاء كأبي المعالي وأبي حامد والشهرستاني والرازي والآمدي وأما ابن سينا وأمثاله فأعظم تناقضا واضطرابا والمعتزلة بين هؤلاء وهؤلاء في التناقض والاضطراب وسبب ذلك جعل ما ليس بمعقول معقولا لاشتباه الأمر ودقة المسائل وإلا فالمعقولات الصريحة لا تتناقض والمنقولات الصحيحة عن المعصوم لا تتناقض
وقد اعتبرت هذا في عامة ما خاض الناس فيه من هذه الأمور دقيقها وجليلها فوجدت الأمر كذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد يشكل الشيء ويشتبه أمره في الإبتداء فإذا حصل الإستعانة بالله واستهداؤه ودعاؤه والإفتقار إليه أو سلوك الطريق الذي أمر بسلوكها هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
ولم يكن في سلف الأمة وأئمتها من يرد أدلةالكتاب ولاالسنة على شيء من مسائل الصفات ولا غيرها بل ينكرون على أهل الكلام الذين يعدلون عما دل عليه الكتاب والسنة إلى ما يناقض ذلك ولا كانوا ينكرون المعقولات الصحيحة أصلا ولا يدفعونها بل يحتجون بالمعقولات الصريحة كما أرشد إليها القرآن ودل عليها فعامة المطالب الإلهية قد دل القرآن عليها بالأدلة العقلية والبراهين اليقينية كما قد بسط الكلام فيه في غير هذا الموضع
ولكن طائفة من أهل الكلام والفلسفة ظنوا أن دلائل القرآن إنما هي مجرد أخباره فيتوقف على العلم بصدق المخبر وهذا من بعض ما فيه من الأدلة ولكن فيه الإرشاد والبيان للأدلة التي يعلم بالعقل دلالتها على المطلوب فهي أدلة شرعية عقلية وغالب ما في القرآن من هذا الباب ولكن هذا ليس موضع بسط ذلك ولكن المقصود هنا التنبيه على حال هؤلاء أهل الإحاطة القائلين بالوجود المطلق
ولما اجتمع بي بعض حذاقهم وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق ولا يفهمه إلا خواصهم وذكر أن الإحاطة هو الوجود المطلق قلت له فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقا بل لا يوجد إلا معينا فلا يكون الوجود المطلق موجودا في الخارج فبهت ثم أخذ يفتش لعله يظفر بجواب فقال نستثني الوجود المطلق من الكليات فقلت له غلبت وضحكت لظهور فساد كلامه وذلك أن القانون المذكور لو فرق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم ولأن ما في القانون صحيح في نفسه وإن لم يقولوه وهو يعم كل مطلق فإنا نعلم بالضرورة أن الخارج لا يكون فيه مطلق كلي أصلا أما المطلق بشرط الإطلاق مثل الإنسان المسلوب عنه جميع القيود الذي ليس هو واحدا ولا كثيرا ولا موجودا ولا معدوما ولا كليا ولا جزئيا فهذا لا يكون في الخارج إلا إنسان موجود ولا بد أن يكون واحدا أو متعددا ولا بد أن يكون معينا جزئيا
وإذا قيل أن هذا في الذهن فالمراد به أن الذهن يقدره ويفرضه وإلا فكونه في الذهن تقييد فيه لكن الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يمكن ثبوتها في الخارج والمطلق من هذه الممتنعات سواء كان إنسانا أو حيوانا أو وجودا أو غير ذلك بل الوجود المطلق بشرط الإطلاق أشد امتناعا في الخارج فإنه يمتنع أن يكون وجودا لا قائما بنفسه ولا بغيره ولا قديما ولا محدثا ولا جوهرا ولا عرضا ولا واجبا ولا ممكنا ومعلوم أن هذا لا يتصور وجوده في الخارج
وابن سينا وأتباعه لما ادعوا أن واجب الوجود هو المطلق بشرط الإطلاق لم يمكنهم أن يجعلوه مطلقا عن الأمور السلبية والإضافية بل قالوا وجود مقيد بسلوب وإضافات لكنه ليس مقيدا بقيود ثبوتية وقد يعبر عن قولهم بأنه الوجود المقيد بكونه غير عارض لشيء من الماهيات وهذا تعبير الرازي وغيره عنه لكن هذا التعبير مبني على أن وجود غيره عارض لماهيته وهو مبني على أن ماهية الشيء في الخارج ثابتة بدون الشيء الموجود في الخارج وهذا أصل باطل لهم فإذا عبر عنه بهذه العبارة لم يفهم كل أحد معناه وأما إذا عبر عنه بالعبارة التي يعلمون هم أنها تدل على مذهبهم بلا نزاع انكشف مذهبهم
وإذا قالوا هو الوجود المقيد بقيود سلبية كان في هذا أنواع من الضلال منها أنهم لم يجعلوه مطلقا فإن كونه مقيدا بقيد سلبي أو إضافي نوع تقييد فيه وهذا القيد لم يجعله أحق بالوجود بل جعله أحق بالعدم ومعلوم أن الوجود الواجب أحق بالوجود من الوجود الممكن فكيف يكون أحق بالعدم من الممكن
وذلك أنهم يقسمون الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالأول هو المطلق لا بشرط أصلا كما إذا اخذ الإنسان مجردا والجسم مجردا ولم يقيد بقيد ثبوتي ولا سلبي فلا يقال واحد ولا كثير ولا موجود ولا معدوم ولا غير ذلك من القيود والثاني وصف هذا بكونه عاما كليا ونحو ذلك فهذا هو المنطقي والثالث مجموع الأمرين وهو ذلك الكلي مع اتصافه بكونه عاما كليا فهذا هو العقلي وهذان لا يوجدان إلا في الذهن باتفاقهم إلا على رأي من يقول بالمثل الأفلاطونية وأما الأول فيقولون أنه يوجد في الخارج ولكن التحقيق أنه لا يوجد كليا ولا يوجد إلا معينا والتعيين لا ينافيه فإنه يصدق على المعين وعلى غير المعين وعلى الذهني والخارجي فهو يفيد وجوده في الخارج جزئيا
وإنما يفيد كونه كليا فإنما يتصوره الذهن ويقدره وهو كلي لشموله جزئياته وعمومه لها كما يقال في اللفظ أنه عام لعمومه لأفراده وإلا فهو في نفسه شيء معين قائم بمحل معين فهو جزئي باعتبار ذاته كما أن اللفظ العام الكلي هو باعتبار نفسه ومحله لفظ خاص معين وبهذا التفريق يزول ما يعرض من الشبهة في هذا المكان للرازي وأمثاله
والمقصود هنا أن المطلق بشرط الإطلاق عن القيود الثبوتية والعدمية لا وجود له إلا في الذهن والمجوزون للمثل الأفلاطونية مع أن قولهم فاسد فإنهم لا يقولون أن الماهيات الكليات مجردة عن كل قيد بل يقولون هي موجودة لا معدومة ولكنها مجردة عن الأعيان المحسوسة وقول هؤلاء معلوم الفساد عند جماهير العقلاء فكيف بإثبات أمر مطلق مجرد عن كل قيد سلبي وثبوتي ثم من المعلوم أن المقيد بالقيود السلبية دون الثبوتية أولى بالعدم عن المقيد بسلب النقيضين فإن المقيد بسلب النقيضين ليس امتناع العدم أحق به من امتناع الوجود بل هو ممتنع الوجود كما هو ممتنع العدم فلا يقال هو موجود ولا يقال هو معدوم
وأما المقيد بالقيود السلبية فالعدم أحق به من الوجود فإنه معدوم ليس بموجود وهو يفيد كونه معدوما ممتنع الوجود ليس ممتنع العدم بل هو واجب العدم ممتنع الوجود ومعلوم أن هذا أعظم مناقضة للوجود فضلا عن الوجود الواجب مما هو يقال فيه انه ممتنع الوجود وممتنع العدم فإن هذا يناقض الوجود كما يناقض العدم وذاك يناقض العدم دون الوجود وما ناقض الشيء دون نقيضه فهو أعظم مناقضة مما ناقضه وناقض نقيضه فعدوك وعدو عدوك أقل مضارة لك من عدوك الذي ليس بعدو عدوك فإن هذا يضر من كل وجه وذاك يضر من وجه وينفع من وجه
ولهذا كان قول من لم يصف الرب إلا بالصفات السلبية أعظم مناقضة لوجوده ممن لم يصفه لا بالسلبيات ولا بالثبوتيات فقول هؤلاء المتفلسفة كابن سينا وأمثاله الذين يجعلونه مقيدا بالأمور السلبية والإضافة دون الثبوتية أبلغ في التعطيل ممن يقول لا يقيد لا بأمور سلبية ولا ثبوتية فإذا قالوا هو الوجود المقيد بالسلب العام بحيث يسلبون عنه كل أمر ثبوتي فقد جمعوا بين النقيضين فحقيقة قولهم هو موجود ليس بموجود هو واجب الوجود ممتنع الوجود وأولئك إذا قالوا ليس بموجود ولا معدوم فقد رفعوا النقيضين ولكن أولئك يرفعون الأمور المتناقضة جميعها من الجانبين فيقولون لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل وهؤلاء لا يرفعون جميع الأمور الثبوتية ولا يثبتون إلا وجودا مجردا مسلوبا عنه كل أمر ثبوتي لا يثبتون من الأمور الثبوتية بقدر ما ينفونه من الأمور العدمية فكانوا أدخل في العدم من هذا الوجه وإن كانوا يتناقضون إذا قالوا معقول وعاقل وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق فإنهم يثبتون معاني متعددة وجودية ثم يجعلونها أمورا عدمية
ومنها أنه إذا كان مقيدا بقيد سلبي أو إضافي كان مشاركا لغيره في مسمى الوجود ممتازا عنه بالقيود السلبية والأمور السلبية لا تميز بين مشتركين سواء سمي فصلا أو خاصة بل متى كان المميز بين المشتركين في الوجود أمرا سلبيا فلا يتضمن ثبوتا فلم يحصل به تمييز فهم مضطربون إلى أحد أمرين إما رفع الإمتياز بالكلية فيبقى وجودا مطلقا لا يمتاز لا بثبوت ولا عدم فلا تبقى له حقيقة وإما التمييز بأمور ثبوتية فتبين أنه لا بد من حقيقة تخصه ليست هي الوجود المطلق وأهل الإحاطة إن فسروا الوجود الإحاطي بالوجود المطلق المجرد عن الإثبات والنفي فهو أبلغ في التعطيل من قول ابن سينا من بعض الوجوه حيث كان ما ذكروه يمتنع أن يكون موجودا أو معدوما لرفعهم النقيضين من جميع الجهات وابن سينا جمع بين النقيضين من بعض الوجوه ورفع النقيضين من كل وجه أبلغ في النفي من رفع النقيضين من بعض الوجوه وقوله أبلغ في التعطيل من جهة أخرى من جهة أن الأمور العدمية التي قيده بها أمور كثيرة جدا ولم يثبت من الناحية الأخرى إلا وجودا مجردا لا حقيقة له هذا قول الباطنية كأبي يعقوب إسحق بن أحمد السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية والإفتخار وغيرهما فإنهم ينفون عنه الثبوت والإنتفاء وهو معلوم الفساد بالاضطرار كما تبين وقولهم يستثنى الوجود من الأمور المطلقة هو بالعكس أحرى فإن الوجود المطلق يعم كل شيء فهو أعم للأمور الموجودات كسائر الأسماء العامة مثل الشيء والثابت والحق والحقيقة والماهية والذات ونحو ذلك فهذه أعم الكليات وأوسع المطلقات فمتى جوز الإنسان أن يكون هذا المطلق ثابتا في الخارج بشرط الإطلاق بحيث يكون وجود ذلك الوجود لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره ولا قديم ولا محدث ولا واجب ولا ممكن ولا خالق ولا مخلوق ولا واحد ولا متعدد ولا جوهر ولا عرض ولا صفة ولا موصوف ولا ثابت ولا منتفي كان هذا مع ما فيه من مكابرة العقل وجحد الضروريات مسوغا تجويز مثل ذلك فيما هو أخص من الوجود فإن الخطر فيه أهون فإن ما انتفى عن المطلق العام انتفى عن المعين الخاص فما انتفى عن الموجود انتفى عن الجسم والحيوان والإنسان وليس ما انتفى عن الخاص يجب نفيه عن العام فليس ما انتفى عن الإنسان من كونه ليس حمارا ولا بهيمة يجب نفيه عن الموجود مطلقا فإذا جوز هؤلاء المخذولون في عقلهم ودينهم أن يكون الموجود ثابتا في الخارج مع وصفه بهذه السلوب الجامعة للمتقابلين كان تجويز ذلك فيما هو أخص من الوجود أولى وأحرى
وقال لي رجل من أعيانهم بلغنا أنك ترد على الشيخ عبدالحق نحن نقول أن الناس ما يفهمون كلامه فإن كنت تشرحه لنا وتبين فساده قبلنا وإلا فلا
فقلت له نعم أنا أبين لك مراده من كتبه كالبد والإحاطة والفقرية وغير ذلك فقال عندنا الكتاب الخاص الذي يسمى لوح الأصالة وهو سر السر وهو الذي نطلب بيانه ولم أكن رأيته فذهب وجاء به ففسرته له حتى تبين مراده وكتب أسئلة سألني عنها تكلمت فيها على أصل قولهم وقول ابن عربي وابن سينا ومن ضاهى هؤلاء وبينت له أن أصل قولهم يرجع إلى الوجود المطلق ثم بينت له أن المطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وكان له فضيلة فلما تبين له ذلك أخذ يصنف في الرد عليهم وذهب إلى شيخ كبير منهم فقال له بلغني أنك جرى بينك وبين فلان كلام قال نعم قال أي شيء قال لك قال فقال لي آخر أمركم ينتهي إلى الوجود المطلق قال جيد قال بأي شيء يرد ذلك قال المطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان فقال أخرب بيوتنا وقلع أصولنا هذا ونحوه
فيقال في هذا أما المطلق لا بشرط فهو الذي يصدق على الأعيان وهو الذي يسمى الكلي الطبيعي فإذا قيل إنسان لا بشرط كونه واحدا ولا كثيرا ولا بشرط كونه موجودا ومعدوما فهذا يوجد في الخارج معينا مقيدا ومن ظن أنه يوجد كليا في الخارج فقد غلط وإنما يوجد في الخارج جزئيا معينا فهو كلي في الذهن وأما في الخارج فلا يوجد إلا جزئيا وسمي كليا كما يسمى الإسم عاما والمعنى الذي في النفس عاما لشموله الأفراد الثابتة في الخارج لا لأنه في حال وجوده في الخارج يكون عاما أو مطلقا فإن هذا ممتنع فليس في الخارج إلا ما له حقيقة تخصه لا عموم فيها ولا إطلاق والمنطقيون يقولون الكلي سواء كان جنسا أو فصلا أو نوعا او خاصة أو عرضا عاما له ثلاثة اعتبارات طبيعي ومنطقي وعقلي فالطبيعي هو المطلق لا بشرط الذي لا تقيد فيه الحقيقة بقيد أصلا لا ثبوتي ولا سلبي ثم أصحاب المثل الأفلاطونية يزعمون أن هذه الكليات ثابتة في الخارج دائمة أزلية بدون أعيانها وأرسطو وأتباعه ينكرون ذلك ويقولون لا يوجد إلا مع الأعيان
والتحقيق أنه ليس لها وجود في الخارج منفصل عن وجود الأعيان ومن قال المطلق جزء من المعين كما يقولون الإنسان جزء من هذا الإنسان وأرادوا بذلك تركيبا في الخارج من المطلق والمعين فهذا غلط وإن أرادوا أن الإنسان هذا المعين في الخارج هو الذي كان كليا في النفس فهذا صحيح وقولنا هذا الإنسان بمنزلة قولنا الرجل العالم والحيوان الناطق وذلك يفيد اتصاف المعين بصفتين أحدهما أنه حيوان والأخرى أنه ناطق والحياة والنطق صفتان قائمتان به ليسا جزأين تركب منهما في الخارج وكذلك قولنا هذا الإنسان يفيد أن المعين موصوف بالإشارة إليه وبالإنسانية وقد بسط هذا في غير هذا الموضع
قالوا فهذا هو الكلي الطبيعي والمنطقي هو كون هذا الكلي يوصف بالعموم والكلية والعقلي هو ما تركب منهما وهو الإنسان المقيد بقيد كونه كليا وهذا ليس له وجود إلا في الذهن باتفاقهم إلا ما يحكى عن الأفلاطونية
ثم هذا الإنسان المقيد بكونه كليا لا تدخل فيه المعينات لأنها ليست كليا ولا يصدق على زيد وعمرو أنه إنسان كلي فإنه لا يصدق عليها مع كونه كليا وإنما يصدق عليها مع سلب الكلية وإذا كانت عامة مشتركة وقيل أن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقيل أن العموم صادق على الأنواع والأشخاص فالعموم ليس هو الكلي الطبيعي فإن العموم لا يكون إلا ما يتصف بالكثرة القابلة للقسمة ولعدتها وهذا ليس هو الطبيعي بل العموم هو الكلي العقلي وذلك متناول للأنواع والأشخاص وهو صادق عليها ولكن حال تناوله للأعيان لا يكون كليا كما يقال أن الكلي الطبيعي موجود في الخارج مع أنه حال وجوده في الخارج لا يكون كليا ولكن ما كان مطلقا وكليا في الذهن لا يكون ما في الخارج مماثلا له من كل وجه بل يكون ما في الخارج معينا وكذلك سائر ما في الذهن إذا قيل إنه موجود في الخارج فهو موجود في الذهن بحسب ما يناسب الخارج كما إذا قيل فعلت ما في نفسي وقلت ما في نفسي فهو في النفس تصور له وإرادة وفي الخارج وجود المتصور والمراد وهذا أمر يعقله الناس ويعرفونه فلا يتصور عاقل أن المتصور في الذهن إذا قيل أنه موجود في الخارج يكون حقيقة هذا مماثلا لحقيقة هذا من كل وجه وأن هذا كما يقال إن هذا المحتوى مطابق لهذا اللفظ وهذا اللفظ مطابق لهذا المعنى والإعتقاد والتصور مطابق للحق
فمن فهم هذا انحلت عليه شبهات تعرض في مثل هذا الوضع حتى ظن شخص كالرازي أن العلم ليس هو عمل أو انطباع العلوم في العالم واحتج بأن ذلك يوجب أن يكون في نفس العالم بالنار نار كالنار الموجودة في الخارج ولو لا إدراكها وتصور المراد ما كانت ولا يخطر مثل هذا ببال عاقل يتصور ما يقول وكونه كليا قد يراد به وجوب شموله للأفراد فيكون عاما وقد يراد به أنه لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه فيكون مطلقا وهو مرادهم بكونه كليا وهو مورد التقسيم بين أنواع الموجودات فإن مورد التقسيم مشترك بين الأقسام شامل لها متناول لها إما على سبيل الجمع وهو تناول العموم الجمعي وإما على سبيل البدل وهو الإطلاق والعموم البدلي كقوله تعالى فتحرير رقبة سورة النساء 92
وطائفة من هؤلاء يقولون أن الوجود الواجب هو هذا المطلق لا بشرط وعلى هذا التقدير فيكون هو عين وجود الموجودات الممكنة الموجودة أو جزء من ذلك فيكون الوجود الواجب الخالق للعالم هو نفس وجود المخلوق أو جزء من وجود المخلوق فقد تبين أنه إذا قيل أنه وجود مطلق فإن عنى به المطلق لا بشرط وهو الطبيعي لزم أن لا يكون للواجب وجود إلا وجود مخلوقاته أو جزء من وجود مخلوقاته وإن عنى به المطلق بشرط الإطلاق أمتنع وجوده إلا في الذهن وهو الكلي العقلي وإن عنى به الوجود المقيد بالقيود السلبية فقط كما قاله ابن سينا وأتباعه فهو وإن كان أخص من المطلق لا بشرط فهو أعم من المطلق بشرط الإطلاق عن السلب والثبوت وهو أعظم امتناعا منه عن الوجود في الخارج فإن المطلق المقيد بالثبوت أولى بالوجود من المطلق المقيد بالسلب والمقيد بسلب الثبوت والعدم ممتنع وهو أحق بالإمتناع من وجه لكونه سلب فيه النقيضان والمقيد بالعدم أحق بالعدم من وجه من جهة كونه مشروطا فيه العدم فيمتنع أن يكون موجودا مع كونه معدوما فهذا يستلزم العدم بنفسه وذاك يستلزم العدم بواسطة علمنا بأنه ممتنع وكل ممتنع معدوم فذاك أحق بظهور العدم وعلمنا بأنه معدوم مانعه من أن يكون موجودا وقد امتنع أن يكون معدوما كما يمتنع أن يكون موجودا إذ كان مقيدا بسلب الأمرين والعدم قد يكون له تحقق في الخارج كما يعدم عن الإنسان كونه فرسا وأما بين الوجود والعدم جميعا فلا يتحقق في الخارج لكن إذا قيل كل موجود مقيد بسلب جميع الحقائق كان هذا جمعا بين النقيضين وهذا يناسب قول من قال لا يوصف الرب إلا بصفة سلبية وذاك يناسب قول من قال لا يوصف الرب لا بسلبه ولا ثبوته تم الجزء الاول بحمد الله ويليه الجزء الثاني إن شاء الله وأوله وهذا الثاني قول غلاة القرامطة
وهذا الثاني قول غلاة القرامطة الباطنية كأبي يعقوب السجستانى صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله وعمدتهم في ذلك نفي التشبيه وهذا لفظه في كتاب الافتخار له قال تعالوا أيها الأمم المختلفة لنريكم ما به افتخارنا ونظهر عوراتكم ونكشف عن عيوبكم ولنبتدىء أولا بالتوحيد فأقول إنكم رميتمونا بالتعطيل وسميتم أنفسكم موحدة وأنتم بما رميتمونا به أشد استحقاقا وله إلتزامى ونحن بما سميتم به أنفسكم أحق منكم وذلك أنكم تعلمون يقينا أنا نقر بأن لهذا العالم مبدعا أبدعه لا من شيء ولا من مادة ولا بآلة ولا بمعين ولا بمثال صورة معلومة عنده قد نطقت وانتشرت دعوتنا إليه فلما جردناه عن الصفات والإضافات وقدسناه عن النعوت والسمات قدحتم فينا وسميتمونا معطلة أليس التعطيل هو الإنكار الذي يؤدي قولكم في معبودكم إليه لأنكم إذا أضفتم مبدعكم وخالقكم إلى أي شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير ثم يكون الموسوم به من خلقه غير مبدع ولا خالق ولا بارىء جاز أن يكون مبدعكم وبارئكم من الوجه الذي عرفتموه مماثلا لخلقه الذي نفيتموه أن يكون مبدعا وخالقا وبارئا أن يكون غير مبدع ولا خالق ولا بارىء وما قدم الغير عليه كان عما يتلوه معطلا فأي الفريقين أحق بالتعطيل أهل الحقائق الذين أقروا به على الرسم الذي رسموه أم أنتم قد أنكرتم ما أقررتم به فإذا كان إقراركم بتوحيدكم يؤدي إلى التعطيل وإقرارنا إلى الإثبات المحض فأي افتخار أعظم من درك الحقائق والوقوف على الطرائق
ومضمون كلامه أنكم إذا أضفتم خالقكم ومبدعكم إلى شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير مثل قولكم ذو القوة وذو العلم ونحو ذلك مما تضاف فيه الذات إلى صفاتها فيقال فهي ذات علم وقدرة وحياة ونحو ذلك وكان الموسم بذلك الوسم غير خالق جاز أن يكون غير مبدع ولا خالق لأن هذا تشبيه له بخلقه من بعض الوجوه وإذا أشبهه من وجه جاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على المخلوق والمخلوق يمتنع أن يكون خالقا فيمتنع أن يكون الخالق خالقا
وهذه الشبهة تدور في كلام كثير من الناس والجواب عنها من وجوه
أحدها أنه لا يوصف بمثل ما يوصف به شيء من المخلوقات ولا تضاف ذاته إلى صفة تماثل صفة المخلوقين بل لا توصف بنفس ما يوصف به غيره ولا تضاف ذاته إلى الصفة التي تضاف إليها ذات غيره بل ليس في المخلوقات شيء يوصف بنفس ما يوصف به غيره ولا تضاف ذاته إلى الصفة التي أضيفت إليها ذات غيره ولا يوسم بنفس سمة غيره فالخالق أولى أن لا يكون كذلك
نعم في المخلوقات ما يكون له مثل فيوصف بمثل ما يوصف به غيره ويوسم بمثل ما يوسم به غيره وتضاف ذاته إلى صفة مثل الصفة التي أضيفت إليها ذات غيره
والخالق سبحانه لا مثل له فيمتنع أن تكون نفس صفته صفة غيره أو مثل صفة غيره وكذلك يقال يمتنع أن تكون ذاته مضافة إلى الصفة التي تضاف ذات غيره إليها أو إلى مثلها أو أن يكون موسوما بذلك
فإذا قيل في حقه تعالى إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين سورة الذاريات 58 وقيل في حقه ولا يحيطون بشيء من علمه سورة البقرة 255 وقيل في حق المخلوق إن له قوة وعلما لم يكن هذا العلم والقوة هو هذا العلم والقوة ولا هو مثله بل هذا علم وقوة يختص به الرب وهذا علم وقوة يختص به العبد وإذا اتفقا في مسمى القوة والعلم عند الإطلاق لم يستلزم ذلك أن يكون أحدهما هو عين الآخر ولا أن يكون مثله
بل إذا قيل في الفلك إنه شيء قائم بنفسه وقيل في الخشبة إنها شيء قائم بنفسه موجود لم يلزم أن يكون هذا هو هذا ولا مثله وإذا قيل في لون السماء إنه عرض قائم بغيره وقيل في طعم التفاحة إنه عرض قائم بغيره لم يجب أن يكون هذا هو ذاك ولا مثله
فاجتماع الشيئين في اسم عام لا يوجب أن يكون ما يتصف به أحدهما من ذلك المسمى هو نفس ما يتصف به الآخر ولا مثله وهذه الأسماء التي يسميها بعض الناس مشككة وهو نوع من الأسماء المتواطئة التواطؤ العام وهي من الأسماء العامة التي تسميها النحاة اسم جنس ويسمى معانيها المنطقيون الكليات
والجواب الثاني أن يقال لهذا المستدل أنت قد قلت في أول خطبة كتابك الحمد لله المعبود بلا ولا ولا الذي سنا مجده في صدور أوليائه يتلألأ بأنه بعد لا إله إلا المبدع ذي الجود الغفور الرحيم وقلت أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي عنه كل إثبات مؤيسة لديه ساه وشبه بأنه مبدع الكل أحرى لا يستنكف أحد من عبادته والخضوع له بربوبيته والتذلل لعزته وجلاله المتعزز بالكبرياء والجبروت والمنفرد بالعظمة والملكوت والمتوحد بكلمة اللاهوت العزيز في سلطانه فلا يغالب والمتكبر بقدسه عن رويات الخواطر فلا يطالب الظاهر بقدرته في جميع بريته فلا ينكر والشاهد بنافذ أمره فلا يستر المحتجب بتعمده عن أن يكون كمثله شيء إذ هو بلفظ واسع أي أنه بادىء لا مسبوق له من التنزيه أسناها ومن التسبيح أعلاها ومن التقديس أهناها وكلها وراء ما تحصره هوية العقل ويستخرجه قواه والغنى بتمام قدرته عن أمثال الصور والأشباح ومبدع القلم لتخطيط الألواح
فأنت في هذا الكلام تذكر أنه ذو الجود الغفور الرحيم وذكرت أنه له عزة وكبرياء وعظمة وجبروتا وملكوتا وذكرت أنه العزيز الظاهر بقدرته وغير ذلك مما فيه إثبات أسماء لله وصفات وخلقه يسمون بما يشبه هذه الأسماء والصفات فيقال لأحدهم رحيم عزيز
كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم سورة التوبة 128
وقال تعالى قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه سورة يوسف 51
وقال ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين سورة المنافقون 8
وقال ولها عرش عظيم سورة النمل 23
وقال كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر 35
وقال وكان وراءهم ملك سورة الكهف 79 ونظائر هذا متعددة
فإذا كان المخلوق يوصف بأنه رحيم وعزيز وأن له رحمة وعزة وأنه عظيم جبار متكبر ونحو ذلك فقد وصفته بالصفات والإضافات وأضفته إلى شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير
وإذا كان كذلك فإما أن يكون قولك متناقضا فيبطل وهكذا هو في نفس الأمر فإن قولهم متناقض في نفسه فإنهم لا بد أن يعبروا عن الله بنوع ما من العبارات المتضمنة للمعاني فيكون ذلك مناقضا لما ادعوه من التجريد والسلب العام وإما أن تقول هذه الأمور التي أثبتها له ليست مثل ما يثبت للمخلوقين فهذا جواب لك عما يثبته أهل الإثبات
وإن ادعيت أن اللفظ مشترك اشتراكا لفظيا من غير أن يكون بين المعنيين تشابه أصلا فهذا الجواب إن كان صحيحا أجابوا بمثله وإن كان باطلا لم ينفعك
الجواب الثالث أن يقال هب أنه حصل بين المسميين قدر مشترك هو ما اتفقا فيه وهو المعنى العام الكلي لكن هذا المعنى العام الكلي لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج لكن ما كان لازما لهذا المعنى العام كان لازما للموصوف به وهذا لا محذور فيه بل هو حق فإذا كان الخالق موجودا والمخلوق موجودا أو هذا قائم بنفسه وهذا قائم بنفسه أو قيل هذا حي عليم رحيم وقيل هذا حي عليم رحيم كان القدر العام الكلي المتفق هو مسمى الوجود والقيام بالنفس والحياة والعلم والرحمة أو مسمى أنه موجود قائم بنفسه حي عالم رحيم
وهذا المعنى العام ليس من لوازمه ما ينفى عن الله بل لوازمه كلها صفات كمال يوصف الله بها وإنما يكون لوازمه صفة نقص إذا قيد بالعبد فقيل وجود العبد وعلم العبد ورحمة العبد فالنقص يلزمه إذا كان مقيدا مختصا بالعبد والله منزه عما يختص به العبد وأما إذا اتصف الرب به أو أخذ مطلقا غير مختص بالعبد ففي هذين الحالين لا يلزمه شيء من النقائص أصلا فتبين أن إثبات القدر العام المتفق عليه لا محذور فيه أصلا
الوجه الرابع أن يقال إذا قيل هذا يشبه هذا من وجه كذا فيجب أن يكون حكمه حكمه من ذلك الوجه لم يجب أن يكون حكمه حكمه من غير ذلك الوجه فالسواد إذا شارك البياض في كون كل منهما عرضا قائما بغيره لم يجب أن يشاركه من جهة كونه سوادا والجسم القائم بنفسه إذا شارك العرض في كون كل منهما موجودا لم يجب أن يشاركه في خصائص الأعراض وكذلك إذا قلنا إن الأجسام ليست متماثلة وهو أصح القولين فالجسم إذا شارك الجسم في لوازم الجسمية لم يجب أن يشاركه فيما يختص به أحدهما عن الآخر فإذا شاركه في كونه يشار إليه أو في كونه قائما بنفسه أو في قبول الأبعاد الثلاثة أو غير ذلك لم يجب أن يكون التراب مماثلا للنار فيما يختص به ولا التفاح مماثلا للخبر فيما يختص به
وبهذا تظهر المغلطة في الحجة فإنه لما قال إذا أضفتم مبدعكم إلى شيء مما يوسم به خلقه من لفظ قول أو عقد ضمير وكان الموسوم به غير مبدع ولا خالق ولا بارىء جاز أن يكون مبدعكم وبارئكم من الوجه الذي عرفتموه مماثلا لخلقه الذي نفيتم أن يكون مبدعا خالقا أن يكون غير مبدع ولا خالق
فإنه يقال له قولك من الوجه الذي عرفتموه مماثلا لخلقه أتعني بذلك أنه يثبت للمخلوق مثل ما يثبت له بحيث يجوز على هذا ما يجوز على هذا ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه أتعني أنه يثبت له ما فيه نوع من التشابه
فإن ادعيت الأول كان ممنوعا وممتنعا فإنهم إذا قالوا لله علم وقدرة وللمخلوق علم وقدرة لم يقولوا إن العلمين والقدرتين متماثلان بحيث يجب لأحدهما ما وجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه ويجوز عليه ما يجوز عليه بل هذا معلوم الفساد بالضرورة وإن كان بعض من يثبت له بعض الصفات وينفي بعضها مثل من يثبت لله العلم والقدرة وينفي الرضا والغضب والوجه واليد قد يقول ليس بين علمنا وعلم الله فرق ولا بين سمعنا وسمع الله فرق ولا بين بصرنا وبصر الله فرق إلا في الحدوث والقدم
ومقصوده بذلك أن ينفصل عن إلزام المثبتة فإنهم يقولون له كما أثبت لله علما وقدرة وسمعا وبصرا وليس مثل سمعنا وبصرنا ولا علمنا وقدرتنا فكذلك أثبت له رضا وغضبا ووجها ويدا وليس مثل رضانا ولا غضبنا ولا وجوهنا ولا أيدينا فيريد بزعمه أن يذكر الفرق بأن التماثل موجود في الوصفين فليس بين العلمين والقدرتين فرق إلا في الحدوث والقدم فكذلك يجب أن لا يكون بين الوجهين واليدين إلا في الحدوث والقدم فيجب أن يكون وجهه ويده جارحة وكذلك في سائر الصفات
وهذا القول باطل قطعا فإنه لو تماثل العلمان والقدرتان لجاز على أحدهما ما يجوز على الآخر وامتنع عليه ما يمتنع عليه ووجب له ما وجب له ولو جاز أن يقال ذلك في العلم والقدرة لجاز أن يقال ذلك في الحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة وغير ذلك من الصفات
وإن جاز أن يقال ذلك في الصفات جاز مثله في الذات لأن نسبة علم الرب إلى ذاته كنسبة علم العبد إلى ذاته فهما علمان وعالمان وإن جاز أن يقال العلم مثل العلم إلا في الحدوث والقدم جاز أن يقال العالم كالعالم إلا في الحدوث والقدم
وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهو يتبين من وجوه
منها أنه لو تماثلت الذاتان لامتنع اختصاص أحدهما بالحدوث والأخرى بالقدم فإن المقتضى لقدم الرب هو نفس ذاته لا يحتاج في ثبوت قدمه إلى غيره والمقتضى لكون العبد مفتقرا إلى من يخلقه نفس ذاته ليس افتقاره مستفادا من أمر خارج عن ذاته فإذا كان المثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر وهذه الذات لا يجوز عليها القدم بل يمتنع عليها وتلك يجب لها القدم ويمتنع عليها العدم وإذا امتنع تماثلهما فا 4 متنع تماثل صفاتهما فإن صفة كل موصوف بحسبه
فإن قيل الأمور المختلفة قد تشترك في لوازم متماثلة كالإنسان والفرس يشتركان في الحيوانية قيل ليست الحيوانية العامة المختصة للإنسان مماثلة من كل وجه للحيوانية المختصة بالفرس بل هما مختلفان حسب اختلاف الحقيقتين
وإن اشتركا في الحيوانية العامة فذلك العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج
تبيين ذلك أن خاصة الحيوانية الحس والحركة الإرادية وإحساس الفرس ليس مثل إحساس الإنسان بل ولا مثل إحساس الهر والفأر وإن اشتركا في الحيوانية ولا حركته الإرادية مثل حركة هذه الحيوانات الإرادية ولو ماثل الإنسان سائر الحيوان في الحس والحركة الإرادية للزم أن تثبت لكل منهما لوازم حس الآخر وحركته الإرادية فإن ثبوت الملزوم بدون اللازم ممتنع وحس الإنسان وحركته الإرادية يلزمهما لوازم يمتنع اتصاف الهر والفأر بها وكذلك بالعكس فعلمنا أن الحس والحركة مختلفان فيهما بالنوع كما أن حقيقتهما مختلفة بالنوع فحيوانيتهما مختلفة بالنوع والمختلف بالنوع والحقيقة ليس متماثلا واشتراكهما في جنس الحيوانية كاشتراك السواد والبياض في جنس اللونية مع أنهما مختلفان بالنوع والحقيقة
وأيضا فكل ما للرب تعالى من صفات الكمال فهو من لوازم ذاته فلو ماثلته ذات أخرى لاتصفت بمثل ما اتصف به الرب بحيث يكون بكل شيء عليما وعلى كل شيء قديرا ويكون قادرا على خلق مثل هذا العالم وأمثال ذلك مما يعلم امتناعه
وأيضا فالرب تعالى لو كان له مثل للزم أن يقدر على ما يقدر عليه وأن يريد كما يريد وحينئذ فيمتنع وجود العالم لأنه إن أمكن أن يستقل به كل منهما لزم أن يكون كل منهما فاعلا له كله غير فاعل لشيء منه وهذا جمع بين النقيضين وإن لم يمكن أن يستقل به أحدهما إلا إذا تركه الآخر كانت قدرته مشروطة بتمكين الآخر له وكذلك إن لم يمكن أحدهما فعله إلا بمعاونة الآخر لزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا جعله الآخر قادرا وحينئذ فلا يكون أحدهما حال الانفراد قادرا على شيء وإذا لم يكن أحدهما حال الانفراد قادرا على شيء امتنع حال الاجتماع قدرتهما لأنه ليس هناك شيء غيرهما يجعلهما قادرين وليس لواحد منهما قدرة يعين بها الآخر فلو كان كل منهما صار قادرا بجعل الآخر له لزم الدور في التأثير وهو الدور القبلي الباطل باتفاق العقلاء وهو معلوم الفساد ضرورة بعد التصور
وهذا بخلاف إذا كان هناك ثالث يجعلهما قادرين بالاجتماع فإن هذا هو الدور المعي وهو جائز ولهذا لا يوجد شيئان من الموجودات يصير لهما قدرة حال الاجتماع إلا بإحداث ثالث ذلك لهما أو بانضمام قوة أحدهما إلى قوة الآخر كالمشتركين من الآدميين لا بد أن يكون لأحدهما عند الإنفراد قدرة على شيء أو عند الإجتماع تقوى قدرتهما
والتقدير هنا أنه لا شيء من القدرة ثابت حال الإنفراد وإذا كان تقدير مثل له يستلزم أن يكون قادرا مثله وتقدير ربين قادرين ممتنع علم انتفاء مثله وإذا كان تقديرهما غير قادرين ممتنعا أيضا علم انتفاء شريك على كل وجه وأن تقدير مثل له أو شريك له ممتنع لذاته سواء قدر المثل مشاركا أو غير مشارك وسواء قدر الشريك مماثلا أو غير مماثل وهذا مبسوط في غير هذا الموضع
ومما يبين امتناع تماثل العلمين أن الرب بكل شيء عليم سواء قيل إنه عالم بعلم واحد أو بعلوم غير متناهية وليس علم العبد لا هكذا ولا هكذا بل هذا ممتنع فيه ولو قال القائل علم الرب بالشيء المعين كعلم العبد به كان ممتنعا فإن الرب يعلمه علم إحاطة به والعبد لا يحيط به
وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الله أعلم وأقدر من خلقه كما قال تعالى أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة سورة فصلت 15
وقال تعالى هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم إلى قوله هو أعلم بمن اتقى سورة النجم 32
وقال تعالى والله يعلم وأنتم لا تعلمون سورة النور 19
وقال تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا سورة الإسراء 85
وهذا أوضح في المنقول والمعقول وأعظم من أن يحتاج إلى شواهد فكيف يجوز أن يظن التماثل مع ثبوت التفاضل
وهذا إنما ذكرته لأن بعض معتزلة الصفاتية الذين يثبتون الصفات السبعة وينفون الصفات الخبرية ويزعمون أن هذا تشبيه ممتنع أورد عليهم هذا بسبب محنة وقعت بين المثبتة والنفاة وكان قاضي القضاة وقيل بل نثبت هذه الصفات مع انتفاء المماثلة كما أثبتم تلك الصفات مع انتفاء المماثلة فكما أن له علما ولنا علم وليس علمه مثل علمنا ولنا قدرة وله قدرة وليست قدرته مثل قدرتنا فكذلك يقال في الصفات الخبرية
فقال ليس بين علمنا وعلمه فرق إلا في الحدوث والقدم فإذا أثبتنا له الوجه ونحوه لزم أن يكون مثل وجوهنا إلا في الحدوث والقدم فعلم المعارضون له فساد هذا القول وقبحه شرعا وعقلا وأن قولا يستلزم مثل هذا من أفسد الأقوال
وهذا القول شعبة من قول الباطنية المذكورين نفاة الصفات الثبوتية والسلبية والأسماء فإنهم جردوه عن جميع ذلك حذرا من التشبيه المذكور
والمقصود هنا بيان جواب الباطنية القرامطة وهذا الجواب الذي ذكرناه على أحد القولين وهو جواز كون النفي مشابها لغيره من وجه دون وجه وهذا هو الصحيح الذي عليه أكثر الناس وهو المنصوص عن أحمد وغيره
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك وقالوا لا يتصور إلا التماثل من كل وجه أو الاختلاف من كل وجه وقال هؤلاء إن الأجسام متماثلة من كل وجه والأعراض المختلفة والأجناس كالسواد والبياض مختلفة من كل وجه
وهؤلاء يقولون إذا كان هذا حيا عالما وهذا حيا عالما لم يجب أن يكون بينهما تشابه بوجه من الوجوه بل قد يكونان مختلفين من كل وجه لأنهما لم يتماثلا في ذاتهما ولكن في صفتهما وذلك لا يوجب عندهم تماثلا ولا اختلافا ولهذا قالوا الأجسام متماثلة مع اختلاف صفاتهما وزعموا أن الصفات التي اختلفت لأجلها ليست لازمة لشيء منها بل يجوز أ 4 ن تتبدل على كل من الأجسام مع بقاء حقيقته
وهذا القول وإن كان القائل به كثير من الصفاتية كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وغيرهم فهو من أفسد الأقوال بل هو معلوم الفساد بالضرورة بعد التصور الصحيح