→ فصل النجاسات | الروضة الندية شرح الدرر البهية - كتاب الطهارة فصل في كيفية تطهير المتنجس صديق حسن خان القنوجي |
باب قضاء الحاجة ← |
ويطهر ما يتنجس بغلسه أي بإسالة الماء عليه ، ثم إن ورد فيه شئ عن الشارع كان الواجب الإقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه ، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه وقد تقدم ما يدل على ذلك ، وتقدم أيضاً ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب .
وبالجملة : فكل ماعلمنا الشارع كيفية تطهيره كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية ، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره فالواجب علينا إذهاب تلك العين .
حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم لأن الشئ الذي يجد الإنسان ريحه أوطعمه قد بقي فيه جزء من العين وإن لم يبق جرمها ولونها ، إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شئ من ذلك الشئ الذي له الريح ، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شئ من ذلك الشئ الذي له الطعم .
والنعل بالمسح وكذلك الخف لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة . والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك ، ثم أن النبي (ﷺ) لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس ، أوضح هذا المعنى إيضاحاً ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال فقال : إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر نعليه فإن كان فيهما خبث فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما ولفظ أحمد وأبي داود : إذا جاء أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك ، فإنه أولاً بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجوداً محققاً فعلوا المسح بالأرض ، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها ، ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ماهو فيه نوعاً من الجنون فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر مع دلك شديد وكلفة عظيمة وإستغراق للفكر وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة فلا يزال فى تعب ونصب ومزاولة لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية ، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد شرع في العضو الثاني ثم كذلك ، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد العصاة لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر ، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات كما قال رسول الله (ﷺ) فمن تجاوزها فقد أساء وتعدى وظلم فجمع له (ﷺ) بين هذه الثلاثة الأنواع ثم لم يقنع منه بهذا حتى صيره تاركاً للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ قال رسول الله (ﷺ) : بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وأخرج أهل السنن وأحمد من حديث بريدة قال : سمعت رسول الله (ﷺ) يقول : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : كان أصحاب محمد (ﷺ) لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة فانظر كيف صار هذا الموسوس بنص رسول الله (ﷺ) مسيئاً متعدياً ظالماً كافراً إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه ، فهذا بإعتبار ما له عند ربه وأما بإعتبار ما له عند الخلق ، فأقل الأحوال أن يقال : مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن فخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ومع هذا فهو يعذب نفسه بأشد العذاب وكثيراً ما يفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سبباً لهلاكه فيلقى ربه قاتلاً لنفسه في معصية فلا يراح رائحة الجنة كما ثبت عنه (ﷺ) ، فيمن قبل نفسه وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل ، فمن كان جاهلاً اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها فمنهم من يقول : لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو ، وهو قد غسل ذلك العضو مئات ، ومنهم من يقول : أريد أن أغسل غسلاً مشروعاً لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك ، فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة دلكاً فظيعاً ، فيشرع بالأنملة ثم يدلك جزءاً بعد جزء حتى يفرغ من الأصبع ، ثم يأخذ في الأخرى ، ثم كذلك فلا يفرغ من غسل يده إلا بعد مدة طويلة ، ثم يلعب به الشيطان فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله فيعود إليه ثم كذلك فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه ، ومن كان عالماً يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة وأنه وسوسة شيطانية ، وهو أقبح الرجلين فإنه ممن أضله الله على علم ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه مستغرق بعبادة عدو الله إبليس لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته ، فلم يستحي من الله فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان ، ولم يستحي من الناس فيردعه حياؤه عن التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان ، وفي مثل هذا قال رسول الله (ﷺ) : إذا لم تستحي فاصنع ماشئت . والحاصل : أن هذه المحنة قد عمت وطمت ، عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل ، والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن ، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب ، والغراب الأبقع ، ومن أنكر هذا فليجرب نفسه ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه (ﷺ) في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض ثم يصلي فيه ، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه ، مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه ، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلداً فله بالأئمة الأسلاف قدوة وهم الأقل من القائلين بذلك ، وهيهات ذاك فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها لأنه وجد قوماً لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وإرتكاب الفجور فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة ، فهم أشقى أتباعه اللهم أعذنا من نزعات الشيطان وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
والإستحالة مطهرة أي إذا استحال الشئ إلى شئ آخر حتى كان ذلك الشئ الآخر مخالفاً للشئ الأول لوناً وطعماً وريحاً كاستحالة العذرة رماداً ، وقد أوضحت ذلك في كتابي دليل الطالب فليراجع ، وحققه الماتن في وبل الغمام والسيل الجرار وغيرهما .
لعدم وجود الوصف المحكوم عليه يعني فقد فقد الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه وهذا هو الحق والخلاف في ذلك معروف .
وما كان لا يمكن غسله من المتنجسات كالأرض والبئر ف تطهيره بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى أي لا يوجد للنجاسة أثر لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقياً ، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي جرم ولون وأما مثل البول فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء فإذا وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة بالبول طاهرة .
أقول : البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه ، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة أن المطهر الكثير يطهر الأرض وإن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة وتجعل البول متلاشياً كأن لم يكن .في المسوى قال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة فصب عليها الماء حتى غلبها طهرت ، والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير ولكنها لا تطهر ، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة . وعند الحنفية رحمهم الله تعالى الغسالة نجسة والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة انتهى .
والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع لأن كون الأصل في التطهير هو الماء قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفاً مطلقاً غير مقيد بل قوله (ﷺ) : الماء طهور يرشد إلى ما ذكرنا إرشاداً تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول ، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهيره شئ من النجاسات يكون بغير الماء كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك ، كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها بل نقتصر عليه هناك ويتعين الماء فيما عداها وهذا هو الحق . وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات ، وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وأبو يوسف رحمه الله تعالى إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر ، ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره بغير الماء أن كانوا يقولون إن الماء يتعين في مثل ذلك ، ويرد على أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومن معه بأن إثبات مطهر لم يرد عن الشارع أو تطهير على غير الصفة الثابتة عنه مدفوع