الرئيسيةبحث

الروضة الندية شرح الدرر البهية/كتاب الطهارة/باب الوضوء


باب الوضوء


فرض مع الصلاة قبل الهجرة بسنة ، وهو من خصائص هذه الأمة بالنسبة لبقية الأمم لا لأنبيائهم .

يجب على كل مكلف لم أراد الصلاة وهو محدث أو جنب : أن يسمي وجه وجوب التسمية ما ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) أنه قال : لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لم يذكر إسم الله عليه أخرجه أحمد رحمه الله تعالى ، وأبو داود رحمه الله تعالى ، وابن ماجه رحمه الله تعالى ، والترمذي رحمه الله تعالى ، في العلل ، والدارقطني رحمه الله تعالى ، وابن السكن رحمه الله تعالى ، والحاكم رحمه الله تعالى ، والبيهقي رحمه الله تعالى ، وليس في إسناده ما يسقطه عن درجة الإعتبار ، وله طرق أخرى من حديثه عند الدارقطني رحمه الله تعالى والبيهقي رحمه الله . وأخرج نحوه أحمد رحمه الله تعالى ، وابن ماجه رحمه الله تعالى من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه ، ومن حديث أبي سعيد رضي الله عنه . وأخرج آخرون نحوه من حديث عائشة رضي الله عنها ، وسهل بن سعد رضي الله عنه وأبي سبرة رضي الله عنه ، وأم سبرة رضي الله عنها ، وعلي رضي الله عنه ، وأنس رضي الله عنه ولا شك ولا ريب أنها جميعاً تنتهض للإحتجاج بها ، بل مجرد الحديث الأول ينتهض للإحتجاج لأنه حسن فكيف إذا اعتضد بهذه الأحاديث الواردة في معناه ، ولا حاجة للتطويل فى تخريجها فالكلام عليها معروف ، وقد صرح الحديث بنفي وضوء من لم يذكر إسم الله وذلك يفيد الشرطية التي يستلزم عدمها العدم فضلاً عن الوجوب فإنه أقل ما يستفاد منه .

إذا ذكر تتقييد الوجوب بالذكر للجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث : ومن توضاً وذكر إسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه ومن توضاً ولم يذكر إسم الله عليه كان طهوراً لأعضاء وضوءه أخرجه الدارقطني رحمه الله تعالى ، والبيهقي رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنه وفي إسناده متروك ، ورواه الدارقطني رحمه الله تعالى ، والبيهقي رحمه الله تعالى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وفي إسناده أيضاً متروك ، ورواه أيضاً الدارقطني رحمه الله تعالى ، والبيهقي رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه ضعيفان ، وهذه الأحاديث لا تنتهض للإستدلال بها وليس فيها أيضاً دلالة على المطلوب من أن الوجوب ليس إلا على الذكر ولكنه يدل على ذلك أحاديث عدم المؤاخذة على السهو والنسيان وما يفيد ذلك من الكتاب العزيز فقد اندرجت تلك الأحاديث الضعيفة تحت هذه الأدلة الكلية ولا يلزم مثل ذلك في الأعضاء القطعية ، وبعد هذا كله ففي التقييد بالذكر إشكال . قال في الحجة البالغة : قوله (ﷺ) لا وضوء لمن لا يذكر الله هذا الحديث لم يجمع أهل المعرفة بالحديث على تصحيحه وعلى تقدير صحته فهو من المواضع التي إختلف فيها طريق التلقي من النبي (ﷺ) ، فقد إستمر المسلمون يحكون وضوء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويعلمون الناس ولا يذكرون التسمية حتى ظهر زمان أهل الحديث ، وهو نص على أن التسمية ركن أوشرط ، ويمكن أن يجمع بين الوجهين بأن المراد هو التذكر بالقلب ، فإن العبادات لا تقبل إلا بالنية وحينئذ يكون صيغة لا وضوء على ظاهرها . نعم التسمية أدب كسائر الآداب لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كل أمر ذي بال لم يبدأ بإسم الله فهو أبتر وقياساً على مواضع كثيرة ، ويحتمل أن يكون المعنى لا يكمل الوضوء لكن لا أرتضي مثل هذا التأويل ، فإنه من التأويل البعيد الذي يعود بالمخالفة على اللفظ انتهى .

وأقول : قد تقرر أن النفي في مثل قوله : لا وضوء يتوجه إلى الذات إن أمكن فإن لم يمكن توجه إلى الأقرب إليها وهو نفي الصحة فإنه أقرب المجازين لا إلى الأبعد وهو نفي الكمال ، وإذا توجه إلى الذات أي لا ذات وضوء شرعية ، أو إلى الصحة ، دل على وجوب التسمية ، لأن إنتفاء التسمية قد استلزم إنتفاء الذات الشرعية ، أو إنتفاء صحتها فكان تحصيل ما يحصل الذات الشرعية ، أو صحتها واجباً ، ولا يتوجه إلا نفي الكمال إلا لقرينة لأن الواجب الحمل على الحقيقة ثم على أقرب المجازات إليها إن تعذر الحمل على الذات ، ثم لا يحمل على أبعد المجازات إلا لقرينة . ويمكن أن يقال أن القرينة ههنا المسوغة لحمل النفي على المجاز الأبعد هي ما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله (ﷺ) : من توضاً وذكر اسم الله على وضوئه كان طهوراً لجسده ومن توضأ ولم يذكر إسم الله على وضوئه كان طهوراً لأعضائه وسنده ضعيف .

ويتمضمض ويستنشق وجهه أنهما من جملة الوجه الذي ورد القرآن الكريم بغسله وقد بين النبي (ﷺ) ما في القرآن بوضوئه المنقول إلينا ، ومن جملة ما نقل إلينا المضمضة والإستنشاق فأفاد ذلك أن الوجه المأمور بغلسه من جملة المضمضة والإستنشاق ، وقد ورد الأمر بذلك كما أخرجه الدارقطني رحمه الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . قال : أمر رسول الله (ﷺ) بالمضمضة والإستنشاق وثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً أن النبي (ﷺ) قال : إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر وثبت عند أهل السنن وصححه الترمذي رحمه الله تعالى من حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه بلفظ وبالغ في الإستنشاق إلا أن تكون صائماً وأخرج النسائي رحمه الله تعالى من حديث سلمة بن قيس رضي الله تعالى عنه إذا توضأت فانتثر وأخرجه الترمذي رحمه الله تعالى أيضاً وفي رواية من حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه المذكور إذا توضأت فمضمض أخرجها أبو داود بإسناد صحيح ، وقد صحح حديث لقيط رضي الله تعالى عنه الترمذي رحمه الله تعالى والنووي رحمه الله تعالى وغيرهما ولم يأت من أعله بما يقدح فيه ، وقد ذهب إلى وجوب المضمضة والإستنشاق أحمد رحمه الله تعالى واسحق رحمه الله تعالى وبه قال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى وحماد بن سليمان رحمه الله تعالى ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الإستنشاق واجب في الغسل والوضوء والمضمضة سنة فيهما ، حكى هذا المذهب النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم عن أبي ثور رحمه الله تعالى ، وداود الظاهري ، وابن المنذر رحمه الله تعالى ورواية عن أحمد رحمه الله تعالى ، وقد روى غيره مثل ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى والثوري رحمه الله تعالى وزيد بن علي رحمه الله تعالى ، وذهب مالك رحمه الله تعالى ، والشافعي رحمه الله تعالى ، والأوزاعي رحمه الله تعالى ، والليث رحمه الله تعالى ، والحسن البصري رحمه الله تعالى ، والزهري رحمه الله تعالى ، وربيعة رحمه الله تعالى ، ويحيى بن سعيد رحمه الله تعالى ، وقتادة رحمه الله تعالى ، والحكم بن عتيبة رحمه الله تعالى ، ومحمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى إلى أنهما غير واجبين واستدلوا على عدم الوجوب بحديث عشر من سنن المرسلين وهو حديث صحيح ومن جملتها المضمضة والإستنشاق ، ورد بأنه لم يرو بلفظ عشر من السنن من الفطرة ، وعلى فرض وروده بذلك اللفظ فالمراد بالسنة الطريقة وهي تعم الواجب لا ما وقع في إصطلاح أهل الأصول ، فإن ذلك إصطلاح حادث وعرف متجدد لا تحمل عليه أقوال الشارع ، وهكذا يجاب عن استدلالهم بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه بلفظ المضمضة والإستنشاق سنة أخرجه الدارقطني رحمه الله تعالى وإسناده ضعيف ، والمراد بالسنة في إصطلاح الشارع وأهل عصره ما دل عليه دليل من قوله (ﷺ) أو فعله أو تقريره ، ولهذا جعلت السنة مقابلة للقرآن فهذه اللفظة أعم من المدعي فإنها تطلق على الواجب كما تطلق على المندوب فيقال مثلا : الدليل على هذا الحكم من السنة ولا يقال : إن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية لأن المراد بالسنة كما عرفت في لسان الشارع ليس ما اصطلح عليه الفقهاء وأهل الأصول فتأمل .

ثم يغسل جميع وجهه والمراد بالوجه ما يسمى وجهاً عند أهل الشرع واللغة ، ووجوب غسل الوجه لا خلاف فيه في الجملة ، وقد قام عليه الدليل كتاباً وسنة .

ثم يديه مع مرفقيه وهو نص القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا خلاف في ذلك وإنما وقع الخلاف في وجوب غسل المرفقين معهما ، ومما يدل على وجوب غسلهما جميعاً حديث جابر رضي الله تعالى عنه عن الدارقطني رحمه الله تعالى ، والبيهقي رحمه الله تعالى أن النبي (ﷺ) أدار الماء على مرفقيه ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وفي إسناده ضعيفان هما عباد بن يعقوب والقاسم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل ، ولكن يغني عن هذا الضعف ما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : أنه توضأ ثم غسل يده حتى شرع في العضد ثم قال : رأيت رسول الله (ﷺ) يتوصأ هكذا وفي رواية الدارقطني رحمه الله تعالى من حديث عثمان رضي الله عنه أنه غسل وجهه ويديه حتى مس أطراف العضدين قال الحافظ : وإسناده حسن ، وأخرج البزار والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد عن أبيه مرفوعاً ثم غسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه وهذا بيان لما في القرآن ، فأفاد أن الغاية داخلة فيما قبلها .

ثم يمسح رأسه ولا خلاف فيه في الجملة ، وإنما وقع الخلاف هل المتعين مسح الكل أم يكفي البعض ؟ وما في الكتاب العزيز قد وقع الخلاف في كونه يدل على مسح الكل أم البعض ، والسنة الصحيحة وردت بالبيان ، وفيها ما يفيد جواز الإقتصار على مسح البعض في بعض الحالات ، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة رضي الله عنه : أنه (ﷺ) توضأ ومسح بناصيته على العمامة وأخرج أبو داود رحمه الله تعالى من حديث أنس رضي الله عنه : أنه (ﷺ) أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر وهذه هي الهيئة التي استمر عليها (ﷺ) ، فاقتضي هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله تعالى عليه وسلم يداوم عليها وهي مسح الرأس مقبلاً ومدبراً وإجزاء غيرها في بعض الأحوال ، ولا يخفى أن قوله تعالى : وامسحوا برؤوسكم لا يفيد إيقاع المسح على جميع الرأس كما في نظائره من الأفعال نحو ضربت رأس زيد ، وضربت برأسه ، وضربت زيداً وضربت يد زيد ، فإنه يوجد المعنى اللغوي في جميع ذلك بوجوب الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة ، وهكذا مافي الآية ، وليس النزاع في مسمى الرأس لغة حتى يقال : إنه حقيقة في جميعه ، بل النزاع في إيقاع المسح عليه ، وعلى فرض الإجمال فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع وتارة بمسح البعض بخلاف الوجه فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال بل غسله جميعاً ، وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية للمسح والغسل ، فإن قلت : إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به قلت لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال : مسحت الثوب أو بالثوب ، أو مسحت الحائط أو بالحائط على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط وإنكار مثل هذا مكابرة ، وقد أوضح ذلك شيخنا العلامة الشوكاني في حاشية الشفاء وغيرها فليراجع .

مع أذنيه وجهه ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مسحهما مع مسح رأسه ، وقد ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بلفظ : الأذنان من الرأس من طرق يقوي بعضها بعضاً .

ويجزئ مسح بعضه قال الشافعي رحمه الله تعال الفرض أدنى ما يطلق عليه إسم المسح ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : مسح ربع الرأس وقال مالك : مسح جميع الرأس. في سفر السعادة . وكان يمسح جميع رأسه أحياناً وأحياناً يمسح على العمامة وأحياناً يمسح على الناصية والعمامة ولم يقتصر على مسح بعض الرأس أبداً ، وكان يمسح الآذان ظاهراً وباطناً ولم يثبت في مسح الرقبة حديث انتهى .

والمسح على العمامة أو غيرهما مما هو على الرأس ، فقد ثبت ذلك عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من حديث عمرو بن أمية الضمري عند البخاري رحمه الله تعالى وغيره ، ومن حديث بلال رضي الله عنه عند مسلم رحمه الله تعالى وغيره ، ومن حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه عند الترمذي رحمه الله وصححه ، وليس فيه المسح على الناصية ، بل هو بلفظ ومسح على الخفين والعمامة وفي الباب أحاديث غير هذه ، منها عن سلمان رضي الله عنه عند أحمد رحمه الله تعالى ، وعن ثوبان رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد رحمه الله أيضاً .

والحاصل : أنه قد ثبت المسح على الرأس وحده ، وعلى العمامة وحدها ، وعلى الرأس والعمامة ، والكل صحيح ثابت ، وقد ورد في حديث ثوبان رحمه الله ما يشعر بالإذن بالمسح على العمامة مع العذر ، وهو عند أحمد رحمه الله وأبي داود رحمه الله أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين وفي إسناده راشد بن سعد قال الخلال في علله : إن أحمد رحمه الله قال : لا ينبغي أن يكون راشد بن سعد سمع من ثوبان رضي الله عنه لأنه مات قديماً .

ثم يغسل رجليه وجهه ماثبت عنه (ﷺ) في جميع الأحاديث الواردة في حكاية وضوئه فإنها جميعها مصرحة بالغسل ، وليس في شئ منها أنه مسح إلا في روايات لا تقوم بمثلها الحجة ، ويؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للماسحين على أعقابهم : ويل للأعقاب من النار كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، ومما يؤيد ذلك وقوع الأمر منه (ﷺ) بغسل الرجلين كما في حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رحمه الله ، ويؤيده أيضاً قوله (ﷺ) : فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم وهو حديث رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة رحمه الله ، ولا شك أن المسح بالنسبة إلى الغسل نقص وكذلك قوله (ﷺ) هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به وكان في ذلك الوضوء قد غسل رجليه ، وكذلك قوله صلى الله تعالىعليه وآله وسلم للأعرابي : توضأ كما أمرك الله ثم ذكر له صفة الوضوء وفيها غسل الرجلين ، وهذه أحاديث صحيحة معروفة وهي تفيد أن قراءة الجر إما منسوخة أو محمولة على أن الجر بالجوار ، وقد ذهب إلى هذا الجمهور . قال النووي : ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع ، وقال الحافظ رحمه الله في الفتح : إنه لم يثبت عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم خلاف ذلك إلا عن علي رضي الله تعالى عنه ، وابن عباس رضي الله عنه ، وأنس رضي الله عنه ، وقد ثبت الرجوع منهم عن ذلك ، وروى سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله قال : إجتمع أصحاب رسول الله (ﷺ) رضي الله عنهم على غسل القدمين وقالت الأمامية : الواجب مسحهما ، وقال محمد بن جرير والحسن البصري رحمه الله والجبائي : إنه مخير بين الغسل والمسح ، وقال بعض أهل الظاهر : يجب الجمع بين الغسل والمسح ، ولم يحتج من قال بوجوب المسح إلا بقراءة الجر ، وهي لا تدل على أن المسح متعين ، لأن القراءة الأخرى ثابتة بلا خلاف بل غاية ما يدل عليه هذه القراءة هو التخيير لو لم يرد عن النبي (ﷺ) ما يوجب الإقتصار على الغسل .

أقول : الحق أن الدليل القرآني قد دل على جواز الغسل والمسح ، لثبوت قراءة النصب والجر ثبوتاً لا ينكر ، وقد وصف تعسف القائلون بالغسل فحملوا الجر على الجوار وأنه ليس للعطف على مدخول الباء في مسح الرأس بل هو معطوف على الوجوه فلما جاور المجرور انجر ، وتعسف القائلون بالمسح فحملوا قراءة النصب على العطف على محل الجار والمجرور في قوله برؤسكم ، كما أن قراءة الجر عطف على لفظ المجرور ، وكل ذلك ناشئ عن عدم الإنصاف عند عروض الإختلاف ولو وجد أحد القائلين بأحد التأويلين إسماً مجروراً في رواية ومنصوباً في أخرى مما لا يتعلق به الإختلاف ، ووجد قبله منصوباً لفظاً ومجروراً لما شك أن النصف عطف على المنصوب والجر عطف على المجرور ، وإذا تقرر هذا كان الدليل القرآني قاضياً بمشروعية كل واحد منهما على إنفراده ، لا على مشروعية الجمع بينهما ، وإن قال به قائل فهو الضعف بمكان لأن الجمع بين الأمرين لم يثبت في شئ من الشريعة . إنظر الأعضاء المتقدمة على هذا العضو من أعضاء الوضوء ، فإن الله سبحانه شرع في الوجه الغسل فقط وكذلك في اليدين وشرع في الرأس المسح فقط ، ولكن الرسول قد بين للأمة أن المفروض عليهم هو غسل الرجلين لا مسحهما ، فتواترت الأحاديث عن الصحابة في حكاية وضوئه (ﷺ) وكلها مصرحة بالغسل ، ولم يأت في شئ منها المسح إلا في مسح الخفين ، فإن كانت الآية مجملة في الرجلين باعتبار إحتمالها للغسل والمسح ، فالواجب الغسل بما وقع منه (ﷺ) من البيان المستمر جميع عمره ، وإن كان ذلك لا يوجب الإجمال فقد ورد في السنة الأمر بالغسيل وروداً ظاهراً ، ومنه الأمر بتخليل الأصابع فإنه يستلزم الأمر بالغسل ، لأن المسح لا تخليل فيه بل يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ ، والكلام على ذلك يطول جداً .

والحاصل : أن الحق ما ذهب إليه الجمهور من وجوب الغسل وعدم إجزاء المسح ، قال في الحجة البالغة : ولا عبرة بقوم تجارت بهم الأهواء فأنكروا غسل الرجلين متمسكين بظاهر الآية ، فإنه لا فرق عندي بين من قال بهذا القول وبين من أنكر غزوة بدر وأحد مما هو كالشمس في رابعة النهار ، نعم من قال بأن الإحتياط الجمع بين الغسل والمسح ، أو أن أدنى الفرض المسح وإن كان الغسل مما يلام أشد الملامة على تركه ، فذلك أمر يمكن أن يتوقف فيه العلماء حتى تنكشف جلية الحال انتهى . قلت : ويدفعه ما تقدم من الدليل على عدم إجزاء المسح والجمع بينه وبين الغسل فلا فائدة للتوقف في ذلك .

مع الكعبين أي مع القدمين للآية . هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم . فالكلام في ذلك كالكلام في المرفقين ، ولكنه لم يثبت في غسلهما عنه (ﷺ) مثل ما ثبت في المرفقين ، وإذا تقرر أنه لا يتم الواجب إلا بغلسهما ففي ذلك كفاية مغنية عن الإستدلال بدليل آخر .

وله المسح على الخفين ويشترط في المسح عليهما أن يكون أدخل رجليه فيهما وهما طاهرتان قال الشافعي رحمه الله : يشترط كمال الوضوء عند اللبس . وقال أبو حنيفة رحمه الله : عند الحدث ، ومسح أعلى الخف فرض ومسح أسفله سنة عند الشافعي رحمه الله ، وقال أبو حنيفة رحمه الله : لا يمسح إلا الأعلى ، وبالجملة : فوجهه ما ثبت تواتراً عن النبي (ﷺ) من فعله وقوله ، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : فيه أربعون حديثاً وكذلك قال غيره ، وقال ابن أبي حاتم رحمه الله : أنه رواه عن النبي (ﷺ) من الصحابة رض أحد وأربعون رجلاً ، وقال ابن عبد البر رحمه الله : أربعون رجلاً . وقال ابن منده : أن الذين رووه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي (ﷺ) ثمانون رجلاً ، ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك رحمه الله أنه قال : ليس في المسح على الخفين عن الصحابة رضي الله عنهم إختلاف ، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره فقد روي عنه إثباته ، وقد ذكر أحمد رحمه الله أن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في إنكار المسح باطل وكذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنه قد أنكره الحفاظ ، ورووا عنهم خلافه ، وكذلك ماروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : سبق الكتاب الخفين فهو منقطع ، وقد روى عنه مسلم رحمه الله والنسائي رحمه الله القول بالمسح عليهما بعد موت النبي (ﷺ) ، وقد روى الإمام المهدي في البحر عن علي رضي الله عنه القول بمسخ الخفين ، وقد ثبت في الصحيح من حديث جرير رضي الله عنه أنه (ﷺ) مسح على الخفين وإسلام جرير رضي الله تعالى عنه كان بعد نزول المائدة لأن آية المائدة نزلت في غزة المريسيع ، وقد روى المغيرة رضي الله عنه عن النبي (ﷺ) المسح على الخفين وأنه فعل ذلك في غزوة تبوك ، وتبوك متأخرة عن المريسيع بالإتفاق ، وقد ذكر البزار رحمه الله أن حديث المغيرة رض هذا رواه عنه ستون رجلاً ، وبالجملة : فمشروعية المسح على الخفين أظهر من أن يطول الكلام عليها ولكنه لما كثر الخلاف فيها وطال النزاع اشتغل الناس بها ، حتى جعلها بعض أهل العلم من مسائل الإعتقاد . وقد ورد توقيت المسح بثلاثة أيام للمسافر وبيوم وليلة للمقيم . قال ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين : سئل رسول الله (ﷺ) عن المسح على الخفين فقال : للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوماً وسأل رسول الله (ﷺ) ابن أبي عمارة رضي الله عنه فقال : يارسول الله أمسح على الخفين ، قال : نعم . قال : يوماً ، قال : ويومين ، قال: وثلاثة أيام ، قال : نعم ما شئت ذكره أبو داود رحمه الله . وطائفة قالت هذا مطلق أحاديث التوقيت مقيدة والمقيد يقضي على المطلق انتهى . وأما مسح الرقبة فقد ورد من الروايات ما يصلح للتمسك به على مشروعية مسح الرقبة وقد بسطه المجتهد الرباني في شرح النتقى ، وقد كاد يقع الإجماع بين أهل المذاهب على أنه بدعة .

ولا يكون وضوءاً شرعياً إلا بالنية لإستباحة الصلاة لحديث إنما الأعمال بالنيات وهو في الصحيحين وغيرهما وورد من طرق بألفاظ ، قال في التلخيص : لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة رحمهم الله من لم يخرجه سوى مالك رحمه الله فإنه فإنه لم يخرجه في الموطأ ، وإن كان ابن دحية رحمه الله وهم في ذلك وادعى أنه في الموطأ ، قال الهروي : كتب هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد . قلت : تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقاً هذا ما كنت وقفت عليه ، ثم إن في المستخرج لابن منده رحمه الله عدة طرق فضممتها إلى ماعندي فزادت على ثلثمائة طريق انتهى . فإن كان المقدر عاماً فهو يفيد أنه لا يثبت العمل الشرعي إلا بها ، وإن كان خاصاً فأقرب ما يقدر الصحة وهي تفيد ذلك ، قال في الفتح : وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد واختلفوا في الوسائل ، ومن ثم خالفت الحنفية رحمهم الله في اشتراطها للوضوء ، ورد ابن القيم رحمه الله على الحنفية رحمهم الله بأحد وخمسين وجهاً في أعلام الموقعين فليرجع إليه ، وقد نسب القول بفرضية النية إلى الشافعي رحمه الله ومالك رحمه الله والليث رحمه الله وربيعة رحمه الله وأحمد بن حنبل رحمه الله وإسحق بن راهوية رحمه الله