الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الطهارة/نواقض الوضوء


نواقض الوضوء


وينتقض الوضوء بما خرج من الفرجين من عين أو ريح فقد وردت الأدلة بذلك مثل : حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ وقد فسره أبو هريرة رضي الله عنه لما قال له رجل ما الحدث ؟ قال : فساء أو ضراط . ومعنى الحدث أعم مما فسره به ، ولكنه نبه بالأخف على الأغلظ ولا خلاف في إنتقاض الوضوء بذلك .

وبما يوجب الغسل في الجماع ولا خلاف في إنتقاضه به أيضاً .

ونوم المضطجع وجهه أن الأحاديث الواردة بإنتقاض الوضوء بالنوم كحديث من نام فليتوضأ مقيد بما ورد أن النوم الذي ينتقض به الوضوء هو نوم المضطجع وقد روي من طرق متعددة ، والمقال الذي فيها ينجبر بكثرة طرقها ، وبذلك يكون الجمع بين الأدلة المختلفة . وفي ذلك ثمانية مذاهب استوفيناها في مسك الختام شرح بلوغ المرام ، واستوفاها الماتن في نيل الأوطار شرح منتقي الأخبار وذكر الأحاديث المختلفة وتخريجها . وترجيح ما هو الراجح . قال الشافعي رحمه الله : النوم ينقض الوضوء إلا نوم ممكن مقعدته . وقال أبو حنيفة رحمه الله : لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً ولا وضوء عليه حتى ينام مضطجعاً أو متكئاً كذا في المسوى .

وأكل لحم الإبل وجهه قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما قيل له : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم . وهو في الصحيح من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه . وقد روي أيضاً من طريق غيره . وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء ، واستدلوا بالأحاديث التي نسخت الأحاديث الواردة في الوضوء مما مست النار ، ولا يخفى أنه لم يصرح في شئ منها بلحوم الإبل حتى يكون الوضوء منها منسوخاً . وقد ذهب إلى إنتقاض الوضوء بأكل لحوم الإبل أحمد بن حنبل رحمه الله ، وإسحق بن راهويه رحمه الله ، ويحيى بن يحيى رحمه الله ، وابن المنذر رحمه الله ، وابن خزيمة رحمه الله ، والبيهقي رحمه الله ، وحكي عن أصحاب الحديث رحمهم الله ، وحكي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كما قال النووي رحمه الله ، قال البيهقي رحمه الله : حكي عن بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال : إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت به ،قال البيهقي رحمه الله : قد صح فيه حديثان حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وحديث البراء رضي الله عنه ، قال في الحجة : وأما لحم الإبل فالأمر فيه أشد لم يقل به أحد من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رضي الله عنهم ولا سبيل إلى الحكم بنسخه ، فلذلك لم يقل به من يغلب عليه التخريج ، وقال به أحمد رحمه الله وإسحق رحمه الله ، وعندي أنه ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان والله أعلم ، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين في إثبات النقض به .

أقول : الإنصاف في هذا أن لحوم الإبل ناقضة للوضوء وحديث النقض من الصحة بمكان يعرفه من يعرف هذا الشأن أخرجه مسلم وأهل السنن وصححه جماعة من غيرهم ، ولم يأت عنه (ﷺ) ما يخالف هذا من قول أو فعل أو تقرير ، وإلى هذا التخصيص ذهب جماعة من أهل العلم كما تقدم ، ومن أراد الإطلاع على مذاهب العلماء وأدلتهم في هذه المسألة فهي مستوفاة في مؤلفات شيخنا العلامة الشوكاني ، وأما حمل الوضوء على غسل اليد ، فالواجب علينا حمل ألفاظ الشارع على الحقائق الشرعية إن وجدت ، وهي ههنا موجودة فإنه في لسان الشارع وأهل عصره لغسل أعضاء الوضوء لا لغسل اليد فقط ، ولم يصح من أحاديث الغسل قبل الطعام وبعده شئ .

والقيء وجهه ما روي عنه (ﷺ) : أنه قاء فتوضأ أخرجه أحمد رحمه الله ، وأهل السنن رحمه الله قال الترمذي هو أصح شئ في الباب وصححه ابن منده رحمه الله ، وليس فيه ما يقدح في الإحتجاج به ويؤيده أحاديث ، منها حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عنه (ﷺ) : من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ وفي إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال ، وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم والمجموع ينتهض للإستدلال به ، وقد ذهب إلى ذلك أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه رحمه الله ، وذهب الشافعي رحمه الله وأصحابه رحمه الله إلى أنه غير ناقض وأجابوا عن أحاديث الوضوء من القيء بأن المراد بها غسل اليدين ، ولا يخفى أن الحقيقة الشرعية مقدمة ، وفي الحجة البالغة قال إبراهيم رحمه الله بالوضوء من الدم السائل والقيء الكثير ، والحسن رحمه الله الوضوء من القهقهة في الصلاة ولم يقل : بذلك آخرون وفي كل ذلك حديث لم يجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه ، والأصح في هذه أن من احتاط فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن لا فلا سبيل عليه وفي صراح الشريعة . والدم السائل والقيء الكثير ملوثان للبدن مبلدان للنفس ، والقهقهة في الصلاة خطيئة تحتاج إلى كفارة فلا عجب أن يأمر الشارع بالوضوء من هذه ولا عجب أن يأمر ويرغب فيه من غير عزيمة وفي المسوى قال الشافعي رحمه الله : خروج النجاسة من غير الفرجين لا يوجب الوضوء . وقال أبو حنيفة رحمه الله : يوجبه بشرط انتهى .

ونحوه والمراد بنحو القيء هو القلس والرعاف ، والخلاف في القلس كالخلاف في القيء قال الخليل : هو ما خرج من الحلق ملء الفم أو دونه وليس بقيء . وفي النهاية : القلس ما خرج من الجوف . ثم ذكر مثل كلام الخليل ، وأما الرعاف فقد ذهب إلى أنه ناقض أبو حنيفة رحمه الله ، وأبو يوسف رحمه الله ، ومحمد رحمه الله ، وأحمد بن حنبل رحمه الله ، واسحق رحمه الله وقيدوه بالسيلان . وذهب ابن عباس رضي الله عنه ، ومالك رحمه الله والشافعي رحمه الله . وروي عن ابن أبي أوفي رضي الله عنه . وأبي هريرة رضي الله عنه ، وجابر بن زيد رضي الله عنه ، وابن المسيب رحمه الله ، ومكحول رحمه الله ، وربيعة رحمه الله إلى أنه غير ناقض . وأجابوا عن دليل الأولين بما فيه من المقال وبالمعارضة بمثل حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم احتجم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه رواه الدارقطني رحمه الله وفي إسناده صالح بن مقاتل وهو ضعيف ويجاب عن الأول بأنه ينتهض بمجموع طرقه ، وعن المعارضة بأنها غير صالحة للإحتجاج ، وبأن دم الرعاف غير دم الحجامة ، فلا يبعد أن يكون لخروجه من الأعماق تأثير في النقض . في المسوى قال الشافعي رحمه الله : الرعاف والحجامة لا ينقضان الوضوء . وقال أبو حنيفة رحمه الله : ينقضان إذا كان الدم سائلاً . وقال مالك رحمه الله : الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا دم ولا من قيح يسيل من الجسد ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أو دبر أو نوم انتهى .

أقول : قد اختلف أهل العلم في إنتقاض الوضوء بخروج الدم ، وجميع ما هو نص في النقض أو عدمه لم يبلغ إلى رتبة تصلح للإحتجاج بها ، وقد تقرر أن كون الشئ ناقضاً للوضوء لا يثبت إلا بدليل يصلح للإحتجاج وإلا وجب البقاء على الأصل لأن التعبد بالأحكام الشرعية لا يجب إلا بإيجاب الله أو رسوله وإلا فليس بشرع ، ومع هذا فقد كان الصحابة رض يباشرون مع معارك القتال ومجاولة الأبطال في كثير من الأحوال ماهو من الشهرة بمكان أوضح من الشمس ، فلو كان خروج الدم ناقضاً لما ترك صلى الله عليه بيان ذلك مع شدة الإحتياج إليه وكثرة الحامل عليه ، ومثل الدم القيء في عدم ورود دليل يدل على أنه ناقض ، وغاية ماهناك حديث إسمعيل بن عياش وفيه من المقال ما لا يخفى .

ومس الذكر وقد دل على ذلك حديث بسرة بنت صفوان رض : أن النبي (ﷺ) قال : من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ رواه أحمد رحمه الله ، وأهل السنن رحمه الله ، ومالك رحمه الله ، والشافعي رحمه الله ، وابن خزيمة رحمه الله وابن حبان رحمه الله والحاكم رحمه الله وابن الجارود وصححه أحمد رحمه الله والترمذي رحمه الله والدارقطني رحمه الله ويحيى بن معين رحمه الله والبيهقي رحمه الله والحازمي رحمه الله وابن حبان رحمه الله وابن خزيمة رحمه الله قال البخاري : هو أصح شئ في هذا الباب ، وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة رض منهم جابر رض ، وأبو هريرة رضي الله عنه ، وأم حبيبة رضي الله عنها ، وعبد الله ابن عمر رضي الله عنهما ، وزيد بن خالد رضي الله عنه ، وسعيد بن أبي وقاص رض ، وعائشة رضي الله عنها ، وابن عباس رضي الله عنهما ، وابن عمرو رضي الله عنهما ، والنعمان ابن بشير رضي الله عنه وأنس رضي الله عنه ، وأبي بن كعب ومعاوية بن حيده رضي الله عنه ، وقبيصة رضي الله عنه وأروى بنت أنيس رضي الله عنها وحديث بسرة رضي الله عنها بمجرده أرجح من حديث طلق بن علي رضي الله عنه عند أهل السنن رحمه الله مرفوعاً بلفظ الرجل يمس ذكره أعليه وضوء فقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إنما هو بضعة منك فكيف إذا انضم إلى حديث بسرة رضي الله عنها أحاديث كثيرة كما أشرنا إليه ومن مال إلى ترجيح حديث طلق فلم يأت بطائل ، وقد تقرر في الأصول أن رواية الإثبات أولى من رواية النفي ، وأن المقتضي للحظر أولى من المقتضي للإباحة ، وقد ذهب إلى إنتقاض الوضوء بمس الذكر جماعة من الصحابة والتابعين رض والأئمة رحمه الله ومالوا إلى العمل بحديث بسرة لتأخر إسلامها ، وذهب إلى خلاف ذلك جماعة كذلك ، والحق الإنتقاض . وقد ورد ما يدل على أنه ينتقض الوضوء بمس الفرح وهو أعم من القبل والدبر كما أخرجه ابن ماجه رحمه الله من حديث أم حبيبة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : من مس فرجه فليتوضأ وصححه أحمد رحمه الله وأبو زرعة رحمه الله وقال ابن السكن رحمه الله : لا أعلم له علة ، وأخرج الدارقطني رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ وفي إسناده عبد الرحمن بن عبد الله العمري وفيه مقال ، وأخرج أحمد رحمه الله والترمذي رحمه الله والبيهقي رحمه الله من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما إمرأة مست فرجها فلتتوضأ وفي إسناده بقية بن الوليد ولكنه صرح بالتحديث ، قال في المسوى قال الشافعي رحمه الله : يجب الوضوء على من مس الفرج وشرطه أن يمس ببطن الكف أو بطون الأصابع ، وقال أبو حنيفة رحمه الله مس الفرج لا ينقض ، واحتج بقول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هل هو إلا بضعة منك انتهى . قالوا : إن مس الفرج لما كانت حاجة الناس إليه عامة والبلوى به دائمة وجب أن ينقل شرعاً ثابتاً متواتراً مستقراً .

أقول : قد وقع في الأصول أن الحكم الذي تعم به البلوى لا بد أن ينقل نقلاً مستفيضاً والقائل بذلك بعض الحنفية ، وخالفهم الجمهور لعموم الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد ، وهذه القاعدة كثيراً ما ترى المشغوفين بمحبة ما ألفوه من مذاهب الأسلاف يدفعون بها الحجج الشرعية التي يوردها خصومهم ، فإذا إستدلوا لأنفسهم على إثبات حكم قد دأبوا عليه ودرجوا وصار عندهم من المألوفات المعروفات مالوا عن ذلك ولم يعرجوا عليه ، وهذا ستراه في غير موطن من كتب المتمذهبين ، فإن كنت ممن لا تنفق عليه التدليسات ولا يغره سراب التلبيسات فلا تلعب بك الرجال من حال إلى حال بزخارف ما تنمقه من الأقوال .

فكن رجلاً رجله في الثرى........وهامة همته في الثريا

ولا حرج على المجتهد إذا رجح غير ما رجحناه أنما الشأن في التكلم في مواطن الخلاف بما يتبرأ منه الإنصاف اللهم بصرنا بالصواب وإجعل بيننا وبين العصبية من لطفك أمنع حجاب ، وفي الحجة البالغة موجبات الوضوء في شريعتنا على ثلاث درجات : إحداها ما اجتمع عليه جمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتطابق فيه الرواية والعمل الشائع وهو البول والغائط والريح والمذي والنوم الثقيل وما في معناها ، الثانية ما اختلف فيه السلف من فقهاء الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وتعارض فيه الرواية عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كمس الذكر لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من مس ذكره فليتوضأ ، قال به عمر وسالم وعروة وغيرهم رضي الله عنهم ، ورده علي وابن مسعود رضي الله عنهما وفقهاء الكوفة ، ولهم قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هل هو إلا بضعة منك ولم يجيء الثلج بكون أحداهما منسوخاً . ولمس المرأة قال بن عمر وابن مسعود وإبراهيم رضي الله عنهم لقوله تعالى أو لامستم النساء ولا يشهد له حديث ، بل يشهد حديث عائشة رضي الله عنها بخلافه لكن فيه نظر لأن في إسناده إنقطاعاً ، وعندي أن مثل هذه العلة إنما تعتبر في مثل ترجيح أحد الحديثين على الآخر ولا تعتبر في ترك حديث من غير تعارض والله تعالى أعلم .

وبالجملة : فجاء الفقهاء من بعدهم على ثلاث طبقات : آخذ به على ظاهره ، وتارك له رأساً : وفارق بين الشهوة وغيرها ، ولا شبهة أن لمس المرأة مهيج للشهوة مظنة لقضاء شهوة دون شهوة الجماع ، وأن مس الذكر فعل شنيع ولذلك جاء النهي عن مس الذكر بيمينه في الإستنجاء ، فإذا كان قبضاً عليه كان من أفعال الشياطين لا محالة . والثالثة ما وجد فيه شبهة من لفظ الحديث ، وقد أجمع الفقهاء من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم على تركه ، كالوضوء مما مست النار فانه ظهر عمل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء وابن عباس وأبي طلحة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم بخلافه ، وبين جابر رضي الله عنه أنه منسوخ . قلت : عامة اهل العلم على أن الوضوء مما مسته النار منسوخ ، وتأول بعضهم على غسل اليد والفم ، قال قتادة رضي الله عنه : من غسل فمه فقد توضأ كذا في المسوى