الرئيسيةبحث

السيوف المشرقة/المقصد الأول

لنصير الدين محمد الشهير بخواجة نصر الله الهندي المكي، اختصره وشذبه محمود شكري الآلوسي
  ► مقدمة المختصر المقصد الأول في بيان ظهور الرافضة وسبب افتراقهم وعدد فرقهم وبيان أول من لقب الشيعة ومدتهم وذكر مكائدهم المقصد الثاني في الإلهيات ☰  

☰ جدول المحتويات



المقصد الأول في بيان ظهور الرافضة وسبب افتراقهم وعدد فرقهم وبيان أول من لقب الشيعة ومدتهم وذكر مكائدهم


وغير ذلك مما سيجيء إن شاء الله تعالى في فصول متعددة.

الفصل الأول في بيان مبدأ ظهور الرافضة

اعلم أن الله تعالى لما فتح بلاد الكفار من اليهود والنصارى والمجوس وعباد الوثن والنار على أيدي أصحاب رسول الله ﷺ وأيدي من اتبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم وشرفهم وعظمهم وكرمهم، وهلكت أعداء الله بسيوفهم القاطعة وأسنتهم اللامعة وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، ذلك بما قدمت أيديهم من معصية خالقهم عز اسمه وجل علاه؛ تستر من تستر منهم بإظهار الإسلام وجعله جنة لرشق مصيب السهام، فأظهروا الانقياد والإيمان وأبطنوا الضلال والكفران، ومع ذلك فهم لم يألوا جهدا في إعداد ما يطفئ نور الله الذي أراد ظهوره، وأنى لهم ذلك ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فكان الدين المحمدي إذ ذاك في ترقٍ واستظهار، وكلمة المسلمين غير مختلفة ويدهم واحدة على الكفار، فلم يحصل مراد المنافقين من تشتيت شمل الموحدين، ولم يتيسر لأولئك الأشقياء إلقاء العداوة بينهم والبغضاء، حتى خرج أهل مصر بتقدير العزيز العليم على ثالث الخلفاء ذي النورين عثمان بن عفان المبشر على بلوى تصيبه بجنات النعيم. فانتهز المنافقون إذ ذاك فرصة الظفر بمقاصدهم ونيل أوطارهم ومرادهم فاتبعوا أولئك المارقين، واتفقوا مع الخارجين وحملوا حينئذ على قتل عثمان وسقيه كأس المنون، فقتلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون.

فحل بالمسلمين من البلاء ما حل، والأمر كله لله عز وجل. وبعد أن استشهد رضي الله تعالى عنه بويع لعلي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة، وكان أهلا لذلك، فقد اختاره للإمامة من اختار أسلافه. وقد خرج عليه من خرج وبغى عليه من بغى ممن أخطأ في ذلك المنهج، فسمي حينئذ من تابع الأمير بشيعة علي ذي القدر الخطير، وكانوا على اعتقاد أهل الحق، ثم تابعهم المنافقون ومن خرج على عثمان واختلطوا جميعا وقيل للكل شيعة علي. وكان من جملة المنافقين عبد الله بن سبأ اليماني الصنعاني. وكان أول أمره يهوديا خبيث النفس، فأظهر للشيعة الذين كانوا على نهج الحق كمال المحبة لعلي وسائر أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وحث المسلمين على ذلك ورغبهم فيما هنالك، وهو يستبطن إضلالهم وتفريق شملهم، حتى تأكد لديهم أنه من المخلصين ومن أجلة المسلمين، وأنه حل عندهم أعلى محل.

ولما تيقن أن قوله لديهم يسمع وأمره مقبول ومطاع وأن خزعبلاته تروج عليهم، ذكر لهم أن أمير المؤمنين أفضل البشر بعد رسول الله ﷺ لأنه أخوه وابن عمه ووصيه وصهره وأولى الناس به، وتلا لهم الآيات الواردة في فضائله وروى الأحاديث الصحيحة والموضوعة في مناقبه. فلما صدقوه بذلك وانطوت عقائدهم على ما هنالك، ألقى على طائفة من هؤلاء الشيعة دسائس أخرى، وهي أن أمير المؤمنين كان وصي النبي ﷺ وخليفته من بعده، وقد نصّ على خلافته وأمر أصحابه باتباعه والاعتراف بإمامته وأوصاهم بإطاعته وأنزل الله تعالى فيه لما تصدق بخاتمه وهو في الصلاة راكعا: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}، ولكن الصحابة أضاعوا وصيته في وصيّه، ولم يطيعوا الله ورسوله فيما أمروا به، ونبذوا أمر الرسول وراء ظهورهم وارتدوا على أعقابهم إلا أربعة منهم، وعصب أبو بكر وصاحباه حقه وظلموه. فاعتقدوا ذلك حقا وحسبوا هنالك صدقا، فصدق إبليس عليهم ظنه فاتبعوه من دون الله، لا يلتفتون في ذلك لعذل عاذل ولا يصغون لقول قائل ولا يفيدهم الوعظ والزجر ولا ينفعهم الدعاء والذكر. والذكرى تنفع المؤمنين وتفيد الموحدين.

ثم إن ابن سبأ لما رأى من طاعة قومه له ما رأى وحصل له بعض الأماني، قصد أن يظهر مطلوبه ويطلب منهم مراده ومقصوده، فاختلى بطائفة منهم ممن لا يفرق بين القشر واللب ولا يميز بين الغث والسمين، وناجاهم بأنكم قد شاهدتم من خوارق الأمير ما شاهدتم وعلمتم أن ذلك مما لا يمكن صدوره عن بشر، كقلب الأعيان وإحياء الموتى والإخبار عن الغيوب وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك، فما تقولون فيه؟ قالوا أنت أعلم به منا وأبصر بحاله. قال هلموا إلي في الليل أبين لكم رأيي فيه. فلما جاءوه عشاءً قال: يا معشر الأحباب وذوي الألباب، إنكم لتعلمون أنه لا يمكن صدور مثل تلك الأمور إلا من الله، فاعلموا أن عليا هو الإله لا إله إلا هو، وقد سمعت منه أنه يناجي: أنا حي لا يموت، أنا باعث من في القبور، أنا أقيم القيامة! فجذبهم بعنان كذبه وافترائه إلى الكذب والضلال لأنهم كانوا مستعدين لمثل هذا، {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا}، وكل ميسر لما خلق له، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}.

وكان ابن سبأ يدعو الناس إلى ما دعى إليه سرا وعلانية، حتى قال هو وأصحابه للأمير شفاها بعد ما رأوا شيئا من خوارقه: أنت الإله حقا، فزجرهم ونهاهم عن ذلك واستتابهم، فأظهروا التوبة، فنفاهم إلى المدائن. فلما استقر ابن سبأ وأصحابه بها شرعوا يغوون الناس ويستميلونهم إلى عقائدهم الخبيثة، ووافقهم جم غفير على القول بألوهية علي رضي الله تعالى عنه، فضلوا ضلالا بعيدا.

وسيّر ابن سبأ دعاته إلى البلاد الدانية والقاصية ليدعوا الناس إليه، حيث لم يكن له عن هذا الأمر دافع ولا صاد.

وافترقت الشيعة حينئذ إلى أربع فرق

الفرقة الأولى المخلصون: وهم الناجية الذين هم أهل السنة والجماعة ما عدا البغاة.

الفرقة الثانية التفضيلية: وهم الذين يفضلون عليا كرم الله تعالى وجهه على كافة أصحاب رسول الله ﷺ.

والثالثة السبئية: وهم الذين يسبون أصحاب رسول الله ﷺ، بل يكفرونهم، وحاشاهم رضي الله تعالى عنهم.

والرابعة الغلاة: وهم الذين يقولون بألوهية علي كرم الله تعالى وجهه.

ثم إنه قد افترق كل من الفرقتين الأخيرتين إلى فرق كثيرة وصاروا طرائق قددا. وسيجيء إن شاء الله تعالى ذكرهم بالتفصيل، ومنه الهداية والتوفيق.

الفصل الثاني في بيان سبب افتراق الرافضة

اعلم أن ابن سبأ لما دعى الناس إلى ما دعاهم إليه من الرفض والضلال، وأجابه من أجابه من الحمقاء، صارت الرافضة فرقتين، وكانت دعاة كل فرقة يدعون الناس إلى مذهبهم. ولما دعى بعض دعاة الفرقة الغلاة إلى مذهبه طائفة من الفرقة السبئية وتبعه منهم من تبعه، وكان فيهم من له أدنى روية وعقلٍ أعرض عنه وشدد عليه النكير، وقال من يأكل ويشرب ويصحّ ويمرض ويجوع ويعرى ويلد ويولد كغيره من الحيوانات أنى يسوغ أن يدعى فيه الألوهية.

فلما أذعن طائفة منهم إلى هذا القول واستشكل عليه الأمر والتبس عليه طريقه، راجع من يعوّل عليه ويقبل قوله لديه، ففكر وقدر ثم قتل كيف قدر، ثم قال له مجيبا: إن الله روح حلّ في علي وهو ليس بإله، وإنما حلّ الإله فيه كما حلّ في عيسى بن مريم واتحد بناسوته. فاستحسنه جماعة من الحمقى وعقدوا قلوبهم عليه. فافترقت فرقة الغلاة إذ ذاك فرقتين: فرقة تقول إن عليا هو الإله، وأخرى تقول بحلول الإله فيه. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ثم زاد رؤساء كل فرقة ما دعته له أهواؤهم وأوحته إليهم شياطينهم. فكثرت فرقهم وتشعبت طرقهم. ولما استشهد ريحانة الرسول الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه، ومضت برهة من الزمان، نهض كيسان مولى السبط الأكبر يدعو الناس إلى إمامة محمد بن علي بن أبي طالب، لأنه بعد أن جاء مولاه بنفسه لازم صحبة أخيه محمد وأخذ عنه غرائب العلوم، فلبى دعوته جمع من الفرقة الأولى، منهم مختار بن أبي عبيدة الثقفي، وسمَت نفسه للسلطنة، فادعى أنه استخلفه محمد لطلب ثأر أخيه والجهاد مع أعدائه، إلا أنه قال بإمامة السبطين وكان كيسان ينكرها، ودعى جمعا كثيرا إلى مذهبه فاتبعوه، ولقب أصحابه بالمختارية. وحاربوا معه النواصب من المروانية فهزموهم بإذن الله، واستولى على العراق وديار بكر والأهواز وأذربيجان. ثم اختلفوا في الإمام بعد محمد:

فقال أبو كريب وكان من رؤسائهم: محمد خاتم الأئمة، وقد اختفى من خوف الأعداء وسيظهر بعد حين.

وقال إسحاق منهم: الإمام بعد محمد ابنه أبو هاشم بن حرب، وكان من رؤساء الكيسانية.

وذهبت فئة من موالي آل جعفر بن أبي طالب إلى أن الإمام بعد أبي هاشم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وتبعهم جمع كثير.

وذهبت جماعة أخرى من الكيسانية إلى أن الإمام بعد ابي هاشم علي بن عبد الله بن عباس لما انتقلت الخلافة إلى آل عباس ثم إلى أولاد المنصور.

ولما خرج زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم على ابن عبد الملك بن مروان الأموي، وتابعه جماعة من الشيعة المخلصين واثنا عشر ألفا من الفرقة الأولى من الرافضة، وحاربوا معه يوسف بن عمرو الثقفي أمير العراقين، ورفضه الرافضة واستشهد؛ قال لأصحابه: إن الإمام بعد الحسين زيد. ثم اختلفوا في تعيين الإمام بمقتضى ما عرض لأوهامهم.

ونهض بعض الفرقة الأولى لما سمَت نفسه للرئاسة يدعو الناس إلى إمامة الحسن المثنى بن الحسن السبط، وجمع [عددا] منهم إلى إمامة علي بن الحسين. وكان أفضل أهل زمانه في العلم والورع. فاتبعه جمع كثير ودعوا الشيعة إليه.

وكان من تلك الدعاة هشام بن الحكم الأحول وهشام بن سالم الجواليقي وشيطان الطاق والميثمي وزرارة بن أعين.

وقالوا الإمام بعد علي بن الحسين ابنه محمد الباقر. واختلفوا فيه، فقال جمع إنه حي وقال آخرون إنه مات والإمام ابنه زكريا وهو حي. وقالت جماعة الإمام بعده ابنه الصادق، فتبعهم جمع كثير ولقبوا بالإمامية. وزاد كل منهم في أصول المذهب أشياء ودعى الناس إليه فتبعه جمع كثير. فافترقت الإمامية ست فرق: الحسنية والحكمية والسالمية والشيطانية والميثمية والزرارية. ثم اختلفوا في الإمام بعد الصادق. فقالت جماعة هو حي لكنه اختفى وسيظهر بعد حين، وقال جمع إنه مات والإمام بعده ابنه موسى. ثم افترقوا وسبب ذلك اختلافهم في تعيين الإمام بعد الإمام السابق أو إنكار أو ادعاء رجوعه بعد الموت، ولذلك كثرت فرقهم.

وقالت جماعة أخرى الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل. وافترقوا فرقتين. منهم من قال إنه حي وهو خاتم الأئمة، ومنهم من قال إنه مات والإمام بعده ابنه محمد.

وافترقت الفرقة الثانية أيضا. وسبب افتراقهم أنه لما مات إسماعيل خلّف ابنا يدعى محمدا، فقدم مع جده إلى بغداد ومات هناك ودفن في مقابر قريش. وكان له عبد حجازي سماه المبارك، وكان مشهورا بجودة الخط والقرمطة، فلاقاه عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي بعد وفاة الصادق، فادعى أنه من شيعة هؤلاء، وكان ينادمه ويلازمه حتى حل عنده محل الروح من الجسد وقال: قد ظهر لي من مولاك محمد ما ظهر من الأسرار المكتومة على غيري، فراج عليه كذب حتى ألحّ عليه أن يبين له ما باح له مولاه من أسراره، فقال له: بشرط أن يجعل ليلك ليل أنقد، وأعطاه مال عن ظهر يد. فذكر له شيئا من كلام الأئمة في المقطعات، ودس فيه شيئا من الفلسفة، وعلمه طرفا من الشعوذة والسحريات والطلاسم، وكان ماهرا في تلك العلوم. وقد ذكره محمد بن زكريا الرازي في كتاب المخاريق مع غيره من الحكماء. ثم بين له شيئا من عقائده الزائغة، فراج عليه زيفها وقبل ما ألقاه عليه. ثم افترقا. فخرج المبارك إلى الكوفة ودعا أهلها إلى مذهب الإسماعيلية، فأجاب دعوته جمع كثير ممن لا يفرق بين النقير والقطمير، ولقب شيعته بالمباركية والقرامطية أيضا. وخرج عبد الله بن ميمون إلى قهستان العراق ودعى جمعا إلى مذهبه، فاتبعه فريق من الضالين ورهط من المفسدين، ولقب شيعته بالميمونية. ثم استخلف رجلا اسمه خلف سيّره إلى خراسان وقم وقاشان، فأضل من ابتع هواه وأطاع الشيطان وعصى الإله. وارتحل ميمون إلى البصرة فدعى جمعا من أهلها إلى مذهبه فأبى أكثرهم. ولم يزل يروق لهم كلماته ويموه عليهم غلطاته حتى أجابه الغفير الجمّ منهم. وقدم خلف طبرستان ودعى الشيعة إلى مذهب القداح، وقال هو مذهب أهل البيت، وإذا خرج قائمهم أذاع ذلك وسيخرج عن قريب. ثم قدم الكوفة فأضل من أضل. ثم توجه إلى نيسابور فأقام في قراها يدعو الناس إلى مذهبه الباطل، فأجابه من الجهلة من أجابه. وقد انتشر أمره بين أهل السنة فقصدوه، فلما أحس بذلك هرب منهم وشرع يجول في الفلوات، إلى أن قصم الله عمره. ثم أقام مقام الخلف بعده أحمد واستخلف رجلا من علماء السوء اسمه غياث وسيره إلى العراق وحثه على استمالة الناس إلى مذهبه.

وكان غياث أديبا ماهرا في النحو واللغة شاعرا مجيدا، فصنف في أصول مذهب الباطنية كتابا سماه بالبيان، وقد رصعه بأمثال العرب وأشعارهم، واستدل على مذهبه بالآيات والأخبار، وذكر معنى الوضوء والصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها من الأحكام لغةً، وقال هو مراد الشارع دون ما فهمته العامة. وكان كثير الجدل والمناظرة مع مخالفيه، فأتاه ذوو الضلال من كل فج عميق وأسرعوا له من كل بلد سحيق، ليأخذوا عنه مذهبه الباطل ظنا منهم أنه الحق، ولم يدروا أنه بعيد عنه بمنازل. ولقب تابعيه بالخليفية، وكان ذلك سنة اثنين ومائتين. فينما هو راكب متن ضلاله سائر في أودية سوء أفعاله إذ أخبره رجل بأن الملأ يريدون قتلك. فخرج حينئذ منها إلى مرو الشاهجان. فأقام هناك مدة وأضل فيه من أضل بتقدير الله عز وجل. ثم رجع إلى الري فأُخبر أن أهل السنة يطلبونه، فهرب منهم هو وأتباعه الفجرة، فاختارته المنية في الطريق، ومات في البصرة ودفن هناك.

واستخلف بعده ولده أحمد. وكان يتلو تلو أبيه من البصرة إلى الشام ولم ينل هناك شيئا من بغيته، فارتحل إلى المغرب وثوى في بلد كان أكثر أهله كالأنعام. ودعاهم إلى مذهب الإسماعيلية فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين. ثم رجع إلى الشام فلم ينل مراده أيضا، فقدم البصرة ولقي هناك هند الأخاسس، وخلّف ابنه محمدا، فخرج إلى المغرب فعلا قدره ثمّة، وادعى أنه هو المهدي الموعود به. فاستولى على الإفريقية وغيرها من بلاد المغرب. ولقب أتباعه بالمهدوية. ثم افترقت المهدوية بعد مدة فرقتين. وسبب ذلك أن المستنصر من ولد المهدي نصّ على إمامة ولده نزار ثم على إمامة ولده المستعلي، فأخذ جمع بالنص الأول وآخرون بالثاني.

ثم خرج من هؤلاء القوم محمد بن علي البرقعي في الأهواز سنة خمس وخمسين ومائتين. وادعى أنه من العلوية ولم يكن منهم، إلا أن بعض العلوية تزوج بأمه فعزا نفسه إليه. واستولى على خوزستان بصرة وأهواز. وأضل خلقا كثيرا من الناس. ولقب أتباعه بالبرقعية.

وأرسل إليهم المعتضد العباسي غير مرة جنودا كثيرة، فغلبوا عليهم في كل مرة بتقدير الله تعالى. وبقي خمس عشرة سنة في أرغد عيش حتى أتى أمر الله، فسيّر المعتضد جنودا لا قبل لهم بها، وذلك سنة سبعين ومائتين، فقاتلوا جنوده أشد القتال، فهزموهم بإذن الله وأسروا البرقعي وذهبوا به إلى بغداد. فأمر المعتضد أمير العسكر أن يقتله ويصلبه في جذع نخلة، ففعل كما أمر، فاضمحل الباطل حينئذ وانقشعت غيوم الضلال وتفرقت أتباعه أيادي سبأ.

ثم خرج سنة ثمان وسبعين ومائتين رئيس القرامطة واستولى على قطيف. وخرج هذه السنة فيما وراء النهر رجل منهم يقال له حكيم بن هشام الملقب بالمقنع، وكان بليغا ماهرا في علوم الشعوذة والحيل والنجوم والسحريات والطلمسات وكثير من علوم الفلاسفة، وكان يظهر للناس أمورا غريبة من السحر والشعوذة. فتبعه جمع كثير من الجهلة، حتى عمل قليبا في بلدة نسف يخرج منه بعد المغرب قمر منير يضيء خمس فراسخ ثم يأفل فيه قبل طلوع الفجر. فكثرت أتباعه إذ ذاك. ولقب تابعيه بالمقنعية. وادعى الخبيث أنه رابع أربعة آلهة فصدقته شيعته.

فأرسل إليه الخليفة وملوك ما وراء النهر جنودا تترى يقاتلونهم ثم يغلبون، حتى جاء أمر الله، فأرسل الخليفة والملوك وأمراء خراسان جنودا متتابعة، فحاربهم فضاقت عليه الأرض، فتحصن هو وأصحابه حصنا حصينا قد بناه على بعض التلال وهرب الآخرون منهم، وقاتل المسلمون أهل الحصن من وراء الجدر. فلما نفد ما عندهم من الزاد أمر أصحابه أن يوقدوا نارا عظيمة فأوقدوها، ثم سقاهم سما مع الخمر فماتوا جميعا، فألقى أجسادهم في النار، فلما صارت رمادا نسفها نسفا، ثم دخل الخبيث في جب من المياه الحارة التي لا يقع فيها شيء إلا صار ماءً، وكانت في زاوية من زوايا الحصن جارية مريضة قد أغمي عليها، فأفاقت بعد يومين ولم تر أحدا في الحصن، فزحفت إلى الباب فنادت أن ليس في الحصن أحد غيري، فستور جمع منهم الحصن فلم يروا منهم أحدا، فنزلوا وفتحوا الباب ودخل فيه المسلمون فلم يروا منهم أثر فتعجبوا. وزعم أتباعه الذين تفرقوا في البلاد أنه عرج هو وأصحابه إلى السماء.

وخرج أيضا رجل منهم في عهد المعتضد، وهو أبو سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، في البحرين على أبحر والحسا والقطيف وسائر بلاد البحرين. ودعى الناس إلى مذهب الباطنية من الرافضة. ولقب تابعيه بالجنابية. وكانوا يغيرون على القرى ويقطعون السبل ويقتلون المسلمين. فقتله خادم له في الحمام سنة إحدى وثلاثمائة. وقام مقامه ولده طاهر، وكان هو وأبوه على عقيدة واحدة، وهوه الذي قتل الحجاج في الموسم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وقيل قتلهم أبوه. وأذاع مذهب الباطنية. وكان يسعى غاية السعي في الإضلال حتى صاحت به وبأكثر أتباعه حوادث الدهر.

ونهض حمدان منهم، وكان من قرمط يدعو الناس إلى إمامة محمد بن إسماعيل وأنه حي لم يمت وهو المهدي. ولقب أتباعه بالقرمطية، وغلب عليهم بهذا اللقب، ولا يلقب به المباركية بعده.

ثم نهض ابن أبي الشمط وخالف حمدان وقال الإمام بعد إسماعيل أخوه محمد ثم أخوه موسى الكاظم ثم أخوه عبد الله ثم أخوه إسحاق. ولم ينكر إمامة محمد بن إسماعيل لكن أنكر حياته. ودعى الناس إليه. ولقب أصحابه بالشمطية. وعاش أعواما في إضلال الناس حتى ورد حياض غتيم.

والميمونية والخلفية والبرقعية والمقنعية والجنابية والقرمطية كلهم من الباطنية. ولا خلاف بينهم في العقائد إلا في بعض المسائل. وكلهم يوجبون العمل ببواطن النصوص لا بظواهرها، ولذا لقبوا بالباطنية. لكن لقبت كل قوم منهم بلقب ليتعارفوا، إلا أن المقنع في أواخر ايامه ادعى الألوهية.

والباطنية كلهم من الإباحية وغلاة الرافضة. وكان بين البرقعي والمقنع والقرمطي عيبة مكفوفة، وكان بينهم مكاتبات، وهم على وتيرة واحدة. وأول من دعى الناس إلى مذهب الباطنية القداح. وأول من جهر به البرقعي ثم المقنع والجنابي ثم الحسن من النزارية ثم غير واحد من ولده. والمهدوية منهم يبالغون في إجراء الأحكام الشرعية خشية أن ينفر عنهم الناس.

وتقول أئمتهم لكل من شيعتهم سبح يغتروا.

الفصل الثالث في بيان فرق الشيعة

اعلم أن فرق الشيعة كثيرة، وأصولهم خمسة: الشيعة الأولى والغلاة والكيسانية والزيدية والإمامية. وأصل الفرق الأربعة الكذب والبهتان، وجل مقالاتهم في اتباع الهوى.

أما الشيعة الأولى فهم المخلصون. وهم الذين شايعوا عليا كرم الله تعالى وجهه بعد أن بايعه المسلمون للخلافة ولازموا صحبته من المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة وغيرهم ممن تبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم. وهؤلاء افترقوا فرقتين: السنية قالوا إن عليا هو الخليفة بعد عثمان والإمام الذي افترضت طاعته، ومن خرج عليه فو باغ مخطئ؛ والتفضيلية قالوا إن عليا وأولاده أحق بالخلافة من غيرهم وهو أفضل الناس بعد رسول الله ﷺ، ولا يذكرون الصحابة إلا بخير ولا يعزونهم إلى الضلال. ولا خلاف بينهم وبين الفرقة الأولى في هذه المسألة.

وأما الغلاة فأربع وعشرون فرقة

الأولى السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ. قالوا إن عليا هو الإله حقا وإنه لم يقتل وإنما قتل ابن ملجم شيطانا تصور بصورته وإنه في السحاب وإن الرعد صوته والبرق سوطه وإنه ينزل بعد حين يقتل أعداءه.

الثانية المفضلية: أصحاب المفضل الصيرفي. قالوا في الأئمة مثل ما قالت النصارى في المسيح وإنه تعالى حل فيهم واتحد بناسوته وإن النبوة لم تنقطع، وينتحلون النبوة والرسالة.

الثالثة السريغية: أصحاب السريغ. قالوا إن الله تعالى حل في خمسة أشخاص، النبي والعباس وعلي وجعفر وعقيل.

الرابعة البزيعية: أصحاب بزيع بن يونس. قالوا جعفر بن محمد هو الإله لا يرى، ولكن شبه بهذه الصورة، والأئمة يوحى إليهم ويرقون في الملكوت.

الخامسة الكاملية: أصحاب أبي كامل. قالوا إن لله تعالى مكانا وإن الأرواح تتناسخ وكان روح الله في آدم ثم في ولده شيث ثم في الأنبياء والأئمة، وكذلك تتناسخ في سائر بني آدم، وإن الصحابة كفروا بترك بيعة علي، وكذا علي بترك طلب الحق.

السادسة المغيرية: أصحاب مغيرة بن سعد العجلي. قالوا إن الله تعالى على صورة رجل وإنه جسم على رأسه تاج من نور قلبه منبع الحكم.

السابعة الجناحية: قالوا الأرواح تتناسخ، وكان روح الله تعالى في آدم ثم في شيث ثم سائر الأنبياء والأئمة حتى انتهت إلى علي وأولاده الثلاثة ثم إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، وهو الإمام بعد محمد بن الحنفية. وأنكروا المعاد واستحلوا المحارم.

الثامنة البيانية: أصحاب بيان بن سمعان النهدي. قالوا إن لله تعالى صورة وإنه حل في علي واتحد بناسوته ثم في ابنه محمد ثم في ولده أبي هاشم ثم في بيان واتحد بناسوته.

التاسعة المنصورية: أصحاب أبي منصور العجلي، ويقال لهم العجلية أيضا. قالوا الرسل لا تنقطع أبدا وإن العالم قديم. وأنكروا الأحكام والجنة والنار وأولوها. وقالوا الإمامة صارت إلى محمد بن علي بن الحسين ثم انتقلت منه إلى أبي منصور هذا.

العاشرة الغمامية: ويقال لهم الربيعية أيضا. قالوا إن الله تعالى ينزل إلى الأرض كل ربيع في غمام فيطوف الدنيا ثم يعرج إلى السماء.

الحادية عشرة الأموية: أصحاب الأموي. قالوا إن عليا كان شريكا لمحمد في النبوة.

الثانية عشرة التفويضية: قالوا إن الله تعالى خلق الدنيا وفوضها إلى محمد وأباح له كل ما فيها. وقالت طائفة منهم فوضها إلى علي. وقالت أخرى إليهما.

الثالثة عشر الخطابية: أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي. قالوا إن الأئمة أبناء الله وعلي إله وجعفر الصادق الإله الأصغر وأبو الخطاب نبي، والأنبياء فرضوا على الناس طاعة أبي الخطاب. وكان يأمر أصحابه بشهادة الزور على مخالفيه.

الرابعة عشر المعمرية: أصحاب المعمر. قالوا جعفر بن محمد الصادق نبي ثم بعده أبو الخطاب وبعد قتله معمر، وأحكام الشريعة مفوضة إلى النبي وقد أسقطها معمر. وهؤلاء فرقة من الخطابية.

الخامسة عشر الغرابية: قالوا إن الله تعالى أرسل جبريل فغلط في تبليغ الرسالة من علي إلى محمد، وكان محمد لعلي أشبه من الغراب بالغراب، لذلك لقبوا بالغرابية.

السادسة عشر الذبابية: قالوا إن عليا إله وإن محمدا نبي وهو أشبه له من الذباب بالذباب. وهؤلاء طائفة من الغرابية رجعوا عن عقيدتهم إلى هذه العقيدة.

السابعة عشر الذمية: قالوا إن عليا إله، ويذمون محمدا لأنهم يزعمون أن عليا هو الإله وقد بعث محمدا ليدعو الناس إليه فدعاهم إلى نفسه دونه، فلذا لقبوا بالذمية.

الثامنة عشر الاثنينية: قالوا إن محمدا وعليا كلاهما إله، وافترقوا فرقتين؛ فقدمت فرقة عليا وقدمة فرقة أخرى محمدا، وهؤلاء الفرقة من الذمية رجعوا عن الذم وشاركوا محمدا مع علي في الإلهية.

التاسعة عشر الخمسية: وهم فرقة من الذمية أيضا. قالوا الآلهة خمسة محمد وعلي وفاطمة وحسن والحسين، وزعموا أن الخمسة شيء واحد وأن الروح حالة فيهم على السوية لا مزية لواحد منهم على الآخر. ومن أعجب العجائب أن طائفة منهم كانوا يحذفون التاء من فاطمة تحاشيا عن وصمة التأنيث مع اعترافهم بأنها بنت محمد وبعلة علي وأم الحسن والحسين، وذلك من فرط شركهم وجهالتهم وغباوتهم وضلالتهم. وربما يطلق عليهم وعلى الاثنينية النزة الأولى مع أنهم تبرؤوا عن الذم.

العشرون النصيرية: أصحاب نُصير. قالوا إن الله تعالى حل في علي ثم الأئمة من ولده، ولذا أطلقوا الألوهية على علي والأئمة.

الحادية والعشرون الإسحاقية: أصحاب إسحاق. قالوا الأرض لا تخلو من نبي، والله حل في علي ثم في الأئمة من ولده كما قالت النصيرية. إلا أنهم اختلفوا فيمن حل الله فيه بعد علي من ولده.

الثانية والعشرون [العلبائية] : أصحاب [علباء] بن دراع الأوسي، وقيل الأسدي. قالوا إن عليا هو الإله وهو أفضل من محمد وإن بايعه.

الثالثة والعشرون الرزامية: أصحاب الرزام. قالوا الإمام بعد علي ابنه محمد ثم ولده أبو هاشم ثم علي بن عبد الله بن العباس بوصية أبي هاشم له ثم محمد بن علي ثم أولاده إلى المنصور ثم حل الله تعالى في أبي مسلم صاحب الدعوة وإنه لم يقتل. واستحلوا المحارم وتركوا الفرائض.

الرابعة والعشرون المقنعية: أصحاب المقنع. ادعوا الألوهية في المقنع، وقالوا الآلهة أربعة علي والحسن والحسين والمقنع. وهؤلاء فرقة من الرزامية.

وأما الكيسانية فهم أصحاب كيسان مولى الحسن السبط، وقيل مولى علي بن أبي طالب. وقال الجوهري في صحاحه: كيسان لقب المختار، وتبعه غيره. والصحيح ما قدمناه. تتلمذ على محمد بن علي وأخذ عنه العلوم الغريبة. وهم ست فرق:

الفرقة الأولى الكربية: أصحاب أبي كريب الضرير. قالوا الإمام بعد علي ابنه أبو القاسم محمد لأن عليا رفع إليه الراية بالبصرة وإنه حي مقيم بجبل رضوى في شعب منه، وهو صاحب الزمان، دخل الشعب ومعه أربعون رجلا من أصحابه، وعنده عينان نضاختان يجريان عسلا وماء. وإلى هذا يشير كُثير عزة الشاعر المشهور من جملة أبياته، وكان كيساني الاعتقاد:

وسبط لا يذوق الموت حتى ** يقود الخيل يقدمها اللواء

تغيّب لا يُرى فيهم زمانا ** برضوى عنده عسل وماء

وأبو كريب هذا أول من قال باختفاء صاحب الزمان من خوف الأعداء وظهوره بعد حين، وتبعه جماهير الإمامية فوقعوا في وادي الجبت.

الفرقة الثانية الإسحاقية: أصحاب إسحاق بن عمر. قالوا الإمام بعد محمد ابنه أبو الهاشم وبعده أولاده بوصية الآباء للأبناء.

الفرقة الثالثة الكندية: أصحاب عبد الله بن الحرب، ويقال لهم الحربية أيضا. قالوا الإمام بعد أبي الهاشم عبد الله بن الحرب الكندي بوصيته له.

الفرقة الرابعة العباسية: قالوا الإمام بعد أبي الهاشم [علي بن عبد الله بن العباس] ثم انتقلت إلى ولده محمد بن علي بوصية له ثم انتقلت إلى ابنه.

الفرقة الخامسة الطيارية: قالوا الإمام بعد أبي الهاشم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب بوصية له.

الفرقة السادسة المختارية: أصحاب مختار بين أبي عبيدة الثقفي. قالوا الإمام بعد علي ابنه الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية.

(فرق الزيدية)

وأما الزيدية فهم المنسوبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وهم تسع فرق:

الفرقة الأولى الزيدية المخلصون: الذين هم أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأخذوا عنه أصول المذهب وفروعه، ولا يتبرؤون من الصحابة ولا يذكرونهم إلا بخير. وقالوا الإمامة كانت حق علي إلا أنه ترك الولاية للمتقدمين عليه، وإن بيعة أبي بكر وصاحبيه لم تكن على خطأ لأن عليا رضي بها. ومذهبهم موافق لمذهب أهل السنة ولا خلاف بينهم إلا في هذه المسألة، وقد وافقوا بها الفرقة الثانية من فرقتي الشيعة الأولى. ولا يغلون في دينهم. ومن القائلين بصحة إمامته وجواز خروجه على الظلمة ووجوب اتباعه أبو حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي. وغيّر مذهبه من جاء بعده من الزيدية.

الفرقة الثانية الجارودية: أصحاب أبي الجارود زياد بن أبي الزياد. قالوا الإمام بعد النبي ﷺ علي بن أبي طالب بالنص عليه وصفًا لا تسمية. وكفروا الصحابة بتركهم الاقتداء بعلي بعد النبي ﷺ وبعده الحسن وبعده الحسين. والإمامة بعدهما شورى في أولادهما، فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام، فزيد إمام ويحيى ابنه إمام. واختلفوا في المنتظر. فقالت طائفة المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسين بن الحسن الذي ادعى الإمامة وقتل في أيام المنصور وقالوا إنه حي لم يقتل. وذهبت جماعة منهم إلى أنه محمد بن القاسم بن الحسين صاحب طالقان، أسر في أيام المعتصم وحبس حتى مات في الحبس، وأنكروا موته، وزعمت عصبته أنه يحيى بن عمر من أحفاد زيد نبن علي بن الحسين صاحب الكوفة، قتل أيام المستعين بالله وأنكروا قتله.

الفرقة الثالثة الجريرية: ويقال لهم السليمانية أصحاب سليمان بن جرير. قالوا الإمامة شورى فيما بين الخلق، وإنما تنعقد برجلين من خيار المسلمين، وأبو بكر وعمر إمامان وإن أخطأت الأمة في البيعة لهما مع وجود علي. وكفروا عثمان وطلحة والزبير وعائشة.

الفرقة الرابعة البترية: ويقال لهم الثومية أصحاب البتر الثومي، وهو المغيرة بن سعد الملقب بالأبتر. وقالوا بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك البيعة لهما، وتوقفوا في عثمان. وقالوا علي إمام حين بويع.

الفرقة الخامسة النعيمية: أصحاب نعيم بن اليمان. قالوا مثل ما قالت البترية إلا أنهم يكفرون عثمان ويتبرؤون منه دون غيره من الصحابة.

الفرقة السادسة الدكينية: أصحاب الفضل بن دكين. قالوا مثل ما قالت الجارودية إلا أنهم يكفرون طلحة والزبير وعائشة دون غيرهم من الصحابة.

الفرقة السابعة الخشبية: أصحاب خلف بن عبد الصمد. قالوا الإمامة شورى بين أولاد فاطمة ويجب الخروج على من تقمص بالخلافة من غيرهم. سموا بذلك لأنهم خرجوا على السلطان ولم يكن لهم سلاح غير الخشب.

الفرقة الثامنة اليعقوبية: أصحاب يعقوب. قالوا بالرجعة، وينكرون إمامة أبي بكر وعمر، ومنهم من يتبرأ منهما.

الفرقة التاسعة الصالحية: أصحاب الحسن بن صالح. قالوا الإمامة شورى في أولاد فاطمة، فمن خرج منهم وهو عالم شجاع سخي فهو إمام.

(فرق الإمامية)

وأما الإمامية فهم يزعمون أن زمان التكليف لا يخلو من إمام من أولاد فاطمة. وهم تسع وثلاثون فرقة:

الأولى الحسنية: قالوا الإمام بعد علي ولده الحسن ثم الحسن المثنى بوصيته له وهو الذي لقب بالرضا من آل محمد، ثم بعده ولده محمد الملقب بالنفس الزكية، ثم بعده أخوه إبراهيم بن عبد الله، وهو وأخوه خرجا أيام خلافة المنصور الدوانيقي ودعيا الناس إلى نفسيهما واجتمع إليهما خلائق لا تحصى وقتلا.

الثانية النفسية: قالوا النفس الزكية لم يقتل لكنه غاب وسيظهر بعد حين. وهؤلاء طائفة من الحسنية.

الثالثة الحكمية، ويقال الهشامية: أصحاب هشام بن الحكم. قالوا الإمام بعد علي الحسن وبعده الحسين وبعده ابنه علي وبعده ولده الباقر وبعده جعفر الصادق. وقالوا إن الله تعالى جسد عريض عميق وهذه المقادير متساوية فيه.

الرابعة السالمية، ويقال لهم الجواليقية: أصحاب هشام بن سالم الجواليقي. قالوا الإمام بعد النبي علي ثم الحسن ثم الحسين ثم ولده الباقر ثم الصادق. قالوا إن الله تعالى جسم على صورة إنسان.

الخامسة الشيطانية، ويقال لهم النعمانية أيضا: أصحاب محمد بن النعمان الصيرفي الملقب بشيطان الطاق. قالوا الإمام بعد علي ولديه الحسن والحسين ثم ولده الباقر ثم ولده الصادق. وقالوا إن الله تعالى على صورة إنسان لا يعلم الأشياء إلا بعد كونها.

السادسة الميثمية: أصحاب الميثمي. قالوا الإمام بعد علي الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم ابنه موسى الكاظم. وقالوا إن الله تعالى جسم وله أعضاء.

السابعة الزرارية: أصحاب زرارة بن أعين. قالوا الإمام بعد علي ولداه ثم حفيده علي بن الحسين ثم ولده محمد ثم ولده جفعر. وقالوا صفات الله حادثة، ولم يكن قبل ذلك حيا ولا عالما ولا قادرا ولا سميعا ولا بصيرا.

الثامنة اليونسية: أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي. قالوا إن الله تعالى على العرش تحمله الملائكة.

التاسعة البدائية: قالوا لا يجوز البداء على الله تعالى، وهو أن يريد شيئا ثم يبدو له ما لم يكن ظاهرا له.

العاشرة المفوضة: قالوا إن الله تعالى فوّض خلق الدنيا إلى محمد فهو الذي خلق الدنيا بما فيها، وقالت طائفة منهم فوّض ذلك إلى علي، وقالت طائفة أخرى فوضه إليهما. وهؤلاء الفرقة من غلاة الإمامية، وكلهم كفار وكلهم متفقون على الأئمة الستة.

الحادية عشرة الباقرية: قالوا الإمام بعد علي بن الحسين ولده الباقر بنص أبيه وإنه لم يمت، وهم ينتظرونه.

الثانية عشرة الحاصرية: قالوا الإمام بعد محمد الباقر ابنه زكريا وهو حي مختفٍ في جبل حاصر إلى أن يؤذن له بالخروج.

الثالثة عشر الناوسية: أصحاب عبد الله بن ناؤس البصري. قالوا الإمام بعد محمد الباقر ابنه جعفر الصادق. واختلفوا فيما بينهم بعد اتفاقهم على أنه حي. فقالت طائفة إنه غاب ولا يموت حتى يظهر أمره وهو القائم المنتظر والمهدي الموعود به، وهم أكثر الناؤسية. وقالت طائفة أخرى منهم إنه لم يغب وإن أولياءه يرونه في بعض الأوقات.

الرابعة عشر العمارية: أصحاب عمار. قالوا الإمام بعد جعفر ولده محمد.

(فرق الإسماعيلية)

الخامسة عشر الإسماعيلية: وهم الذين يزعمون أن الإمام بعد جعفر ولده إسماعيل، وكان أكبر أولاده، وكانت أمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن بن علي. وافترقوا ثمان فرق:

السادسة عشر المباركية: أصحاب مبارك. قالوا إسماعيل هو القائم المنتظر والمهدي الموعود.

السابعة عشر الباطنية: قالوا مات إسماعيل والإمام بعده أولاده بنص السابق على اللاحق، وقالوا يجب العمل بباطن الكتاب دون ظاهره.

الثامنة عشر القرمطية: أصحاب رجل من سواد الكوفة، وقيل اسمه حمدان بن قرمط. وقرمط قرية من قرى واسط. قالوا الإمام بعد جعفر محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق لأن الصادق نصّ عليه، ومحمد حي لم يمت وهو المهدي. وقالوا بإباحة المحرمات.

التاسعة عشر الشمطية: أصحاب يحيى بن أبي الشمط. قالوا الإمام بعد محمد بن علي ابنه جعفر الصادق، ثم الإمامة في بنيه إسماعيل ومحمد وموسى الكاظم [ثم] عبد الله وإسحاق ثم في ولدهم.

العشرون الميمونية: أصحاب عبد الله بن ميمون. قالوا يحرم العمل بالظواهر، وأنكروا المعاد.

الحادية والعشرون الخلفية: أصحاب خلف. قالوا ما ورد في الكتاب والأخبار من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها فهو محمول على معناه اللغوي. وأنكروا القيامة والجنة والنار.

الثانية والعشرون البرقعية: أصحاب محمد بن علي البرقعي. قالوا لا معاد وأنكروا الشرائع والأحكام وأولوا النصوص وأنكروا نبوة الأنبياء وأوجبوا لعنهم.

الثالثة والعشرون الجنابية: أصحاب أبي طاهر الجنابي. قالوا لا معاد وأنكروا الأحكام وأوجبوا قتل من يعمل بها ولذا قتلوا الحجاج. وهؤلاء الفرق الأربعة كلهم من القرامطة القائلين بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق.

الرابعة والعشرون السبعية: قالوا بالناطقون بالشرائع، وهم الرسل، سبعة، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد والمهدي، وبين كل اثنين من هؤلاء سبعة يقيمون شرائعه، ولا بد في كل عصر من سبعة يقتدى بهم، وإسماعيل بن جعفر منهم.

الخامسة والعشرون المهدوية: قالوا الإمام بعد جعفر بن محمد ابنه إسماعيل ثم ولده محمد الوصي ثم ولده أحمد الوفي ثم ولده محمد التقي ثم ولده عبيد الله الرضي ثم ولده أبو القاسم عبد الله ثم ولده محمد الذي سمى نفسه بمحمد المهدي ثم ولده [محمد] القائم بأمر الله ثم إسماعيل بن [محمد] المنصور بقوة الله ثم معد بن إسماعيل المعز لدين الله ثم أبو منصور نزار بن معد العزيز بالله ثم أبو علي منصور بن نزار الحاكم بأمر الله ثم أبو الحسن علي بن منصور الظاهر لدين الله ثم معد بن علي بن المنصور المستنصر بالله بنص الآباء على الأبناء. ولما أفضت نوبة الإمامة إلى المهدي أظهر أمره في بلاد المغرب وطلب الملك وتبعه جمع لا يحصى، فاستولى على بلاد إفريقية وبقي الملك في أولاده حينا من الدهر، واستولى بعض أولاده على بلاد مصر وبعضهم على بلاد الشام، وآثر أهل اليمن مذهبهم ولبى ملوكه دعوتهم.

السادسة والعشرون المستعلية: قالوا الإمام بعد المستنصر [المستعلي] وبعده أبو القاسم أحمد بن المستعلي بالله لأن المستنصر نص على إمامته بعد ما نص على إمامة أخيه نزار والنص الثاني ينسخ الأول، ثم منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله ثم أبو ميمون عبد المجيد الحافظ لدين الله ثم أبو المنصور إسماعيل الظافر بأمر الله ثم أبو القاسم عيسى بن محمد الفائز بنصر الله ثم أبو عبد الله محمد بن علي العاضد لدين الله. ولما أفضت نوبة الخلافة إليه خرج عليه بعض أمراء ملوك الشام واستولى عليه وحبسه فمات في السجن ولم يبق من ولد المهدي من يدعي الإمامة.

السابعة والعشرون النزارية، ويقال لهم الحميرية والصالحية: قالوا العالم قديم والزمان غير متناه والأرواح تتناسخ، وأنكروا المعاد والجنة والنار، وقالوا الإمامة بعد المستنصر لولده نزار لأن المستنصر نص على إمامته أولا ثم هجره وأوصى لابنه أحمد المستعلي، والمعتمد هو النص الأول ولا يجوز العمل بالنص الثاني مع وجود النص الأول، ثم بعده لولده الهادي ثم بعده لولده الحسن. وهو من أكاذيبهم الفاضحة، لأن المستعلي لما مات أبوه وبايعه الناس وانقادت له الأمراء والعساكر وتابعتهم الرعايا سجن أخاه مع ولديه ومكثوا في السجن إلى أن اغتالتهم يد المنون، فاعتزاء الحسن لنسبه إليه محض افتراء.

الثامنة والعشرون المسقطية: قالوا الإمام بعد نزار ولده الهادي ثم ولده الحسن، والإمام غير مكلف بالفروع وله أن يسقط التكاليف الشرعية. ومن خرافاتهم الفاضحة أن الحسن بن الصباح الحميري قدم مصر فلقي بعض نساء نزار وكان معها ولد صغير من ولد نزار فحمله وجاء به إلى الري ثم استولى على حضرموت وبعض قلاع طبرستان، فنقله وأهله إلى حضرموت، فاستخلف كيّا وأوصاه بتوقير الهادي وتربيته وصيانته عن أعدائه، وكان كيا يربيه ويكرمه حتى إذا دنى ارتحاله من الدنيا استخلف ولده محمدا وأوصاه بتعظيم الهادي وتكريمه، فكان معه معززا موقرا مكرما، فنجب ليلة زوجة ابن كيا فحملت بالحسن. وقد زعموا أن المحرمات كلها حل للإمام وله أن يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل. وزعمت جماعة أنه تغشى امرأة خليعة في ساعة من الليل فحملت، وحملت زوجة ابن كيا تلك الساعة في حين وضعت حملها وضعت تلك المرأة التي ظفر بها الهادي حملها أيضا، وأودى بالهدي الأزلم الجذع واستبدلت زوجة ابن كيا ولده بولد الهادي. وكل ذلك من الترهات والكذب والمخترعات. ولقد أسس قدوة كل من الفرقتين مذهبه على شفا جرف هار حيث أسس دينه وشرعه على قول امرأة أو امرأتين، وما ذلك إلا لفرط غيهم وضلالهم.

ولما مات محمد بن كيا ادعى الحسن أنه من ولد نزار فصدقه قومه، وادعى الإمامة فأطاعوه ولقبوه بـ"على ذكره السلام"، مع أن كل ذي لب لا يرتاب في ضلاله وزيغه عن سواء السبيل. وجمع أتباعه من القرى والحصون والمدن فجلس على المنبر واستقبل القبلة وخطب فقال: يا أيها الناس إني خليفة الله في الأنام، وإني الإمام الحق المفروض طاعته على البرية لا حجحجة فيه ولا لجلجة، وللإمام أن يفعل ما يشاء، وإني أسقطت التكاليف الشرعية عنكم وأبحت لكم المحرمات، فافعلوا ما شئتم. فاستخف قومه فأطاعوه. وكان الحسن هذا مع أنه من أولاد الزنى باعترافه واعتراف أشياعه كان في غاية الخبث، ثم صار هو وأتباعه قوما بورا، وسيصلون سعيرا ويدعون ثبورا.

ثم ادعى الإمامة ولده محمد بن الحسن، وكان أكفر من والده، ثم حفيده علاء الدين محمد بن جلال الدين حسن بن محمد، [وكان مذهبه] دون أبيه جلال الدين لأنه أنكر مذهب آبائه وضللهم وأسلم وحسن إسلامه وبالغ في طعن أسلافه وهدم أساس مذهبهم وأمر أتباعه بالمعروف ونهى عن المنكر، وبنى المساجد في قلاعه وبلاده وصاهر سلاطين الإسلام، وأخبر الخليفة بإسلامه وسير أمه إلى الكعبة لأداء حجة الإسلام، وأخرج من خزائنه كتب الملاحدة التي صنفها ابن الصباح وغيره من أتباعه في بيان اعتقاداتهم الزائغة وأحرقها بإشارة علماء قزوين.

ثم ولده ركن الدين، وهو الذي شتت شمله وخرب قلاعه وقتل أشياعه. فلما استولى على قلاعه التتار تحصن أياما في حصن "ألموت" ثم أظهر الطاعة وصاحبهم وسافر معهم إلى أوطانهم فمات في الطريق.

ثم ولده الذي لقبوه بجديد الدولة، وقد استولى على بعض قلاع آبائه وأراد تعمير ما خرب منها. ولما أخبر به ملك التتار أرسل إليه جندا فحشد أشياعه فقاتلوهم فغلبوا وقتل منهم جم غفير وهرب سائرهم، واتبعهم التتار فتركوهم شذر مذر، وصير ديارهم عاليها سافلها ولم يبق منهم من يدع الإمامة. وأودت بمن بقي منهم في بعض قرى طبرستان أيادي المنون.

هذا والباطنية والقرامطة والسبعية والحميرية من غلاة الإسماعيلية من فرق الإمامية، وكلهم كفرة لما تقدم.

التاسعة والعشرون الفطحية، ويقال لهم الأفطحية والعمائية: وهم أصحاب عبد الله بن عمي. قالوا الإمام بعد الصادق ابنه عبد الله بن جعفر أخو إسماعيل من أمه وأبيه وإنه مات ولكنه يرجع بعد موته ولم يخلّف ولدا. وإنما لقبوا بذلك لأن عبد الله كان أفطح الرجلين.

الثلاثون الإسحاقية: قالوا الإمام بعد جعفر ابنه إسحاق. وكان إماما جليل القدر يداني أباه في العلم والتقوى، وقد روى عنه جمع من ثقات المحدثين كسفيان بن عيينة وغيره.

الحادية والثلاثون اليعفورية: أصحاب ابن أبي يعفور. قالوا لا يجوز صدور الذنوب عن الأنبياء والرسل.

الثانية والثلاثون القطعية، ويقال لهم المفضلية: أصحاب أبي المفضل بن عمرو. قالوا الإمام بعد جعفر ابنه موسى الكاظم، ويقطعون بموته.

الثالثة والثلاثون الموسوية: وقفوا على موسى بن جعفر، قالوا لا يدرى أحي هو أم ميت.

الرابعة والثلاثون الممطورية: قالوا الإمام بعد جعفر ابنه موسى وهو حي لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض شرقها وغربها وهو المهدي. وإنما سموا ممطورية لأنهم ناظروا يونس بن عبد الرحمن من القطعية فقال لهم أنتم أهون من الكلاب الممطورة، فلزمهم هذا اللقب واشتهروا به.

الخامسة والثلاثون الرجعية، ويقال لهم الكاظمية: قالوا الإمام بعد الصادق ابنه موسى الكاظم بنص أبيه عليه وإنه مات ولكنه سيرجع بعد موته إلى الدنيا.

وهؤلاء الفرق الثلاثة يقال لهم الواقفة لوقوفهم على موسى بن جعفر.

السادسة والثلاثون الأحمدية: قالوا الإمام بعد موسى أحمد بن موسى بن جفعر.

السابعة والثلاثون الاثنا عشرية: قالوا الإمام بعد موسى ابنه علي الرضا ثم بعده محمد التقي ثم ولده علي النقي ثم ولده الحسن بن علي العسكري ثم ولده محمد بن الحسن العسكري وهو القائم المنتظر والمهدي الموعود وهو حي وقد اختفى من خوف الأعداء وسيظهر بعد حين.

الثامنة والثلاثون الجعفرية: قالوا الإمام بعد الحسن أخوه جعفر بن علي وإنه لم يخلف ولدا.

التاسعة والثلاثون الثالث عشرية: وهم فرقتان النصيرية والمختارية:

أما النصيرية فهم أصحاب أبي نصر هبة الله بن أحمد بن محمد الكاتب. قالوا الإمام بعد علي بن الحسين ابنه زيد وبعده أخوه الباقر، ثم ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحسن العسكري.

أما المختارية فهم أصحاب المختار.

خاتمة لهذا الفصل

اعلم أن أول من لقب بالشيعة من شايعوا عليا بعد أن بويع له بالخلافة ولازموا صحبته وحاربوا من حاربه وسالموا من سالمه من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان كما سبق، وهم الشيعة المخلصون. وكان تلقبهم بهذا اللقب سنة سبع وثلاثين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل تحية.

ثم بعد سنتين أو ثلاث سنين ظهرت التفضيلية. منهم أبو الأسود الدؤلي تلميذ الأمير كرم الله تعالى وجهه وواضع النحو بأمره وتعليمه. ومنهم أبو سعيد يحيى بن يعمر العدواني وكان تابعيا لقي [إسحاق] بن سويد العدواني وكان عالما بالقراءات والتفسير والنحو ولغة العرب وهو أحد قراء البصرة أخذ النحو عن أبي الأسود. وقال القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان: "كان يحيى بن يعمر شيعيا من الشيعة الأوائل القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص من أصحاب رسول الله ﷺ". ومنهم سالم بن أبي حفصة الراوي عن محمد بن علي الباقر وابنه الصادق وعبد الرزاق. وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب إصلاح المنطق. وغيرهم.

ثم ظهرت الرافضة منهم، وهم الذين يسبّون بعض أمهات المؤمنين وأعاظم الصحابة أو كلهم إلا أربعة أو ستة منهم ويقذفونهم بأنهم ارتدوا عن الدين. ثم افترقوا فرقا كثيرة كما تقدم. وكان بدؤ ظهورهم في عهد أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أوائل سنة إحدى وأربعين.

ثم القائلون بألوهية علي. وأول من ظهر منهم السبائية ثم العلبائية. والعلباء هو الذي وافق ابن سبأ.

ثم ظهرت الحلولية من الغلاة، وكان بدؤ ظهورهم سنة ستين تقريبا.

ثم [ظهرت] باقي الفرق.

ثم ظهرت الرزامية، وكان بدؤ ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة.

ثم ظهرت المقنعية من الرزامية.

ثم ظهور فرق الحلولية.

ثم ظهرت الإمامية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ثلاث وستين ومائة، وهم أكثر فرق الرافضة اليوم.

ثم ظهرت الكيسانية القائلون بإمامة محمد بن علي بن أبي طالب، وكان بدؤ ظهورهم سنة أربع وستين. ثم افترقوا فرقا كثيرة، وكان أكثرهم عددا وعدة المختارية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ست وستين.

ثم ظهرت الهشامية في حدود سنة تسع ومائة.

ثم ظهرت الزيدية القائلون بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان بدؤ ظهورهم سنة اثنتي عشرة ومائة، ثم افترقت فرقا كثيرة.

ثم ظهرت الجواليقية والشيطانية من فرق الإمامية سنة ثلاث عشرة ومائة.

ثم ظهرت الزرارية واليونسية والمفوضة والكيسانية والبدائية والفارسية والعمائية منهم. وبدؤ ظهورهم سنة خمس وأربعين ومائة.

ثم ظهرت الإسماعيلية بالإمامية، وبدؤ ظهورهم سنة خمس وخمسين ومائة.

ثم المباركية منهم، وكان بدؤ ظهورهم سنة تسع وخمسين ومائة.

ثم الواقفية من الإمامية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ثلاث وثمانين ومائة.

ثم الاثنا عشرية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ست وخمسين ومائتين.

ثم المهدوية من فرق الإسماعيلية، القائلون بإمامة محمد بن عبد الله بن عبيد الله الشهير عندهم بمحمد المهدي. وكان بدؤ ظهورهم سنة تسع وتسعين ومائتين. والمهدي هذا هو الذي ادعى أنه من ولد إسماعيل بن جعفر ثم ادعى الإمامة ونهض لطلب الملك سنة تسع وتسعين ومائتين، واستولى على بعض بلاد المغرب سنة ثلاثمائة. وزعم أنه ابن عبد الله بن عبيد الله بن قاسم بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق. وكذبه النسابة في دعواه وقالوا إسماعيل بن جعفر مات قبل أبيه جعفر ولم يخلف ولدا سوى محمد وقد مات في بغداد كما تقدم ولم يخلف ولدا، وأنكر ذلك سائر الشيعة أيضا. واختلف النسابة في نسبه، فقالت نسابة المغرب إنه من ولد عبد الله بن سالم البصري، وكان أبوه خبازا في البصرة. وقالت نسابة العراق إنه من ولد عبد الله بن ميمون القداح.

وزعمت المهدوية أن محمدا هذا هو المهدي الموعود به، ورووا عن النبي ﷺ أنه قال: "على رأس ثلاثمائة سنة تطلع الشمس من مغربها"، وأولوا الشمس بالمهدي والمغرب بديار المغرب. وكل ذلك كذب وافتراء.

وأصل عقيدة الإسماعيلية إنكار الشرائع. وكان الحاكم من سلاطينهم يأمر الناس أن يسجدوا إذا ذكر اسمه عندهم ويدعي أن الله تعالى يكلمه وأنه يعلم الغيب. وأفعاله شهيرة.

وكان المتقدمون من المهدوية يبطنون الإلحاد والزندقة ويظهرون الزهد وكثرة الطاعات وإجراء أحكام الشريعة، وذلك خلاف ما يبطنون، وكذا الحميرية، حتى تابعهم جمهور من الناس.

وكانت القرامطة من الإسماعيلية يبدون ما يخفونه غيرهم من تلك الفرقة، وقد خرجوا على المقتدر بالله واستولوا على بعض القرى والأمصار، وقدموا في الموسم مكة وقتلوا من الحجاج في البيت الحرام قدر ثلاثة آلاف نفس، وذلك سنة تسع عشرة وثلاثمائة. وكان رئيسهم أبو سعيد الجنابي القرمطي، وكان يقتل من يجد من المسلمين. ثم ابنه أبو طاهر. ولما قدم مكة في الموسم دخل المسجد الحرام وهو على جواده يشرب الخمر ويبالغ في قتل الحاج، وبال جواده فيه. وأمر جنوده أن يقلعوا الحجر الأسود من مكانه، فقلعوه فذهب به إلى الكوفة وألقاه في كناستها، وكان عندهم عشرين سنة. ثم اشتراه منهم سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة أبو القاسم فضل بن المقتدر المطيع لأمر الله بثلاثين ألف دينار. فجاء به أبو طاهر بن أبي سعيد في مسجد الكوفة وربطه في سارية من سواري المسجد واستحضر أعيان البلد، فلما حضروه سلم الحجر إلى من أرسله المطيع لأمر الله إليهم لشرائه وقال لمن حضر عنده من المسلمين: اشهدوا أني سلمت الحجر الأسود، قالوا: شهدنا، ثم قال: من أين عرفتهم أنه الحجر الأسود. وكان ابن حكم المحدث حاضرا، فقال روينا عن رسول الله ﷺ أنه قال: "إن الحجر الأسود يحشر يوم القيامة وله عينان ينظر بهما ولسان يتكلم به ويشهد لمن استلمه، وإنه يطفوا على الماء ولا يحترق بالنار". فلما سمع بذلك أبو طاهر استهزأ به ودعا بالنار وألقاه فيها فلم يحترق، ثم دعا بالماء فألقاه فيها فطفى على الماء. فقال بعد ما اختبر ذلك: قد ثبت دين الإسلام بالروايات الصحيحة الموثوق بها فلا يمكن أن يهدم بنيانه أو يثلم. فظهر له الحق وتبين له الرشد من الغي ولكنه استمر على ضلاله وبقي على حاله.

ثم ظهرت الحميرية منهم، ويقال لهم الألموتية، وكان بدؤ ظهورهم سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة.

ثم المسقطية منهم، وكان هؤلاء آخر فرق الروافض ظهورا.

أقول: وقد ظهرت في زماننا فرق أخرى كالبابية والكشفية والقرتية. وقد بينت طريقتهم في مختصر التحفة الاثني عشرية.

الفصل الرابع في بيان مدة بقاء كل فرقة من فرق الروافض

اعلم أن كل فرقة من الفرق قد تقل في زمان وتكثر في زمان آخر. وقد كثرت الناؤسية في بغداد وغيرها من البلاد في حدود سنة خمسمائة ثم اخترمتهم المنية. وكان الفرق في بلاد الشام ومصر والعراقين وفارس وأذربيجان وخراسان منتشرين لا يظهرون أمرهم إلى أن خرج التتار مرة بعد أخرى وقتلوا المشركين إلا فئة قليلة هربت منهم. وخلت كثير من البلاد عن المسلمين كمصر والشام والعراقين وخراسان خوارزم وكاشغر وبلاد تركستان وما وراء النهر وبلخ وبدخشان وكابل وزابل وقندها وسجستان وطخارستان وفارس وكرمان وأذربيجان. ولما استقام الملك على التتار رجع إلى أوطانهم من هرب. ولم يبق من فرق الرافضة إلا شرذمة قليلة من الغلاة الزيدية والباطنية من الإسماعيلية والمهدوية والاثني عشرية. أما الغلاة فالقائلون منهم بأن عليا إله لم يبق منهم إلا السبائية والعلبائية.

أما السبائية فقد طالت مدتهم، فإنهم ظهروا في خلافة أمير المؤمنين وبقوا إلى هذا الزمان، لكنهم شرذمة قليلة متفرقون في البلاد، وأكثرهم في بلد أردبيل وغيرها من بلاد أذربيجان -ولا عبادة لهم سوى أنهم يصومون في كل سنة ثلاثة أيام- وفي بلدة بغراج من بلاد الترك، وليس فيها غيرهم من أهل المذاهب. وملكهم يدعي أنه من نسل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب. ومن الغرائب أن أهل هذه البلدة كلهم جرد مرد إلا ملكهم فإنه ذو لحية طويلة ويوجد في قرى رابستان.

أما العلبائية فقليلة جدا، يأتلفون مع السبائية ولا يفارقونهم.

وأما القائلون بالحلول فلم يبق منهم إلا المفضلية والنصيرية.

أما المفضلية فقد طالت مدتهم أيضا وكثرت جماعتهم. فإن ابتداء ظهورهم سنة ستين تقريبا. وبقوا إلى هذا اليوم وأكثرهم في قرى قهستان وخراسان وبعض قرى بدخشان وفي بلاد الهند والسند وقرى كابل ولمغان، وهو موضع من كابلستان. وحكى بعض العدول أن في ناحية كابل أربع قرى قطانها كلها من غلاة الرافضة من فرق الحلولية إلا سكان ستة بيوت أو سبعة، وإمامهم رجل يدعي أنه من ولد علي أمير المؤمنين، يسكن قرية من قرى قهستان خراسان يقال لها الجنان، وله في كل بلد من البلاد المذكورة خليفة. وعينوا في كل بلد رجلا لإبلاغ أخبار الخليفة والأتباع إلى الإمام وأجناده. وكانوا يطلقون لفظ الإله على الإمام والرسول على الخليفة وجبريل على المخبر. ويبالغون في ترك العمل بأحكام الشرع ولو تقية، ويقولون إنه لا يجب عليهم شيء إلا أداء العشر من أموالهم إلى الإمام الذي حل فيه الإله، ويبالغون في أداء العشر حتى أنهم يؤدونه عن كل شيء ولو كان لقمة طعام أو شربة ماء، ويعطونه إلى الرسول وهو يرسله بيد جبريل إلى من اتخذوه إلها من دون الله تعالى. ومن خرافاتهم أنه يسأم الله تعالى في طول المكث في الأرض فيدعو السحاب ويصنع سلما فيرقى إلى السماء ويسير في السماوات ما شاء ثم ينزل إلى الأرض. تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

أما النصيرية فقد طالت مدتهم أيضا، فإن ظهورهم كان سنة عشرين ومائة، وبقي منهم إلى زماننا هذا، وأكثرهم في كثير من قرى دمشق.

أما الزيدية فكانوا جماعات متفرقة في بلاد العرب حتى استولى بعض الشرفاء الزيدية على بلاد اليمن، فاجتمعت الزيدية عنده، فكثرت هذه الطائفة هناك وبقيت إلى هذا الزمان.

وأما الباطنية فقد طالت مدتهم لأن بدء ظهورهم كان زمن الرشيد سنة بضع وثمانين ومائة. وبقي منهم إلى حد الآن [جماعة]، وأكثرهم في بلاد خراسان وبدخشان وبعض أراضي ما وراء النهر والهند.

وأما المهدوية من فرق الإسماعيلية فقد طالت مدتهم. فإن محمدا بن عبد الله الملقب بالمهدي خرج في بعض بلاد المغرب سنة ست وتسعين ومائتين على المقتدر العباسي وحارب من ولاه المقتدر بلاد المغرب وغلب عليه وفتح إفريقية وادعى الإمامة، فاستفحل أمره وأمر أولاده وفتح بعضهم مصر وأذاعوا مذهبهم في تلك البلاد. وأجاب دعوته أهل اليمن. وبقي الملك فيهم مائتين وستين سنة. وكانوا على طريقة حتى سافر الحسن بن الصباح الحميري مع جمع من أصحابه وأسرته إلى بلاد قهستان، وكان يزعم أنه شيعي من فرقة الإسماعيلية وأن الإمام بعد المستنصر ولده نزار دون المستعلي، وكان يتنقل من قرية إلى قرية، فبنى خارج الحصن عريشا واشتغل بالرياضات الشاقة وأظهر للناس كمال الزهد والورع حتى انخدع به جماعة كثيرة من أهل الحصن وأحلوه محل الإمام وانقادوا لأمره ونهيه، ولم يدروا أنه ذئب تقمص بجلد شاة، وكان في غاية من الفقر واشتاقت نفسه للرئاسة والإمارة، فخدع حاكم الحصن فانخدع وأخرجه منه وانتزع ملكه من يده، وذلك سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة. وابتدع النزارية فسير دعاته إلى الرساتيق والحصون الحصينة من قهستان وطبرية وقزوين ليدعوا الناس إلى مذهبه، فلبوا دعوته إلا فريقا من المؤمنين. فكثرت أشياع ابن صباح حتى سير دماعات من دهات أتباعه إلى القرى والأمصار ليردوا أعيان أهلها من العلماء والأمراء على أعقابهم، فدخل كل جماعة بلدة ولازم كل رجل منهم من يريد إعطائه، وكان يخدمه أحسن خدمة، فإذا انتهز فرصة قتله فيهرب أو يقتل. فقتلوا على هذه الكيفية جما غفير من أهل الحق وبعض الأمراء ومن خالفهم من المسلمين وعاندهم. ثم حاربوا الملوك فغلبوا واستولوا على كثير من القلاع والبلاد. وعاش ستين سنة ثم لما دنت وفاته واستيقن أنه يرتحل عن الدنيا عن قريب استخلف كيا من خلفائه وأحب أصحابه إليه، وكان صاحب سره وأعلق بقلبه من ولده. ثم إن كيا لم يمتد عمره بل لحق سلفه إلى بئس المصير. ثم استولى على ملكه بعده ولده محمد، ثم ابنه الحسن وادعى أنه من ولد نزار بن المستنصر كما سلف، فأظهر ما أخفاه أسلافه من الزندقة. وبقي الملك فيهم مائة وإحدى وسبعين سنة، ثم أبادهم الله تعالى على يد التتار، فلم يبق منهم من يدعي الإمامة.

ثم المستعلية، فقد بقي الملك فيهم إلى خمسمائة وستين سنة، ولم يبق فيهم من يدعي الإمامة، إلا أن أهل مذهبه قد طالت مدتهم بعد ذلك زمنا طويلا في بعض بلاد اليمن وأقاصي الهند. وكانوا يظهرون مذهبه وكانوا يخطؤون الفرق الإسلامية ويرمون أهل السنة بالإلحاد.

وأما الاثنا عشرية فكانوا جماعات متفرقة في البلاد يختفون من أهل السنة والجماعة حتى استولى آل بويه الديلمي على البلاد، وكان أولهم عماد الدولة، سمت نفسه لطلب الملك فاستولى على مُلك مَلكه وحارب الملوك في خلافة المقتدر العباسي. وكان هو وابنا أخويه يصطادون الطيور والأسماك ويقتاتون بها وبثمنها، فأزمعوا الشخوص من جبال ديلم إلى عراق العجم. فلما قدموا البلد الذي ثوى فيه السلطان دخلوا على بعض الأمراء بما عليهم من الأسمال فأعجبه بسطة أجسامهم وعذوبة نطقهم، فذهب بهم إلى الملك فنظمهم في سلك جنوده. ولما رأى حسن تدبير الأكبر وشجاعته ألبسه أردية الكرام، فاستفحل أمره شيئا فشيئا حتى صار أمير أمرائه. فلما مات الملك سمت نفسه لطلب الملك فاستولى على مُلك ملكه وحارب الملوك في خلافة المقتدر العباسي فغلبهم واستولى على عراق العجم وبلاد فارس وديلم وغيرها سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وبقي الملك فيهم سبعا وعشرين سنة، وكانوا من غلاة الاثني عشرية. فكثرت هذه الفرقة في بلاد العراق وأذربيجان وفارس وخراسان وجرجان وماندران وجيلان وجبال ديلم. وكثرت علماؤهم وصنفوا كتبا جمة في المذهب، لكنهم كانوا يخفونها لكثرة أهل السنة. وكان بعضهم يظهر مذهبه لبعض السفهاء، ويكثر أكثرهم التشيع بالاعتزال، حتى إن الصاحب بن عباد وزير الديالمة كان يستر مذهبه بالاعتزال أيضا، وإنه كان رافضيا غاليا في الرفض كما يظهر من شعره وسبه أصحاب رسول الله ﷺ وحصره الأئمة في اثني عشر رجلا وغير ذلك. ولم يدع سلاطينهم أهل السنة إلى مذهبهم خوفا من الفتنة. فلما أبادهم الله تعالى ضعفت الرافضة وذهبت ريحهم. فإن للباطل جولة ثم يضمحل، ولريح الضلال عصفة ثم يسكن. فستروا مذهبهم وبالغوا في التقية، حتى خرج كفار التتار وقتلوا كل من وجدوه من هذه الأمة من بغداد إلى نهر السند وجازوا الحرمين الشريفين، فقتل من قتل وهرب من هرب، ثم رجعوا إلى بلادهم فرجع من هرب من المسلمين إلى وطنه.

ثم لما قام بعض ولده مقامه سيّر ابن أخيه هولاكو الخبيث مع جنود كثيرة إلى بلاد المسلمين، فاستولى على البلاد التي استولى عليها جده وعبر الشط وفتح دار السلام وقتل الخليفة وهو [المستعصم] العباسي وكثيرا من المسلمين. واستولى على بلاد العرب، سوى الحرمين زادهما الله تعالى شرفا وكرامة، وبلاد الشام. وقتل من المسلمين ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى. فحينئذ أظهرت الرافضة مذهبهم حتى رجع بعض ملوكهم إلى مذهب أهل الحق وعقيدتهم، وهو القان غازان بن أرغون بن بغا بن هولاكو بن طلوس بن جنكيزخان، وسماه من هداه إلى الصراط المستقيم بسلطان أحمد، ودعى أهله وجنوده إلى الإسلام وطريق الحق فلبوه جميعا. فانكسرت شوكة الرافضة وستروا مذهبهم حينئذ، وذلك سنة أربع وستين وتسعين وستمائة. فلما مات السلطان قام أخوه أولجاييق مقامه، وكان يحب العمران مشغوفا باللعب والملاهي غافلا عن الأوامر والنواهي، وكان على مذهب أهل السنة، حتى اجتمع به تاج الدين، وكان من دعاة الرافضة، فدعاه إلى مذهبه وجدّ في إضلاله وجمع علماء الرافضة عنده، ومنهم ابن المطهر الحلي، وكان أخبثهم وأضلهم عن سواء السبيل. فذكروا عنده مطاعن الصحابة وأن الخلفاء غصبوا حق أهل البيت والصحابة خذلوهم وأضاعوا وصية نبيهم في وصيّه وأخيه وابن عمه وصهره وارتدوا على أعقابهم. وكان ابن المطهر الدجال والمبتدع الضال يأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله حتى ملأ قلبه من الوسوسة والشبهة الواهية، فترفض بعد سنة من ولايته وترك ما كان عليه من الهداية في بدايته، ودعى أهله إلى الباطل فأطاعوه ورغبوا إليه رغبة عن الحق واتبعوه. فأضل الرجل قومه وما هدى وأوقعهم في غيابة جب الردى. ولم يعصم الله من هذه الوصمة إلا القليل ممن لا تحركه عواصف الأباطيل. وألّف ابن المطهر له نهج الحق ومنهج الكرامة في مطاعن الصحابة ومثالب أهل السنة وإبطال مذهبهم وأنهم عن الحق بمعزل. ثم دعى السلطان إليه قومه وجنوده ورعاياه، فأطاعه كل منهم ولباه. ثم سيّر جمعا من أتباعه إلى البلاد ليدعوا المؤمنين إليه ويعولوا في أمر مذهبهم عليه. فأطاعه الأرجاس وأبى عما دعى إليه كثير من الناس. وقاتلهم أهل أصبهان ومن حذا حذوهم فقتلوا كثيرا منهم. وكان بعض أعاظم أمرائه عاونهم ونصرهم حتى كف السلطان عن الإكراه. وكثرت الرافضة وأعلنوا مذهبهم. وصنف علماؤهم كتبا جمة في الأصول والفروع والتفسير والحديث. وألف ابن المطهر بعد أن فرغ من كتابيه السابق ذكرهما شرح التجريد والاستبصار والنهاية والخلاصة والمبادئ في الأصول وغيرها كتاب الألفين، وأورد فيه ألفي دليل لإثبات مذهبه وترويج خزعبلاته، وزعم أنه أبطل مذهب أهل الحق بما أورد من شبهاته. وقد ردها فحول علماء السنة أحسن الرد وألقموا ذلك النباح حجر النكد. فعادت هاتيك الخرافات والشبه الواهيات لا تروج ولو على ابن يوم ولا يخفى فسادها على أحد من القوم. ولم يزل ابن الحلي يجادل بباطله أهل الحق ولم يرتدع عن غيه بعد أن ظهر له الصواب أثناء المناظرة كالفلق حتى مات على التحير والوله. ومن يضلل الله فلا هادي له. والسلطان قبل موت هذا الخبيث عاد إلى مذهب أهل السنة بإرشاد بعض العلماء الأجلة. وضربت على ابن الحلي وأتباعه المذلة بعد أن سكن في الحلة، فحينئذ ضعفت الرافضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وتفرقوا شذر مذر وفرت علماؤهم خوفا من أهل السنة كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة. ولم يزل مذهب أهل السنة يتقوى والحق يعلو، وذلك سنة عشر وسبعمائة، حتى استولى بعد مدة بعض التراكمة من فرقة الاثني عشرية على ديار بكر وما حولها من القرى والأمصار سنة ستين وثمانمائة ورجعت الرافضة إلى ديارهم وإلى ما كانوا عليه، وبقي الملك فيهم قريبا من خمسين سنة.

ولما أضلتهم الضالة وانتشبت فيهم أنياب المنون، وذلك سنة عشر وتسعمائة، تولى الملك أول سلاطين الحيدرية، وكانوا من غلاة الاثني عشرية. ولما شاع خبرهم في البلاد أتته الرافضة من كل فج عميق وأقبلوا إليه من كل مرمى سحيق. فاستفحل أمره شيئا فشيئا حتى استولى على عراق العجم وفارس وكرمان ومازندران وأذربيجان وخراسان. ووفد عليه رجل من علماء الفرقة الهالكة وكان يزعم أنه نائب صاحب الزمان، فسجد له وقربه ووقره، فحثه الرجل على أن يُكره المؤمنين على قبول مذهب الاثني عشرية ويقتل من أبى وينهى الناس عن الجمعة والجماعة ويحول القبلة إلى اليسار ويخرب المساجد ويأمر الخطباء والأرذال أن يلعنوا عائشة الصديقة وحفصة أمي المؤمنين وكبراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين على المنابر والطرق والأسواق. وصنف في وجوب لعنهم كتابا اشتمل على دلائل أوهى من نسيج العنكبوت. فأذعن السلطان لقوله وأكره المؤمنين على الرفض وقال لهم أجيبوا إلى ما دعاكم إليه وإلا صببت عليكم العذاب صبا. فأجابت دعوته جماعو وأبت أخرى، وقتل الأرفاض جما غفيرا من علماء أهل السنة ومشائخهم ومن أبى عن إجابتهم والإذعان إليهم، ونهى المصلين عن الجماعة والجمعة، وخربت المساجد وحول القبلة إلى الجنوب. وأمر جنوده أن ينبشوا قبور كبراء أهل السنة ويحرقوا عظامهم، ففعلوا ما أمرهم، فنبشوا قبور جمع من العلماء الأعلام والمشائح العظام إلا قبر شيخ الإسلام أبي الحسن الجامي النامي النامقي والشيخ أبي يزيد البسطامي والشيخ أبي الحسن الخرقاني وشيخ الإسلام عبد الله بن أبي منصور الأنصاري الهروي وسائر مشايخ هراة وغيرهم. ولما فتح هراة دعى أهلها إلى ما دعى إليه غيرهم، فأبوا أن يجيبوا دعوته، فقتل منهم جما غفيرا من العلماء والشرفاء. وتبعه أخوه فوقع في أبي جاد وخطب بأمره في جامع هراة كما أمره به من ذكر الأئمة الاثني عشر ولعن من يوجبون لعنه من الصحابة. وخالفه ابنه فهرب إلى ما وراء النهر كما هرب كثير من علماء خراسان وبعض علماء فارس وأصفها وغيرهما من البلاد. فعاش برهة من الدهر وله من السلطان مكان. ولما استولى على جميع بلاد خراسان رجع إلى مستقره وولاها أمراءه، فغزاهم خاقان الترك فغلبوا واستولوا على خراسان وقتل من الرافضة ما لا يحصى عددا وهرب أكثرهم. ثم لما قضى نحبه رجعوا وقاتلوا الأتراك وغلبوا واستولوا على خراسان مرة أخرى. ثم جاهدهم من قام مقام الخاقان وفتح بلاد خراسان عنوة. ولما مات استولوا مرة أخرى واستقر لهم الملك، غير أن خواقين ما وراء النهر وأمراء بلخ لا يزالون يغزونهم ويقتلون فريقا منهم ويأسرون فريقا، ويجاهدهم قياصرة الروم وملوك الهند وخوارزم. وأسر ملك خوارزم في بعض غزواته [جمعا] من الأمراء وأبنائهم ونسائهم وعمة السلطان وبنات الأمراء والأعيان، وكانوا يسيرون مع الركب العراقي وقد أفاضوا من أصفهان يريدون زيارة مشهد طوس، ونهب أموالهم.

وبقي الملك فيهم مع المنازع مائتي سنة، ثم ضعفت شوكتهم ووهنت قوتهم، فاستولى عليهم أرذل الرعايا وأقلهم مالا وعددا من أهل السنة وقاتلوهم فانهزموا واستولوا على بلاد سجستان وقندهار وقرة، ثم حاصروا أصبهان وكان ملك الرافضة يسكن فيها، فسير أمراءه من حكام البلاد جنودهم رسلا ليدعوهم إلى محاربتهم فأتاه أكثر من مائة ألف فارس وجمع لا يكاد يحصى من الرجالة، وكان مع من خرج عليه اثنا عشر ألف فارس ولم يكن معهم من الرجالة إلا شرذمة قليلة، فغلبوهم بإذن الله وقتلوا من الرافضة جمعا لا يحصى عددهم وهرب من بقي منهم، فخلت ربوعهم وتفرقت جموعهم وتشتت شملهم وذوى فرعهم وأصلهم. وتحصن السلطان ومن معه من الأمراء والأهالي في البلد، فحاصرهم أهل السنة وضيقوا عليهم أنفاسهم فضاقت عليهم الأرض، حتى اضطروا إلى أكل أوراق الأشجار، بل إلى أكل الميتة ولحم الخنزير. فاضطر السلطان إلى أخذ العهد بأن لا يصل إليه ضرر، وسلم الملك إلى أمير الجيش وأهل السنة، فدخل البلد وجلس على سرير السلطنة وسجن السلطان مع ولده وأهله في دار من أحسن الدور، وعين له خدما ومؤنة وافية وأعزه غاية الإعزاز وتزوج بنته. ثم فتح سائر بلاد فارس والعراق وأذربيجان وغيره وولى الوزراة وزير السلطان وأقر كثيرا من الأمراء على ما كانوا عليه من المناصب. فاجتمع من كان في قلبه مرض في دار بعض الأمراء وشاوره على قتل الملك، فلما عزم الأمر تفرقوا، فأخبر الملك بما أسروا من المكر فقتلهم جميعا وقتل سلطانهم مع من كان معه من الرجال، وكتب إلى أمرائه وسائر البلاد أن يقتلوا كل من وجدوه من أولي الشوكة منهم فقتلوهم وقتلوا كثيرا من روافض فارس وقم وكاشان وهمدان وبعض بلاد خراسان وشروان. ونهض جمع كثير من رعايا هراة وأمروا عليهم بعض رؤسائهم وجاهدوا الروافض، فقتلوهم قتلا ذريعا واستولوا على البلدة وما حولها من القرى والبلدان كجام وخاف وصاف وباخرز وغيرها. ثم بايعوه وتوجوه بتاج السلطنة. ولما استقر لهم الملك أمر بإحراق ما وجد من كتب الرافضة، وهرب جمع من الرافضة ومن اختفى من جندهم. وأورث الله تعالى ديارهم المؤمنين، فما بكت عليهم السماء والأرض إنهم كانوا قوم سوء فاسقين. وكان مدة أهل السنة فيهم ما يزيد على عشرين سنة. هذا وقد كان لما جنح السلطان الذي قتل إلى السلم هرب شاب من البلد وادعى أنه من ولد السلطان، وأخذ يسير في الأرض هائما حتى وجد خفيرا فسار معه إلى طوس، فقطن ريثما مات ملك أصفهان واستولى على الملك ابن عمه، وكان فظا غليظ القلب فاسقا سفاحا، فانفض من حوله كثير من شجعان قومه فركدت ريحه. وكان في عراق العجم رجل من أهل نيسابور من الدعاة العارفين فنون الحرب، فقدم أصبهان والملك مشغول بالملاهي غافل عن تدبير الملك، وقد علم أن أبسال جنوده تفرقوا أيادي سبأ، فأزمع الشخوص إلى طوس. فلما قدمه دخل على الشاب الذي يدعي أنه ابن السلطان وأخبره بما رأى وشجعه وحثه على القتال وحشد له العساكر وجعل نفسه قائد جنوده وأميرا على أمرائه، فكان عندهم وجيها فنهضوا للقتال. فلما التقى الجمعان وقامت الحرب على ساق تغلبوا على ملك أصفهان فهرب، فاستولوا على أكثر البلاد وملك بعضا آخر منها أخو الفاتح لأصفهان عنوة من أهل السنة.

ثم إن الرافضة حبست سلطانهم لما رأوا منه الظلم والجور والاشتغال بالملاهي ونهب أموال الناس وغصب نسائهم واللواطة في أبنائهم وبناتهم. وأقام القائد ولده الرضيع ماقمه وحاربهم الروم وغلبوا عليهم وقهروهم وانتزعوا كثيرا من البلدان من أيديهم، وحاصروا من هرب منهم في الحرب وتحصنوا بالقلاع وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب فهرب فريق وقتل فريق آخر على أيدي الروم، وهم جنود القيصر نيفا وخمسين ألفا وحرقوا كثيرا من حصونهم الحصينة بأيديهم حتى فتح الروم البلد عنوة وقتلوا من أهله ما قتلوا ونهبوا ما وجدوا من الأموال النفيسة. فوقع من بقي من الرافضة في ضيق عظيم. ثم فتحوا سائر بلاد أذربيجان ولم يألوا جهدا في القتل والأسر والنهب وتخريب العمارات حتى صرا كثير من قراها بلاقع.

ثم قصد قهرمان القيصر أصبهان فاستقبله قائد السلطان فقاتلهم فغلب وسالمهم. ورجع إلى أصبهان وسمت نفسه إلى الزعامة الكبرى، فجلس على سرير السلطنة ثم قال: أيها الناس اعلموا أني من أهل السنة والجماعة ولست من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، فايم الله ذي الجلال والإكرام إن من سب أحدا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأجعلن الأغلال في عنقه ثم لأقطعن منه الوتين ثم لأصلبنه في جذوع النخل لما تفوه بهذا الكلام. وأمر بقتل من سب بعض الصحابة الكرام. فحسبت الفرقة الناجية أنه على الحق والرافضة زعمت أنه ليس منهم ولكن يؤلف قلوبهم بذلك، ولا غرو في ذلك فإنهم أهل الكذب والبهتان. فكثرت بذلك جنوده وأتباعه. ولم تزل الفرقة الاثنى عشرية إلى يومنا هذا ذليلين صاغرين. نسأله تعالى أن يخذلهم إلى يوم الدين.

الفصل الخامس في بيان دعاة الرافضة وفرقهم

اعلم أن لكل فرقة من فرقة الرافضة دعاة كانوا يدعون الناس إلى باطلهم وينصبون حبائل الحيل ليوقعوا الناس في شرك الضلال، كلهم أروغ من ثعلب وأهدى من القطا في طريق الضلال والغي.

والدعاة ثلاث فرق: الفرقة الأولى المنافقون. الفرقة الثانية الفجرة الصواغون. الفرقة الثالثة المؤمنون المخدوعون. وكل منهم إما عالم يدعو الناس إلى مذهبه بإقامة الدلائل والشبه الواهية على حقيقته وذم مذهب غيره، وربما يؤلف قلوبهم ببذل الأموال يأخذها من أغنياء شيعته أو بالمواعيد الكاذبة ويريهم أنه أعطف عليهم من أبيهم وأمهم، فيطيعه ويتبعه بذلك كل من أعمى الله تعالى عين بصيرته وختم على قلبه؛ وإما ذو ثروة وفضل يدعو الناس إليه بأمرين: بذل المال وإقامة الدليل؛ وإما ذو شوكة يدعو الناس إليه بالوعد والوعيد؛ وإما غير ذلك ممن اتصف بشيء يوجب اجتماع الناس عليه.

ثم الداعي للدعاة على الدعوى أمور:

الأول تضليل الأمة وتفريق شملهم. والداعي لذلك الأمر هو المنافق اللعين كعبد الله بن سبأ والعلباء وبيان النهدي وغيرهم ممن تقدم ذكره، وكان أولهم ابن سبأ فإنه كان منافقا قصارى بغيته تفريق جماعة المسلمين وتضليل المؤمنين.

الثاني تكثير سواد مذهبه. والداعي لذلك الأمر لا يكون إلا مقلدا للمذهب.

الثالث حب الجاه والمال. والداعي لذلك الأمر لا يكون إلا الغاوي المضل. ومن هذه الفرقة من ادعى السفارة بين الإمامية الاثني عشرية وبين صاحب الزمان وادعى المكاتبة معه والرواية عن الأئمة ليتأسى به الشيعة ويجعلوه قدوة لهم ويبذلوا له أموالهم ويجعلوا له أمهات أولادهم وسائر جواريهم.

الرابع إرضاء ملك أو ذي ثروة يحب أن يكثر أهل مذهبه. والداعي لذلك الأمر لا يكون إلا من يشتري الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فيضل الناس ليرضى عنه سلطانه أو ذو الثروة.

الخامس رجاء نيل المثوبة من الله تعالى. والداعي لذلك الأمر هو الذي يعتقد أن مذهب الرافضة حق وما عداه باطل، فيدعو الناس لينال أجرا عظيما من عند الله سبحانه.

السادس أداء ما أوجب الله تعالى بزعمه من الأمر بالمعروف والهداية إلى طريق الحق. والداعي إنما العالم المخطئ.

السابع الشفقة على ذوي القربى وغيرهم من المسلمين والرأفة بهم ظنا منه أن غير أهل مذهبه يعذبون بالنار. والداعي لذلك هو المنخدع أو المخطئ أو المقلد لهما بغير علم ولا بصيرة في المذهب.

الثامن إيقاع العداوة والبغضاء بين الرجل وأسرته وأقاربه وعشيرته. والداعي لذلك خبيث النفس لئيم الطبيعة.

وأول داعية كل فرقة من ابتدع المذهب. وأول من دعى الناس على الرفض والقول بألوهية علي بن أبي طالب عبد الله بن سبأ. وقد أشرنا سابقا في كيفية إضلاله وجلب الناس إلى زيغه وباطله. وقد أعاد صاحب الأصل ذلك البحث في هذا المقام مع زيادة في بسط الكلام، وقد أعرضت عن ذكره لئلا يطول المقام واعتمادا على فهم ذوي البراعة وأهل الكمال.

ثم لما استشهد السبط الجليل أبو عبد الله الحسين بن علي المرتضى رضي الله تعالى عنهما، اختلفت الشيعة في تعيين الإمام. فزعم كيسان أن الإمام بعد علي ابنه محمد بن الحنفية وأنكر إمامة السبطين ودعى الناس إليه، فتبعه جمع كثيرون، إلا أن أكثرهم رجعوا عن مذهبه بسبب إنكاره إمامة السبطين. وقالوا إن محمد بن علي بن أبي طالب إمام هذه الأمة بعد أخويه. وارتضى هذا القول سائر الكيسانية، وقدوتهم مختار بن أبي عبيد الثقفي. ولما ولي الكوفة وما حولها دعى الناس إلى مذهبه فتبعه جمع كثيرون من الشيعة لسلطانه وإحسانه إليهم وقوله بإمامة السبطين وادعائه أن محمد بن علي بن أبي طالب استخلفه لطلب ثأر أخيه والجهاد مع النواصب من آل مروان وتابعيهم وإدارة البلاد التي تفتح. ودفع إلى رؤساء الشيعة كتابا منه إليهم بخطه وطبع عليه بطابعه فإذا فيه: "من محمد بن علي أمير المؤمنين إلى فلان وفلان وفلان وأتباعهم، يا معشر الشيعة اعلموا أني قد جعلت مختار بن أبي عبيد الثقفي خليفتي، فأطيعوا أمره وجاهدوا معه الأعداء بأموالكم وأنفسكم وحثوا أتباعكم على مقاتلتهم وعلى إطاعة المختار فيما يأمر وينهى، والسلام على من اتبع الهدى". فلما قرأوا الكتاب أطاعوه من غير توقف. وحاربوا أول من كان بالكوفة ممن قاتل السبط الشهيد وقتلوهم حيث وجدوهم، وهرب أمير الكوفة، فآتاه الله الملك. ثم أرسل إبراهيم بن مالك بن الأشتر إلى جهاد من كان في بلاد العراق من النواصب وقتل من وجد من محاربي السبط الجليل ومن نصرهم ووالاهم، وأمره [بأن] يثخن في الأرض. فخرج إبراهيم من الكوفة وقتل من وجد منهم، وفتح بلاد العراق والأهواز وديار بكر وأذربيجان. ثم قصد دمشق، فأخبر به ابن مروان فسير إليه عبيد الله بن زياد مع مائة ألف فارس، واستقبله إبراهيم ومعه اثنا عشر ألف فارس. فقالتهم فقتل إبراهيمُ عبيد الله بن زياد ودوخ من كان معه من الجنود. وقد بلغ عدد القتلى في حروب المختار مائة وأربعين ألف رجل. فارتفع قدر المختار إذ ذاك واستشفت الشيعة المخلصون وغيرهم بقتل ابن زياد وأعداء أهل البيت وانهزام جيش العدوان، وشكروا صنيع المختار وأثنوا على إبراهيم ومن معه. وأتت الشيعة تسعى إلى المختار من كل فج. واختار مذهبه جمع لا يحصى منهم. ولقب أهل مذهبه بالمختارية، وأبقوا في أحسن حال وأرفه عيش نحو اثنتي عشرة سنة. ثم ادعى أنه يوحى إليه. فقاتله ابن الزبير فنصره الله تعالى عليه، فغلبه وقتله بعد أن أسره. وتفرقت حينئذ أتباعه وجنوده. ورجع الكيسانية عن مذهبه واختلفت كلمتهم في تعيين الإمام بعد محمد كما سبق.

ثم تعين هشام الأحول وهشام بن سالم وأحول آخر يلقب بشيطان الطاق. فطفق كل منهم مع من وافقهم يدعون الناس إلى إمامة علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ثم إلى إمامة محمد بن علي الباقر. فتبعهم جمع من التفضيلية والمختارية، ورجعت جماعة كثيرة من الشيعة إلى مذهبهم. وهؤلاء الرهط أسلاف الشيعة الإمامية وقدماء دعاتهم ورواة أخبارهم ومتكلميهم، مع أنهم قد بلغوا في الضلال ما علمت واتبعوا أهواءهم من دون الله فضلوا وأضلوا. والأئمة الذين يدعون هؤلاء أنهم يروون عنهم أحكام الدين كانوا يتبرؤون منهم ويكذبون ما يروون عنهم من العقائد الباطلة والهفوات الزائغة ويدعون عليهم بالهلاك. وقد ثبت ذلك بالآثار الصحيحة المروية من طريق الإمامية أيضا كما سيجيء إن شاء الله تعالى ذكره في غير موضع من هذا الكتاب.

ودعى أصحاب زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب جمعا من الشيعة إلى إمامته لما بايعه جمع كثير سرا. ونهض يطلب الخلافة. وكان الإمام أبو حنيفة تعالى يحض الناس على إمامته ويقول: "لولا ودائع الناس عندي لجاهدت الأعداء معه". فقاتل أمير العراقين. ولما أخبر به عبد الملك بن مروان جهز إليه خمسة آلاف مقاتل، فقتلوه وغلبوا في مواطن كثيرة. ثم رفضه الجم الغفير من أهل الكوفة ممن ينتحلون حب جده ويزعمون أنهم من خلص الشيعة.

ومن دعاة الزيدية يحيى بن زيد بن علي. ومنهم أبو عبد الله يحيى بن الحسين بن القاسم الحسيني، من ولد الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بالهادي، وكان فاضلا نبيلا وعالما جليلا. استولى على بلاد اليمن سنة ثمان ومائتين، ثم استولى على الحجاز. وصنف كتابا في فقه الزيدية سماه الأحكام. ومنهم ابنه محمد الملقب بالمرتضى، وحفيده حسن بن أحمد، ويحيى بن أحمد وغيرهم من الزيدية. ومنهم من غيّر مذهبه، كجارود وسليمان بن جرير التبر التومي وحسن بن صالح ونعيم بن اليمان ويعقوب. وكل منهم يدعو الزيدية إلى مذهبه بعد أن ابتدعوا في المذهب أمورا كما سبق.

ولما كان الهشامان وشيطان الطاق أكثر دعاة الإمامية كيدا وأعلمهم وأوفرهم خداعا، تبعهم جمع لا يحصى ومن ثم كثرت فرقة الإمامية وزادت على سائر فرق الرافضة.

ثم إن الإمامية لما افترقت إلى فرق كثيرة كما سلف كثر دعاة كل فرقة منهم وتصدر جمع من كل فريق واتبعهم جمع من سفهاء الأحلام. وكان كل فرقة تقول بإمامة رجل من أهل البيت ثم بعد وفاته بإمامة ولد من ولده أو بإمامة أخيه أو تنكر موته وتزعم أنه اختفى وسيظهر بعد حين، إلى أن قالوا بإمامة الحسن بن علي العسكري واختفائه بعد موته. فادعى جمع أن حسنا لم يخلف ولدا وأن الإمام بعده أخوه جعفر فسمّ فمات ولم يخلف ولدا، فزعموا أنه خاتم الأئمة وكانوا شرذمة قليلة. وزعمت جماعة أخرى منهم أن الحسن بن علي خلف ولدا وهو المهدي الموعود وهو خاتم الأئمة، لكنه اختفى من خوف الأعداء. واستقرت أراؤهم على انحصار الأئمة في الاثني عشر رجلا، فلقبوا بالاثني عشرية. وكثرت دعاتهم، وأولهم ادعى السفارة بينه وبين شيعته، وذلك سنة ست وستين ومائتين، ثم بعده خلفاؤه إلى أن أفضت نوبة السفارة سنة ست عشرة وثلاثمائة إلى علي بن محمد، وهو خاتم الدعاة من السفرة، وعاش إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ومن دعاتهم من ادعى الكتابة، فكان يظهر للشيعة كتابا يزعم أنه خط الإمام الحجة قد بعثه جوابا نمقه إليه. ومن هؤلاء من يثبت الواسطة بينه وبين صاحب الزمان. ومنهم من لا يثبت كما سيجيء إن شاء الله تعالى. ومن دعاتهم علماؤهم الذين صنفوا الكتب أو تصدروا لتعليم الفقه والكلام. وسيجيء ذكر عيون مصنفيهم ومشاهير علمائهم إن شاء الله تعالى. ومن دعاتهم من يروي الأخبار عن الأئمة الأخيار وأصحابهم بواسطة أو بغير واسطة في الأصول والفروع وفضائل الأعمال. ومن دعاتهم بعض من استولى على البلاد من الزائغين. وأنكر بعضهم إمامة موسى بن جعفر ومن بعده من ولده، فزعم بعضهم أن جعفر بن محمد الصادق لم يمت ولكنه غاب وسيظهر بعد حين، وهو المهدي المنتظر، ورووا عنه في ذلك آثارا ودعى الشيعة إليه، منهم عبد الله بن ناؤس. وادعى بعضهم أنه بعد جعفر إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي، مع أنه مات قبل أبيه في المدينة ودفن في بقيع الغرقد باتفاق المؤرخين والإخباريين من أهل السنة وجماهير الشيعة. وزعموا أنه لم يمت ولكنه غاب وهو القائم المنتظر الموعود. وأول دعاة هؤلاء الضلال مبارك ثم خلفاؤه. وذهب بعضهم إلى أن الإمام بعد الصادق ابنه محمد ودعى الناس إلى إمامته. وزعم بعضهم أن الإمام بعد جعفر محمد بن إسماعيل بنص الصادق عليه.

وهذه الفرق الثلاثة كانوا شرذمة قليلة ودعاتهم من ابتدع المذهب وأصحابه. وأولهم حمدان قرمط. وزعم بعضهم أن إسماعيل بن جعفر مات بعد أبيه، والإمامة بعد جعفر لإسماعيل وبعده لأولاده بنص السابق على اللاحق كما سبق. ودعاتهم عبد الله بن ميمون وحدان قرمط ويحيى بن أبي الشمط وخلف وأحمد وخلفاؤهم. وادعى محمد بن عبد الله بن عبد الله الذي لقب بالمهدي أنه من ولده وأنه إمام هذه الأمة. فانخدع جمع من السفهاء من أهل المغرب وصدقوه وبايعوه وكثرت أتباعه. ونهض لطلب الملك فحارب من ولاه المقتدر العباسي فغُلب، وغلب المهدي على إفريقية وهي من مشاهير بلاد المغرب. وانتشرت دعاته إلى بلاد المغرب وأورث الولاية أولاده وفتحوا مصر. ومال إلى مذهبهم علماء السوء وعلموا الناس مذهب العبيدية وكثرت دعاتهم من العلماء. منهم نعمان بن محمد بن منصور وعلي بن نعمان ومحمد بن نعمان وعبد العزيز ومحمد بن المسيب والمقلد بن المسيب العقيلي وأبو الفتوح برحوان ومحمد بن عماد الكتامي الملقب بأمين الدين وغيرهم. ومن دعاتهم زمن المستنصر عامر بن عبد الله الزواحي. ومن أكابر دعاتهم في ذلك الزمان علي بن محمد الصليحي، وكان أبوه قاضيا في اليمن سني المذهب عالما ورعا، وكان علي الداعي خليفة عامر المذور في الدعوة، وذلك أن عامر الداعي كان يركب إلى القاضي ويلاطفه لرئاسته وصلاحه وعلمه وسؤدده وفضله، وكان يرى لولده علي مخايل النجابة، فلم يزل عامر يتردد إليه حتى استمال قلب ولده وهو يومئذ دون البلوغ. وقال بعض أئمة التاريخ كان عند عامر حلية علي الصليحي في كتاب الصور، وهو من الذخائر العظيمة، فأوثقه منه على تنقل حاله وجزيل ماله وأطلعه على ذلك من غير علم أبيه وأهله، ثم مات عامر بعيد ذلك وأوصى له بكتبه وعلومه ورسخ في ذهنه من كلام عامر ما رسخ، فعكف على الدرس وكان ذكيا، فلم يبلغ الحلم إلا وقد فرغ من تحصيل العلوم العربية والكلامية والحكمية والفقهية، وصار فقيها في مذهب الدولة العبيدية، ثم صار يحج بالناس دليلا على طريق السراة والطائف خمس عشرة سنة. وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة رقى قلعة منيعة من جبال اليمن، وكان معه ستون رجلا قد حالفهم بمكة في موسم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة على الموت والقيام على الدعوة إلى مذهب المهدوية وبيعة المستنصر العبيدي، وكل منهم له أتباع كثيرون. وبنى فيها حصنا حصينا واستفحل أمره شيئا فشيئا. وكان يدعو للمستنصر خفيا ويخاف من نجاح صاحب تهامة ويلاطفه ويستكن لأمره ظاهرا وهو يسعى في قتله باطنا، حتى قتله بالسم مع جارية جميلة أهداها إليه سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وهرب أبناؤه، وملك تهامة. وفي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة كتب إلى المستنصر في إظهار الدعوة، فأذن له. فطوى بلاد اليمن وفتح الحصون وملك بلاد اليمن كلها في أقل من سنتين، وأخذ البيعة من كافة أهل اليمن وأضل منهم خلقا كثيرا. وعزم على الحج سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، وتوجه في ألفي فارس فيهم من أهله مائة وستون رجلا، حتى إذا كان في النهجر نزل في ظاهره بضيعة يقال لها بئر أم معبد، وكان سعيد وخباس ابنا صاحب تهامة مستترين في زبيد، فلما أخبرا أن الصليحي توجه من مكة خرجا ومعهما سبعون رجلا كلهم مشاة ليس معهم سوى الجريد وفي رؤسها مسامير، وتركوا جادة الطريق وسلكوا طريق الساحل. وكان الصليحي قد سمع بخروجهم فسير جمعا ممن في ركابهم لقتالهم، واختلفوا في الطريق فوصل سعيد ومن معه قريب بئر أم معبد، فظن الناس من الصليحيين أنهم من عبيد عسكرهم فلم يكترثوا منهم، وإن حذرهم منهم بعض دعاتهم ونصحهم، فهجموا عليهم بغتة فقتلوه وجزوا رأسه بسيفه وقتلوا أخاه وسائر الصليحيين في تلك السنة فقطع دابرهم.

ومن أكابر دعاتهم [الطلائع بن زريك] الأرمني وزير الفائز بن الظافر العبيدي، وكان يرغب الناس في التشيع ويدعوهم إلى مذهب العبيدية.

وممن يرغبهم في المذهب ويدعوهم إلى مذهب المهدوية الفقيه عمارة اليمني الشاعر المشهور صاحب تاريخ اليمن، وكان شافعي المذهب لم يكن منهم، وكان يمدح الفائز والصالح ويثني عليهما بما ليس فيهما، حتى قال في قصيدة يمدحهما بها:

لقد حمى الدين والدنيا وأهلهما ** وزيره الصالح الفرّاج للغمم

مع اعتقادده فساد مذهبهما، وذلك لكثره إحسانهما إليه.

ولما انقضت دولتهم وذهبت ريحهم وملك صلاح الدين مصر، اتفق الفقيه عمارة اليمني مع جماعة من رؤساء مصر على التعصب لهم وإعادة دولتهم، وكانوا ثمانية من الأعيان من جملتهم الفقيه عمارة، وكاتبوا الإفرنج واستدعوا بهم إلى السلطان حتى يجلسوا ولد العاضد مكانه، فأحس بهم السلطان فقبضهم وصلبهم ودمر العبيدية وعاش عيشا رغدا. ولم يبق من العبيدية من يدعي الإمامة. ورجع الناس عن مذهبهم ولم يبق من المتمذهبين بمذهبهم إلا رهط من أهل اليمن وجمع هربوا من مصر إلى أقاصي الهند ودعوا جمعا إلى مذهبهم فأجابتهم عصبة من الحمقى، وبقي أهل مذهبهم في الهند وبعض بلاد اليمن إلى الآن. وزعم بعض من هؤلاء الضلال أن ابن العاضد قدم الهند، وادعى أنه المهدي فأطاعه قوم من الجهلة وعاش مدة، ثم مات ودفن هناك، وأذاعوا أنه قبر المهدي. والمهدوية يزورونه ويتبركون به.

ومن دعاتهم المكرم الصليحي ملك مدينة ذي جبلة من بلاد اليمن وزوج السيدة بنت الصليح القائمة مقام زوجها بعد موته.

وسبأ بن أحمد بن مظفر الصليحي الذي استولى على أكثر بلاد اليمن في جماعة من الصليحيين وعظماء اليمن وشرذمة من علمائهم.

ومن دعاتهم رؤساء القرامطة أبو سعيد القرمطي الجنابي وابنه أبو طاهر، فإنهم منهم إلا أنهم كانوا يظهرون ما يخفونه من الاعتقادات الفاسدة.

ومن دعاتهم النزارية حسن بن علي بن محمد بن الحسين بن محمد بن صباح الحميري الشهير بابن الصباح وكبار أولاده. وابن الصباح أول من ابتدع مذهب النزارية.

اللهم اعصمنا من هؤلاء الشياطين واحفظنا من البدع والأهواء بمنك وكرمك.

الفصل السادس في بيان مكائد الرافضة لإضلال الناس وميلهم عن الحق

اعلم أن الرافضة أحرص الناس عل تكثير سوادهم ورجوع المسلمين إلى مذهبهم، فيكيدون لذلك كيدا ويمكرون مكرا كبارا. وأكثرهم كيدا الإمامية، وهم أكثر فرق الرافضة اليوم، ولم يزالوا ينصبون للأنام شرك الشبه والأوهام كي يوقعوهم بما وقعوا فيه من ورطة الضلال ويجلبوهم إلى ما كلانوا عليه من رداءة الأحوال، مع أن ذلك منهي عنه عندهم، كما نبهوا عليه وأشاروا في معتمد كتبهم إليه. فقد روى الكليني عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "كفوا عن الناس ولا تدعوا أحد إلى أمركم".

هذا ولهم مكائد كثيرة ربما يعثر عليها بعض القاصرين فينخدع بها. فوجب التنبيه عليها وبيان تزويرها وافترائها، ولنذكر منها تسعا وسبعين مكيدة.

الأولى: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون أن يخل الله تعالى بواجب.

وهذا افتراء لأن أهل السنة أجمعوا على أنه تعالى لا يخل بالواجب، إذ لا واجب عليه كما سيجيء تحقيق ذلك في المقصد الثاني إن شاء الله تعالى، وإنما يستلزم ذلك من أصولهم. فإنهم قالوا إن الله تعالى أنظر إبليس إلى يوم الوقت المعلوم، ومكنه من إضلال المكلفين وخلق له قدرة على ذلك، والواجب عليه أن لا ينظره لأنه الأصلح للمكلف، وأن لا يمكنه إضلالهم فإن تمكينه إخلال بالواجب، وأن لا يخلق له تلك المقدرة فإن خلقها كذلك. ولأنهم زعموا أن الله سبحانه أمر محمد بن الحسن المهدي أن يختفي بعد أن خوّفه الأعداء ما يزيد ألف سنة في الكتاب المختوم بخواتم الذهب فحرم عباده من اللطف بسبب إخافة جمع من أهل بلد انقرضوا.

الثانية: يقولون إن أهل السنة يجوزون أن يفعل الله تعالى القبيح.

وهو افتراء أيضا، فإن مذهب أهل السنة أنه لا قبيح منه تعالى، بل ذلك إنما يلزم من أصولهم المؤسسة على شفا جرف هار، فإن من مكّن على فعل القبيح فهو كفاعله، كمن دفع سكينا إلى رجل يعلم أنه يمزق بطن نفسه، فإنه مما يذمه أهل العقول. وقد صرحوا بخلقه تعالى القدرة للعاصي على خلق أفعاله القبيحة، فإنه أيضا قبيح. وأيضا قواعد أصول القوم على أن الله تعالى يفعل القبيح، فإنهم لا ينكرون أنه تعالى يخلق للعاصي القدرة والإرادة ويمكّنه من الشر، وكل ذلك قبيح. وأنه تعالى أباح لحوم الحيوانات للإنسان وسلطه عليها فيأخذها ويعذبها، ولا شك أن الإنسان أكثرهم عصاة والحيوانات مطيعة وتسليط العاصي على المطيع قبيح، وأنه تعالى يبسط الرزق لكثير من عباده وهو يعلم أن الغنى أضر له من السم الواقع حيث إنه يتمكن بسببه من سفك الدماء والجور والظلم وسائر المنهيات، ويعلم أن منهم من يدعي الألوهية كنمرود وفرعون والمقنع وغيرهم، وأن منهم من يقتل الأنبياء والصالحين بغير حق، والتمكين من القبيح قبيح.

الثالثة: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون الظلم على الله تعالى، فأنى له أن يظلم عباده عندهم ويلومهم من غير جرم وإيصال عوض؟

وهذا باطل عندهم لا أصل له، فإن مذهب أهل السنة امتناع صدور الظلم منه تعالى، كما سيجيء ذلك في المقصد الثاني إن شاء الله تعالى. بل إنما يلزم ذلك من مذهبهم، فإن قواعد أصولهم تنص على ذلك. روى ابن بابويه وغيره عن الأئمة: "أن أولاد الكفار في النار"، وذلك ظلم وإيلام ومن غير جرم. ولأنهم اعترفوا بأن الله تعالى خلق السباع وجعل أقواتها لحوم الحيوانات الضعيفة وأنه سلطها عليها من غير جرم، وتسليط القوي على الضعيف ظلم بين. وإنه خلق الإنسان ضعيفا، وخلق له نفسا وخلق لها ما تلتذ به وما تنفر عنه وخلق لها ميلا إلى الشهوات الموجبة لهلاكها ونفورا عن التكليفات الموجبة لسعادتها، ومكن أكثرهم من تحصيل ما يريده ثم أمر بفعل ما ينافرها ونهاها عن ارتكاب ما يلائمها، وهو يعلم أن أكثرهم لا يأتمر بما أمره ولا ينتهي عما نهاه عنه، وقيض له عدوا يراه من حيث لا يراه ويوسوس له في صدره ويزين له سوء عمله، وخلق له القدرة على الوسوسة والتزيين، وهو لا يتمكن من دفعه، وهو سبحانه يعلم أنه يتبعه، ثم يعذبه. وكل ذلك صريح، فإن من حبس مسكينا ومنعه من الطعام والماء إلى أن بلغ جهده، ثم أحضر عنده ألوانا من لذائذ الأطعمة ووضعها بين يديه وخلى بينه وبينها ثم قال له: إن أكلت شيئا منها لأعذبنك عذابا شديدا، ثم قيض له قرينا عدوا له يدعوه إلى أكلها ويغريه عليه ويقول له: إن صاحب الطعام جواد كريم عفو، إن أكلت منها لا يؤاخذك به ويعفو عنك والجوع يرديك، فأكل منه شيئا يسيرا، وعذبه عذابا أليما، عده أولو العقول ظالما كما لا يخفى. وأما تجويز الإيلام من غير جرم وإيصال عوض فهو مذهب أهل البيت، وهم قدوة هؤلاء، وقد نص عليه أمير المؤمنين والسجاد زين العابدين كما سيجيء إن شاء الله تعالى في الإلهيات. والجواز لا يستلزم الوقوع، ومع ذلك يتقونه لأن الله تعالى وعد وعد الحق أن يكفر عن المتألم بالإيلام سيئاته أو يرفع له الدرجات على طريق الوجوب، إذ لا يجب عليه سبحانه شيء. هذا ويلزم ذلك هؤلاء الضلال بمقتضى أصولهم، وذلك لأن الله تعالى يبتلي الحيوانات العجم بالأمراض والموت بلا جرم وإيصال عوض، ولا فرق بين المكلف وغيره.

الرابعة: إنهم يقولون إن أهل السنة يزعمون أن الله تعالى عابث لاعب في أفعاله، حيث إنه يجوز عندهم أن يفعل سبحانه لا لغرض.

وهو أيضا افتراء وزور، فإن مذهب أهل السنة أن أفعاله تعالى كلها محكمة متينة مشتملة على حكم ومصالح لا تحصى. وتلك الحكم والمصالح غايات لأفعاله تعالى ومنافع راجعة إلى المخلوقات. والعبث ما كان خاليا عن الفوائد والمنافع، لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه وعللا مقتضية لفاعليته، فلا تكون أغراضا وعللا نائبة لأفعاله، فإنه لو كان فعله تعالى لغرض لكان مستكملا بتحصيل ذلك الغرض، فإنه هو الآمر الباعث للفاعل على الفعل، فهو المحرك الأول له وبه يصير الفاعل فاعلا لغرض، فلا بد أن يكون وجود ذلك الغرض أولى بالقياس من عدمه، وإلا لم يصلح لأن يكون غرضا له فيكون الفاعل حينئذ بفعله مستفيدا لتلك الأولوية ومستكملا بغيره فيلزم انفصاله سبحانه عنه واستكماله به، ويلزم أيضا أن يكون تعالى محلا للحوادث. ولأن فعله سبحانه لو كان لغرضه لكان ناقصا لأن غرض الفاعل لما كان سببا لإقدامه على فعله كان ذلك الفاعل ناقصا في فاعليته مستفيدا لها من غيره، ولا سبيل للاستكمال والنقصان إلى سرادقات جلاله وكبريائه سبحانه. ونحو قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} محمول على الغايات والمنافع المترتبة عليها دون الأعراض والعلل الغائبة. ومن قال من الفقهاء بتعليل أفعاله تعالى فقد أراد بالغرض ما ذكرنا، ولا مشاحة في الاصطلاح. هذا ثم إن هؤلاء القوم طعنوا في أهل الحق لإنكارهم التعليل ظنا منهم أنه يستلزم العبث وعموا عما صرحوا به في كتبهم، فإن القول به يوجب كونه تعالى عابثا في كثير من أفعاله، فإن الله تعالى كلف بالإيمان عن علم أنه لا يؤمن ويموت كافرا وتكليفه عبث، فإن الغرض من التكليف الانزجار عن القبائح عندهم، وكذا تكليف سائر من لا ينزجر عن المعاصي ولا يستمر بما أمر به ولا ينتهي عما نهي عنه.

الخامسة: إشاعتهم أن أهل السنة يزعمون أن الله تعالى لا يفعل ما هو الأصلح لعباده، بل ما هو فساد في الحقيقة.

وهو افتراء أيضا، فإن أهل الحق يقولون لا يجب على الله تعالى الأصلح، بل إن شاء فعله وإن شاء لم يشأه لمصلحة أخرى تركه. وما رموا به هو مذهبهم، لأن الله تعالى ترك كثيرا مما هو الأصلح بزعمهم كما سبق، وكما سيأتي في مباحث وجوب الأصلح إن شاء الله تعالى.

السادسة: يقولون إن أهل السنة جوزوا تكليف المعدوم ومخاطبته، فيقول الله تعالى في الأزل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ولا شخص هناك.

ولا يخفى بطلانه، وهذا أيضا من افترائهم، لأن وجود المكلف عندهم شرط للتكليف الذي هو طلب الفعل من المكلف، لأن الطلب من المعدوم ممتنع. نعم إنهم يقولون إن الأمر يتعلق بالمعدوم فإنه مكلف، ويريدون بذلك التعليق العقلي، وهو أن المعدوم الذي علم الله أنه يوجد بشرائط التكليف توجه عليه حكم في الأزل بما يفعله ويفهمه فيما لا يزال، فإذا وجد وصار مكلفا تعلق به ذلك الحكم من غير تجدد أمر آخر، كما في خطابات النبي ﷺ بأوامره ونواهيه كل مكلف يولد إلى يوم القيامة واختصاصها بأهل عصره. وثبوت الحكم فيما سواهم بطريق القياس بعيد جدا. وليس المراد بتنجيز التكليف في حال العدم بأن يطلب منه الفعل حال عدمه.

السابعة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا تكليف من لا يفهم قبل فهمه.

وهو افتراء أيضا لأن تكليف من لا يفهم الخطاب لا يجوز، لأن فهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال شرط لصحة التكليف، لأن الامتثال بدون الفهم محال وتكليف لا لا يطاق، وهو ممتنع عند الجمهور. ومن جوزه قال لأنه لا يكون للابتلاء بالعزم وعدم الإعراض والبشر والكراهة وهو معدوم هاهنا.

الثامنة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا تكليف الرضيع والمجنون المطبق جنونه.

وهو أيضا افتراء، لأن مذهب أهل السنة أن القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق. والقول بجواز التكليف محال كما هو مذهب بعض الأشاعرة، وإن كان يوجب جوازه إلا أنهم أنكروا الوقوع والفساد، وإنما هو فيه دون الجواز.

التاسعة: إنهم يقولون إن أهل السنة كلهم جوزوا التكليف بالمحال، كتكليف الزمن الطيران إلى السماء.

وهذا افتراء لأن مذهب جماهير أهل السنة من الفقهاء والمتكلمين من الماتريدية وأكثر الأشاعرة أن إمكان الفعل شرط التكليف به اقتضاء للطاعة، فإذا لم يكن في الفعل طاعة لم يكن الاقتضاء متصدرا. وأما ما نسب للأشعري ما يشعر بذلك فلم يثبت، ومن جوزه من الأشاعرة وهم شرذمة قليلة فأكثرهم على عدم الوقوع للاستقراء في التكاليف، ولقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، ولا فساد في الجواز. ومن ادعى الوقوع بناء على أن الله تعالى كلف من علم أنه لا يؤمن بالإيمان اعترف بندرته وقلة وقوعه. وهذه المسألة مفصلة في كتب أصول الفقه وعلم الكلام أتم أصيل.

العاشرة: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون كون المأمور به حراما.

وهو أيضا افتراء، لأن مذهب جمهور أهل السنة أنه يستحيل كون الشيء الواحد من جهة واحدة مأمورا به وحراما، لأن مقتضى الأمر الفعل ومقتضى الحرمة الترك والجمع بينهما محال، وحين جوز التكليف بالمحال قال إنه ليس منه، بل هو تكليف وهو محال في نفسه، لأن معناه الحكم بأن الفعل يجوز تركه ولا يجوز وهو يناقض الأول.

الحادية عشرة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا المعاصي على الرسل، وهو قول يبطل الشرائع، فإنه إذا جاز صدور المعاصي منهم لا يبقى وثوق بأقوالهم فتنتفي فائدة البعثة.

وهذا أيضا من افترائهم، لأن مذهب الحنفية وجماهير الأشاعرة أنهم معصومون عن الكبائر عمدا وسهوا قبل النبوة وبعدها، وعمدا قبل النبوة عند جماعة منهم. وجوز بعضهم صدورها عنهم قبل الوحي إذ لا دليل على الامتناع عقلا ونقلا. هذا والجواز لا يستلزم الصدور. وورد عند الإمامية عن أبي عبد الله وعلي بن موسى الرضا ما يدل على صدور كبيرة عن الرسل قبل البعثة كما سيجيء في المقصد الثالث إن شاء الله تعالى. والأكثر على عصمتهم عن الصغائر بعد البعثة عمدا وسهوا، [و] الصغائر الخسيسة مطلقا، وهي ما يلحق فاعلها بالسفل والأرذال ويحكم عليه بدناءة الهمة، كسرقة لقمة وتطفيف حبة. ومن جوزه عقلا لا فساد فيه، إنما الفساد في الوقوع. وجوزت الإمامية صدور الذنب عنهم قبل البلوغ، كما ذكره المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، وعليه حمل فعل إخوة يوسف به بعدما تعسف ومنع كون الأسباط هؤلاء. وقد روى جمع من الإمامية عن الأئمة صدور الكبيرة عن بعض الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بعد البعثة. فقد روى الكليني بإسناد صحيح عن أبي يعفور عن الصادق أنه صدر عن يونس بن متى الذي هو من المرسلين ذنب كان الموت عليه هلاكا، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

الثانية عشرة: إنهم يقولون إن أهل السنة جوزوا السهو على الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه، وهذا يستلزم إبطال الشرائع.

نعم جوزوا ذلك ولكن لا طعن فيه، فإن مذهب أهل السنة جواز السهو عليهم بشرط أن لا يقروا عليه بل يشعروا به ليرتفع الالتباس. وهذا الشرط يقطع دابر الاستلزام. وقد روى أصحاب الصحاح منهم أن النبي ﷺ سهى في الرباعية فصلاها ركعتين. وذهب بعض الفقهاء من أهل السنة والصوفية إلى المنع وحملوا المنع على ما روي عنه عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين على القصد والعمد ليبين للناس حكم السهو، قالوا ويؤيد ذلك قوله ﷺ: "لم أفعل"، وفي رواية: "لم يكن" حين قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت. وقال بعض المحققين إن سهو غير المعصوم من الغفلة وهو آفة، وأما سهوه فعن حضور فهو في حقه كمال وفي حق غيره نقصان. وقد أجاد من قال:

يا سائلي عن رسول الله كيف سهى ** والسهو من فعل قلب غافل لاهي

قد غاب عن كل شيء سره فسهى ** عما سوى الله في التعظيم لله

وقد بالغ الحلي الصيرفي ومن يحذو حذوه في الطعن على أهل السنة في رواية حديث ذي اليدين، وقد روته الإمامية في كتبهم كالكليني وابن جعفر الطوسي في التهذيب بأسانيد صحيحة عندهم. فطعنهم على أهل السنة في ذلك مكابرة وعناد ظاهر.

الثالثة عشر: إنهم يقولون إن أهل السنة كفروا بقولهم إن النبي ﷺ تكلم بما هو كفر من ثناء اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهم رووا أن النبي ﷺ قرأ في سورة النجم وهو بمكة بمجلس قريش بعد قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}، بإلقاء الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، فلما ختم السورة سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون لما سمعوه يثني على آلهتهم.

وهذا أيضا من مفترياتهم لأن القول بأنه ﷺ فاه به مما وضعته الزنادقة، وأورده بعض المفسرين الذين لا يميزون بين الغث والسمين والصحيح والسقيم. والصحيح أن الشيطان ألقاه في أسماع الكفار وقلوبهم، محاكيا نغمته ﷺ حين وقف على {الْأُخْرَى} فظن الكافرون أنه ﷺ تكلم بهذا. وقد روى ابن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها، ولذا لم يخبره أحد منهم أنه تكلم به حتى أخبره جبريل بأن الشيطان ألقى ذلك في أسماع المشركين، فحزن النبي ﷺ فأنزل الله تعالى عليه تسلية له: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ}. وقد روى جمع من الإمامية ما ينبئ عن كفر بعض الرسل والأنبياء، كما سيجيء ذلك في مبحث النبوات إن شاء الله تعالى.

وأقول: إن هذا البحث مفصل أتم تفصيل في سورة الحج لجدنا روح الله تعالى روحه فراجعه.

الرابعة عشر: إنهم يقولون إن الصحابة كلهم إلا أربعة أو ستة منهم كانوا يقلون أهل البيت ولبغضونهم.

وهو أيضا من أكاذيبهم ومفترياتهم، فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كانوا يحبون أهل البيت أشد الحب، ويروون عن النبي ﷺ أخبارا في فضائلهم. وهذه كتب الحديث الصحيحة عند أهل السنة مشحونة بمآثرهم ومزاياهم. ولا يشك في ذلك إلا من أعمى الله بصيرته.

الخامسة عشر: إنهم يقولون إن في مذهب أهل السنة مخالفة لكتاب الله تعالى، كغسل الرجلين في الوضوء، والقرآن نص على المسح، فإنه قرئ بجر الأرجل ونصبها، وكلتا القراءتين تدل على المسح، أما النصب فإنه عطف على المحل، وأما الجر فعطف على اللفظ لامتناع العطف على المنصوب للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية، ولأن هذه الواو قد تكون بمعنى (مع) فينصب ما بعدها كما تقول: قام زيد وعمرا، واستوى الماء والخشبة.

وهذا باطل بل هو أيضا من مفترياتهم، لأن كلتا القراءتين تدل على الغسل. أما النصب فلأن الأرجل معطوف على الوجوه والأيدي، والفصل بين المتعاطفين بجملة أجنبية غير ممتنع بل جائز، وقد نقل أبو البقاء وغيره اتفاق النحاة على الجواز، والعطف على المحل -وإن كان جائزا- لكن العطف على اللفظ أولى بإجماع أئمة العربية، ولأن العطف على المغسول هو ظاهر تلك القراءة، ولا يجوز ترك الظاهر إلا بدليل، لأن العطف على المحل مجاز فلا يصار إليه من غير ضرورة، ولأن دليل العطف على المغسول ما تواتر من الأخبار، ولأن العطف على المحل إنما يجوز عند عدم الالتباس لا يقال: "ضربت زيدا ومررت بعمرو وبكرا"، بعطف بكرا على عمرو محلا. وقراءة الجر غير خاصة على المدعى. أو معطوف على فعل مقدر، وهو {فَاغْسِلُوا} واضمار الفعل في غير القرآن غير عزيز، والدليل عليه ما تواتر عن النبي ﷺ أنه غسل رجليه من أول أمره إلى أن قضى نحبه. والعطف على البعيد جائز باتفاق البصريين والكوفيين. ويا للعجب أن هؤلاء الضالين يطعنون على أهل الحق بإيثارهم العطف البعيد، وهم يفسرون كثيرا من آي القرآن بما يضحك منه صبيان العرب وجهلة الأعراب كما سيجيء كثير من ذلك. ومنه تفسير الخطاب بالغيبة أو معطوف على محل رؤوسكم، فإن العرب جوزت حذف أحد فعلين متقاربي المعنى، ولكل متعلق، وعطف متعلق المحذوف على المذكور كأنه متعلقه. قال لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه في معلقته الشهيرة:

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت ** بالجلهتين ظباؤها ونعامها

أي وباضت فإن النعام (بضم الهاء وفتحها) تبيض ولا تلد الأطفال، يريد أن الديار التي ذكرت في الأبيات السابقة مخضبة كثيرة العشاب قد علا بها فروع هذا الضرب من النبات وأصبحت الظباء والنعام ذوات الأطفال بجانبي وادي هذه الديار. وقال الآخر:

إذا ما الغانيات برزن يوما ** يزججن الحواجب والعيونا

أي وكحلن العيون. وقال الأخر:

يا ليت زوجك قد غدا ** متقلدا سيفا ورمحا

أي حاملا رمحا. وقال الآخر:

تراه كأن الله يجدع أنفه ** وعينيه إن مولاه ثاب له وفر

أي ويفقأ عينيه. ومنه قول العرب: علفتها تبنا وماء باردا، أي وسقيتها. إلى غير ذلك من الشواهد. ولا يجوز أن تكون الواو بمعنى "مع" لفقد القرينة. وإن الحجة ناهضة على خلافه لما سيجيء إن شاء الله تعالى. وأما الجر فعلى الجواز وهو جائز، وقد أثبته سيبويه والأخفش إماما العربية وأبو البقاء وجمع كثير من النحويين في النعت وغيره وفي العطف وفي التوكيد وغيره. وللنحاة باب في ذلك، وقالوا: قد وقع الجر بالجوار في القرآن وكلام العرب من النظم والنثر كثيرا. فمن القرآن {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}، وحقه الرفع، {وَحُورٌ عِينٌ} على قراءة حمزة والكسائي ورواية الفضل عن عاصم، وهو عطف عام ب {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} لا على {وِلْدَانٌ} إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مخلدون. ومن النثر: "هذا حجر ضبٍّ خربٍ" بالجر، والأصل الرفع فإنه صفة جحر. ومن النظم قول النابغة:

لم يبق غير طريد غير منفلت ** وموثق في حبال القد مسلوب

فخفض موثق بالمجاورة لمنفلت، وحقه الرفع إذ التقدير لم يبق إلا أسيرا وموثق. وقول امرئ القيس:

فظل طهاة الفحم من بين منضج ** صفيف شواء أو قديد معجل

فإن قديد عطف على صفيف فخفض على الجوار وكان حقه النصب. وقول الأخر:

يا صاح بلّغ ذوي الزوجات كلهم ** أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب

بجر كلهم والأصل نصبه لأنه توكيد ذوي. وإنكار الزجاج الجر بالمجاور في غير النعوت، ومع العطف لا معتبر له إن ثبت بعد أن أثبته من هو أعلى كعبا منه ومن لا يشق الزجاج غباره كسيبويه والأخفش ووافقهما جماهير أهل العربية وورد في كلام البلغاء. مع أن شهادة الزجاج لو ثبتت نفي، وشهادة جمهور أئمة العربية إثبات، وهي مقبولة وشهادة النفي غير مقبولة. ودعوى قلة وقوعها في كلام العرب باطل، كيف وقد نص أبو البقاء وجمع من أئمة العربية على وروده في النظم والنثر كثيرا. ولو سلم قلته، والوقوع ليست بمانع من الحمل، وإنما المانع عدم وروده في كلام العرب. وقد حملت الإمامية الباء في {بِرُءُوسِكُمْ} على التبعيض ولم يلتفتوا إلى إنكار سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه، وأنكره أيضا أبو الفتح ابن جني وأبو البقاء العكبري وجماهير النحاة من الكوفيين والبصريين. واعترف جمع من عيون علماء القوم كابن المطهر الحلي والمقداد ومحمد بن حسن الطوسي شيخ الطائفة بصحة قول سيبويه. وقد بالغ الطوسي في عدم وروده في كلام العرب فقال في التهذيب: "وإفادتها للتبعيض غير موجودة في كلام العرب". وقال المقداد في كنز العرفان: أنكر أهل العربية الباء للتبعيض، وما قيل إنه أثبته الأصمعي فلم يثبت، نعم قد توهم بعض المتأخرين من أهل العربية كالفارسي والقتيبي وابن مالك أن الباء في قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} للتبعيض، وكذا قول الشاعر:

فلثمت فاها آخذا بقرونها ** شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وهو وهم واضح وغلط فاضح، فإن الظاهر أن الباء فيهما للإلصاق، فلم يكن قولهم هذا شهادة حتى يسمع ولا يلتفت إلى قول سيبويه وجمهور أئمة الأدب. أو الأرجل معطوف على الرؤوس، والغسل والمسح في المعطوف بمعنى إمرار اليد المبتلة في المعطوف عليه بمعنى صب الماء. وقد جاء المسح بمعنى الغسل حقيقة. روي عن أبي زيد الأنصاري وغيره من أئمة العربية أنهم قالوا المسح في لغة العرب يكون غسلا، ومنه يقال للرجل إذا توضأ وغسل أعضاءه قد تمسح، ويقال مسح الله عز وجل ما بك، أي غسل عنك وطهرك، ومنه قولهم دخلت البحر فمسحت جسدي بالماء، وقولهم مسح المطر الأرض.

والدليل عليه أيضا الأخبار المتواترة معنى، ولا يلتفت إلى قول المنكر من الفرقة الضالة بعد ما ثبت عن أئمة اللغة، وكونه بمعناه مجازا لم ينكره أحد، ويجري إرادة المعنى المجازي في المعطوف والمعنى الحقيقي في المعطوف عليه. وقد نقل شارح زبدة الأصول على مذهب الإمامية عن بعض المهرة في العربية من علمائهم أنه صحح ذلك، وقال الصلاة في قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ}، أي في المعطوف عليه على المعنى الحقيقي، وهو في الأركان المخصوصة، وفي المعطوف عليه على المعنى المجازي وهو موضع الصلاة أعني المساجد، وقال إنه نوع من الاستخدام. وفسرها به جمع من مفسري القوم وفقهائهم، وبعض فقهاء الشافعية. فيجوز أن يراد هنا في المعطوف عليه المعنى الحقيقي، وفي المعطوف المعنى المجازي، والدليل عليه ما تقدم. ولأن قراءة الجر لو دلت على المسح فقراءة النصب ناسخة، لأن السبيل في القراءتين كالسبيل في الآيتين، أو متعارضة فحينئذ يجب المصير إلى ما في الأخبار المتواترة معنى. ولم يرو أحد من أهل السنة عن الأئمة إلا الغسل، ورواه عنهم الإمامية أيضا. روى العياشي عن علي بن أبي حمزة قال: سألت أبا إبراهيم عن القدمين، قال: تغسلا غسلا. وروى محمد بن نعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله: إن نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم تغسل رجليك. وروى هذا الأثر جمع منهم كالكليني وأبي جعفر الطوسي وغيرهما بأسانيد صحيحة عندهم. وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن آبائه عن علي قال: جلست أتوضأ فأقبل رسول الله ﷺ فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين الأصابع. إلى غير ذلك من الأخبار. فسند الغسيل من الأحاديث متفق عليه، وسند المسح مختلف فيه، فوجب طرحه على ما يقتضيه أصول القوم. والتقية باطلة كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والنسخ لم يثبت عند أهل السنة، والآية لا تدل على ذلك فإن الناسخ يجب أن يكون ظاهر الدلالة بالاتفاق. وما رواه الصفار ناص على عدم النسخ. هذا ولو لم يكن في هذه الآية دلالة الغسل لسأل الصحابة النبي ﷺ عن مواظبة الغسل، وما ذكره الكراكجي: أنه روى المخالفون أن النبي ﷺ توضأ ومسح رجليه، وأن عليا علم الناس وضوء رسول الله ﷺ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه؛ ففرية بلا مرية، وبهتان عظيم، وإنما الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم رووا أنه ﷺ كان يغسل رجليه في الوضوء إلى أن قضى نحبه، وهم لا يكذبون عليه باتفاق الفريقين. وقد روت الشيعة ذلك عن أمير المؤمنين، وأورده الرضي في نهج البلاغة.

وما روى عباد بن تميم عن عمه أنه عليه السلام توضأ ومسح قدميه، فهو معل بتفرد الراوي ومخالفة الجمهور، ولأنه لا يحتاج إلى بيان سنده وبيان من أخرجه من الأئمة الحفاظ في كتبهم، ولأنه يحتمل أن يكونا غير ثابتين، ولكن الراوي لما رآه من بعيد ظن أنه مسح رجليه. [وما روي] عن أمير المؤمنين: "أنه مسح رأسه ورجليه وشرب فضل ماءه قائما، وقال: إن الناس تزعم أن هذا مكروه، وإني رأيت رسول الله ﷺ يصنع ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث". فإن صح فلا يدل على المدعى لأن فيه أنه قد مسح وجهه ويديه، وكان ذلك المسح غسلا خفيفا فكذلك يحتمل أن يكون مسح رجليه كذلك، وهذه إشارة إلى الغسل الخفيف، يعني أن الناس تكره الغسل الخفيف ويرون الإسباغ. ولو كان المسح لقال إن الناس تزعم أن هذا لا يجوز، ولأن المتنازع فيه وضوء من يحدث، ولأنه محتمل أن يكون المراد بالمسح إمرار اليد المبتلة في الأعضاء الخمسة. وقد صح عن أمير المؤمنين أنه كان يغسل رجليه في الوضوء ولا يمسح. روي عن أبي عبد الله الحسين أنه قال: دعاني أبي علي بوضوء فقربته إليه... إلى أن قال: ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى. وروى أبو داود والطحاوي وغيرهما أنه: دخل الرحبة فدعا بماء فأتاه غلام بإناء فيه ماء وطست فتوضأ وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا. وما قيل إن المسح مذهب جماعة من أعيان الصحابة كعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وسلمان وأبي ذر وأنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ وجمع من التابعين كأبي العالية وعكرمة والشعبي والحسن البصري، إلا أنه كان يحب الجمع بين الغسل والمسح، وهو قول الناصر من أئمة الزيدية، وأن التخيير مذهب محمد بن جرير الطبري؛ فهو افتراء، فإنه لم يتثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين بإسناد، وإنما حكاه من هو كحاطب ليل. والدليل على أنه كذب لا أصل له ما أخرجه الطحاوي عن عبد الملك بن أبي سليمان أنه قال: قلت لعطاء: أبلغك عن أحد من الصحابة أنه مسح على القدمين؟ قال: لا. ولأن ارتكاب أحد الأمرين يوجب مخالفة صاحب الشرع، فإنه إذا كان يغسل رجليه من أول الأمر إلى أن قضى نحبه لا يجوز المسح، <وإن المسح بعد نسخ الغسل ولا يجوز الغسل> فالذين كانوا يلازمونه بالعشي والأبكار ولا يفارقونه آناء الليل وأطراف النهار ويأخذون الوحي عنه غضا طريا، وكان كل منهم عن الخلاف بريئا منه، كيف يخالفون فعل نبيهم عليه السلام وقد وعدهم الله تعالى الخلود في دار السلام. ومحمد بن جرير المذكور هو محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي الشيعي صاحب الإيضاح والمسترشد في الإمامة، لا أنه محمد بن جرير بن غالب الطبري أبي جعفر صاحب التفسير والتاريخ الكبير من أهل السنة، فإنه لم يذكر في تفسيره إلا الغسل. هذا وعزو المخالفة إلى من لا يجوّز المخالفة أصلا بل يكفر المخالف افتراء منشأه العصبية والعناد، فإن حمل إعرابه على ما نص على جوازه عيون أئمة العربية، وليس من المخالفة في شيء، إنما المخالفة في إنكار كثير من كلماته كرم الله تعالى وجهه {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} و {إِلَى الْمَرَافِقِ}، و {أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ}، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في المقصد الثاني والسادس. وفي ترك العمل بما دل عليه النص، وذلك في مذهب القوم كثير جدا كتخصيص الابن الأكبر للميت بسيف أبيه ومصحفه وخاتمه وثياب بدنه إن ترك مالا سواها، وعدم توريث الزوجة من الأرض والعقارات والدور والسلاح والدواب، فإن القرآن دل عل التوريث مطلقا، والتخصيص مخالفة. وقد اعترف ابن المطهر الحلي في المختلف بتكفير الصحابة من المهاجرين والأنصار مع أن القران ناص على أنهم مؤمنون {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. إلى غير ذلك من المخالفات. والرافضة يعيبون أهل الحق بعيوبهم، والمرء يولع بالذي يتعود.

السادسة عشر: إنهم يقولون إن مذهب أهل السنة مخالف للنبي ﷺ، كتحريم المتعة وقد أباحها النبي ﷺ، وصلاة الضحى وقد روي عن عائشة أنها قالت: صلاة الضحى ما صلاها النبي ﷺ.

وهذا أيضا من مفترياتهم، فإن المتعة قد نهى رسول الله ﷺ بعد أن أباحها لجنوده خاصة في بعض الغزوات كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وأما صلاة الضحى فقد صلاها النبي ﷺ. أخرج أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح والطبراني في الدعاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: أمرت بصلاة الضحى. وأخرج مسلم وأحمد وابن ماجه عن معاذة بنت عبد الله: سألت عائشة: كم كان يصلي رسول الله ﷺ صلاة الضحى؟ قالت: أربع [ركعات] ويزيد ما يشاء. وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس قال النبي ﷺ: "صلاة الضحى ست ركعات" إلى غير ذلك من الأخبار. قال الشيخ ولي الله العراقي: ورد في صلاة الضحى أحاديث كثيرة مشهورة، وقال محمد بن جرير الطبري: قد بلغت الروايات في صلاة الضحى مبلغ التواتر المعنوي. وما ورد في النفي فهو خبر واحد له معارضات، وشهادة الإثبات تهدم دجى النفي، ورواية النفي لا تقاوم أخبار الإثبات لكثرتها. ولو كان العمل بأحد الخبرين المتعارضين بسبب ترجيح أحدهما على الأخر مخالفة، فهو في مذهبهم أكثر من أن يحصى، فإن جميع آثارهم متعارضة كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والمخالفة إنما هي في مذهبهم كترك صلاة الجمعة والجماعة وطهارة الودي والمذي وعدم انتقاض الوضوء من خروجه وطهارة البول بعد نثر الذكر ثلاثا وجواز الصلاة مع خروجه وسيلانه إلى الساق، إلى غير ذلك. وسيجيء نبذة عنه إن شاء الله تعالى.

السابعة عشر: إنهم يقولون إن أهل السنة شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، كالعمل بالقياس.

وهذا أيضا باطل وزور، فإنه قد تواتر عن أهل البيت والصحابة أنهم يقيسون، وأن النبي ﷺ أجاز لهم ذلك، وروت الزيدية عن أهل البيت جوازه. وجوزه من الإمامية أبو نصر هبة الله بن أحمد بن محمد وتابعوه، وهم الثالث عشرية، لما سنح لهم من الدلائل القاطعة من الروايات الصحيحة عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم. وروت الفرقة الاثنا عشرية عن أمير المؤمنين ما ينص على أنه كان يقيس وعن غيره من الأئمة جوازه. من ذلك ما رواه أبو جعفر الطوسي في التهذيب عن أبي جعفر محمد الباقر أنه جمع عمر بن الخطاب أصحاب رسول الله ﷺ فقال: ما تقولون في الرجل يأتي أهله ولا ينزل؟ فقالت الأنصار: الماء من الماء، وقال المهاجرون: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقال عمر لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: توجبون عليه الحد ولا توجبون عليه صاعا من الماء؟ إذا التقى الختانان وجب الغسل. فإنه كرم الله تعالى وجهه قاس الغسل بالحد، وليس هذا من طريق الأولوية كما زعموا بناء على أن المجامعة بدون الإنزال إذا كان لها تأثير في أقوى الشقين -أي حد الزنا- كان لها تأثير في ضعفها بطريق الأولى، فإن السحق يوجب التعزير عند أهل السنة والحد عند الإمامية، ولا يوجب الغسل بالاتفاق. واللواطة وإن كانت إيغابا يحد عند فرقة من أهل السنة والإمامية، ويعزر عند غيرهم، ولا يجب على اللائط الغسل إن لم ينزل عند الإمامية. والمباشرة الفاحشة مع الأجنبية توجب أحد الأمرين ولا توجب الغسل. والأجنبيتان إذا وجدتا في إزار واحد عزرتا ولا يجب الغسل. وقولهم إن الروايات المذكورة توافق العامة فيجب طرحها من فرط العصبية والعناد، وهو يناقض قولهم إن المختلف فيه يطرح للمتفق عليه. وما رووه عن أهل البيت أنهم قالوا إذا ورد منا حكمان مختلفان: "خذوا بما خالف العامة ودعوا ما وافقهم" افتراء.

وقد اعترف شارح مبادئ الأصول الحلي أن الصحابة كانوا يقيسون، وخصص قياسهم ببعض أنواعه، ولم يجد به نفعا. وأجاز الباقر والصادق وزيد بن علي وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي الأخذ عنهم الفقه والحديث والقياس. وتفصيل دلائل جوازه وإبطال ما استدل به المنكرون في كتب الأصول.

الثامنة عشر: إنهم يقولون إن مذهب أهل السنة باطل ومذهب الإمامية حق، ويستدلون عل ذلك بأن الاثني عشرية قليلون وأهل السنة كثيرون، وقد مدح الله تعالى القليلين فقال: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ}، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}.

وهذا أيضا باطل لأن الله تعالى نص في كتابه على أن أصحاب اليمين من هذه الأمة كثيرون، فقال عز من قائل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}، وأن الله تعالى إنما يمدح كثير الشكر والذين يعملون جميع الصالحات، فإن صدر الآية: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ولا شك أن الشكور بالنسبة إلى الشاكر وغير الشاكر، والذين يعملون الصالحات بالنسبة إلى من يعمل بعض الصالحات والذي لا يعمل شيئا منها، في غاية القلة، ولم يمدح من عقيدته حقة. وذلك بين لا سترة فيه، ولو كانت القلة توجب الفضل لكان الحق مذهب الزيدية أو الناصبة أو الأفطحية أو الناوسية من الإمامية وغيرهم.

التاسعة عشر: إنهم يؤلفون كتبا في إبطال مذهب أهل السنة وذكر مثالبهم ومطاعن الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، وقد ألف جماعة منهم كالمرتضى وابن المطهر وابنه ومحمد بن الحسن الطوسي وسبطه ابن الطاوس وابن شهر آشوب السروي المازندراني وغيرهم، وأكثرهم تأليفا فيها ابن المطهر الذي هو أجهل من أبي جعدة، والمشهور منها منهج الحق ومنهاج الكرامة والألفين. وقد ردها فحول علماء أهل الحق، لا سيما شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية روح الله تعالى روحه في جنات النعيم. والحلي هذا كان عندهم من العلماء المشار إليهم بالبنان، مع أنه أجهل من ابن يوم، كما يلوح من ظاهر عباراته. ومن طالع كتابه الذي سماه بالألفين -وهو كتاب مشحون بالأكاذيب والاستدلالات التي لا يخفى بطلانها على أحد- يتبين له صدق ما ذكرنا.

العشرون: إنهم يقولون إن الخلفاء الثلاثة حرفوا كتاب الله وأسقطوا منه آيات وسور كثيرة في الأحكام وفي فضائل أهل البيت والأمر باتباعهم والنهي عن مخالفتهم ووجوب محبتهم وذكر أسماء أعدائهم، ومن ذلك سورة الولاية، وهي بزعمهم سورة طويلة ذكر فيها ولاية أهل البيت وفضائلهم، وأن منها أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون.

وقد أضلوا بهذه المكيدة كثيرا من الناس، والأمر لله تعالى. وهذا أيضا من افترائهم وتزويرهم، إذ كيف يكون ذلك والله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وسيجيء إن شاء الله تعالى إبطال هذا القول الباطل بحيث لا يبقى قول لقائل.

الحادية والعشرون: إنهم يقولون إن ابن بابويه روى عن ابن عباس وغيره من طرق متعددة عن النبي ﷺ قال: "لا يعذب الله من والى عليا".

وهذه أيضا مكيدة عظيمة، إذ فيها سهولة وراحة توجب ميل الجهلاء إليها. وهذا القول أيضا باطل لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

الثانية والعشرون: إنهم ينقلون عن التوراة: "أن الله تعالى قال فيه بمادماد اثنا عشر أوصياؤه خلفاؤه بعده أولهم إيليا ثم قيذور ثم إبربيل ثم مشغور ثم مسهور ثم مشموط ثم رومر ثم اهزار ثم تيمور ثم نسطور ثم نوقش ثم قديمونيا".

وهذا أيضا من أكذوباتهم، فإنه ليس في التوراة التي عند القرائين علماء اليهود -كنى بهم عن علماء الرافضة منهم- ولا في التوراة التي عند النصارى، ولا في التوراة المنقولة من العبرانية إلى العربية. وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ينكرون ذلك. وذكر بعض علماء الرافضة أنه سمع ذلك عن بعض علماء أهل الكتاب، فإن صح ذلك فلا يوثق به، فإنهم لا يزالون يبذلون جهدهم في تشتت كلمة أهل الإسلام وتفريق جماعتهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم. ومن ينكر نبوة الخاتم كيف يعترف بذلك ويتفوه بما يفحمه عند الخصام، فهل هذا إلا من كذبات أحد الفريقين، أهل الكتاب أو الرافضة، وليس في الكلام ما ينص أو يشير إلى أن أوصيائه من أهل بيته، مع أنه لا يدل على المدعى كما لا يخفى على أولي النهى.

الثالثة والعشرون: إن عصبة من علمائهم أظهروا أنهم من محدثي أهل السنة، بعد انتحال علم الحديث وسماعه من ثقاتهم وحفظ أسانيدهم، وملازمة التقوى والورع ليستيقن الطالب أنه منهم، فيأخذ عنه الحديث وهو يروي الأحاديث الصحاح والحسان، وقد يروي بإسناد صحيح ما وضعه من خبر يوافق مذهبه مثل جابر الجعفي، وقد انخدع بعض الثقات من المحدثين فروى أخبارا لم يتفرد هو بها كالترمذي وأبو داود والنسائي. ومثل أبي القاسم سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي، فإنه كما ذكر الشيخ النجاشي: شيخ الطائفة وفقيهها ووجهها. وقد قيض الله تعالى لها رجالا ميزوها وعرفوها لظهور آثار الوضع عليها من غرابتها ومخالفتها لصحيح الأخبار.

الرابعة والعشرون: إنهم وضعوا أخبارا زعموا أنها مأثورة عن أهل البيت في مثالب الصحابة، مثل أنهم نبذوا وصية النبي ﷺ في أهل ببته وراء ظهورهم وارتدوا عن دينه، وأن أهل البيت مظلومون ظلمهم الخلفاء ومن بعدهم وغصبوا حقهم، وأن غاصبهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأن محبيهم معهم في النار، وأن محبي أهل البيت وشيعتهم مع النبي وآله في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فينخدع بها من ران على قلبه ما كان يعمل، فعمي عن سواء السبيل وضل، وسيجيء إن شاء الله تعالى إبطال ذلك.

الخامسة والعشرون: إنهم يضعون أخبارا تؤيد مذهبهم، مثل أن النبي ﷺ كان يقول: "إن أولي العزم من الرسل كانوا يتمنون أن يكونوا من شيعة علي".

السادسة والعشرون: إنهم ينقلون أخبارا عن بعض كتب أهل السنة، مما رواه بعض محدثيها عن رجل يشاركه فيه غيره، في اسمه أو لقبه أو كنيته أحدهما صدوق والآخر كذاب، وترك ما يميز به أحدهما عن الآخر ليعلم أنه صحيح، كالسدي فإنه مشترك بين رجلين: أحدهما الكبير والآخر الصغير، والأول ثقة والآخر كذاب وضاع رافضي، فينخدع بذلك بعض من ليس له رسوخ في العلم.

السابعة والعشرون: إنهم يفسرون بعض آيات القرآن وكلماته بما يوافق مذهبهم، وعزوا ذلك التفسير إلى أئمة أهل البيت افتراء عليهم، كتفسير الرب بعلي والمؤمن بشيعته، والكافر بأهل الحق، والمنافق بكبار الصحابة، وغير ذلك.

الثامنة والعشرون: إنهم ينقلون ما يدل على مطاعن الصحابة وما يستدل به على بطلان مذهب غير الرافضة عن كتاب يعزون تأليفه إلى بعض كبراء أهل السنة، وذلك الكتاب لا يوجد تحت أديم السماء.

التاسعة والعشرون: إنهم ينقلون أخبارا دالة على مطاعن الصحابة عن كتب عزيزة الوجود لأهل السنة، ليس في تلك الكتب منها أثر، وبفرض أنها موجودة فبمخالفتها للأحاديث الصحاح لا يعتد بها. والأردبيلي أكثر ما ينقل في كشف الغمة من هذا القبيل، وكذا الحلي في الألفين وابن طاووس وغيرهم.

الثلاثون: إنهم يقولون إن أهل السنة يبغضون أهل البيت.

وهذا من مفترياتهم الواضحة وأكاذيبهم الفاضحة، فإن أهل السنة أجمعوا على أن محبة ذوي القربى واجبة على كل مسلم مسلمة، ورووا في فضائلهم عن النبي ﷺ ما رووا، حتى إن صلاتهم لا تتم إلا بالصلاة عليهم رضي الله تعالى عنهم.

الحادية والثلاثون: إنهم يقولون إن عمر بن الخطاب حرق بيتا فيه سيدة النساء والحسن والحسنين وسادات بني هاشم، ورضي بذلك أبو بكر والصحابة، وأنه ضرب بمقدم سيفه بطن الزهراء حتى أسقطت ولدا كان في بطنها، وكان ذلك بمحضر من الصحابة.

وهذا أيضا من أقبح مفترياتهم وكذبهم، بل فيه طعن بأهل البيت ورميهم بالجبن، إذ أقل العرب تأبى غيرته ذلك، فكيف بأبي الحسنين كرم الله تعالى وجهه وصناديد بني هاشم يسكتون عن مثل ذلك؟ ولكن الرافضة قاتلهم الله تعالى لما عدلوا عن سواء السبيل عادوا يخبطون خبط عشواء.

الثانية والثلاثون: إنهم يستدلون على أن مذهب الشيعة أحق بالاتباع بأنهم يتبعون أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، ويتمسكون بهديهم، وغيرهم لا يتبعون، فالشيعة هم الناجون، وباقي الفرق هالكون، وخبر السفينة المتفق عليه ينص على ذلك.

وهذا أيضا كذب وزور ودون إثباته خرط القتال. بل الأحق باتباع أهل البيت هم أهل السنة، فإن فقهاءهم أخذوا الفقه عنهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى، والشيعة يقتدون بالكذابين الذين يفترون عليهم الكذب، كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.

الثالثة والثلاثون: إنهم يذكرون حكايات مكذوبة. من ذلك ما يحكون أن جارية سوداء حضرت مجلس الرشيد، وأخذت تكلمه في المذاهب وتذكر فضائح كل مذهب ومطاعن أهله، وتمدح مذهب الشيعة وأهله وتثبت أحقيته بالدلائل القاطعة من غير اكتراث بأحد، وكان مجلس الرشيد غاصا بالعلماء، فلم يقدر أحد منهم على إفحامها ولم يتمكن من إبطال دلائلها، فاستحضر الرشيد فحول علماء البلد، فحضر جم غفير منهم أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة ونظراؤه، فناظرتهم جميعا فأفحمتهم.

فيا للعجب من هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب كيف يسوغ لهم ذكر مثل هذه الحكاية التي لا يخفى كذبها حتى على الصبيان، ولا بدع في ذلك فإنهم كلهم أبناء متعة وأولاد زنا، فلا يأنفون من عار ولا يستحون من فعل كل قبيح، بحكم: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».

الرابعة والثلاثون: إنهم يؤلفون بعض الكتب في إبطال مذهب أهل الحق وإثبات مذهب الرافضة وينسبونه إلى امرأة قليلة الممارسة بالعلوم ويشيعون أن علماء الفرق المخالفة عجزوا عن رده وإبطاله، وكتاب الحسنية الذي ألفه المرتضى وعزاه إلى جارية من جواري أهل البيت من هذا القبيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الخامسة والثلاثون: إنهم يؤلفون بعض الكتب في إبطال مذهب أهل السنة وإثبات مذهبهم ويعزونه إلى بعض أهل الذمة. ومن ذلك الكتاب المعزى إلى يوحنا بن إسرائيل الذمي، وهو رجل مجهول لا يعرف، والكتاب قد ألفه المرتضى وعزاه إلى الذمي وذكر في مفتتحه سبب تأليفه: "أنه لما نور الله تعالى قلبه بنور العقل تسارع إلى طلب ما هو الحق من الأديان حتى ظهر له بعد برهة من الزمان أن الحق مذهب الإسلام، لكنه رأى في أهله اختلافا كثيرا، فإنهم افترقوا فرقا كل فرقة تدعي أنها على الحق، وأن مخالفيها على الباطل، فجمع كتب كل فرقة وكتب مخالفيهم من الفرق الأخرى، وأمعن النظر فيما فيها من النفي والإثبات، فظهر له أن الحق مذهب الإمامية، فلما تبين له الرشد من الغي طفق يدور في مجامع العلماء حتى ساقه القضاء يوما إلى أعظم مدارس البلد وقد اجتمع فيه عظماء العلماء من سائر الفرق فجاءهم وقال لهم: يا جهابذة الحل والعقد إنه رجل نصراني كان يفتش عن الحق منذ عرف اليمين من الشمال حتى ظهر له بالدلائل القاطعة أن الحق دين الإسلام، لكن رأى فيه اختلافا، وقال: إني أطلب الحق فمنّوا علي واهدوني، فنهض كل إمام من الفرق الأربعة يدعي أن مذهبه حق ومذهب مخالفيه باطل، فتنازعوا وتشاجروا وكثر الشغب وكاد أن تقوم الحرب بينهم على ساق فقال لهم لا تنازعوا واسمعوا مني ما ظهر من الحق لي فتركوا المشاجرة وقالوا هات ما عندك، فقال الحق من المذاهب الإسلامية هو الذي رفضتموه ورميتم أهله بالرفض - وذكر لهم مما سنح له من البراهين في إثبات مذهب الشيعة وإبطال غيره من المذاهب، فما فاه بكلمة واحدة أحد من العلماء، قال: ثم حررت ما جرى بيني وبينهم من البراهين في إثبات الحق وإبطال الباطل رجاء نيل الثواب يوم الحساب وأن يهدي به إلى الحق من أخطأ طريق الصواب".

هذا وايم الله تعالى إن هذه عصبية ظاهرة من المرتضى وخدعة منه لا تخفى على أولي النهى، وإن كثرة الاختلاف هي في مذهب الرافضة، فإنهم اختلفوا في الأصول اختلافا كثيرا، حتى افترقوا إلى نيف وخمسين فرقة كما سلف، واختلفت كل فرقة منهم في الفروع اختلافا لا يحيط به الإحصاء. وأما أهل السنة فكانوا فرقة واحدة في الأصول، لم يكن بينهم اختلاف في أمهات المسائل الأصولية، ثم افترقوا بعد حين طويل فرقتين وما اختلفوا إلا في المسائل اليسيرة، وافترقوا في الفروع إلى أربع فرق واختلفوا في نيف وثلاثمائة مسألة من المسائل الاجتهادية. وقد اختلفت الإمامية في الفروع في أكثر من ألف مسألة مع وجود النص في أكثرها كطهارة الخمر ونجاستها، فإن كان في هذا الاختلاف مطعن فالكل مشتركون فيه، بل هم أحق بها، وإن لم يكن فالقول السابق إنما نشا عن محض الجهل والغي، وأما الدلائل التي ذكرها الرجل في ذلك الكتاب فهي أوهن من بيت العنكبوت، وقد أبطلها علماء أهل السنة في كتبهم المؤلفة في هذا الباب، والله الهادي إلى سبيل الصواب. وقد ألف المرتضى كتبا أخرى مثل هذا الكتاب السابق ذكره مشحونة بالكذب والافتراء، وما ذاك إلا لشدة تعصبه وعناده على الباطل، عامله الله تعالى بعدله، ومع ذلك فقد لقبه أصحابه بعلم الهدى، وما دروا أنه علم الضلالة والردى، نسأل الله تعالى العصمة من الزلل، والتوفيق في القول والعمل.

السادسة والثلاثون: إنهم يبطلون مذاهب أهل السنة بأخذها سرا بضرب من الحيل، كما أن رجلا من علمائهم الذين هم شياطين الأنس أظهر للناس أنه على مذهب بعض الفقهاء الأربعة كالشافعي مثلا، وألف كتابا في الفقه على مذهب ذلك الإمام وذكر فيه مطاعن المذهب صريحا، وأورد فيه ما يدل على بطلان مذهب الإمام الشافعي دلالة وإشارة، كأن يذكر مسألة ويستدل عليها بالقياسات التي ينكرها غيره من الفقهاء والمجتهدين مثل قياس الطرد، وهو أن يكون بين الأصل والفرع معنى مطرد، وقياس الشبهة، وهو أن يكون بين الأصل والفرع مشابهة صورة في الأحكام الشرعية، وقياس المناسب، وهو أن يكون بين الأصل والفرع معنى مناسب؛ فإن العلماء اختلفوا في كون هذه القياسات حجة. والمتفق عليه هو القياس المؤثر، وهو أن يكون بين الأصل الفرع معنى مشترك. وأنكر أبو حنيفة كون القياسات المذكورة حجة إلا القياس المؤثر. وقال الشافعي كلها حجة. ويستعمل قياس الطرد كثيرا كقياس المطعومات بالممصوصات للمشابهة بينهما في الطعم، وإن لم يكن الطعم مؤثرا في الزيادة بالمقدار كالكيل والوزن، وكتحمل العاقلة قليل الجناية لمشابهتها للكثيرة، وقياس الخل بالدهن في عدم إزالة النجاسة لتشابهمها في الصورة، ثم يذكر الحديث الذي يخالف القياس ويجيب عنه بأنه متروك بالقياس، وقد طعن في غير موضع من الكتاب على من ترك العمل بالحديث لأجل القياس. وهذه المكيدة ينخدع بها من ليس له قدم راسخة في العلم.

السابعة والثلاثون: إنهم يعزون بعض الكتب من مؤلفاتهم إلى بعض الأئمة من أهل السنة، وهو مشحون بالهذيانات والطعن على أهل الحق، كالمختصر الذي ألفه بعض هؤلاء الضلال وعزاه إلى مالك بن أنس أحد المجتهدين الأربعة، ومما ذكر فيه أنه يجوز للمالكي أن يلوط مع مملوكه لعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، فإن من طالع ذلك الكتاب من القاصرين ربما اغتر به.

قال المؤلف (عليه الرحمة): وإني سمعت بعض من يدعي العلم من أهل أصفهان يعزو تلك المسألة إلى أبي حنيفة، مع أن ذلك كذب مفترى بين ظاهر لا يخفى على أولي النهى. ألا لعنة الله على الكاذبين.

الثامنة والثلاثون: إنهم يدسون في كتب أهل السنة من التفاسير والأحاديث وغيرهما ما يقدح في الصحابة ويؤيد مذهب مخالفيهم من الرافضة حتى يغتر بها من يراها.

ولم يفدهم ذلك شيئا، لأن ما يدسون به إن كان من الكتب الصحيحة الشهيرة فلا يخفى على أحد ذلك، وإن لم تكن كذلك فلا اعتداد بها.

التاسعة والثلاثون: إنهم يخونون في النقل، فإن جمعا من علماء فرقتهم الضالة قد ألفوا كتبا ونقلوا فيها من كتب أهل السنة ما يوافق مذهبهم ويخالف مذاهب أهل السنة، فيستدلون به على مدعاهم، وليس في الكتب المنقول عنها أثر. ومقصودهم من ذلك إيقاع القاصرين في وهدة الضلال، وأكثر ما أورده الأردبيلي في كتابه كشف الغمة من هذا القبيل، وكذا ما نقله ابن المطهر الحلي في كتابه الألفين ونهج الحق ومنهاج الكرامة.

الأربعون: إنهم يؤلفون كتبا في فضائل الخلفاء الأربعة، ويذكرون ما ورد فيها من كتب أحاديث أهل السنة من الصحاح والسنن والمسانيد والأجزاء وإيراد بعض أخبار موضوعة في فضائل أمير المؤمنين مما يقدح في الخلفاء الثلاثة وينص على أن الإمام الحق بعد النبي ﷺ ابن عمه. فإذا رآه الغبي حسبه حقا، حيث يعتقد أن ذلك مذهب أهل السنة لما في ذلك الكتاب من فضائل الخلفاء ما فيه. ومثل هذه الكتب كثيرة، والله العاصم من مكر الشياطين.

الحادية والأربعون: إنهم ينقلون مسائل مفتراة على أئمة أهل السنة في كتبهم وهم براء منها، وذلك مثل جواز اللواطة مع المملوك ودخول الرجل أمه بعد أن يلف قضيبه بخرقة، فإن الأولى نسبوها إلى مالك بن أنس والثانية إلى أبي حنيفة. وقد أورد مثل هذه المسألة المفتراة على أهل السنة المرتضى وابن المطهر الحلي وابن طاووس.

أقول: وقد رأيت في كتب ابن المطهر الحلي الذي رده شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية (عليه الرحمة) أنه قال: "ذهب بعض أهل السنة إلى أن الله تعالى ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار، حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا في كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا، لتجويز أن الله تعالى ينزل على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب تعالى بالنداء: هل من تائب، هل من مستغفر؟"، تعالى الله عن مثل هذه العقائد المروية في حقه تعالى علوا كبيرا.

قال: "وحكي عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام [نفاط] ومعه أمرد حسن الصورة قطط الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها، فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه، فتوهم النفاط، فجاء ليلا، وقال: يا أيها الشيخ رأيتك تلح النظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك، فإن كان لك فيه نية، فأنت الحكم فيه، فرد الشيخ عليه وقال: إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله تعالى ينزل على صورته فتوهمت أنه الله، فقال له النفاط: ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة". انتهى ما هو المقصود من كلامه.

فانظر بالله تعالى عليك هل يتصور ممن يعلم أنه سيقف بين يدي الله تعالى أن يفتري بمثل هذا الافتراء عل أهل السنة مع أن كتبهم لو فرشت على البسيطة لغطتها، ولكن الحلي خبيث النفس بلا شك ولا شبهة، فلذا لم يستح بنقل مثل هذا الافتراء ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد أحسن شيخ الإسلام قدس سره في الرد عليه فقال: "هذه الحكاية وأمثالها أمر دائر بين أمرين، إما أن يكون كذبا محضا ممن افتراها عل أهل بغداد وبعض الشيوخ، وإما أن يكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب، وأدنى العامة أعقل منه وأوفق. وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا، لأنه من المعلوم لكل ذي علم إنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا يخفى بطلانه على صبي من الصبيان، ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا، مع أنها صحيحة واقعة. ومما يبين كذب ذلك أن هذا الحديث الذي ذكره كذب ولم يذكره أحد بل لا يوجد شيء في الآثار من مثل هذا الهذيان، بل ولا في الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ قال: "إن الله تعالى ينزل إلى الأرض". وكل حديث روي فيه مثل هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأزرق وأنه ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة، وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف، وحديث آخر أنه رأى ربه ببطحاء مكة، وأمثال ذلك. وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده. ثم جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما، ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد، فهم متفقون على أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه. وقد تنازعوا في النزول هل هو [صفة] فعل منفصل عن الرب سبحانه في المخلوقات أو فعل يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف. وكذلك تنازعوا في الاستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه يفعله في العرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين: فالأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته. والثاني: قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري وغيرهم. وليس هذا موضع سعة الكلام في هذه المسائل". انتهى كلامه الذي هو كالدر المكنون والجوهر المصون (عليه الرحمة) والرضوان.

الثانية والأربعون: إنهم يلحقون بعض الأبيات بأشعار كبار أهل السنة وأئمتهم مما ينص على صحة اعتقادهم وبطلان عقيدة مخالفيهم من أهل السنة. من ذلك ثلاثة أبيات ألحقها بعضهم بشعر الشافعي في حب أهل البيت، أما الأبيات التي أنشأها الشافعي فهي:

يا راكبا قف بالمركب من منى ** واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ** فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد ** فليشهدالثقلان أني رافضي

وأما الأبيات التي ألحقت بهذه الأبيات فهي:

قف ثم ناد بأنني لمحمد ** ووصيه وبنيه لست بباغض

وأخبرهم أني من النفر الذي ** لولا أهل البيت ليس بناقض

وقل ابن إدريس بتقديم الذي ** قدمتموه على علي ما رضي

فإنه إذا سمعها من لا يفرق بين غث الكلام وسمينه اغتر بها وصدته عن سواء السبيل. ومن له أدنى حظ من البلاغة يعلم أن هذه الأبيات ليست من شعر الشافعي، وأين الثرى من الثريا.

الثالثة والأربعون: إنهم ينظمون أبياتا على لسان أئمة أهل السنة تشعر بصحة اعتقاد الرافضة، ومن ذلك ما يعزونه إلى الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو:

شفيعي نبي والبتول وحيدر ** وسبطاه والسجاد والباقر المجدي

وجعفر والثاوي ببغداد والرضا ** وفلذته والعسكريان والمهدي

ومن ذلك أيضا:

في جنة واقية من البلا ** وجنة باقية بعد البلى

بطوس والكرخ وسر من رأى ** وطيبة وكوفة وكربلا

وكذب ذلك ظاهر لا يخفى على من له أدنى روية وفهم، فإن الشافعي مات قبل العسكريين، ولم يشهد وفاة الجواد المدفون بالكرخ، فإن علي بن محمد النقي ولد سنة أربع عشرة ومائتين، ومات والده محمد بن علي الجواد سنة عشرين ومائتين، ومات الشافعي سنة أربع ومائتين في خلافة المأمون. وسر من رأى بلدة قريبة من بغداد، وتسمى سامراء، قد بناها المعتصم، ولم يدرك الشافعي خلافة المعتصم. ولم يذكر ذلك في كتبه ولا رواه عنه أصحابه ولا غيرهم، كما ذكر خلافة المهدي وظهوره واقتداء عيسى بن مريم عليه السلام به في الصلاة، فهل هذا إلا افتراء بلا مراء. نعم ذكر هو وغيره من فقهاء أهل السنة ومحدثيهم فضائل من أدركوا من أهل البيت ورووا عنهم الحديث، وسموا سند الحديث المروي عنهم سلسلة الذهب.

الرابعة والأربعون: إنهم يقولون قد أخبر بحقية مذاهب الشيعة العرب الموحدون في عهد الجاهلية، الذين أخبروا ببعثة النبي ﷺ. من ذلك ما رواه غير واحد منهم: "أن الجارود بن المنذر العبدي كان نصرانيا فأسلم يوم الحديبية وأنشد في رسول الله ﷺ قوله:

أنبأنا الأولون باسمك فينا ** وبأسماء الأوصياء الكرام

فقال رسول الله ﷺ: من يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ فقال الجارود: كلنا يا رسول الله نعرفه غير أني من بينهم عارف بخبره وأقف على أثره، فقال سلمان: أخبرنا، فقال: يا رسول الله، لقد شهدت قسا وقد خرج من ناد من أندية إياد إلى ضحضح ذي قتاد وسمر وغياد، فدنوت منه فسمعته يقول: اللهم رب السموات الأرفعة والأرضين الممرعة، بحق محمد والثلاثة المحاميد معه والعليين الأربعة وفاطمة والحسنين الأبرعة وجعفر وموسى التبعة سمي الكلم الضرعة، أولئك النقباء الشفعة والطرق المعيهة ورثة الأناجيل ونفاة الأباطيل والصادقو القيل عدد النقباء من بني إسرائيل، فهم أول البداية وعليهم تقوم الساعة وبهم تنال الشفاعة ولهم من الله فرض الطاعة، اسقنا غيثا مغيثا، ثم قال: ليتني مدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحياي، ثم أنشأ يقول:

أقسم قس قسما ليس به مكتتما ** لو عاش ألفي سنة لم يلق منهم سئما

حتى يلاقي أحمد والنجباء الحكما ** هم أوصياء أحمد أفضل من تحت السما

يعمي الأنام عنهم وهم ضياء للعمى ** لست بناس ذكرهم حتى أحل الرجما

قال الجارود: فقلت: يا رسول الله أنبئني بخبر هذه الأسماء التي لم نشهدها وأشهدنا قس ذكرها، وقال رسول الله ﷺ: يا جارود ليلة أسري بي إلى السماء أوحى الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ فقلت: علام بعثوا؟ قال: بعثتهم على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما، ثم عرفني الله تعالى بهم وبأسمائهم، ثم ذكر رسول الله ﷺ للجارود أسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدي، ثم قال: قال لي الرب هؤلاء أوليائي، وهذا المنتقم من أعدائي يعني المهدي". انتهى.

ولا يخفى كذب هذا الخبر، وأمارات الوضع لائحة عليه، فإن هذا الكلام المنقول عن قس بمعزل عن البلاغة كما هو ظاهر لمن له حظ من فن المعني والبيان، وإنما المروي عن جارود أنه لما أسلم قال لرسول الله ﷺ: "والذي بعثك بالحق لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول". والصحيح من رواية قس بن ساعدة الإيادي ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن وفد بكر بن وائل قدموا على رسول الله ﷺ، فلما فرغوا من حوائجهم قال: هل فيكم أحد يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟ قالوا: كلنا نعرفه، قال: ما فعل؟ قالوا: هلك، فقال ﷺ: كأني به على جمل أحمر بعكاظ قائما يقول: أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا، مهاد موضوع وسقف مرفوع وبحار لا تغور وتجارة لن تبور، ليل داج وسماء ذات أبراج، وأقسم قس قسما لئن كان في الأرض رضى ليكونن بعده سخط، وأن لله عزت قدرته دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا؟ ثم أنشد أبو بكر شعرا وهو:

في الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا ** للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها ** تسعى الأكابر والأصاغر

وفي بعض الروايات:

لا يرجع الماضي إلي ** ولا من الباقين عابر

أيقنت أني لا محالة ** حيث صار القوم صائر

فكم من فرق بين العبارتين؟ وكم من شواهد تشهد بصدق ثانية القصتين؟ والبيان يطول، والبنان ملول. ولو صح ما رواه الرافضة من ولاية علي والأئمة من ولده وتعيينهم بأسمائهم لأخبر النبي ﷺ بذلك غيره واستفاض عنه، كما أخبر عن المهدي وصفاته غير مرة، وتواتر عنه غير ذلك، ولأخبر به من آمن من النصارى واليهود وسمع عنه ﷺ، وأخبر من العرب من سمع من الأولين، ولا سيما من كان من شيعة علي من الصحابة والتابعين، ولرواه عنهم وعن أهل البيت سائر فرق الشيعة، ولم يقع اختلاف في مسألة الإمامة، ولم تتنازع الأمامية في عددهم وتشخيصهم. وذلك أظهر من فلق الصباح. ويدل أيضا أن ما رووه اختلاق وكذب أن الأئمة بزعمهم لم يتمكنوا مدة عمرهم من نفي الباطل وأنهم لم يصدقوا قط في كلام، وأنهم حاشاهم لم يزالوا في إثبات الباطل وتقريره، وأنهم يكذبون تقية كل ذلك بزعمهم الكاسد واعتقادهم الفاسد. ونعوذ بالله تعالى من سوء الاعتقاد على البررة الأمجاد.

الخامسة والاربعون: إنهم يفترون على الله تعالى وعلى رسوله حيث يقولون إن النبي ﷺ يقول: لا تسأل شيعة علي عن ذنب، وإن سيئاتهم تبدل بالحسنات، وإنه ﷺ كان يروي عن ربه جل شانه أنه قال: "لا أعذب من والى عليا وإن عصاني".

وهذا في البطلان أظهر لأولي الأبصار من الشمس في رابعة النهار، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} إلى غير ذلك من الآيات والآثار الصحيحة الروايات.

السادسة والأربعون: إنهم يقولون إن ما ورد في إمامة علي وفضائله من الأخبار متفق عليه بين الفريقين، وما ورد في إمامة غيره من الخلفاء وفضائلهم مختلف فيه، والمختلف فيه يجب أن يترك للمتفق عليه فإنه أبعد عن الريب.

وهذا الكلام من الرافضة مناقض لما ذهبوا إليه من أن الحق من الأخبار المتعارضة ما خالف أهل السنة. فتبا لهم من فئة يقولون ما لا يفعلون. ويا سبحان الله إنهم قد شابهوا اليهود والنصارى حتى في أقوالهم وخيالاتهم الباطلة، فإن هذا القول كثيرا ما يحتج به أهل الكتابين من اليهود والنصارى على حقية مذهبهم، فيلزم على هذا أنهم على الحق ولا قائل به من الفريقين. سبحانك هذا بهتان عظيم وضلال وخيم:

لأهل الرفض تبا ثم سحقا ** لقد فازوا بما فاه الحيارى

تراهم هائمين بكل واد ** كأنهم اليهود والنصارى

السابعة والأربعون: إنهم يقولون إن مذهب الشيعة أحق بالاتباع لأنهم جازمون بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار، وإن أهل السنة ليسوا بجازمين بل شاكون في أمرهم، والجازم أحق بالاتباع.

وهذا كذب وافتراء من الرافضة، لأن أهل السنة لا يرتابون في أن من مات على الإسلام دخل الجنة، لكن لما كانت العاقبة مجهولة والخاتمة مستورة لم يجزموا، فإن الجزم أمنٌ من مكر الله: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. ويؤيد ما ذكرنا بل يعينه ما ذكر في التفسير المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري المعتبر عند الشيعة. وليس كل جازم أحق بالاتباع، فإن اليهود والنصارى مثلا يجزمون بنجاتهم وليسوا بناجين بالاتفاق. وأيضا فرق الشيعة كلهم يجزمون بنجاتهم، وبلا شك أن منهم من هو على ضلالة من غير نكير.

الثامنة والأريعون: إن بعض علمائهم يظهرون للناس أنهم على مذهب أهل السنة وأنه يقلد أحد المذاهب الأربعة ويتولى بعض وظائفهم، فإذا حان حينه وقرب موته أظهر أن الحق هو مذهب الرافضة وأن عقيدته عقيدتهم وأوصى أن يتولى غسله وتكفينه ودفنه بعض علماء الرافضة. قال ابن المطهر الحلي في كتاب منهج الكرامة: "كان [أكبر] مدرسي الشافعية في زماننا حيث توفي أوصى بأن يتولى أمره وغسله وتجهيزه بعض المؤمنين وأن يدفن في مشهد الكاظم".

وهذه مكيدة عظيمة، فإنه إذا رأى ذلك منه تلامذته وأحباؤه وسمع من غيرهم من سفهاء الأحلام استيقنوا أن مذهب الشيعة حق، وإلا لما ذهب إليه مثل ذلك العالم الفقيه وترك مذهبه، فيزيغون عن الحق ويعدلون عن سواء الطريق. وما دروا أن ذلك ذئب تقمص ثوب شاة وشيطان ظهر للناس في زي الهداة.

التاسعة والأربعون: إنهم يقولون إن كثيرا من كبار علماء أهل السنة ومشايخهم كانوا على مذهب الإمامية. وقد ألف بعض الدجالة منهم المفترين على الله تعالى ورسوله ﷺ كتابا في وفيات الأعيان من العلماء ومشايخ الطريقة، كالشيخ أبي يزيد البسطامي والشيخ معروف الكرخي والشيخ شقيق البلخي وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وأورد فيه ذكر أحوال كل منهم ما يدل على أنهم من تلك الفرقة الضالة من الأقوال والأفعال بعد ذكر شيء من مناقبهم وكراماتهم. ومن هذا القبيل كتاب المجالس الذي ألفه بعض علماء الشيعة من أهل تستر، وقد اعترف أكثر علمائهم بأن فيه كثيرا من الأكاذيب، فمن تصفحه من القاصرين عن إدراك اليقين ظن أن ما فيه بلا شك ولا تمويه، فيهوي إذ ذاك في مهاوي الردى ويميل عن سواء السبيل والهدى. فالحذر الحذر من مثل هذا الكتاب الذي اشتمل ولو على كلمة مما يخالف أهل الحق والصواب.

الخمسون: إنهم يفترون على بعض أئمة أهل البيت الطاهرين ما لا يقبله ذو عقل، فضلا عن عباد الله المخلصين. من ذلك ما روى سهل بن [ذبيان] أنه قال: "دخلت على مولاي الرضا عليه السلام لأمر عرض لي في بعض الأيام، وذلك قبل أن يدخل عليه أحد من شيعته فقال: مرحبا بابن [ذبيان]، الساعة أراد رسولنا أن يأتيك [لتحضر] وهو ينكت الأرض بسبابته، فقلت: لماذا يا ابن رسول الله؟ فقال: منام أزعجني وأقلقني وأرقني، فقلت: ما هذا المنام؟ فقال: رأيت كأني نصب لي سلم فيه مائة مرقاة فصعدت إلى أعلاه، فقلت: أهنئك بطول العمر تعيش مائة سنة يا سيدي، قال: وكأني دخلت إلى قبة خضراء بعد ذلك يبين من باطنها ظاهرها، ومن ظاهرها باطنها، فرأيت رسول الله ﷺ وعن يمينه غلام حسن الوجه على ركبيته شيخ قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، فيقال سلم على أبويك الحسن والحسين، فسلمت عليهما، ثم قال: سلم على أمك فاطمة الزهراء، فسلمت عليها ثم قال: سلم على شاعرنا وصاحبنا ونديمنا في الدنيا والآخرة إسماعيل بن محمد الحميري، فسلمت عليه، ثم قال الشيخ: عد بي إلى ما كنا فيه فأنشد يقول:

لأم عمرو باللوى مربع ** طامسة أضلاعه بلقع

إلى قوله:

قالوا له لو شئت أعلمتنا ** إلى من الغاية والمفزع

فقال النبي ﷺ: اقصر يا إسماعيل، ثم رفع يديه إلى السماء فقال: إلهي وسيدي إنك الشاهد عليهم أني قد أعلمتهم من الغاية والمفزع إليه، وأومأ بيده إلى أمير المؤمنين، ثم التفت إلي وقال: يا علي احفظ هذه القصيدة، ومر شيعتنا بحفظها، فمن حفظها [وأدمن قراءتها]، ضمنت له على الله تعالى الجنة. قال الرضا: فلم يزل جدي يكررها علي حتى حفظتها. والقصيدة هي:

لأم عمرو باللوى مربع ** طامسة أعلامه بلقع

لما وقفت العيس في رسمها ** والعين من عرفانه تدمع

ذكرت من كنت ألهو به ** فبت والقلب شجن موجع

كأن بالنار لما شفني ** من حب أروى كبدي تلذع

قالوا له لو شئت أعلمتنا ** إلى من الغاية والمفزع

إذا توفيت وفرقتنا ** وفيهم في الملك من يطمع

فقال لو أعلمتكم مفزعا ** كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا

صنيع أهل العجل إذ فارقوا ** هارون فالترك له أورع

وفي الذي قال بيان لمن ** كان إذا يعقل أو يسمع

ثم أتته بعد ذا عزمة ** من ربه ليس لها مدفع

أبلغ وإلا لم تكن مبلغا ** والله منهم عاصم يمنع

فعندها قام النبي الذي ** كان بما يأمره يصدع

يخطب مأمورا وفي كفه ** كف علي نورها يلمع

رافعها أكرم بكف الذي ** يرفع والكف التي ترفع

من كنت مولاه فهذا له ** مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا

وضل قوم غاظهم قوله ** كأنما آنافهم تجدع

حتى إذا واروه في قبره ** وانصرفوا من دفنه ضيعوا

ما قال بالأمس وأوصى به ** واشتروا الضر بما ينفع

وقطعوا أرحامه بعده ** فسوف يجزون بما قطعوا

وأزمعوا مكرا بمولاهم ** تبا لما كانوا به أزمعوا

لا هم عليه يردوا حوضه ** غدا ولا هو فيهم يشفع

حوض له ما بين صنعا الى ** أيلة أرض الشام أو أوسع

ينصب فيه علم للهدى ** والحوض من ماء له مترع

والعطر والريحان أنواعه ** زاك وقد هبت به زعزع

ريح من الجنة مأمورة ** ذاهبة ليس لها مرجع

إذا دنوا منه لكي يشربوا ** قيل لهم تبا لكم فارجعوا

دونكم فالتمسوا منهلا ** يرويكم أو مطعما يشبع

هذا لمن والى بني أحمد ** ولم يكن غيرهم يتبع

فالفوز للشارب من حوضه ** والويل والذل لمن يمنع

والناس يوم الحشر راياتهم ** خمس فمنها هالك أربع

فراية العجل وفرعونها ** وسامري الأمة المشنع

وراية يقدمها حبتر ** لا برد الله له مضجع

وراية يقدمها نعثل ** كلب بن كلب فعله مشنع

وراية يقدمها أبكم ** عبد لئيم لكع أكوع

وراية يقدمها حيدر ** كأنه البدر إذ يطلع

إمام صدق وله شيعة ** يرووا من الحوض ولم يمنعوا

بذاك جاء الوحي من ربنا ** يا شيعة الحق فلا تجزعوا

انتهت هذه الأبيات المشحونة من الهذيانات والخرافات. ولعمري إن هذه القصة لمن أشنع مفترياتهم وأكذب كلماتهم على خاتم الأنبياء ﷺ، وعلى الإمام موسى الرضا رضي الله تعالى عنه. يدل على ذلك أنه ﷺ لا يحفظ الشعر ولا ينبغي له، وليس في تلك الرؤيا ما يزعج الرأي ويقلقه ويجعله متفكرا. وكان الحميري شاعرا ماجنا لم يصحبه النبي ﷺ ولم ينادمه ولا طرفة عين في الدنيا. وابن [ذبيان] كان لا يبالي من الفرية والافتراء. هذا والحميري قاتله الله تعالى ينادي في قصيدته هذه بأرفع صوت أنه تعالى ترك الواجب، وهو الأصلح، فإن الأورع هو الأصلح. وما هذى به في قصيدته من الكلمات السوء في حق أصحاب رسول الله ﷺ هو معتقد جميع الرافضة والفئة الضالة. وسيأتي إن شاء الله تعالى براءتهم من جميع ما رموهم به.

ولا بدع أن يصدر مثل ذلك عن الرافضة إخوان الشياطين وأعداء رب العالمين، وقد حكى الله سبحانه عن إخوانهم الكفرة ما هو أشد من ذلك، فقال تعالى عن اليهود: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، وعن كفار قريش في النبي ﷺ: {هَذَا سَاحِرٌ}، وعن منافقي يثرب: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، وغير ذلك مما لا يكاد يحصر.

ومما يقضى منه العجب أني رأيت بعض المجاميع المطبوعة في ديار إيران مما يعول عليه عندهم أن قراءة هذه القعدة بكيفية مخصوصة في وقت مخصوص من كل يوم من أجلّ الطاعات وأشرف العبادات، وأنها تزيد في الرزق وتطول العمر، إلى غير ذلك مما ذكروا من الخواص والإسرار. ورووا في ذلك روايات عديدة عن الأئمة الأطهار، سبحانك هذا بهتان عظيم وكفر وخيم، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}. ولعمري عبادة الأوثان والسجود لصنم أو حيوان ليس بأعظم من ذلك ولا أشد مما هنالك، إذ كلا الفريقين يتخذ الكفر عبادة ويفتري على الله الكذب وزيادة. نسأل الله تعالى العصمة من الزلل والتوفيق في القول والعمل.

الحادية والخمسون: إنهم ينسبون إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه أقوالا تؤيد ما هم عليه من الضلال وهو رضي الله تعالى عنه بريء منها. وقد جمع بعض الكبار من علمائهم كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه وخطبه ومواعظه ونصائحه وبدل فيها وغيّر ونقص وزاد، وحرف الكلم عن مواضعه بما يوافق مذهبه، ودس فيها ما ليس منها. من ذلك نهج البلاغة الذي جمعه السيد الرضي، وقيل أخوه المرتضى، والمشهور بين الجمهور هو الأول. وقد أسقط كثيرا من كلام الأمير مما يوافق مذهب أهل السنة ويخالف الرافضة، وزاد مؤلفه فيه ما يوافق مذهبه، وكنى عن العلم بفلان ليشتبه الأمر. ومن ذلك أيضا كتاب رجب بن محمد البرسي الحلي وغير ذلك. ومن هذا القبيل التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري الذي جمعه ابن بابويه الكذاب، فقد شحنه من المفتريات التي يبرأ منها الإمام رضي الله تعالى عنه. ودعاء القنوت الذي يعزونه إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه، وهو المشهور عندهم بدعاء صنمي قريش، لأنه لقب فيه الشيخين بصنمي قريش وهو: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلّبا دينك وحرّفا كتابك". وهذا أيضا افتراء بلا شك ولا افتراء. وكثير من عبارات نهج البلاغة المنسوبة إلى الأمير تكذب ذلك على ما لا يخفى على من راجعها.

الثانية والخمسون: إنهم ينظمون بعض الأبيات في مدح الأمير، وأن الحق مذهب الشيعة، وينسبون ذلك إلى شخص من اليهود أو النصارى. من ذلك ما ينسبونه إلى ابن فضلون اليهودي وهو:

علي أمير المؤمنين عزيمة ** وما لسواه في الخلافة مطمع

له النسب العالي وإسلامه الذي ** تقدم وفيه الفضائل أجمع

ولو كنت أهوى ملة غير ملتي ** لما كنت إلا مسلما أتشيع

ومن ذلك أيضا:

حب علي في الورى جنة ** فامحِ بها يا رب أوزاري

لو أن ذميا نوى حبه ** حُصن في النار من النار

إلى غير ذلك.

الثالثة والخمسون: إنهم يكذبون على أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه ويقولون إنه يروي عن النبي ﷺ أنه قال: "نحن شجرة أنا أصلها وفاطمة فرعها وأنت لقاحها والحسن والحسنين ثمرتها والشيعة ورقتها". وقد نظم ذلك بعض شعرائهم فقال:

يا حبذا سدرة في الأرض نابتة ** ما مثلها نبتت في الأرض من شجر

المصطفى أصلها والفرع فاطمة ** ثم اللقاح علي سيد البشر

والهاشميان سبطاه لها ثمر ** والشيعة الورق الملتف بالشجر

هذا مقال رسول أدبه جاء به ** أهل الرواية في عالي من الخبر

إني بحبهم أرجو النجاة بهم ** والفوز في زمرة من أفضل الزمر

وهذه مكيدة عظيمة، فإن من سمع هذا الخبر من القاصرين اعتقده صحيحا، فإن من يسمع يخل فيرتدي حينئذ برداء الردى ويتقمص الرفض. وهذا الخبر مع أنه لا يصح لا يدل على ما يدعونه، فإن المراد بالشيعة غير الرافضة. روى الدارقطني عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله ﷺ لعلي: "أنت وشيعتك في الجنة، ألا إن ممن يزعم أنه يحبك أقوام يصغرون بالإسلام ويلفظونه يقرءون القران لا يجاوز تراقيهم له نبز يقال لهم الرافضة، فجاهدهم فإنهم مشركون، قال: يا رسول الله، ما العلامة فيهم؟ قال: لا يشهدون جمعة ولا جماعة ويطعنون على السلف". وروى عن موسى [بن جعفر بن محمد] بن علي بن الحسين بن علي بن أن طالب رضي الله تعالى عنهم، وكان من كبار أهل البيت، أنه كان يروي عن أبيه عن جده أنه كان يقول: "إنما شيعتنا من أطاع الله وعمل أعمالنا". ولا يخفى أن الرافضة قد عصوا الله تعالى وعملوا على خلاف ما كان يعمله أهل البيت كما سيحقق ذلك هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

الرابعة والخمسون: إنهم يدعون أن لعلي حقا على جبريل. فقد روى كثير من علمائهم: أن جبريل كان جالسا عند رسول الله ﷺ، إذ دخل عليه علي فقام جبريل وقال له: إن علي حقا، فقال النبي ﷺ: كيف ذلك؟ فقال: لما خلقني ربي جل جلاله سألني: من أنا ومن أنت وما اسمك؟ فتحيرت في الجواب وبقيت ساكتا، ثم حضر هذا الشاب وعلمني الجواب وقال: أنت الرب الجليل وأنا عبدك الضعيف واسمي جبريل، فلهذا قمت له وعظمته، فقال النبي ﷺ: كم عمرك يا جبريل؟ قال: نجم يطلع من العرش في كل ثلاثين ألف سنة مرة واحد وقد شاهدته طالعا ثلاثين ألف مرة.

ولا يخفى عليك أن هذه المقالة أيضا من خرافاتهم التي تضحك الثكلى. ومن يضلل الله فلا هادي له.

الخامسة والخمسون: إنهم يقولون إن كل من يموت من المؤمنين والفاجرين يرى أمير المؤمنين، فيمنع النار أن تعرض للمؤمن من شيعته ويسقيه ماء باردا ويترك الفاجر يعذب في النار. وقد نقلوا عنه أبياتا خاطب بها الحارث الهمداني، وهي هذه:

يا جار همدان من يمت يرني ** من مؤمن أو منافق قبلا

يعرفني لحظة وأعرفه ** بنعته واسمه ولما فعلا

أقول للنار حين تعرض للعبـ ** د ذريه لا تقربي الرجلا

ذريه لا تقربيه إن له ** حبلا بحبل الوصي متصلا

أسقيه من بارد على ظمأ ** تخاله في الحلاوة العسلا

قول علي لحارث عجب ** كم أعجوبة له مثلا

ألا لعنة الله على الكاذبين الذين يفترون على عباد الله الصالحين. نسأل الله تعالى العفو والعافية عن مثل هذا الداء العضال والزيغ عن الهدى والضلال بمنه وكرمه.

السادسة والخمسون: إنهم يقولون لا اعتداد بما يرويه أهل السنة من الأحاديث النبوية، لأنهم إنما يروون غالبها عن المنافقين، إذ لم يتميز المخلص من المنافق بعده ﷺ، والشيعي يروي عن الذين أخلصوا دينهم لله وطهرهم سبحانه تطهيرا.

وهذه مكيدة ربما اغتر بها الجهلاء فيقعوا فيما يقعوا، مع أن من حقق النظر ودقق وجد هذا الكلام ظاهر البطلان، فإن مجتهدي أهل السنة قد أخذوا الشرائع والأحكام عن أهل البيت وغيرهم من الأئمة الكرام، وسيجيء إن شاء كلمته تعالى تحقيق ذلك وإثبات ما هنالك، وأن الذين رووا عن المنافقين هم الرافضة، وسيجيء أن رواتهم إما مجسمة وإما زنادقة وإما منافقون. وأن التمييز بين المنافق والمخلص قد حصل في زمنه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}. ولأنه لم يكن أحد من المنافقين له علم ليروى عنه، بل إن التابعين إنما أخذوا العلم عن المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم. ولأن غلاة المنافقين قد ماتوا قبل وفاه النبي ﷺ، ومن بقي منهم بعد ذلك أخلصوا لله تعالى دينهم، كذا ذكره الرازي في تفسيره وغيره من أساطين العلماء. ولأن أهل السنة ما تركوا العمل بخلاف رواية الجمهور.

السابعة والخمسون: إنهم يقولون إن أهل السنة يعتقدون أن الرجل لا يكون منهم حتى يكون في قلبه بغض [أهل البيت] على قدر بيضة الدجاجة.

وهذه المكيدة لا تروج على أحد ولا يقبلها إلا من كفر وجحد. فإن حب أهل السنة لأهل البيت ظاهر للعيان، وإن لأولئك السادة الأعلام مما لا ينتطح فيه كبشان، كيف لا وكبار أهل السنة إنما أخذوا العلم عنهم وغرفوا درر الفوائد منهم، ولذا أثنوا عليهم بما يضيق حصره نطاق هذا الكتاب. وقد ألفت فيه مؤلفات عديدة اشتملت على فصل الخطاب، وهذه كتب الشمائل والسير مملوءة من مزاياهم ومعطرة بعبير صفاتهم ورياهم، ولكن أهل العدوان لم يزالوا يهذون بالبهتان.

الثامنة والخمسون: إنهم يقولون إن أهل السنة يروون في كتبهم ما يدل على أن للشياطين سبيل على النبي ﷺ، كخبر ليلة التعريس.

وهذه مكيدة ينخدع بها من لم يطلع عل كتبهم، والا فكتبهم الصحيحة عندهم مشتملة على هذا الحديث، وقد ذكره الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب بطرق متعددة. ألا قاتل الله أهل الرفض والزور وذوي الخبث والغرور.

التاسعة والخمسون: إنهم يقولون إن أهل السنة يوثقون الحرورية وأعداء أهل البيت ويعدلونهم ويروون عنهم في صلاحهم، حتى إن البخاري أخرج في صحيحه عن ابن ملجم لعنه الله تعالى.

وهذه مكيدة أيضا لا أصل لها عند أهل السنة، وقد افتراها عليهم ابن شهر آشوب الذي هو في الكذب والبهتان كابن بابويه. فإن أهل السنة لا يوثقون من يبغض عليا كرم الله تعالى وجهه. وقد طعنوا على من وثق [حريز] بن عثمان فإنه كان يبغضه. كيف والناصبة عندهم زائغون عن نهج الهدى كالرافضة، ومن وثق [حريزا] لم يعلم أنه من مبغضي الأمير كرم الله تعالى وجهه. وابن ملجم من أشقى الأمة، بل لا علم له، فكيف يروي عنه مثل البخاري الإمام الجليل؟ وهذه نسخ البخاري بين أيدينا، فمن ادعى ذلك فعليه البيان والله المستعان. نعم روى البخاري عن عمران بن حطان بعض الأحاديث للاستشهاد، وقد ورد في كتب الرجال أجوبة عن ذلك فراجعها تفز بالصواب.

الستون: إنهم يروون عن النبي ﷺ أنه أمر عليا أن ينطلق إلى بئر من آبار البادية فيدخلها، فإن فيها قبائل من الجن، فيدعوهم إلى الإسلام ويقاتلهم إن أبوا عن الإسلام، فانطلق إليها ودخلها ورآهم ودعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوا فقاتلهم فقتلهم. وقد عدت الرافضة هذه القصة من الخوارق الدالة على إمامة أمير المؤمنين بلا فصل.

وهي كذب وافتراء. وعلى تقدير صحتها لا تعرض لها للإمامة، بل تكون فضيلة من فضائله، وكم له من فضيلة رضي الله تعالى عنه. وقد وقع مثل هذه القصة لغير الأمير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد روي في الصحيح: "أن العزى شجرة سمر بنخلة لغطفان يعبدونها بدعائها لتشفع لهم خاصة، فبعث إليها ﷺ خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فقطعها بالفأس وهو يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك، فخرجت شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها. فلو اقتضى ذلك الإمامة لكان خالد بن الوليد أيضا إماما.

الحادية والستون: إنهم يقولون إن أبا رافع مولى النبي ﷺ كان من السابقين إلى الإسلام والمهاجرين وشهد المشاهد وبايع عليا وقاتل البغاة معه وكان من الإمامية، كذا ذكره النجاشي وغيره.

وهذه المكيدة كذب صريح وافتراء فضيح، فإن أبا رافع مات قبل قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، وأما ما ذكره أحمد بن علي النجاشي أنه شهد مع علي حروبه وكان صاحب بيت ماله في الكوفة، وكان ابناه عبيد الله وعلي كاتبيه؛ فمن افترائه وكذبه، وكذا ما يرويه من أن لأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضايا يوافق مذهب الإمامية، فهو أيضا كذب. ولم تزل هذه العادة عند الرافضة إلى يومنا هذا.

الثانية والستون: إنهم ينسبون إلى بعض أئمة أهل السنة ما لا يمكن صدوره عن الجهلة قصد التنفير عن مذهبه. من ذلك ما روى العياشي بإسناده: قال أبو حنيفة لأبي عبد الله: كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: لأن الهدهد يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحدكم الدهن في القارورة، فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه فضحك، قال أبو عبد الله ما يضحكك؟ قال: ظفرت بك جعلت فداك، قال: وكيف ذلك؟ قال: الذي يرى الماء في بطن الأرض لا يرى الفخ في التراب حتى يأخذ بعنقه، قال أبو عبد الله: يا نعمان أما علمت أنه إذا نزل القدر عمى البصر. انتهى.

ولا يخفى كذب هذه القصة، بل هي مكيدة من شياطينهم، فإن أبا حنيفة أجل من أن يتفوه بمثل ذلك من الظهور بمحل، وكان أبو حنيفة يفتخر بخدمة الصادق وأخذ العلم عنه، وقد أرسل إلى عمه زيد بن علي اثني عشر ألف دينار حين ادعى الإمامة وخرج على هشام، وأفتى أنه أحق بالإمامة منه وحث الناس على مبايعته ونصرته. وكان ممن يميل إلى أهل البيت ويقول سرا وعلانية إنهم أحقاء بالإمامة ولا يخاف أحدا، ولذا سم في السجن. وقال لما سأله منصور الخليفة: ممن أخذت العلم يا نعمان قال: من أصحاب أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه. وكان يهدي النواصب إلى الحق ويناظرهم ويفحمهم ويدعوهم إلى محبة أهل البيت. روي أنه كان له جار من الجارودية يكفر عليا فهجره ثم جاءه فقال: جئتك لأن رجلا كلمني أن أكلمك أن تزوجه ابنتك ولا بأس به إلا أنه يهودي، فقال: سبحان الله تكلمني أن أزوج ابنتي المسلمة ليهودي كافر، فقال له: ويحك أنت لا ترضى أن تزوج ابنتك ليهودي وتزعم أن رسول الله ﷺ زوّج بنته كافرا، فانكب حيئنذ على قدميه وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني. ثم إن القصة التي نسبوها إلى الإمام أبي حنيفة زورا وبهتانا هي التي وقعت بين نجدة الحروري وابن عباس، وذلك أن نجدة قال لابن عباس: إنك تقول إن الهدهد إذا نقر الأرض عرف مساحة ما بينه وبين الماء وهو لا يبصر شعيرة الفخ، فقال: إذا جاء القدر غشي البصر. انتهى.

ومن ذلك ما ذكره الطبرسي في الاحتجاج: أنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له: يا أبا حنيفة إن هنا جعفر بن محمد من علماء آل محمد، فاذهب بنا نقتبس منه علما، فلما أتياه إذا هما بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث، فقام الناس هيبة له، فقال أبو حنيفة لابن مسلم: من هذا؟ قال: هذا موسى ابنه، قال: لأحيينه بين يدي شيعته، قال: مه لا تقدر على ذلك، قال: والله لأفعلنه، ثم التفت إلى موسى فقال: يا غلام أين يضع الرجل حاجته في مدينتكم هذه؟ قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقى عين الجار وشطوط الأنهار ومسقط الثمار ولا يستقبل القبلة أو يستدبرها فحينئذ يضع حيث يشاء. انتهى.

وهذه القصة أيضا من أكاذيب الفئة الضالة. والصحيح على ما رواه أهل السنة وغير الطبرسي من الشيعة: أنه لما دخل المدينة وزار قبر النبي ﷺ أتى دار الصادق فجلس ينتظر خروجه فخرج ابنه موسى وهو صغير فقام ووقره، وقال: أين يضع الغريب حاجته في بلدكم؟ فأجاب بما ذكر، فقال أبو حنيفة: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}.

الثالثة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة يتبعون أبا حنيفة والشافعي ومالكا وأحمد ولا يتبعون الأئمة وهم الأحقاء بالاتباع، كما ينص عليه خبر السفينة المتفق عليه.

وهذه مكيدة تخفى على كثير من القاصرين في العلم. ومن نظر بعين بصيرته رأى الحق مع أهل السنة، لأن اتباعهم لهؤلاء المجتهدين عين اتباعهم لأولئك الأئمة الأطهار، لأن مجتهديهم إنما أخذوا عنهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والشيعة قاتلهم الله تعالى يدعون أنهم أتباع من يدعي الأخذ عن أهل البيت مع أنهم يخالفونهم في العقائد، كالهشامين وصاحب الطاق وابن الأعين وغيرهم، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. على أن أهل البيت لم يلتفتوا إلى الاستنباط والاجتهاد لاستغراق أوقاتهم بالعبادة والطاعة والعزلة والخلوة، بل أمروا أصحابهم أن يصرفوا عنايتهم نحو تدوين الفقه واستنباط الأحكام وتفريغ الفروع عن أدلتها، فنظموا حسبما أمروا فرائده واقتنصوا أوابده وأسسوا قواعده وقيدوا شوارده وأحرزوا كنوز حقائقه وأبرزوا رموز دقائقه وألفوا وأفادوا وصنفوا فأجادوا، فجزاهم الله تعالى خير الجزاء وخلد لهم جميل الثناء.

وقد اتبعت الإمامية في الأحكام الغير المنصوصة والمسائل الاجتهادية علماءهم الذين حسبوهم من أهل الاجتهاد، وما ذكره ابن الأثير الجزري أن عليا بن موسى الرضا كان مجدد مذهب الإمامية في المائة الثالثة، فمراده أنه مجدد علمائهم، فإنه كان ينكر ذلك ولا يعترف بما هنالك. وكذا عده أهل المذاهب من المجددين، فإنه مجدد على رأي صاحب المذهب ومستندهم، وإنما هو حسن الطوية بوفور علمه وشيوع أقواله ومؤلفاته في مذهبه، ولكنه من الظنون التي لا تغني عن الحق شيئا. فإن مبدأ التاريخ غير معلوم لأنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "إن الله يبعث على راس كل مائة سنة من يجدد أمر دينها" من غير تعيين المبدأ، والتاريخ الهجري إنما وضعته الصحابة في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وحمل علماء الأمة ما ورد من الأخبار بالأمور المستقبلة على ذلك خطأ فاحش.

الرابعة والستون: إنهم يذكرون حكايات تدل على حقيقة ما هم عليه وصدق ما ذهبوا إليه، مع أنها أكذوبة صنفوها وخرافة زخرفوها، فعدلوا عن طريق الحق وعالوا عن منهج الصدق، فمن ذلك ما ذكره أهل السير منهم وصححوه: أن حليمة مرضعة النبي ﷺ قدمت على الحجاج بالعراق وافدة، فألقت نار الغضب في كانون فؤاده زائدة، فقال لها: ما لي أراك فضلت عليا على الشيخين وتعاميت عن الصبح السائح لذي العينين؟ فأطرقت رأسها وحبست أنفاسها ثم رفعته قائلة وعن سنن الإنصاف غير عادلة: هو ورب موسى أفضل من آدم ونوح وإبراهيم وسليمان وموسى وعيسى، فازداد غضبه وترقب عطبه، فقالت حليمة: إن يكن قصدك بالظلم أسكن رمسي، فقم فهذا السيف ودونك رأسي، وإن كنت تبتغي البرهان فهاك أحاديث كالجمان. فقال: بم تفضلينه على آدم وهو أبو البشر والنبي الأقدم المأمور له بالسجود وخليفة الله تعالى بلا جحود؟ قالت: بما قاله الله تعالى في حقه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ووصف عليا وأثنى عليه في سورة {هَلْ أَتَى} وكذا في آية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} وما أحد تصدق بخاتمه سواه. فقال: وبم تفضلينه على نوح وترجحينه وهو الرسول الكريم صاحب السفينة؟ فقالت: لأن زوجة علي فاطمة بنت النبي الجليل وزوجة نوح كافرة كما في التنزيل، فقال: فبم تفضلينه على إبراهيم جد الأنبياء ذوي القدر العظيم؟ فقالت: دعى إبراهيم ربه فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وقال علي: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا. فقال: وبم تفضلينه على سليمان رسول الرحمن وملك الزمان؟ فقالت: سليمان طلب من ربه الدنيا وملكها الذي هو كسراب فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}، وطلق الأمير الدنيا ثلاثا مبتورة فقال: إليك عني يا دنيا طلقتك ثلاثا لا رجعة بعدها حبلك على غاربك غري غيري لا حاجة لي فيك. فقال: وبم تفضلينه على موسى بن عمران صاحب اللوح والتوراة من الملك الديان؟ فقالت: لأنه فر من فرعون كما قال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}، ورقد الأمير ليلة الهجرة على فراش النبي ﷺ. فقال: وبم تفضلينه على عيسى بن مريم صاحب الإنجيل والرسول الأكرم؟ فقالت: يوم يحشر الناس في موقف الحساب يسأل عيسى النصارى هل عبدوك بقولك فيفتقر عيسى إلى الاعتذار كما قال تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، والأمير لما قالت السبائية: إنه إله غضب عليهم وهددهم حتى اشتهر في مشارق الأرض ومغاربها أنه أظهر البراءة منهم. قال الحجاج: صدقت، وأرضاها وأمر لها بألف دينار، ثم قالت: يا حجاج اسمع نكتة لطيفة وقصة ظريفة، وهي أن مريم لما أخذها المخاض وكانت ببيت المقدس أمرها الله تعالى بالخروج إلى الصحراء كي لا يتلوث بيت المقدس، ولما أخذ المخاض فاطمة بنت أسد أوحى الله تعالى أن ادخلي الكعبة وشرفي بيتي، فانظر هذين المقامين، وتأمل في فحوى هذين الكلامين، فأطرق الحجاج وترك العناد واللجاج. انتهى.

وإذا سمعت ما تلوناه عليك وحققت ما نقلناه إليك، فاعلم هديت إلى سواء الطريق وسقيت [مياه] التوفيق في كاسات التحقيق، أن هذه أكذوبة وقصة أعجوبة، لأن حليمة ما عاشت إلى هذا الزمن بإجماع المؤرخين، بل اختلف في أنها هل أدركت زمن البعثة أم لا، وهل آمنت أم لا. على أن هذه الأدلة المذكورة قشور لا لب لها. وقد ردت بوجوه:

الأول: إن تفضيل علي خلاف النصوص القرآنية، فإن المذكور فيها تفضيل الأنبياء على سائر المخلوقات في مواضع شتى.

الثاني: إن هذه الاحتجاجات قد عدت فيها زلات الأنبياء وقيست بمناقب الأمير ولم يذكر فيها مجاهداتهم وحسن معاملاتهم، ولو وزن مناقب الأنبياء وكمالاتهم بمناقب الأمير ثم رجح أحد الشقين على الأخر لكان هذا جديرا بأن يسمع وحريا بأن يقبل، وإلا فيمكن إجراء هذه الطريق من الاحتجاج في كل محل، فيقال إن نبي آخر الزمان عاتبه الله تعالى في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} وفي أخذ الفداء من أسارى بدر وترك الاستثناء، وحمد الأمير في سورة {هل أتى}، فيكون أفضل من النبي ﷺ. ولا قائل بذلك ونستغفر الله مما هنالك. وأما ما استدل به من قصة آدم عليه السلام فهو باطل، لأن الآية لا تدل على أنه اقترف ذنبا، لأن المعصية بمعنى المخالفة والغي بمعنى الخيبة. قال المرقش الأصغر:

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

والنهي في قوله تعالى: {لا تقربا} للندب، ومن خالف من نهاه عن أمر واجبا كان أو مندوبا يسمى عاصيا، ولهذا يقال نهيت فلانا عن السفر فعصاني وخالفني، وإن لم يكن ما نهى عنه واجبا. وإذا لم يكن التناول من الشجرة ذنبا لم يلزم التفضيل. وتفصيل الكلام في هذا المقام يطلب من كتب التفسير.

الثالث: أن المستدل قد تمسك في مقام مفاضلة نوح والأمير بحال الأزواج وهو في معزل، لأن الأمور الإضافية والأوصاف النسبية غير معتبرة في إثبات كمال المضاف إليه ونقصه، وإنما المناط الصفات الحقيقية له، وهذا بين بالضرورة، فتفضيل زوجة رجل آخر غير مستلزم لتفضيل البعل، والاستدلال بذلك حماقة. ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح وزوجة لوط بالإجماع ولا قائل بالفضل. بل زوجة النبي ﷺ عندهم كافرة، معاذ الله، فيلزم أن يكون الأمير أفضل من محمد عليه السلام، ولا قائل به أيضا.

الرابع: أن حديث: "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا" موضوع، لا ذكر له بسند في كتاب. وبعد تسليم صحته غير مفيد للتفضيل، فإنه كرم الله تعالى وجهه طلب مقاما لا يناله إلا الأنبياء، وهو مقام المشاهدة، وهو لا ينافي اليقين، كما أن زكريا طلب آية على توليد الابن مع تيقنه به بعد الإخبار من الله تعالى كما لا يخفى. والأمير كرم الله تعالى وجهه لما علم أن مثل هذا المقام لا يحصل له وأنه في مقام لا ينعكس منه إلى مقام الأنبياء قال: لو كشف لي الغطاء، أي عما أعلمه من مقامي ما ازددت يقينا فيه. وله توجيهات عديدة في كتب القوم.

الخامس: ما ذكره من مخافة موسى وفراغ بال الأمير مغالطة، لأن الأمير كان يعلم بأنه صبي صغير السن تابع للنبي ﷺ، وعداوة الكفار له ليست بالذات والأصالة، فلم يقتله الكفار، فلم يكن له وجه من الخوف أصلا، ومع ذلك أخبره النبي ﷺ وسكن قلبه بأنهم لن يضروك أبدا، ولأن أسباب العداوة من التجاذب والمقاتلة ما كانت متحققة فيما بينهم بعد، وأسباب المحبة من وجود القرابة وملاحظة رئاسة أبي طالب كانت موجودة، مع خوف الانتقام من حمزة والعباس وأعمامه وإخوانه الآخرين. بخلاف موسى عليه السلام، فإن غالب ظنه على حساب العادة أن فرعون يقتله بدل القبطي، مع أن مشاورة رؤساء القبط في تدبير قتله قد قرعت سمعه برواية المعتبرين، وقد اطمئن قلبه بعدما وعده الله تعالى بالتأييدات والحماية حيث قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، وقال تعالى: {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}. ومع ذلك فسطوة فرعون وجنوده معلومة، وكفار قريش بالنسبة إليه كالذرة إلى الفيل. وأقام موسى وأخوه عليهما السلام فيما بينهم أربعين سنة يصدح بما يؤثر ويصدح بما يؤمر، وهو بخلاف الأمين فإنه أقام في خلافة الخلفاء ذليلا حقيرا بزعم الشيعة.

السادس: أن ما ذكر من طلب سليمان عليه السلام للملك أي ضرر فيه، وأي نقص يعتريه، بل هو أعلى كعبا من تطليق الدنيا، إذ معه يتيسر من إقامة العدل والإنصاف وإرشاد خلق الله تعالى وهدايتهم ما لا يتيسر من التطليق. ثم تطليق الدنيا لا ينافي طلب الملك، لأن الأمير مع تطليقه الدنيا طلب الخلافة وسعى إليها سعيا حتى وقع القتال وكثر النضال، وما كان مقصوده حب المال والجاه، بل مراده القدرة على قتال من خالف أمر الله وغير ذلك من الأمور الشرعية والمقاصد البهية. فاشترك سليمان والأمير معا، ولكن الفرق بينهما أن سليمان طلب ذلك من الله تعالى بغير أهبة الأسباب الظاهرة والأمير طلبه بالتأهب من جمع الرجال وسفك الدماء والقتال. وأيضا يلزم من كون ترك الدنيا موجبا للتفضيل أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف والمهدي، معاذ الله من ذلك.

السابع: أن ما ذكر في تفضيل الأمير كرم الله تعالى وجهه على عيسى عليه السلام محصله أمران.: أحدهما تعزيره للغالين في محبته ومسامحة عيسى، والآخر سؤال عيسى عن فعله وافتقاره إلى الاعتذار، والأمير غير مسؤول. وفيهما بحث لأن في الأمير كان في زمنه، وفي عيسى كان بعد رفعه إلى السماء على ما قيل. والذي يظهر من الكتاب المجيد أن الغلو في عيسى كان أيضا قبل الرفع، وكان عليه السلام يزجر القائل بذلك كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. نعم لعل التثليث وقع بعد ما رفع. وأما وقوع السؤال فمعلوم لذكره، وعدم السؤال غير معلوم، ولا يلزم من عدم العلم عدم الوقوع، والمدعى هو هذا. بل في القران ما يشير إلى سؤال الأمير مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}، وهم يبينون أيضا ذلك العذر كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} الآية، بل الملائكة أيضا يسألون، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} ويعتذرون بما حكى الله تعالى عنهم وهو قوله: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون}. على أن شهادة النبي حجة دون الولي، فالسؤال كمال وهو صفة الأنبياء قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}، فهذا يدل على أفضلية عيسى على الأمير، فانقلب الأمر. هذا لو سلمنا ما قالوه.

الثامن: أن ما ذكر في ولادة عيسى غلط محض ومخالف للتواريخ، وفي ولادته اختلاف كثير، والمشهور أن ولادته في بيت اللحم، وقيل في فلسطين وقيل في مصر وقيل في دمشق. وما قال أحد من المؤرخين أخذها المخاض في المسجد الأقصى، ولئن سلمنا فمن أين علم أنها أخرجت بالوحي؟ والظاهر أنه لما كان علوق عيسى عليه السلام من غير أب كرهت واستقبحت إظهار الولادة في الناس، فلا جرم إن ذهبت إلى الصحراء. وما قيل إن فاطمة بنت أسد أوحي إليها: أن أدخلي وشرفي، فكذب صريح لأنه لم يقل أحد من الإسلاميين بنبوتها. فتأمل. والمشهور في ولادة الأمير عندنا هو أن أهل الجاهلية كانت عاداتهم أن يفتحوا باب الكعبة في يوم الخامس عشر من رجب ويدخلونها للزيارة، فممن دخل فاطمة، فوافقت الولادة ذلك اليوم. وعند الشيعة أن أبا طالب لما رآها في شدة الطلق أخذها استشفاء لها فرحمها الله تعالى، فولدت الأمير كرم الله تعالى وجهه فسماه أبوه أبو طالب عليا. وهذه الرواية نسبت في كتبهم إلى الإمام زين العابدين عن زيدة بنت عجلان الساعدية عن أم عمارة بنت عباد الساعدية. وبالجملة لو كانت الولادة في البيت موجبة لتفضيله على عيسى لكانت موجبة لتفضيله على النبي ﷺ أيضا، ولا قائل به. وأيضا قد ثبت في التواريخ الصحيحة أن حكيم بن حزام بن خويلد الذي هو ابن أخ أم المؤمنين خديجة بنت خويلد قد ولد في الكعبة أيضا، فلا بد أن يكون أفضل من عيسى على ما زعموا بل أفضل من جميع الأنبياء، وهذا مما لم يقل به أحد، بل لا تخفى شناعته. فتأمل في هذا المقال واستعن بذي العزة والجلال.

الخامسة والستون: إنهم يقولون إن عذاب القبر مخصوص بأهل السنة وغيرهم من الفرق غير الإمامية، وأما الإمامية فهم متنعمون في قبورهم حتى العصاة منهم.

وهذا الكلام باطل لا أصل له، لأن الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة التي رواها الفريقان عن أهل البيت وغيرهم ناصة عام أن عذاب القبر واقع للكفار وبعض عصاة المؤمنين، والتخصيص من أكاذيب القوم. فقد روى ابن بابويه القمي عن [عمرو] بن يزيد قال: "قلت لأبي عبد الله إني سمعتك وأنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان منهم، قال: صدقتك والله كلهم في الجنة، قال قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبار وصغار، فقال: إما في القيامة كلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصي النبي، ولكني والله أتخوف عليكم في البرزخ، قلت: وما البرزخ؟ قال: القبر حين موته إلى يوم القيامة.

السادسة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة يحبون أعداء أهل البيت، ومن أحب عدو الرجل فهو عن الصداقة بمعزل، قال الشاعر:


قسم ناقص

وأخرج ابن عدي والبيهقي في الشعب أنه ﷺ قال: "من لم يعرف حق عترتي [والأنصار والعرب] فهو أحد ثلاثة: إما منافق وإما لزنية وإما لغير طهور". [1] وأخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال: خطبنا رسول الله ﷺ فسمعته يقول: "أيها الناس من أبغضنا أهل البيت حشره الله تعالى يوم القيامة يهوديا". [2] وأخرج الشيخ العارف أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في نوادر الأصول في أخبار الرسول عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله ﷺ: معرفة آل محمد براءة من النار، وحب أهل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب". [3] إلى غير ذلك من الأحاديث.

السابعة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة من فرط عصبيتهم رجحوا الجبان على الشجاع في الإمامة، لأن أبا بكر كان جبانا، يدل على ذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ}، والحزن في المواقف دليل الجبن. وكان علي أشجع الصحابة، فهو أحق بالإمامة منه.

وهذا الكلام أيضا باطل، لأن وجوب كون الإمام أشجع ممنوع، وكذا كون علي أشجع من أبي بكر. بل هو أشجع منه لأن النبي ﷺ بشره ليلة أسري به بأن الله تعالى جعله وصيه ووزيره وخليفته، كما رواه شيخكم أبو جعفر الطوسي في الأمالي، أو كان معه ليلة المعراج كما رواه صاحب نوادر الحكمة عن عمار بن ياسر والقطب الراوندي عن جريدة الأسلمي مرفوعا، فاطلع على ما هو المكتوب في اللوح المحفوظ، وتيقن أنه يعيش بعد النبي ﷺ، وأنه يكون خليفته بعده، وأنه يقتله ابن ملجم المرادي، وأنه لا يموت إلا باختياره، فكان إذا دخل الحرب ولاقى العدو لا يختار موته ويعلم أنه لا يتمكن الخصم من قتله؛ بخلاف أبي بكر، فإنه كان إذا لاقى العدى لا يدري هل يقتل أم لا. ولا شك أن من يدخل الحرب ولا يدري أمره ويقاسي من الشدائد والمحن ما يقاسي أشجع ممن يدخلها كأنه بات على فراشه لا يخاف أحدا ولا يخشى. وقد ثبت عن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه قال خطبنا علي فقال: "أيها الناس من أشجع الناس؟ فقلت أنت يا أمير المؤمنين، قال: ذلك أبو بكر الصديق، إنه كان يوم بدر وضعنا لرسول الله ﷺ العريش فقلنا: من يقوم عنده لا يدنو عليه أحد من المشركين، فما قام عليه إلا أبو بكر وإنه كان شاهر السيف على رأسه، فكلما دنا عليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف.

الثامنة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة ينسبون إلى النبي ﷺ ما يخل بعلو قدره وعلو شرفه، حيث ثبت عندهم في الصحيح أن عائشة قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي ﷺ"، فكيف يرضى بذلك وبيته محل العبادة ومهبط الوحي والروح الأمين ومتردد الملائكة المقربين في كل وقت وحين، وقد ثبت عندهم أن الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة مجسمة أو تماثيل، ويروون عن النبي ﷺ أنه لما رأى صورة إبراهيم وإسماعيل في الكعبة محاها.

فنقول لا نسلم أن كون تلك البنات كانت مصورة بصورة إنسان، فإنها ربما تصنع من غير صورة بأن يقطع من كرباج قطعة مثل دائرة كالقوارة ويجعل في وسطها قطعة ملفوفة كالبندقة، ويجمع أطرافها وتشد البندقة بخيط فيصير ما فوق العقدة كرأس إنسان وما تحت جسده من غير يد ورجل ثم يجعل عليه خمار. وعلى فرض كونها مصورة فيحتمل أن يكون ذلك قبل التحريم. وكذا العلم بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، فإن ذلك كان في بدء الأمر حين بنى النبي ﷺ بعائشة،


قسم ناقص

ذلك يطعنون على أهل الحق ما أعمى الله تعالى بصائرهم عن حقيته، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.

التاسعة والستون: إنهم يقولون إن أهل السنة يروون في الصحيح عن النبي ﷺ ما ينبئ عن قلة الغيرة ورداءة الطوية، من ذلك ما رووه عن عائشة أنها قالت: "رأيت النبي ﷺ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد"، فإن هذا الأمر لا يرضى به من له أدنى غيره وأقل حمية، ومع ذلك إن اللعب من الأمور المنكرة ولا سيما إذا كان في المسجد، فكيف يرضى رسول الله ﷺ بذلك وهو أغير الناس وأشدهم نهيا عن المنكر.

وهذه مكيدة عظيمة ربما اغتر بها بعض القاصرين ومن كان في قلبه مرض وصد عن إدراك اليقين، وأما من نظر بعين بصيرته وجانب الهوى وشبهته فلا يلتفت إلى مزخرفات الأقوال ولا ينخدع بشبه أهل الضلال. فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن حينئذ مكلفة، ووجوب منع الغير مكلفة عن أمثال هذه الأمور ممنوع. وكان رسول الله ﷺ يذهب ببعض نسائه في الغزوات، وكان النساء ينظرن إلى الرجال ولا يتحجبن عنهم قبل نزول آية الحجاب. ونزولها كان بعد أن نكح النبي ﷺ زينب بنت جحش كما رواه أبو داود والدارمي وغيرهما. ولعب الحبشة كان بالحراب، واللعب به كالرمي من عدد الحرب، فصار بالقصد عبادة. وزجر عمر رضي الله تعالى عنه من لعب به لظنه أنه من جملة اللعب الحرام، وذلك قبل أن يرى النبي ﷺ، فلما رآه سكت. ولا نسلم أن تقريره غير البالغة على النظر قبل النهي ينافي الغيرة، والنهي عن النظر إنما ورد بعد الأمر بغض الأبصار، وكان ذلك بعد مدة من تلك الواقعة. وقد ثبت عند هؤلاء الفرقة الضالة ما يروونه عن أبي عبد الله لصحبه أن "خدمة جوارينا لنا وفروجهن لكم". وهذا ينافي الغيرة ولا يرضى به السوقة الأوباش، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.

السبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يفترون على النبي ﷺ ويقولون إنه قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات"، مع أن الأنبياء معصومون عن الكذب بالاتفاق.

وهذا القول باطل، لأن المراد بالكذب التعريض وليس المراد حقيقته، فسماه كذبا لأن المعاريض شبيهة بالكذب في إرادة ما ليس بمطابق للواقع، أو المراد به الكذب بحسب الظاهر، والمعنى لم يتكلم بما هو كذب بحسب الظاهر إلا ثلاث كلمات. فقوله {إِنِّي سَقِيمٌ} إما مجاز بالمشاركة وإما مرض لا يبدو أثره في الظاهر. وقوله: {هَذَا رَبِّي} بزعمكم، فإن قومه كانوا صابئين. وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} تهكم. ولأنه قد ثبت عندهم أن قوله إني سقيم كان كذبا، وإنما قال ذلك تقية. فإذا جاز كونه كذبا جاز أن يكون كلا القولين الآخرين كذبا لمصلحة دينية، كإفحام عبدة الكواكب وإبطال عقيدتهم الزائفة، وإبداء فساد مذهبهم بأبلغ وجه. هذا وفي مرويات هؤلاء الفرقة ما ينص على [اعتذار] بعض الرسل عما أوحى الله تعالى إليه واتصافه بالحسد وارتكاب بعضهم ذنبا كان الموت عليه هلاكا، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في مباحث النبوة. فالطعن على أهل السنة بما هو معتقدهم وقاحة وصلافة ظاهرة. نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة.

الحادية والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يفضلون عمر على الانبياء، حيث ثبت في الكتب الصحيحة عندهم عن النبي ﷺ إنه قال: "إن الشيطان يفر من ظل عمر"، مع أنه لم يفر من آدم وهو في الجنة محفوف بالملائكة، ولا من موسى حيث قتل القبطي وقال: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}، ولا من أيوب حتى مسه {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}، ولا من الأنبياء والرسل حتى ألقى في أمنيتهم إذا تمنوا.

وهذه مكيدة عظيمة تزل بها أقدام الجهلة ومن ليس له رسوخ في العقائد الدينية. وأما من له أدنى حظ معرفة العلم ويعرف أن المراد من الحديث ليس للشيطان عليه سلطان، لكنه ﷺ كنى ذلك بما قال لأن الكناية أبلغ من التصريح، ولأن كثيرا ما يعبر عن شدة الخوف بالفرار. قال عز من قائل: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}. والشيطان يخاف من الأنبياء أيضا. وهو لم يوسوس لآدم ابتداء، وإنما وسوس لحواء وحواء وسوست لآدم؛ وإنما نسبت الوسوسة للشيطان لأنه السبب، أو لأن الله تعالى شجعه على ذلك وأزال الخوف عنه ومكنه من دخول الجنة ونهى الخزنة عن منعه من دخول الجنة لحكم ومصالح يعرفها من يعرفها، وإن كان الأصلح أضداد ذلك، فإنه يجوز ترك الأصلح لمصلحة، صرح به صاحب الكشاف من المعتزلة والمقداد وغيره من الإمامية. وقول موسى عليه السلام إنه {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لا يدل على ذلك، لأن المشار إليه استصراخ الإسرائيلي المهيج لغضبه، أو عمل القبطي المقتول من عمل الشيطان، وهو ظلمه للقبطي وإيذاؤه له أو كفره وخلافه لله تعالى بذلك عن استحقاقه للقتل. وقوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} إنما هو على سبيل الانقطاع والرجوع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير في أداء حقوق خدمته وشكر نعمته وإن لم يكن هناك ذنب. وقوله: {فَاغْفِرْ لِي} أراد به تقصيري في حقوق نعمتك. ولأن قتل القبطي كان قبل بعثته وهو [لا] يعلم أنه يبعث نبيا. وأن من يبعث نبيا لا يمكن للشيطان منه. وأما قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} فالمراد أن الشيطان يستفزه ويوقعه في الألم، وذلك لأنه يوسوس إلى قومه أن يبعدوه ويجنبوه لما كان عليه الأمراض المؤلمة فأخرجوه من البلد فزاد مرضه ونصبه، واللعين لم يزل يوسوس لزوجته بأن تبعد عنه ولا تباشره، وكانت تخدم قومه وتأخذ الأجرة منهم وتهيئ به مأكل زوجها ومشربه، ويوسوس أيضا لقومه أن لا يخدموا زوجته فإنها تباشر قروحه وتمس جلده، فهذه مضار ظاهرة، فأضاف إلى الشيطان ما فعل من الوسوسة.

وأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، فالمراد من الأمنية القراءة، والمعنى: وما من برسول ولا نبي إذا قرأ كتاب الله تعالى [إلا] ألقى الشيطان في قراءته ودس في كلامه محاكيا صوته ما يوافق عقيدة الكفرة ويسمعهم، ولا يقرب النبي بل يدنو من الكفار. وأيضا فإن الشيعة قد اعترفت بان الآيات المذكورة على ظاهرها فلا مطعن فيها حينئذ. والكلام عل هذه الآية طويل ألف فيه رسائل مفصلة، وأحسن من كتب في ذلك تقي الدين ابن تيمية رحمه الله.

الثانية والسبعون: إنهم يطعنون على أهل السنة بما يروونه عن النبي ﷺ أنه قال: دخلت الجنة فسمعت حس نعلي بلال مولى أبي بكر، ويقولون: إن هذا الكلام يدل على تفضيل مولى أبي بكر على النبي ﷺ لأن السابق أفضل من المسبوق.

وهذه مكيدة لا يخفى بطلانها على أحد فضلا عمن جد في العلم واجتهد، فإن السابق كثيرا ما يكون مفضولا. ألا ترى أن العبد يسبق مولاه إلى الرياض والقصور التي بناها لسكناه. والسبق الموجب للفضل هو الدخول في دار الثواب للجزاء يوم القيامة، فإن الملائكة كانوا يدخلونها قبل الرسل، ودخلها إدريس قبل أولي العزم من الرسل، وكان إبليس يدخلها قبل خلق الرسل وقبل خلق آدم. ولأن الفضل لمن دخل الجنة في اليقظة بجسده دون من دخل بروحه، فإن الذين قتلوا في سبيل الله دخلوا الجنة ورزقوا من نعيمها قبل من هو أفضل منهم من غير نكير. لأن الحق كما يدل عليه سياق الأخبار أن الله تعالى أرى نبيه ﷺ صورا مثالية من أمته ممن خلق ومن لم يخلق في الجنة ليعلم درجاتهم ومنازلهم فيها، فأراه مرة منزلة بلال وغيره من فقراء أمته وأغنيائهم. فقد أخرج الطبراني عن أبي إمامة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت إلى أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم، ونظرت في أسفلها فإذا فيهم الأغنياء". وأراه مرة أخرى منازل بعض الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم.

الثالثة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يروون عن النبي ﷺ أنه نظر عشية يوم عرفة فتبسم وقال: "إن الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة وباهى بعمر خاصة"، [4] وهو يوجب التفضيل. وذلك يدل على أنه تعالى كان يباهي بعمر ويدع نبيه ﷺ، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

والجواب أنه ليس في الخبر ما يدل على أنه ﷺ كان في العامة، وعدم ذكر المباهاة به خاصة لا يدل على نفيها، لأن المراد بالعباد أصحابه ﷺ، والغرض من ذكرها بيان فضلهم واختصاص عمر لفضيلة استحق بها المباهاة خاصة. والاختصاص بفضيلة لا يوجب التفضيل. ولأنه يحتمل أنه تعالى باهى به ﷺ خاصة إلا أنه لم يذكره. ولأن الغرض من المباهاة إبداء فضل من أراد من المؤمنين للملأ الأعلى، وكان ﷺ مستغن عن ذلك فإنهم كانوا يعرفونه بأنه كان أفضل الخليقة وأكرمهم عند الله تعالى.

وأقول: قد تقرر في الأصول أن المتكلم يكون خارجا عن عموم كلامه، وإلا لزم كونه تعالى مقدورا ومخلوقا بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}، تعالى الله عن ذلك. على أن المباهاة به مرجعها إلى المباهاة بالنبي ﷺ، حيث إنه من أصحابه وأحد اتباعه.

الرابعة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة ينسبون إلى النبي ﷺ ما يخل بعلو قدره، من ذلك ما رووا في كتبهم الصحيحة أن النبي ﷺ: "أتى سباطة قوم فبال واقفا وتوضأ".

نقول نعم إنه ﷺ فعل ذلك لضرورة دعته إليه، فقد أخرج الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: "إنما بال قائما لجرح كان في مأبضه". ولأن كل ما يفعله فهو تشريع لجوازه. ولا قبح في البول قائما لا عقلا ولا عرفا. ويا للعجب من هؤلاء الفرقة الضالة كيف يطعنون على أهل السنة بما لا طعن فيه عند أولي الأبصار، ومع ذلك ينسبون إلى الرسل ما لا تتقبله عقول الأخيار. وقد ذكر المرتضى وغيره من علماء الإمامية أن الخبر متى وجد له محمل صحيح لا يرد. فالحكم ببطلان الحديث بمثل هذه الشبهات مع أن له محملا صحيحا طعن في الدين واتباع للملحدين.

الخامسة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون اللعب بالشطرنج والغناء.

وهذه المكيدة كذب وافتراء وزور على علماء أهل السنة الأمناء. أما اللعب بالشطرنج فإنه حرام عند أبي حنيفة ومالك وأحمد على الصحيح. وورد في حرمته أحاديث وأثار صحيحة. وعند الإمام الشافعي مكروه في القول القديم، بشرط عدم إخراج الصلاة عن وقتها وعدم الإخلال بحفظ الواجبات بواسطة الاشتغال به وأن يخلو عن القمار وأن لا يصير سببا للنزاع والكذب وأن لا تكون آلاته بصورة بصورة الحيوانات، فإن فقد من هذه الشروط صار حراما وبالإصرار يصير كبيرة؛ كذا في الإحباء. وقد صح عن الإمام الشافعي أنه رجع إلى قول الأئمة الثلاثة، نص عليه الإمام أبو حامد الغزالي. واللعب مطلقا حرام عند أهل السنة، إلا ملاعبة الرجل أهله وتمرين فرسه والرمي بالقوس. والإمامية يجوزون اللعب في المذاكير في الصلاة التي هي موطن المناجاة مع باري النسمات، كما ذكر الطوسي فيه التهذيب وغيره من علماء الإمامية.

وأما الغناء فهو حرام عند الأئمة الأربعة. وأساطين المشايخ وأهل الله لم يسمعوا الغناء ولا رغبوا إليه. قال سيد الطائفة الجنيد البغدادي قدس سره: الغناء بطالة. وقال الشيخ أحمد الشهير برزون: السماع حرام كالميتة. وإنما كانوا يسمعون من الإنشاد في بعض الأحيان عند القبور برفع الصوت والترنم والحداء من غير تلحين وأنغام موسيقية، فإن سماع الأشعار بحسن الصوت لم يرو منعه، بل هو جائز بشرط أن لا يكون من أمرد يخشى النظر إليه الفتنة أو امرأة غير محرم، وأن لا يكون في شيء من اللهو واللعب. وأما أن تكون الأشعار في ذكر الجنة والنار والتشويق إلى دار القرار وذكر العبادات والتشويق في الخيرات، أو يكون فيه من ذكر والهجر والوصل مما يقرب حمله على أمور الحق سبحانه من تلون أحوال المريدين ودخول الآفات على الطالبين. وإن أردت الوقوف على تفصيل هذا المقام فارجع إلى كتاب الغنية للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وكتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماعة للعلامة ابن حجر (عليه الرحمة). وقد ذكر شيخ الرافضة الشهير بالشيخ المقتول في كتابه الدروس أنه يجوز الغناء في العرس بشروط، فلا مطعن لمن جوزه لما سنح له من دلائل إباحته، والشروط هي أن يكون المسمع امرأة وأن لا يكون رجلا وأن لا يكون الشعر في الهجاء وأن لا يكون كذبا، كذا في شرح القواعد. مع أن السماع من المرأة أقبح. فانظر إلى هذه المناقضات وما أبدوا من فاسد الاعتراضات.

السادسة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون الوضوء بالنبيذ وهو ماء مقيد، والقرآن ينص على الماء المطلق، قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.

والجواب أن الوضوء بالنبيذ وهو الماء الذي فيه تمرات مخدوشة حتى يأخذ الماء حلاوتها لا يجوز عند مالك والشافعي وأحمد. واختلفت الروايات عن أبي حنيفة، ففي رواية يتوضأ به ولا يتيمم إذا لم يجد المصلي [إلا] نبيذ التمر وكان رقيقا كالماء ولم يشتد ولم يكن مسكرا، فإذا صار لا يجوز به الوضوء اتفاقا، ولا مطبوخا، فإن الوضوء بالمطبوخ منه مطلقا لا يجوز، لأن النار غيرته لحديث ليلة الجن. وعن أحمد والترمذي وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي وعبد الرزاق في جامعه وغيرهم عن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال ليلة الجن: "هل لك من وضوء؟ قلت: لا، قال: فما في إداوتك؟ قلت: نبيذ تمر، قال: تمرة حلوة وماء طيب. فتوضأ وتيمم". وهو قول محمد. وروى نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة أنه يتيمم ولا يتوضأ، وهو قول أبي يوسف وفي خزانة المفتين، وهو الأصح وعليه الفتوى للآية. وقد جوز جمع من الشيعة الوضوء من ماء الورد مع أنه ماء مقيدا. فيا للعجب أنهم جوزوا الوضوء من ماء كر بال فيه الكلب واستنجى به جمع ولو ظهرت فيه أجزاء النجاسة وزادت على أجزاء الماء، وكذا أباحوا الشرب منه، ومع ذلك يطعنون على أهل الحق بسبب الوضوء بالنبيذ عند فقد الماء المطلق، مع صحة وروده عن النبي ﷺ، ولقد أحسن من قال فيما يناسب هذا الحال:

ألا أيها اللائمي في خليقتي ** هل النفس فيما كان منك تلوم

فكيف ترى في عين صاحبك القذى ** وتنسى قذى عينيك وهو عظيم

السابعة والسبعون: إنهم يقولون إن أهل السنة أباحوا اللواطة بالعبيد وأسقطوا الحد عن اللائط مع أن اللواطة أفحش من الزنا وأقبح منه.

وهذه المكيدة محض افتراء على أهل السنة. أما اللواطة بالعبيد فقد أجمعوا على حرمتها ورووا أحاديث كثيرة عن ذلك. منها ما رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط. وما روى الترمذي والنسائي وابن حبان عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في دبرها"، قال المنذري هو صحيح الإسناد. وما روى الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وابن حبان في صحيحه والنسائي والبيهقي عن ابن عباس أن رسول ﷺ قال: "ملعون من عمل عمل قوم لوط" ثلاثا. إلى غير ذلك من الأحاديث. وأما الحد فقد اختلف الفقهاء في موجبه، فذهب الشافعي ومن تبعه إلى أن اللواطة زنا فيحد اللائط حد الزنا، وذهب أبو حنيفة ومن تبعه إلى أن اللواطة ليست بزنا لأنها لم يعهد لها حد ولم يثبت من أهل اللغة إطلاق الزنا على اللواطة وشاع الفرق بينهما في العرف، يقال هذا زنا، وليس بلواطة، ولواطة ليس بزنا، وهو لوطي ليس بزان، وزان ليس بلائط. قال أبو نواس:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ** وداوني بالتي كانت هي الداء

من كف ذات حر في زي ذي ذكر ** لها محبان لوطي وزناء

وقال أحمد بن أبي نعيم:

قاض يرى الحد في الزنا ** ولا يرى على من يلوط من بأس

فإذا كان الأمر كذلك لا يثبت فيه حد الزنا. ولذا اختلف الصحابة في موجبه، فقال بعضهم: أرى أن يحرق بالنار. وقال ابن عباس: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى منه منكسا ثم يرمى بالحجارة. وقال [ابن الزبير]: إنهما يحبسان في أنتن المواضع حتى يموتا نتنا. فلو كانت اللواطة زنا لم يختلفوا في موجبها، فإنهم أهل اللسان فصحاء. وظاهر الكتاب يدل على أن موجب اللواطة غير الحد، قال تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}، فإن المراد بالفاحشة اللواطة لتثنية الضمير وتبيينهما بمن المتصلة بضمير الرجال واشتراكهما في الأذى والتوبة والإعراض وهو مخصوص بالرجال. وحكم النساء الحبس كما في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}. والفاحشة لا تختص بالزنا حتى يكون إطلاقها على اللواطة ناصا على أنه الزنا، فإن الفاحشة هي الفعلة المتناهية في القبح. قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}، وكون اللواطة أفحش من الزنا ممنوع، بل كلاهما فاحشة، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}.

الثامنة والسبعون: إن أسلافهم كانوا يكثرون التردد إلى أئمة أهل البيت ويأخذون عنهم الفقه والحديث ليغتر بهم من يراهم، فيزيدون في الدين وينقصون افتراءً على الأئمة الأطهار، قصدا إلى إضلال الناس. ومن أشدهم كيدا وأعظمهم فتنة وأكثرهم سعيا في تلبيس الحق بالباطل: هشام بن الحكم الأحول وهشام بن سالم الأحول الملقب بشيطان الطاق وزيد بن جهم الهلالي ومرارة بن أعين والحكم بن عتيبة و [ابن] عروة التميمي، الذين يدعون الرواية عن الإمام السجاد وابنه الباقر وحفيده الصادق، وعمن أتى بعدهم إلى آخر حياة أبي محمد بن الحسن، فإنهم أظهروا للمسلمين فرط محبتهم لأهل البيت وأكثروا التردد إليهم وواظبوا على خدمتهم وصحبتهم، فرووا حينئذ الأكاذيب المموهة والأحاديث المزخرفة في الأحكام الشرعية الأصولية والفروعية، ونسبوا إلى الأئمة بغض الصحابة وأمهات المؤمنين، ورووا عنهم في مدح الشيعة ما يضيق عنه نطاق الحصر، مع أن الأئمة الأطهار رضي الله تعالى عنهم كانوا يظهرون البراءة من هؤلاء الرواة ويقدحون في عقائدهم الزائغة، كما رواه الكليني وغيره من الإمامية عن أئمة الهدى، كما سيجيء إن شاء الله تعالى. وكان الإمام الأجل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم يقول لهشام الأحول: "ألا تستحي فيما تقول عن أبي ما هو بريء منه"، حتى قال الأحول له يوما: إنك لست بإمام وإنما الإمام بعد أبيك أخوك محمد، فقال: "يا أحول إن أبي يعلمك مسائل الدين ولا يعلمني وهو يحبني حبا شديدا حتى كان يبرد الطعام ويجعله في في لئلا أتأذى من حره، فكيف يرضى أن أدخل النار، هذا لا يكون أبدا". رواه الكليني وغيره من الإمامية. وكان من هؤلاء القوم جمع من الزنادقة الذين كان قصارى بغيتهم وغاية مطلبهم إلقاء العداوة بين المسلمين. وكان من أخبث الزنادقة الذين يدعون الناس إلى مذهب الرافضة في زمن موسى بن جعفر وخلافة الرشيد إسحاق بن إبراهيم الملقب بديك الجن الشاعر، وكان لا يثبت صانعا ولا يقر ببعث ولا نبوة ويقع في الإسلام وأهله، ومع ذلك يظهر الإسلام ويؤيد مذهب الرافضة، وكانت الرافضة يعدونه من نقبائهم، كما ذكره شيخهم محمد بن محمد بن النعمان الملقب عندهم بالمفيد شيخ أبي جعفر الطوسي والمرتضى وتلميذ ابن بابويه القمي في كتاب المثالب والمناقب. وآخر هؤلاء القوم جماعة ادعوا السفارة بين محمد بن الحسن وشيعته، وأول من ادعى صحبة الأئمة من هؤلاء الغواة والرواية عنهم: هشام الأحول وهشام بن سالم وشيطان الطاق، وهؤلاء ومن نحا نحوهم كأبناء أعين وغيرهم من المنافقين الذين كانت قصارى أمنيتهم إيقاع ثلمة في الدين يفترون على أهل البيت ما هم براء عنه، كما سيجيء إن شاء الله تعالى في الفصل الآتي.

هامش

  1. [قال ابن القيسراني في ذخيرة الحفاظ: [فيه] زيد بن جبيرة منكر الحديث.]
  2. [موضوعات ابن الجوزي]
  3. [ليس في النوادر. الضعيفة 4917]
  4. [الضعيفة 3054]

الفصل السابع في بيان أسلاف الرافضة

اعلم أن أسلاف الرافضة طبقات متعددة.

الطبقة الأولى: المنافقون، ومقتداهم عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أخفى اليهودية وأظهر الإسلام، وقد كفّر الصحابة من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ودعا الناس إلى الرفض، ثم إلى الوصية لعلي بن أبي طالب، كما سبق أول الكتاب. فهو قدوة جميع الرافضة وأسوتهم. ولذا كثرت فيهم خصال اليهود، من الكذب والافتراء وكثرة البهتان وسب العلماء ولعن الصلحاء وفرط العداوة لأهل الحق والنفاق.

أما الكذب: فإن كل يهودي أكذب من مسيلمة، وكذلك الرافضة فإن فيهم من الكذب ما ليس في غيرهم من الفرق الهالكة. وكان المرتضى الذي لقبوه بعلم الهدى أكثرهم كذبا، وقد سبق أنه ألف بعض الكتب ونسبه إلى امرأة تارة، وإلى يهودي مرة أخرى. وكان شيخه صاحب الرقعة المزورة أكذب منه، ولم يستح هو ولا ابن بابويه من الافتراء على الله تعالى ورسوله ﷺ.

وأما الافتراء: فإن اليهود أكثر الناس افتراء، وقد افتروا على عيسى بن مريم وأمه وحواريه ما هم براء عنه.

وأما كثرة البهتان: فإن اليهود أكثر الباهتين. والرافضة توازيهم فيه، فإنهم يفترون على أهل الحق ما لا يحيط به نطاق الحصر.

وأما سب العلماء ولعن الصالحين: فإن اليهود يسبون عيسى روح الله ورسوله وأمه الصديقة وأصحابه البررة ويلعنونهم. وكذا الرافضة يسبون أمهات المؤمنين، والمهاجرين والأنصار من الصحابة الأنصار، وأمير المؤمنين وأولاده الأخيار -كما يجيء إن شاء الله تعالى- ويلعنون بعض كبراء أولاد الأئمة ممن يفترون عليه أنه ادعى الإمامة ولم يكن إماما، وكان الإمام أخاه، كجعفر بن موسى بن جعفر الصادق، الذي لقبوه بالكذاب، وكان من الأولياء الأمجاد ومن كبار علماء أهل البيت، وقد أخذ عنه الطريقة أبو زيد البسطامي، بعد أن خدمه أكثر من عشرة أعوام. وما اشتهر بين الناس أنه أخذ عن جعفر الصادق فغلط، والصواب ما قدمنا. وكجعفر بن الحسن العسكري، وكان أيضا من عباد الله الصالحين.

وأما فرط العداوة لأهل الحق: فإن اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا. وكذلك الرافضة أشد الناس عداوة للصحابة ولأكثر أمهات المؤمنين وأهل البيت ولجميع أهل السنة.

وأما الأضغان والحقد: فإن اليهود أشد أعداء الله حقدا على المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام وأمه وحواريه، وعلى خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام وأصحابه الأعلام وسائر المسلمين الكرام. وكذلك الروافض، فإنهم أكثر الفرق الهالكة حقدا على أهل الحق وأسلافهم السادة الأمجاد، القامعين بألسنتهم وأسنتهم أهل الزيغ والفساد.

وأما النفاق وإبطان الباطل وإظهار الحق: فإن جمعا من اليهود قبل الإسلام كانوا يبطنون اليهودية ويظهرون النصرانية، ولما ظهر الإسلام كانوا يخفون اليهودية ويظهرون الإسلام، وأكثرهم يظهر من العقائد خلاف ما يبطن. وكذلك الرافضة، فإنهم يبطنون الرفض ويظهرون الحق، فإن التقية عندهم واجبة، وقولهم إن التقية إخفاء الحق وإظهار الباطل، فمنشؤه عمى بصائرهم، ودون إثباته خرط القتاد. فإن كل منافق يزعم ذلك.

الثانية: القائلون بالحلول، كبنان بن سمعان، وكان من علماء الإمامية.

الثالثة: المجسمة الذين يقولون إن الله تعالى جسم، كالهشامين، وشيطان الطاق، والميثمي، وجماعة أخرى من علماء الإمامية، كما رواه الكليني في الكافي. وكان من هؤلاء القوم من يظهر التشيع ويبطن الكفر كما سبق.

الرابعة: الذين يقولون: إن الله تعالى صورة، كالحكم وابن السالم وصاحب الطاق والميثمي، وغيرهم.

الخامسة: الذين يقولون: إن الله تعالى أجوف إلى السرة والباقي مصمت، كابن سالم والميثمي.

السادسة: الذين أثبتوا الجهل له تعالى في الأزل، كزرارة بن أعين وبكير بن أعين وابن الحكم وشيطان الطاق وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم، وغيرهم.

السابعة: الذين يقولون: إن صفاته تعالى مخلوقة، كابن أعين وأخيه بكير وجماعة.

الثامنة: الذين يزعمون أن له تعالى مكانا، كالهشامين وصاحب الطاق.

التاسعة: الذين يزعمون أنه تعالى في جهة، كالأحولين وشيطان الطاق والميثمي.

العاشرة: الذين يقولون: إنه تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد تكونها، كزرارة وشيطان الطاق وجماعة.

الحادية عشرة: الذين كانوا يدعون أنهم من خيار شيعة أمير المؤمنين وخلص أحبته ومع ذلك يعصونه ولا يسمعون قوله ولا يجيبون دعوته ويخالفون أمره، وكان أمير المؤمنين لا يصدق قولهم ويشتكي منهم كثيرا، كما يدل عليه كلامه.

فمن ذلك ما كتبه إلى عبد الله بن عباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر: "أما بعد: فإن مصر قد فتحت، ومحمد بن أبي بكر قد استشهد، فعند الله نحسبه ولدا ناصحا وعاملا كادحا وسيفا قاطعا وركنا رافعا، وقد كنت حثثت الناس على لحاقه وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة ودعوتهم سرا وجهرا وعودا وبدءا، فمنهم الآتي كارها ومنهم المعتل كاذبا ومنهم القاعد خاذلا، أسأل الله تعالى أن يجعل منهم فرجا عاجلا، فوالله لولا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت ألا ألقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا".

ومن ذلك قوله في خطبة خطبها حين بلغه أن سفيان بن عوف -من أمراء معاوية- وردت خيله الأنبار وقابل من كان هناك من رعيته: "والله يميت القلب ويجلب الهم ما نرى من اجتماع هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا، حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم، وتفرون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم هذه كحمارة القيظ، أمهلنا يسبخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء، قلتم هذه صبارة القر، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، لكم حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم وأعرفكم معرفة".

ومن هذه الخطبة أيضا، "قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهام أنفاسا، فأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل أحد أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذرفت على الستين، لكن لا رأي لمن لا يطاع".

ومن ذلك قوله في خطبة أخرى: "أيها الناس المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء، يقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، دفاع ذي الدين المطول".

ومن ذلك قوله في هذه الخطبة أيضا، "المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الباخس، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل، وأصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، وما أوعد العدو بكم".

ومن ذلك قوله في خطبة أخرى له في استنفار الناس إلى أهل الشام: "أف لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا عن الآخرة عوضا؟ ومن الذل عن العز خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم، من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتعمهون وكأن قلوبكم مألوسة فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، ما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، بئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم، تكادون ولا تكيدون، وتنتقص أطرافكم ولا تمتغضون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون".

ومن ذلك قوله في خطبة أخرى له: "منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم، ما تنتصرون بنصركم ربكم، لا دين يجمعكم، ولا حمية تحميكم، أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا، فلا تسمعون إلي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثار، ولا، يبلغ منكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأشر وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما. يساقون إلى الموت وهم ينظرون".

ومن ذلك قوله في ذم أصحابه أيضا: "كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثياب المتداعية، إن حيصت من جانب تهتكت من جانب آخر، وكلما أطل عليكم منسر من مناسير الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانحجر انحجار الضبة في جحرها، والضبع في وجارها".

ومن ذلك قوله أيضا: "من رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل، إنكم والله لكثير في الباجات، قليل تحت الرايات".

وقد ذكر هذه الخطب صاحب نهج البلاغة في النهج، وكذا غيره من الإمامية وغيرهم.

وقال علي بن موسى بن طاوس سبط محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة: "إن عليا كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة فما أجابه إلا رجل أو رجلان، فتنفس الصعداء وقال: أين يقعان؟"، ثم قال ابن طاوس: "هؤلاء خذلوه مع اعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق وأن الذين ينازعونه على الباطل، وكان رضي الله تعالى عنه يداريهم ولكن لم تجده المداراة نفعا".

وقد سمع قوما من هؤلاء في مسجد الكوفة ينالون منه ويستخفون به، فأخذ بعضادتي الباب وأنشد قول كثير متمثلا به:

هنيئا مريئا غير داء مخامر ** لعزة من أعراضنا ما استحلت

يئس منهم حينئذ ودعا عليهم.

الثانية عشرة: الذين دعا عليهم أمير المؤمنين بقوله: "قاتلكم الله".

الثالثة عشرة: الذين ينكرون ما هو الحق عند جماهيرهم في تعيين الإمام وعدد الأئمة، كالناؤسية وغيرهم ممن تقدم ذكرهم.

الرابعة عشرة: الذين نهى الصادق وغيره من الأئمة عن متابعتهم ودعا عليهم وأظهر التبري منهم، كهشام بن الحكم وهشام بن سالم وصاحب الطاق وزرارة، كما رواه الكليني عن غير واحد من الأئمة.

الخامسة عشرة: الكذابون من رواة الآثار، كابن عياش الذي اعترفوا بأنه كذاب، وابن بابويه صاحب الرقعة من المتقدمين، والمرتضى من المتأخرين.

السادسة عشرة: الذين آذوا سبط المصطفى وابن البتول -صلى الله تعالى على جده وعلى أمه وعليه- بالقول والفعل، وخرجوا عليه، وأخذوا المصلى من تحته، وجنحوا إلى معاوية ونصروه، وحملوه على المحاربة والاستعداد لها، طمعا في الدنيا، وكانوا هؤلاء شيعته وشيعة أبيه، كما ذكر ذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، وكتب رؤساؤهم إلى معاوية سرا، وحثوه على سرعة المسير نحوهم، وتعهدوا له بالتسليم عند دنوه منهم والفتك بالإمام، كما ذكر في الفصول من كتب الإمامية.

السابعة عشرة: الذين كاتبوا السبط الشهيد الإمام الحسين رضي الله تعالى عنه وهم أكثر أهل الكوفة، فقد كتبوا إليه كتبا عديدة في توجهه إلى طرفهم، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته وآل الأمر إلى القتال خانه هؤلاء الفئة الضالة ولم ينصره أحد منهم مع كثرتهم، بل رجع أكثرهم مع الأعداء خوفا وطمعا، وكانوا سببا لشهادته وشهادة كثير ممن معه، وآذوه أكثر ممن آذى الأنبياء من الكفار، حتى مات الأطفال والصبيان الرضع عطشا، وأطافوا أهل البيت النبوي وذوات الخدر من الطاهرات العابدات القانتات في البلاد والقرى والفلوات، إلى غير ذلك من الأمور التي منها السماء تمور والقبائح التي تنكسر أسنان القلم عند ذكرها ويسود وجه القرطاس لدى سطرها. ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في نشر الخلائق تنفخ لابد أن ترد القيامة فاطم وقميصها بدم الحسين ملطخ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

الثامنة عشرة: من لا يثبت صانعا ولا يقر بنبوة ولا حشر ولا نشر، ويقع في الإسلام وأهله، كديك الجن ومن تبعه.

التاسعة عشرة: من يظهر الإسلام وهو من النصارى، كزكريا بن إبراهيم النصراني وغيره.

العشرون: من كذبه الصادق، وقال: "إنه يفتري علينا أهل البيت ويروي عنا الأكاذيب" كبيان المكنى بأبي أحمد، وغيره ممن تبعه.

الحادية والعشرون: من لم يوحد الله تعالى، وخالف الأئمة في العقيدة، كهشام بن سالم والميثمي وصاحب الطاق وغيرهم ممن ادعى أنه من خلص أصحاب الأئمة. روى الكليني عن إبراهيم بن محمد الخراز ومحمد بن حسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا وقلنا: إن هشام بن سالم وصاحب الطاق والميثمي يقولون: "إن الله تعالى أجوف إلى السرة والباقي صمد"، فخر لله ساجدا ثم قال: "سبحانك ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك".

الثانية والعشرون: من يروي عن الأئمة في التوحيد ما هم براء عنه، كهشام بن الحكم، يروي عن الباقر والصادق أنه تعالى جسم. روى الكليني عن علي بن أبي حمزة قال: قلت لأبي عبد الله: "سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم، أن الله تعالى جسم صمدي نوري، معرفته ضرورية، يمن بها على من يشاء من خلقه، فقال: سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو! ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، لا يحس ولا يجس ولا يحيط به شيء، وليس بجسم ولا بذي صورة، ولا به تخطيط ولا تحديد".

ومنهم من كذب بعض الأئمة في دعوى الإمامة، كبعض أصحاب الكاظم والرضا. ومنهم غير من ذكرنا مما يطول الكلام باستيفائهم.

فهؤلاء القوم أسلاف الرافضة الذين أخذوا عنهم المذهب. ولم يأخذوه ممن أثنى عليهم الكتاب، وبشرهم ربهم بجزيل الثواب، جنات تجري من تحتها الأنهار، ومقعد صدق في دار القرار، ومدحهم أمير المؤمنين، وقاتلوا معه أعداءه المارقين. فكيف يفلح قوم اتبعوا أرذل الأراذل واقتدوا بالأسافل! فالحذر الحذر ممن ابتدع وكفر! وهؤلاء كلهم أعداء الدين، وإخوان الشياطين، قد انتحلوا الضلال واستحقوا من الله العذاب والنكال، ليسوا بشيعة أهل البيت المطهرين عن الأرجاس، المبرئين عن وصمة الأدناس؛ بل هم جند إبليس اللعين، وخلفاء المفسدين الماردين. وشيعة أهل البيت إنما هم أهل الحق واليقين، الذين نصروا أمير المؤمنين، وأخذوا العلم منه ومن أولاده، أئمة الهدى والكاشفين الردى، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ورزقنا جل ثناؤه في جنات النعيم رؤياهم، بمنه وكرمه وإحسانه ونعمه.

الفصل الثامن في بيان أنه لا يمكن إثبات الدين المحمدي على أصول الرافضة

اعلم أن إثبات الأحكام الشرعية الأصولية والفروعية لا يمكن من أصول الرافضة ورواياتهم، بل ولا إثبات الملائكة ونبي من الأنبياء، ولا حشر ولا نشر، ولا عقاب ولا جزاء؛ لأن معتقدهم أن جميع الصحابة قد ارتدوا -والعياذ بالله تعالى- بزعمهم الفاسد واعتقادهم الكاسد.

روى سليم بن قيس الهلالي في كتاب وفاة النبي ﷺ عن ابن عباس عن أمير المؤمنين، وروى أيضا جمع عن الصادق أن الصحابة ارتدوا بعد وفاة النبي ﷺ إلا أربعة أنفس، وفي رواية عن الصادق: إلا ستة.

ولا يثبت مثل هذه الأمور برواية أربعة أو ستة، وإنما يثبت بالخبر المتواتر، ومن شرطه بلوغ جميع طبقاته حدا يمنع تواطئهم على الكذب.

وما رواه سائر الصحابة في ادعاء الرسالة وإظهار المعجزة على وفق الدعوى وإنزال الله تعالى القرآن لا يفيد شيئا؛ لأنه خبر جمع أجمعوا على نبذ وصية النبي ﷺ وعلى مخالفة أوامره ونواهيه، وعدم قبول خلافة من استخلفه عليهم، واتفقوا على قرآن محرف، قد نقص كثير من آياته وسوره، وتواطؤا على الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، كغسل الرجلين في الوضوء ومسح الخفين، وحكمهم بصحة خلافة من لم يستخلفه الرسول، واعتقادهم سنية ما ابتدعه وأحدثه خلفاؤهم، كصلاة التراويح وحرمة المتعة، وغير ذلك مما اعتقده أهل الزيغ في أصحاب رسول الله ﷺ، لا يحتج به لجواز أن يكون اتفاقهم على أمر النبوة مثل اتفاقهم على تلك الأمور. فإنه إذا أخبر جمع غير محصورين، بما يجوز توافقهم على الكذب فيه لغرض من الأغراض لا يكون ذلك الخبر متواترا من غير نكير، ولأنه يجوز أن يكون الراوي لإظهار المعجزة ونزول القرآن جمع مخصوص لا كل من رآه وآمن به، وخبر غيرهم بذلك موافقة لهم؛ لأنهم كانوا لا يبالون من الكذب، أو أن يكون اتفاقهم على ذلك لمصلحة دنيوية، فإن هؤلاء القوم زعموا أن قريشا سمعوا من الكهنة أن رجلا من قريش من أولاد هاشم بن عبد مناف، اسمه محمد واسم أبيه عبد الله، يدعي النبوة ويحارب من يخالفه ويغلب عليهم ويملك بلاد العرب وتدين له العرب وتخاف منه العجم، وأصحابه يغزون الروم وفارس ويغلبون عليهم فيملكون بلادهم وأموالهم ويسبون ذراريهم وأزواجهم ويفتح بعدهم أتباعهم بلاد الترك وبلاد الهند والسند، وكانت العرب تصدق الكهنة فيما يقولون، وقد سمعوا أيضا من اليهود أنهم يقولون: سيظهر رجل من قريش، يدعي النبوة، وليس من النبوة في شيء، ويستفحل أمره شيئا فشيئا، حتى تدين له العرب والعجم، ويستكينون له. فلما ظهر وادعى النبوة، تبعته جماعة، وأبت أخرى. ولما شاهدوا ما شاهدوا من استفحال أمره تبعه من أبى اتباعه أولا، ثم اتبعه بعض من لم يسمع من الفريقين بظهوره، حفظا لنفسه وصيانة لأمواله، ثم اتبعه من حاربه في مواطن كثيرة ولم يظفر عليه اضطرارا، ثم تبعه غير العرب من اليهود والنصارى ومنكري الشرائع والنبوات وعبدة الأوثان ونحوهم مداراة له، بناء على ما قيل في المثل السائر: "إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم" ولله در من قال:

ودارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما كنت في أرضهم

وكذلك توافقهم على أن القرآن تحدي به فلم يأت أحد من فحول الخطباء ومصاقع البلغاء بما يدانيه، فضلا عما يوازيه. إذ يجوز أن يكون أحد البلغاء من العرب العرباء قد أتى بمثله ولكنهم أخفوا ذلك لتلك المصلحة، وأوصى بعضهم بعضا بالاجتماع والاتفاق وترك الخلاف والشقاق. وأيضا يجوز أن يكون سماع الطبقة الثانية عن شرذمة قليلة أمكن تواطؤهم على الكذب، ولكنهم عزوا ما سمعوه من البعض إلى الكل لعدم التهمة، وروى عنهم جمع لا يحصى، وهكذا إلى المنتهى، إذ لم يعزو إليهم، ولكن ذاع ذلك الخبر في الطبقة الثالثة، وروى عنهم الطبقة الرابعة، وهلم جرا إلى زماننا هذا، فيكون هذا التواطؤ كتواطئ اليهود في روايتهم عن موسى أنه قال: "هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض"، وتواطىء النصارى عن عيسى عليه السلام أن رسالة ابن البشر قد ختمت قبل وأنه ابن الله.

وقول الرافضة: إنه لا يشترط العدد في التواتر، بل يحصل العلم بخبر أربعة إذا كان محفوفا بالقرائن، باطل. فإنه وإن لم يشترط العدد في التواتر على الأصح، لكنه اشترط أن يكون الرواة في كل طبقة جمعا يستحيل تواطؤهم على الكذب، وعدد الأربعة ونحوه يجوز تواطؤهم على الكذب، والقرائن الظنية لا يعول عليها ولا يحصل منها العلم بصدق الخبر، فإن من كان مريضا في دار، فأخبر أربعة أشخاص بموته إنسانا، ثم سمع من تلك الدار صوت البكاء، لا يحصل العلم بموته، لاحتمال أن يكون البكاء لاشتداد مرضه وإغمائه، أو موت بعض أهل الدار فجأة، أو بسبب التردي، أو نحو ذلك. وقد تفردت الرافضة بهذا القول، مع أنه لم يقل به أحد من أولي النهى، وذلك دعوى ليس لهم دليل عليه.

فقد تبين بما ذكر أن هؤلاء الفئة الضالة، ليسوا على شيء، وقد بنوا مذهبهم على شفا جرف هار.

(الأدلة عند الشيعة)

وأقول زيادة على ما ذكر المؤلف ملخصا ذلك من ترجمة التحفة الاثني عشرية: اعلم أن الأدلة عند الشيعة كتاب وخبر وإجماع وعقل.

أما الكتاب الذي يعتمد عليه في الاستدلال، فهو المأخوذ من الأئمة المعصومين، ولم يوجد عندهم. وأما الذي في الأيدي، فزعموا فيه التحريف والإسقاط -والعياذ بالله- كما في الكافي وغيره، فلا اعتماد على الاستدلال به لجواز النسخ بما سقط وتخصيص العام، ونحو ذلك. ونقلته عندهم كنقلة التوراة والإنجيل، فسقة فجرة منافقين مداهنين - معاذ الله تعالى من ذلك.

وأما الخبر فلا بد له من ناقل، فهو إما من الشيعة أو من غيرهم. ولا عبرة بغيرهم لأن الصدر الأول منهم ارتدوا، والعياذ بالله تعالى. وأما الشيعة فلهم اختلاف فاحش فيما بينهم في أصل الإمامة وتعيين الإمام، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلا بالخبر، لأن الكتاب ساكت عن المقصود بحيث يفحم المخالف. وأيضا قد عرفت حال الكتاب، فلم يبق إلا الخبر. فلو توقف ثبوت الخبر وحجيته على ثبوت ذلك القول لزم الدور. وأيضا كون الخبر حجة، إما لأنه قول المعصوم، أو وصل بواسطة المعصوم من المعصوم الآخر؛ وعصمة أحد بعينه لا تثبت إلا بخبر، والكتاب حاله معلوم عندهم، والعقل عاجز، والمعجزة على تقدير الصدور أيضا موقوفة على الخبر، لأن مشاهدة التحدي ورؤية المعجزة لم تتيسر لكل. والإجماع أيضا إنما يكون حجة بدخول المعصوم فيه، ومع هذا في نقل إجماع الغائبين لا بد من الخبر. وفي إثبات عصمة رجل بعينه بخبره، أو بخبر المعصوم الآخر الذي وصل الخبر بواسطته دور صريح. وأيضا كون الخبر حجة موقوف على نبوة نبي وإمامة إمام، وإذا لم يثبت بعد أصله كيف يثبت فرعه. والتواتر عندهم ساقط عن حيز الاعتبار، لأن كتمان الحق والزور قد وقع من عدد التواتر، وخبر الآحاد غير معتبر في مثل هذه المطالب بالإجماع، فالاستدلال بالخبر مطلقا غير ممكن.

وأما الإجماع فبطلانه ظاهر؛ لأن ثبوت الإجماع فرع ثبوت النبوة والإمامة، ولو لم يثبتا كيف يثبت؟ وأيضا كون الإجماع حجة ليس بالأصالة، بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيته على قول المعصوم، وقد علمت ما علمت. وأيضا دخول المعصوم في الإجماع وموافقة قوله لأقوال سائر الأئمة لا يثبت إلا بالخبر، واللازم لازم، فتأمل.

وأما العقل فالتمسك به إما في الشرعيات أو غيرها. أما في الشرعيات فلا يمكن الاستدلال به عندهم، لأنهم منكرون أصل القياس، ولا يعلمونه حجة. وأما في غير الشرعيات فيتوقفون على تجريده عن شوائب الوهم والإلف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب. وهذه من الأمور التي لا تحصل إلا بإرشاد الإمام المعصوم، إذ قد كثر التخالف والتزاحم في العقول وترجيحاتها، فلابد من ترجيح معصوم، ولا يكون إلا نبيا أو إماما. وإذا لم يثبت هذا لم يثبت ذاك. مع أن الكلام في الدلائل الشرعية والأمور الدينية، فإثباتها بالعقل الصرف لا يمكن لأن العقل عاجز عن معرفتها تفصيلا بالإجماع. نعم، يمكن معرفتها للعقل إذا كان مستمدا من الشريعة وقد كان أصل الحكم قد أخذ من الشارع، فحينئذ يقيس شيئا آخر على ذلك الأصل. ولكن لما كان القياس عندهم باطل لم يبق للعقل مطلقا في الأمور الشرعية دخل، لا سيما في قواعد الشرع وكلياته، فإن للعقل فيها ترددا واضطرابا. وإذا كان حال العقل كذلك، ففي أي دليل يستدل؟ انتهى.

وأما أهل السنة فلا يرد عليهم ما ورد على الشيعة على ما لا يخفى، لأن الصحابة عندهم كلهم عدول، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

الفصل التاسع في بيان من يدعي كل فرقة من الرافضة أخذ المذهب عنه وإبطاله

اعلم أن جميع فرق الرافضة سوى الغلاة يدعون أنهم يروون أصول الدين وأحكام الشريعة عن أهل البيت:

أما الكيسانية فيزعمون أنهم يروون عن علي وبنيه السبطين ومحمد بن الحنفية، وعن أبي هاشم بن محمد بن علي، أو عن علي وابنه محمد وولده.

وأما الزيدية فيزعمون أنهم يروون عن علي وولديه السبطين، وعن زين العابدين السجاد وعن ابنه زيد ويحيى بن زيد.

وأما الباقرية فيزعمون أنهم يروون عن خمسة: علي وولديه والسجاد والباقر.

وأما الناوسية فيزعمون أنهم يروون عن ستة: الخمسة المذكورة وجعفر بن محمد الصادق.

وأما المباركية من الإسماعيلية فيزعمون أنهم يروون عن سبعة: الستة المذكورة وإسماعيل.

وأما القرمطية فيزعمون أنهم يروون عن ثمانية: السبعة المذكورة ومحمد بن إسماعيل.

وأما السمطية فيزعمون أنهم يروون عن اثني عشر: عن الثمانية المذكورة ومحمد وموسى الكاظم وعبد الله وإسحاق أبناء الصادق.

وأما المهدوية فيزعمون أنهم يروون عن اثنين وعشرين رجلا. وقد تقدم ذكرهم في الفصل الثاني. وهؤلاء يزعمون أن أئمتهم معصومون. قال أبو محمد نجم الدين عمارة بن علي بن زيد المدحجي الشاعر المشهور في قصيدته الميمية التي يمدح بها الفائز بن الظافر ووزيره [الطلائع] بن زرنك:

أقسمت بالفائز المعصوم معتقدا فوز النجاة فاجر البر في القسم

وأئمتهم يدعون أيضا أنهم معصومون، ويدعون علم الغيب والعلوم الغريبة من الكيمياء وغيرها.

وأما النزارية من المهدوية فيزعمون أنهم يروون عن ثمانية عشر رجلا: أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المستنصر.

وأما الأفطحية فيزعمون أنهم يروون عن سبعة: علي وولديه والسجاد والباقر والصادق وابنه عبد الله.

وأما الممطورية فيزعمون أنهم يروون عن سبعة أيضا: الستة المذكورة، وهم أولاد موسى بن جعفر، والكاظم.

وأما الفاطمية والقطعية أيضا فيزعمون أنهم يروون عن هؤلاء السبعة.

وأما الاثنا عشرية من الإمامية فيزعمون أنهم يروون عن اثني عشر رجلا: الستة المذكورة وعلي بن موسى الرضا وابنه محمد التقي وولده علي النقي وابنه الحسن العسكري وولده المهدي.

وأما النصيرية فيزعمون أنهم يروون عن ثلاثة عشر رجلا: هؤلاء المذكورون وزيد بن علي أخي الباقر.

ولا دليل لهم على ما ادعوه، بل كله باطل، لأن صدق كل فرقة يقتضي كذب الأخرى، فلا يحصل من أخبارهم يقين ولا ظن.

أما اليقين فلأن كل فرقة من الفرق الرافضة لم تبلغ حد الكثرة في العصر الأول، بل وفي أكثر العصور المتأخرة، فضلا عن أن تبلغ حد التواتر. ولو تواتر لم ينكر [زيد] على الأحول، ولم ينكر بعض أصحاب الأئمة إمامة صاحبه، ولم تختلف الإمامية في عدد الأئمة، لأن كل فرقة تدعي التواتر.

وأما عدم حصول الظن فلكثرة الاختلاف وتكذيب بعضهم بعضا، ولأن رواة أخبارهم جماعة لا تقبل روايتهم؛ لأن منهم مرتكب الكبيرة، وهم الذين اشتكى منهم أمير المؤمنين لأنهم لا يطيعون أمره ولا يسمعون قوله. ومنهم الفاسق بعمل الجوارح. ومنهم فاسد المذهب، ومنهم الوضاع الكذاب، ومنهم الجهلة الضعفاء، ومنهم من اختلف في توثيقه، ومنهم من تعارضت الأخبار في جرحه وتعديله ولا مرجح لأحد الخبرين على الآخر، وهم الأكثرون -كما سيجيء إن شاء الله تعالى- ومنهم المجسمة، ومنهم الراوي عن الخطوط والرقاع المزورة، وكل من هؤلاء لا تقبل روايته.

أما أخبار غير من روى عن الخطوط فظاهر أنها لا تقبل. وأما الراوي عن الخطوط، فلأن الخط يشبه الخط بحيث لا يفرق بينهما، وربما يقلد الماهر في فن الكتابة خط كاتب آخر فيكتب مثل خطه بحيث لا يتميز الخطان.

وأما الرقاع فلا يرتاب عاقل أنها مزورة، ولا يصدق بها إلا الأحمق. والعجب من الرافضة أنهم سموا صاحب الرقاع بالصدوق! اللهم إلا أن يكون من تسمية الشيء باسم ضده. وهو وإن كان يظهر الإسلام غير أنه كان كافرا في نفس الأمر، وكان يزعم أنه كان يكتب مسألة في رقعة، فيضعها في ثقب شجرة ليلا، فيكتب الجواب عنها المهدي صاحب الزمان. وهذه الرقاع عند الشيعة لها محل عظيم وموقع جسيم. فتبًّا لقوم أثبتوا أحكام دينهم بمثل هذه الترهات، واستنبطوا الحلال والحرام من نظائر هذه الخزعبلات. كلا إنها لا تروج إلا على من أعمى الله تعالى بصيرته وطبع على قلبه وأباد فطنته. ومع ذلك فهم لا يصغون للحق ولا يعون. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

الفصل العاشر في بيان اختلاف الرافضة في الإمامة وتعيين الأئمة

اعلم أن الرافضة اختلفوا في الإمامة وتعيين الأئمة:

أما الإمامية فذهبت الغلاة منهم إلى أن الإمامة هي الحكومة وإجراء الأحكام من الأوامر والنواهي.

وذهب غيرهم من الفرق إلى أن خلافة النبي في أمر الدين والدنيا.

وأما تعيين الأئمة:

فذهبت فرقة من الغلاة إلى أن الآلهة هم الأئمة، واختلفوا في تعيينهم.

فذهبت فرقة منهم إلى أن أولهم علي، أو محمد ثم علي، ثم الحسن ثم الحسين، ثم من صلح من أولاد الحسين إلى جعفر بن محمد، وهو الإله الأصغر، ونوابهم من صلح من أبنائه.

وذهبت فرقة إلى أن الإمام في هذه الأمة محمد وعلي، وهما إلهان، ونوابهما من صلح من أولاد علي.

وذهبت السبائية والذمية إلى أن الإمام هو علي، وهو إله، ثم الإمام بعد عروجه إلى السماء ولداه، ثم من صلح من أولاد الحسين.

وذهبت الحلولية منهم إلى أن الإمام من حل الله تعالى فيه. وقد تقدم ذكر اختلافهم في تعيينهم.

واختلف باقي الفرق في تعيين الأئمة اختلافا كثيرا:

فذهبت فرقة من الكيسانية إلى أن الإمام بعد النبي علي ثم ولده محمد.

وقالت فرقة منهم: إن الإمام بعده الحسن ثم الحسين ثم محمد.

وروى كل فرقة عمن زعمه إماما أخبارا في أحكام الشريعة وادعوا التواتر لها.

وروت الفرقة الأولى أن محمدا ادعى الإمامة بعد أبيه وأن أباه قد نص على إمامته بعده.

وروت الفرقة الثانية أن أباه نص على إمامة الحسن ثم الحسين ثم محمد، وزعموا أن محمدا فقد الإمامة بعد شهادة أخيه الحسين وأظهر الخوارق على وفق دعواه.

وروت الإمامية أيضا أنه ادعى الإمامة لكنه رجع عن دعواه، واعترف بإمامة ابن أخيه علي بن الحسين.

روى الراوندي في معجزات السجاد عن حسين بن أبي العلاء وأبو المعز حميد بن المثنى جميعا عن أبي نصير عن أبي عبد الله قال: جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين قال: يا علي، ألست تقر أني إمام عليك؟ فقال: يا عم، لو علمت ذلك ما خالفتك، وأن طاعتي عليك وعلى الخلق مفروضة، يا عم، أما علمت أني وصي وابن وصي؟ وتشاجرا ساعة، فقال علي بن الحسين: بمن ترضى حتى يكون بيننا حكما؟ فقال محمد: بمن شئت، فقال: أترضى أن يكون بيننا الحجر الأسود؟ فقال: سبحان الله أدعوك إلى الناس وتدعونني إلى حجر لا يتكلم! قال علي: بلى يتكلم، أما علمت أنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن أتاه بالموافاة؟ فندنو أنا وأنت، فندعو الله عز وجل أن ينطقه لنا أينا حجة الله على خلقه؟ فانطلقا وصليا عند مقام إبراهيم، ودنوا من الحجر الأسود، وقد كان ابن الحنفية قال: لئن لم يجبك إلى ما دعوتني إليه إنك إذا لمن الظالمين، فقال علي لمحمد: تقدم يا عم إليه فإنك أسن مني، فقال محمد للحجر: أسألك بحرمة الله تعالى وبحرمة رسوله ﷺ وبحرمة كل مؤمن إن كنت تعلم أني حجة الله على علي بن الحسين، إلا نطقت بالحق وبين لنا ذلك، فلم يجبه، ثم قال محمد لعلي: تقدم فاسأله، فتقدم علي فتكلم بكلام خفي لا يفهم، ثم قال: أسألك بحرمة الله تعالى وبحرمة رسوله ﷺ وبحرمة علي أمير المؤمنين وبحرمة الحسن وبحرمة الحسين وفاطمة بنت محمد، إن كنت تعلم أني حجة الله على عمي إلا نطقت بذلك وبينه لنا حتى يرجع عن رأيه، فقال الحجر بلسان عربي مبين: يا محمد بن علي، اسمع وأطع لعلي بن الحسين، فإنه حجة الله تعالى على خلقه، فقال ابن الحنفية عند ذلك: سمعت وأطعت وسلمت. انتهى.

والكيسانية يصدقون الدعوى وينكرون الشهادة ويزعمون أن الأمر بالعكس. ويروون عن محمد من الخوارق ما لا يكاد يضبط. وقالوا: الإمام بعد محمد ولده أبو هاشم، واختلف بعده كما سبق.

وذهبت الزيدية إلى أن الإمام بعد الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنهم- وروى عنه وعن أبيه وجده أخبارا. وادعوا في بعض تلك الأخبار التواتر، كمسح الرجلين في الوضوء. وأنكر الإمام زيد معتقدات سائر الإمامية في الإمام، كما في رواية الزيدية عنه. وروت الإمامية بعض تلك الأخبار أيضا. من ذلك ما رواه الكليني عن هشام بن الحكم، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

وذهبت الباقرية إلى أن الإمام بعد علي ابنه الحسن، ثم أخوه الحسين، ثم ولده علي، ثم محمد بن علي الباقر، وهو حي لكنه مختف.

وذهبت الناوسية إلى أن الإمام بعد الباقر ولده عبد الله بن جعفر الصادق وأنه لم يمت، ولا يموتون مدى الدهر حتى يظهر أمره، وهو القائم المنتظر والمهدي الموعود، ورووا عن الصادق فيه أخبارا وادعوا تواترها، منها: "لو رأيتم رأسي هدهد عليكم من هذا الجبل فلا تصدقوا، فإني صاحبكم صاحب السنين".

وذهبت المهدوية من الإسماعيلية إلى أن الإمام بعد الصادق ولده إسماعيل بنص الصادق عليه، ثم أولاده من غير تعيين عدد.

وذهبت المباركية منهم إلى أن إسماعيل بن جعفر هو القائم المنتظر والمهدي الموعود.

وذهبت القرمطية منهم إلى أن الإمام بعد إسماعيل ولده محمد، وهو المهدي.

وذهبت السمطية إلى أن الإمام بعد إسماعيل أخوه محمد، ثم أخوه موسى، ثم أخوه عبد الله، ثم أخوه إسحاق، ثم الإمامة في ولدهم.

وزعمت الأفطحية أن الإمام بعد الصادق عبد الله بن جعفر، أخو إسماعيل من أبيه وأمه، وكانت أمهما فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأنه مات، ولكنه سيرجع بعد موته إلى الدنيا.

وذهبت الموسوية إلى أن الإمام بعد الصادق ولده موسى، بنص الصادق عليه، وهو خاتم الأئمة.

وذهبت الرجعية منهم إلى أنه مات، ولكنه يرجع بعد موته.

وذهبت الممطورية منهم إلى أنه حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره، وهو القائم المنتظر، ورووا عن الصادق أنه قال: "سابعكم قائمكم، وهو سمي صاحب التوراة".

وقالت الاثنا عشرية: الإمام بعد موسى ابنه الرضا، ثم ابنه محمد التقي، ثم ولده علي النقي، [ثم ابنه الحسن العسكري]، ثم ابنه محمد بن الحسن العسكري، وهو المهدي الموعود. وزعموا أنه حي مختف من خوف الأعداء، فإنه يخرج من السرداب بسر من رأى.

وذهب بعضهم إلى أن الإمام بعد الحسن جعفر بن علي أخو الحسن بن علي العسكري، وقالوا: لا عقب للعسكري، وقال بعضهم: كان له ولد، ولكنه مات صغيرا في حياة أبيه.

روى الكليني عن زرارة بن أعين عن أبي عبد الله قال: "لا بد للغلام من غيبة، قلت: ولم؟ قال: يخاف، قلت: وما يخاف؟ فأومأ بيده إلى بطنه. فهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته: فمنهم من يقول: حمل، ومنهم من يقول: مات أبوه ولم يخلف، ومنهم من يقول: ولد قبل موت أبيه بسنتين".

وكل ذلك من أكاذيبهم، كيف وقد روى الكليني وغيره بطرق متنوعة أن الأئمة لا يموتون إلا باختيارهم، وأنهم يعلمون علم ما كان وما يكون.

وكل من هؤلاء الفرق رووا عن أئمتهم أخبارا لإثبات مذهبهم في عدد الأئمة وتعيينهم. فيزعم كل فرقة منهم أن إمامهم ادعى الإمامة وأظهر المعجزة على وفق دعواه. ويدعون التواتر في أخبارهم عن الإمامة. وكل ذلك كذب. ولو تواتر خبر فرقة منهم، لم ينكر محمد [بن] علي إمامة ابن أخيه علي بن الحسين، ولم ينكر زيد أصل الإمامة، ولم يشدد النكير على الأحول هذا. وهذه الاختلافات مع عدم مرجح تدل دلالة ظاهرة على أن مذهب الكل باطل، وليس لهم على من ادعاه كل سلطان. وذلك ظاهر. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الفصل الحادي عشر في بيان كثرة اختلاف الشيعة في أعداد الأئمة وشروط الإمامة

اعلم أن الشيعة اختلفت اختلافا كثيرا في تعداد الأئمة وشروط الإمامة من العصمة والنص وتفضيلهم على الأنبياء.

أما اختلافهم في العد:

فذهبت الزيدية والكيسانية والإسماعيلية غير المباركية منهم والقرمطية والسبعية إلى أن الأئمة غير محصورين في عدد معين. فذهبت المباركية والسبعية إلى أنهم سبعة. والقرمطية إلى أنهم ستة. وذهبت الإمامية إلى أن الأئمة محصورون، كالفرق الثلاثة من الإسماعيلية، ولكنهم اختلفوا في العدد: فمنهم من قال: خمسة. ومنهم من قال: سبعة. ومنهم من قال: ثمانية. ومنهم من قال: اثنا عشر. ومنهم من قال: ثلاثة عشر، كما مر غير مرة.

وأما اختلافهم في الشروط:

فذهبت الزيدية إلى أن العصمة ليست بشرط في الإمامة.

وذهبت الإسماعيلية غير النزارية إلى الاشتراط.

وأما النزارية فلا يثبتونها ولا ينفون، ويزعمون أن الإمام غير مكلف بالفروع، وكل ما يفعله الإمام من المعاصي فهو جائز له ولا يسأل عما يفعل، والأحكام الشرعية مفوضة إليه، فإن شاء أسقط التكاليف عن المكلفين، وإن شاء كلفهم بها، ولا جناح عليه فيما يفعله. وكان إظهار سلفهم العبادة والورع مكيدة منهم على الناس ليوقعوهم في مهاوي الردى.

وأما اختلافهم في النص: فالكيسانية والإسماعيلية والبترية من الزيدية يشترطون النص، لكن الكيسانية لم يشترطوا معه شيئا آخر، والبترية يشترطون معه الدعوة وإخبار رجلين أو أكثر من خيار المسلمين.

وذهبت الإمامية إلى أن شرط الإمامة أحد الأمرين: النص أو دعوى الإمامة، مع إظهار المعجزة الدالة على صدق دعواه.

وذهبت الصالحية من الزيدية إلى أنه يشترط في تعيين الإمام أحد الأمرين: إما النص من الله تعالى ورسوله ﷺ والإمام السابق، أو اختبار أهل الحل والعقد من الأمة وبيعتهم من يصلح للإمامة. وهو مذهب أهل السنة والمعتزلة. والذي يصلح للإمامة من كان فاطميا أو قرشيا عند غيرهم مجتهدا في الفروع والأصول ذا رأي وتدبير في أمر الحروب وسد الثغور شجاعا عدلا. وذهبت الجارودية منهم إلى أنه يشترط في المتغلب كونه فاطميا شجاعا عالما بأمور الدين.

وأما اختلافهم في التفضيل: فذهبت الزيدية والكيسانية والإسماعيلية إلى عدم التفضيل، كما هو مذهب سائر فرق الإسلامية.

والإمامية اختلفوا بعد اتفاقهم على أن الأئمة أفضل من الرسل غير أولي العزم. وأهل البيت ينكرون ذلك.

الفصل الثاني عشر في بيان اختلاف الشيعة فيما رووه عن أهل البيت

اعلم أن الكيسانية رووا عن أئمتهم ما يخالف ما رواه الآخرون في الفروع، مع أن ما رووه عن محمد بن علي بن أبي طالب وولده أبي هاشم أكثرها كذب باتفاق سائر فرق الشيعة.

وأن الزيدية يروون عن الأئمة الأربعة: علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين كثيرا من الأحكام، بخلاف ما يرويه غيرهم من الشيعة عنهم، كالقياس؛ فإنهم رووا جوازه، وروى سائر فرق الشيعة إلا النصيرية عدمه.

وأن الإسماعيلية غير النزارية اختلفوا في الرواية اختلاف سائر فرق الإمامية.

أما النزارية فقد درسوا الأحكام الشرعية وأسقطوا التكاليف وأباحوا المحرمات، فهم كالأنعام أو أضل سبيلا.

وأما الإمامية فقد اختلفوا في روايتهم اختلافا كثيرا. وقد صرح شيخ الطائفة محمد بن الحسن في تهذيب الأحكام بكثرة اختلاف رؤساء القوم فقال: لا يوجد خبر إلا وفي مقابلته خبر آخر يضاده في الحكم. ثم قال: وقد اتفق القوم أن هذا لا يجوز أن يتعبد به العاقل ولا أن يعمل به اللبيب. ولذا قد رجع خلق كثير وجم غفير من العقلاء عن مذهب الإمامية بعد الاطلاع على ذلك.

وقد حكى أبو جعفر الطوسي في التهذيب عن شيخه أبي عبد الله محمد بن النعمان البغدادي - المشهور عندهم بالمفيد - أن أبا الحسن الهاروني كان يعتقد مذهب الشيعة ويدين بطريق الإمامية، فرجع عنه لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره.

والمذهب الذي أسس على الأخبار الكاذبة باطل من غير نكير.

انظر إلى الاختلاف الجاري بين الفرقة الاثني عشرية: فقد روى جمع منهم بإسناد صحيح عندهم أن خروج المذي ينقض الوضوء، وروى آخرون بإسناد صحيح أيضا أنه لا ينقض الوضوء. وروى جمع أنه يجب سجدتا السهو في الصلاة، وأن الأئمة كانوا يسجدون للسهو، وروى آخرون أنه لا يجوز السجود للسهو. وروى بعضهم أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، وروى آخرون أنه لا ينقض. وروى بعضهم عدم جواز عبث المصلي ببعض أجزاء بدنه، وروى آخرون جوازه حتى بالمذاكير. إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا يحيط بها الإحصاء.

وقد تصدى محمد بن الحسن الطوسي للجمع بين الأخبار المتعارضة في التهذيب والاستبصار، فخبط خبط عشواء وركب متن عمياء، فأتى بالتكلفات البعيدة والتعسفات الغير السديدة، كحمل ماء الورد على الماء الذي فيه الورد. واضطر في التوفيق بين كثير من الأخبار المتضادة إلى التقية، التي هي عكاز أعمى وأوهى من نسج العنكبوت. ومن العجيب أنه حمل بعض الأخبار على التقية، مع أن المخالف لم يذهب إلى ما دلت عليه أو ذهب إليه جماعة شاذة! وأعجب منه أنه حمل جزء الخبر على التقية، وأهمل الجزء الآخر منه مع أنه أيضا يخالف مذهب أهل السنة! كما حمل تخليل أصابع الرجلين فقط على التقية في أمره ﷺ بغسل الوجه مرتين وبتخليل أصابع الرجلين حين غسلهما، مع أن غسل الوجه مرتين مخالف أيضا لمذهب أهل السنة.

وسيجيء إن شاء الله إبطال التقية بدلائل يقينية، بحيث لا تبقي للخصم كلاما، وتوجه عليه من الطعن سهاما.

وقد حملوا بعض الأدعية الصادرة عن أهل البيت على معان لا يقصدها الفصيح ومقاصد غير قابلة للتصحيح، من ذلك: ما حملوا قول السجاد رضي الله تعالى عنه: "إلهي ظلمت وعصيت فتوانيت" على معنى: إلهي إن شيعتنا ظلموا وعصوا وتوانوا، لكنهم رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة، فنحن نضيفهم في الدعاء إلى أنفسنا لأنهم منا وهم موالينا. وإنما اضطروا إلى هذا التأويل للقول بعصمة الأئمة؛ لأن هذا الكلام على تقدير صدقه وكذبه ينافي العصمة، مع أنه تأويل يبعد أن يقصده مثل هؤلاء الأئمة الأعلام والفصحاء الكرام، فقد حمل فيه ياء المتكلم الواحد على الجمع، والتكلم على الغيبة، وإضافة فعل المتكلم إلى الغير. على أنا لو فرضنا صحة هذا التأويل الذي ليس له دليل؛ فما الذي أوجب ترك التصريح والمعنى الصحيح؟ وأي ضرر لو قال: إلهي إن شيعتنا وموالينا وأحب الخلق إلينا قد ظلموا أنفسهم، فاغفر لهم وارحمهم، وارفع درجتهم في الجنة، ونحو ذلك؟ مع أن التكلم بمثل ذلك الكلام موجب لإضلال الأنام؛ لأنه من أوضح الدلائل على عدم عصمة القائل. والتأويل المذكور بعيد عن الأذهان، لا يتبادر إلى أفهام ذوي العرفان. نسأل الله تعالى الهداية والعصمة من الضلالة والغواية.

الفصل الثالث عشر في أقسام أخبار الشيعة

اعلم أن أقسام الخبر عند الشيعة أربعة: الصحيح والحسن والموثق والضعيف.

فالصحيح هو ما اتصلت روايته إلى المعصوم بعدل إمامي. فيدخل فيه ما اعتراه إرسال وقطع. وزاد بعض المتأخرين أن يكون الاتصال بالعدل المذكور في جميع الطبقات. ولكن اعترف بإطلاق الصحيح على ما كان رجال طريقه عدولا إمامية، فإنهم يقولون كثيرا: روى ابن عمير في الصحيح كذا، وفي صحيح ابن عمير كذا، مع كون الرواية المنقولة كذلك مرسلة. ووقع لهم في المقطوع مثل ذلك كثيرا.

ويطلقون الصحيح أيضا على ما كان بعض رجاله من لا يعلم حاله، كالحسين بن الحسن بن أبان. نص عليه الحلي في المنتهى.

قال ابن أبي داود في الخلاصة: إن طريق الفقيه إلى معاوية بن ميسرة وإلى عابد الأخمسي وإلى خالد بن النجيح وإلى عبد الأعلى صحيحة. مع أن الثلاثة من الأربعة لم ينص عليهم بتوثيق ولا غيره، والرابع لم يوثق.

ويطلقون الصحيح أيضا على ما رواه من يكذّب بعض الأئمة في دعوى الإمامة، كالحسن بن سماعة، ومن ينكر إمامة الإمام الحق ويقول بإمامة غيره، مثل أبان بن عثمان وعلي بن فضالة وعبد الله بن بكير؛ فإنه قد وقع الإجماع على تصحيح ما يصح عن أبان بن عثمان مع كونه أفطحيا. ويطلقونه أيضا على ما صح عن علي بن فضالة وعبد الله بن بكير، وقد وثقهما علماء الشيعة غاية التوثيق. قال ابن المطهر في خلاصة الأقوال: "إن عليا بن فضالة كان فقيها بالكوفة عارفا بالحديث، مع أنه كان فاسد المذهب"، ويقتضي أن يكون مثل هذا الخبر من الموثق حسبما تقتضيه قواعدهم، فإدخاله في الصحيح ليس بصحيح.

ويطلقون الصحيح أيضا على خبر من دعا عليه المعصوم بالشر لفساد عقيدته، أو شهد عليه ببطلان مذهبه، أو أظهر البراءة منه، وعلى خبر من اشتهر بالكذب واعترف به، أو لم ينته عما نهاه عنه إمامه، أو خالف الأئمة في العقيدة. فإن الكليني وغيره روى عن الأحولين وصاحب الطاق وابن سالم وزرارة أخبارا كثيرة يعتمد عليها.

ويطلقونه أيضا على ما في الرقاع التي أظهرها ابن بابويه القمي، وعلى ما في الخطوط التي يزعمون أنها خطوط الأئمة؛ بل إنهم يرجحون هذا القسم على ما روي بالإسناد الصحيح عندهم، كما نص عليه ابن بابويه، وعلى ما رواه من ضعفوه، كمحمد بن سنان، فإنهم ضعفوه واعتمدوا على خبره، وعلى ما رواه اثنا عشري عمن يدعي السفارة بين الشيعة والحجة، بإسناد رجاله رجال الصحيح عندهم. إلى غير ذلك.

والحسن: ما اتصلت روايته إلى معصوم بإمامي ممدوح، من غير نص على عدالته، سواء أكان جميع رواة طريقه ممدوحا أو بعضها، بأن كان أحدهم إماميا ممدوحا، والباقي من الطريق رجاله رجال الصحيح.

وهذا التعريف أيضا غير مانع؛ لأنه صادق على ما لحقه إرسال أو قطع، وزاد فيه بعض المتأخرين منهم ما زاد في الصحيح، ولكنه اعترف بإطلاق الحسن على المرسل والمقطوع، فزيادة هذا القيد في التعريفين مما لا طائل تحتها، بل إن هذا القيد مضر، حيث صار التعريف بسببه غير جامع.

وقد ذكر جماعة من فقهاء الشيعة أن رواية زرارة في مفسد الحج إذا قضاه من الحسن، مع أنها مقطوعة. ومثلها كثير في أخبارهم كما لا يخفى على من تصفح كتبهم المؤلفة في الأخبار.

ويطلقون الحسن أيضا على ما كان بعض رجاله من المستورين ولم يعرف بقادح ولا مادح. قال ابن المطهر: طريق الفقيه إلى منذر حسن، مع أنه لم يعرف حاله. ومثله طريق أبي إدريس بن زيد. وعلى ما كان بعض رجاله فاسد المذهب، مثل سماعة بن مهران، مع أنه واقفي.

والموثق ويقال له القوي: وهو ما دخل في طريقه من نص على توثيقه مع فساد عقيدته، ولم يشتمل باقي الطريق على ضعف.

وقد أطلقوا الموثق على الضعيف، كالخبر الذي رواه السكوني عن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين - كما سيأتي - فإن السكوني ضعيف عندهم.

وقد يطلق القوي على ما رواه إمامي غير ممدوح ولا مذموم، كنوح بن دراج وابن عمارة وأحمد بن عبد الله بن جعفر الحميري وغيرهم، وهم كثيرون.

والضعيف: هو ما اشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال.

وأجمع على العمل بالصحيح من جواز العمل بخبر الآحاد من غير نكير، وربما أجمعوا على ترك العمل به، وحكموا بشذوذه مع أنه يؤيده أخبار أخر. مثل ما رواه سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن الكاظم قال: سألته عن بنات ابن وجدة فقال: للجدة السدس، والباقي لبنات الابن. فإنه صحيح عندهم، وقد رواه غير واحد منهم من طرق أخر، منها ما رواه علي بن الحسين بن رفاط رفعه إلى أبي عبد الله قال: "الجدة لها السدس مع ابنتها ومع ابنها". ومنها ما رواه زرارة عن أبي جعفر قال: "إن رسول الله ﷺ أطعم الجدة السدس، ولم يفرض الله تعالى لها شيئا"، وهذا الخبر موثق. ومنها ما رواه إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله في أبوين وجدة لأم قال: "للأم السدس، وللجدة السدس، وما بقي وهو الثلثان للأب".

واختلفوا في العمل بالحسن: فمنهم من عمل به مطلقا كالصحيح، منهم شيخ الطائفة؛ ومنهم من منعه، وهم الأكثرون؛ ومنهم من فصل، فجوزوا العمل به وبالموثق وبالضعيف أيضا إذا كان العمل بمضمونه مشتهرا بين أصحابهم، وقدموه على الصحيح الذي لا يكون العمل بمضمونه مشتهرا، وإلا فلا يجوز. وإليه ذهب فخر الدين بن جمال بن المطهر الحلي كما ذكره في المعتبر وتلميذه شيخهم المقتول محمد بن مكي كما ذكره في الذكرى.

واختلفوا في العمل بالموثق: فذهب الأكثر إلى منع جواز العمل به مطلقا، مع الحكم بالموثق الذي في طريقه، مثل ابن بكير وابن فضال كما سبق أنه من الصحيح. وجوزه الآخرون، منهم فخر الدين وتلميذه.

وجوز المتأخرون العمل بالضعيف إذا اعتضد بالشهرة.

وجوز شيخ الطائفة العمل بالخبر الذي اشتمل طريقه على فاسق، سواء اعتضد بالشهرة أو لا، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

وجوز الكليني رواية من يعدونه من صحب بعض الأئمة ولم يعترف بالإمامة، مع أنهم يكفرون المنكر.

الفصل الرابع عشر في بيان احتجاج الرافضة بالأخبار التي لا يجوز الاحتجاج بها

اعلم أن جميع فرق الرافضة كانوا يعملون بما رواه أصحابهم من تحقيق أحوال رجال الإسناد، واستمر ذلك بينهم، ولم يكن لهم كتاب في أحوال الرجال وذكر الجرح والتعديل، حتى ألف الكشي من الاثني عشرية في المائة الرابعة كتابا في ذلك في غاية الاختصار، ليس فيه فائدة. وقد أورد فيه ما تعارضت الأخبار في الجرح والتعديل من غير ترجيح أحد الخبرين على الآخر، فاشتبه حالهم، وقد وقع ذلك لكثير من أكابر رواة القوم.

ثم صنف من جاء بعده في الضعفاء كابن الغضائري، وفي الجرح والتعديل كالنجاشي وأبي جعفر الطوسي وجمال الدين أحمد بن طاوس وابن المطهر وتقي الدين بن داود. ولكنهم أهملوا كثيرا من ذلك وأغفلوا عن توجيه ما ورد في الجرح والتعديل، ولا سيما عند تعارض الأخبار فيهما. واختلفوا في ترجيح أحد الخبرين على الآخر اختلافا كثيرا. ولهذا منع صاحب الدراية تعليلهم. وكثيرا ما يتفق لهم التعديل بما لا يصلح تعديلا، كما لا يخفى على من طالع كتبهم، ولا سيما "خلاصة الأقوال"، التي هي الخلاصة في علم الرجال.

وقد صحف علماء الرجال منهم كثيرا من الأسماء، فاشتبه أمر الخبر، وذلك كتصحيف أبي نصير بالنون بأبي بصير بالباء الموحدة، ومراجم بالراء المهملة والجيم بمزاحم بالزاء المعجمة والحاء المهملة. فلا يتميز من تقبل روايته ممن لا تقبل. وقد صحف ابن المطهر في كتب الرجال كثيرا من الأسماء، ومن أراد الإطلاع عليها فليراجع الخلاصة لابن المطهر وإيضاح الاشتباه، لينظر ما بينهما من الاختلاف. وقد نبه ابن داود على كثير من ذلك. ومع هذا لا يرتفع الاشتباه بما ذكره لاحتمال خطأ المخطّئ، كيف لا ولم يأت بحجة قاطعة؟

وتساهل الأخباريون منهم في الإسناد، فلم يلتفتوا إلى تعيين المتفق والمفترق، فرووا عن رجل اتفق اسمه واسم أبيه فصاعد مع اسم راو آخر واسم أبيه كذلك، فلا يتميز حينئذ الثقة من غيره. فقد رووا عن محمد بن قيس؛ وهو مشترك بين أربعة: اثنان منهم ثقتان عندهم، وهما محمد بن قيس الأسدي المكنى بأبي [عبد الله مولى لبني] نصر ومحمد بن قيس البجلي المكنى بأبي عبد الله، وواحد منهم ممدوح من غير توثيق، وهو محمد بن قيس الأسدي المكنى بأبي أحمد، وقد روى عنه ابن بابويه كثيرا وأطلق الرواية، وواحد منهم غير ممدوح.

وقد عمل أكثر الشيعة برواية غير العدل لأمر عارض، وهو الشهرة؛ مع أن عدالة الراوي شرط في العمل بالخبر، ومن العجيب أنهم يعملون بالضعيف ولا يعملون بالموثق مع أنه دونه! ويعللون ترك العمل ببعض الأخبار بأنه موثق. مثل ما رواه السكوني عن أبي عبد الله قال: قال أمير المؤمنين: بعثني رسول الله ﷺ فقال: "يا علي، لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، وايم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاءه يا علي"، فإنه موثق ولم يعملوا به لكونه موثقا. ويعملون برواية من خالفهم في الاعتقاد من الرافضة. ويعملون بمراسيل ابن عمير، ويدعون العلم بكونه لا يروي إلا عن ثقة، وهذا ادعاء محض وهو بعيد عن الحق بمعزل؛ لأن مستند العلم إما الاستقراء لمراسيله، حيث تتبعوها فوجدوا المحذوف ثقة، أو حسن الظن في أنه لا يرسل إلا عن ثقة، وعلى كل تقدير لا يصير حجة كمراسيل غيره؛ أما على الأول فلأن الاستقراء ممنوع، ولم يذكروا ما استقرؤا من مراسيله، ولو سلم فهو غير تام، والمدعي مطالب بالبرهان، وظاهر كلام القوم في قبول مراسيل ابن أبي عمير هذا المعنى، ودون إثباته خرط القتاد. وقد نازعهم صاحب البشرى منهم ومنع الدعوى، وكذا بعض المحققين من المتأخرين ومن تبعه. ومع ذلك فلا وجه له في الإرسال وقد نهى عنه الإمام أبو عبد الله وسمى المرسل كائنا من كان كاذبا، كما رواه الكليني - كما سيجيء إن شاء الله تعالى - والكاذب لا تقبل روايته من غير نكير. وأما على الثاني فلأنه غير كاف شرعا في الاعتماد عليه، نص عليه صاحب الدراية في شرحها. وأما الثالث فلأن مرجعه إلى شهادته بعدالة الراوي المجهول، وإثباته صعب، ولم يرو أحد منهم أنه سئل عنه فأجاب بذلك، ولو سلم فلا يكفي ذلك في العمل بروايته، لأنه لا بد له من تعيينه وتسميته، لينظر في أمره، هل أطلق علماء الرجال عليه التعديل أو تعارض كلامهم فيه أو لم يذكروا فيه شيئا من الجرح والتعديل، لأنه لا بد من البحث عن حال الرواة على وجه يظهر عدم الأربعة: من الجرح والتعديل وتعارض الأمرين والسكوت عنهما، فلا حجة في الإرسال، وارتكابه منهي عنه، ومرتكب المنهي عنه فاسق، وقد شهد الصادق بأنه كاذب، فابن أبي عمير الذي يرسل كثيرا فاسق كاذب مصر على الكذب والفسق، فلا تقبل روايته. وعملوا أيضا بمراسيل النضيري وعبد الله بن مغيرة. وكان المتقدمون منهم يعملون بالخبر الضعيف مطلقا من غير تعرض لبيان ضعفه، والمتأخرون منهم عملوا به اقتداء بمتقدميهم، وذلك مثل الخبر الذي رواه عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله أنه سئل عن الصبي تزوج الصبية هل يتوارثان؟ فقال: "إن كان أبوهما زوجاهما نعم". فإن في طريقه القاسم بن سلمان، وهو مجهول العدالة، ومع ذلك فقد عملوا به لعمل أصحابهم المتقدمين به. قال أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة: إن خبر الفاسق بعمل الجوارح يعمل بحديثه، والمجهول دونه. وتبعه على ذلك من جاء بعده. وهذا باطل لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} والشهرة لا تكفي في الخبر الضعيف، وقد نص عليه سديد الدين محمود الحمصي، ورضي الدين طاووس وزين الدين صاحب الدراية.

وجوز الأكثرون منهم العمل بالخبر الضعيف في القصص وبكثير من الأخبار، من غير التفات إلى الصحة وعدمها، إذا تلقته الإمامية بالقبول، كخبر عمرو بن حنظلة في المتخاصمين من أصحابهم وأمرهما بالرجوع إلى رجل منهم، وهو خبر ضعيف جدا لأن في طريقه محمد بن عيسى وداود بن حصين، وهما ضعيفان، وعمرو بن حنظلة مسكوت عنه، وقد قبلوا خبره وعملوا بموجبه وسموا هذا النوع من الخبر مقبولا. وكثير في كتبهم مثل ذلك، وقد اعترف به المقتول في شرح الدراية.

وعمل شيخ الطائفة ومن تبعه بالخبر المضطرب، وهو ما يرويه الرواة بوجهين مختلفين، من غير ترجيح أحد الوجهين على الآخر، مع اعترافهم بأن الاضطراب يمنع من العمل بمضمون الخبر. والعجب من الشيعة حيث إنهم بالغوا في ضبط الكليني وامتيازه على من عداه، مع أنه كان يخبط خبط عشواء ويعمل بما دعاه إليه هواه على ما لا يخفى على المتتبع.

وقد جوزت الإمامية الكذب لنصرة مذهبهم ورواجه، وقد ألف المرتضى الذي لقبوه بعلم الهدى كتابا لإثبات مذهبه وإبطال مذهب أهل السنة، مشحونة بالأكاذيب؛ وقد عزا بعضها إلى ذمي وبعضها إلى جارية. وألف بعضهم كتابا في وفيات الأعيان وحكى فيه حكايات افتراها على أكابر أهل السنة تنبئ بأنهم كانوا شيعة، وهي محض كذب، وقد اعترف بذلك بعض علماء الشيعة. وكذا ألف مثل ذلك ابن بابويه وابن المطهر وابنه وغيرهم.

وجوزت الخطابية من الروافض وضع الحديث لنصرة المذهب، وقد وضع بعض علماء الغلاة كأبي خطاب ويونس بن طيبان ويزيد بن الصايغ أخبارا كثيرة، صرح بذلك صاحب تحفة القاصدين في اصطلاح المحدثين.

ومن الغلاة الوضاعين بيان النهدي الذي كان من شيوخ الإمامية ومجتهديهم وزنادقتهم، ومغيرة بن سعيد وكان شيخا من مشايخ الروافض بالكوفة؛ وقد قتلهما خالد بن عبد الله القسري وأحرقهما في النار. فتبا لقوم أخذوا مذاهبهم من أناس ارتدوا بلباس الفسوق والأرجاس، لا يستحون من الكذب والافتراء، ولا يبالون من الكلمة العوراء. فيا ويلهم من الله الذي لا يفوته شيء ولا يخفاه.

الفصل الخامس عشر في بيان روايات الشيعة إلا الحميرية عن أهل البيت

اعلم أن غالب روايات الشيعة عن أهل البيت، ولم يرووا عن النبي ﷺ إلا نادرا. ولنذكر ما يقبل من رواياتهم عند أهل السنة وما لا يقبل.

أما الشيعة الأولى فأخبار ثقاتهم مقبولة، وهم كما عرفت من أهل السنة، وقد افترقوا حين بويع للأمير كرم الله تعالى وجهه بالخلافة: ففرقة شايعوه، وفرقة خرجوا عليه وهم البغاة، وفرقة اعتزلوا ولم يحاربوا مع أحد ثم ندموا على ترك نصرته، مع اعتقاد أنه على الحق وأن مخالفيه بغاة حين الاعتزال.

وأما الشيعة التفضيلية فأخبارهم أيضا مقبولة إذا كان الراوي عدلا ضابطا، وقد روى عنهم أهل السنة والإمامية.

وأما غير هاتين الفرقتين فأخبارهم كلها مردودة لأنها كذب مفتراة، إلا ما وافقت رواية أهل الحق؛ وذلك لأن فرق الغلاة كلهم كفرة، وكذا المجسمة من الإمامية كالحكمية والسالمية والسلطانية وغيرهم.

وأما الكيسانية فليس لهم رواية إلا في تعيين الإمام، وهو باطل من غير نكير.

وأما الزيدية الأولى من الذين جاهدوا الفجرة مع الإمام ونصروه، فأخبار ثقاتهم مقبولة، لأنهم من الشيعة الأولى. وأما الذين تفرقوا عن الإمام زيد وابنه يحيى فأخبارهم مردودة.

وأما فرق الإمامية فلا تقبل روايتهم أصلا لفقد العدالة وكثرة اختلافهم ولتكذيب بعضهم بعضا، وأكثر رواتهم زنادقة منافقون يظهرون حب أهل البيت ويروون الأحاديث عن أهل البيت التي لا أصل لها.

وأما النزارية من الإسماعيلية فليس لهم شيء من الأخبار، لأنهم لا يحتاجون إلى وضع الخبر، لأن مناط مذهب متأخريهم من الحسن إلى حديد الدولة ترك العمل بالشرائع. وكذا الباطنية من الإسماعيلية لأن من أصولهم أنه يجب العمل بباطن الكتاب والخبر دون ظاهرهما، واعترفوا بصحة كل خبر سمعوه، وأولوه كما شاءوا.

الفصل السادس عشر في ذكر علماء كل فرقة من فرق الشيعة

اعلم أن لكل فرقة من فرق الشيعة علماء:

أما الغلاة فأعلم علمائهم عبد الله بن سبأ الصنعاني وأبو كامل وبنان ومغيرة العجلي، وهما اللذان كذبهما الصادق وقال: "إنهما يفتريان علينا أهل البيت، ويرويان عنا الأكاذيب"، وأبو الخطاب الأخدع ونصير وإسحاق وعلباء ورزام والمفضل الصيرفي وسريع وبريع ومحمد بن يعفور وغيرهم. وأقوال هؤلاء محض هذيان لا دليل عليها ولا برهان.

وأما الكيسانية فأعلم علمائهم كيسان، وقد تتلمذ على محمد بن علي بن أبي طالب ولم يكن بعده عالم يوازيه من هذه الفرقة، وهو أول من قال بإمامة محمد بن علي بعد أبيه، وأبو كريب الضرير وإسحاق بن عمر وعبد الله بن حرب وغيرهم.

وأما الزيدية المخلصون فأعلم علمائهم يحيى بن زيد بن علي الحسين بن علي بن أبي طالب وأكابر أصحاب زيد، ولهم روايات عن أئمة أهل البيت، كأمير المؤمنين والسبطين والسجاد وزيد ويحيى بن زيد. ومن أئمتهم الناصر. ومن علمائهم جماعة يقال لهم الزيدية، نسبوا إلى زيد بن علي نسبا ومذهبا، وهم من ثقاة المحدثين، وقد روى عنهم أهل السنة والجماعة. وأما الذين اختلفوا وافترقوا فأعلم علمائهم جارود وأحمد بن محمد بن سعيد السبعي الهمداني وابن عقدة وسليمان والبتر التومي وخلف بن عبد الصمد ونعيم بن اليمان ويعقوب وحسين بن الصالح. ومن علمائهم بعد الثمانين والمائتين الهادي وابنه المرتضى من الشرفاء الحسنية. وأكثر الزيدية غير الفرقة الأولى يتبعون المعتزلة في الأصول إلا في مسائل معدودة كمسألة الإمامة وأن صاحب الكبيرة كافر نعمة فاسق، ويوافقون أبا حنيفة في الفروع، وبعضهم يتبعون الشافعي فيها إلا في بعض مسائل يروونها عن أئمتهم.

وأما الإسماعيلية فمن علمائهم المبارك وعبد الله بن ميمون القداح وغياث صاحب كتاب البيان ومحمد بن علي البرقعي والمقنع.

وأما المهدوية منهم فلم يكن لهم أول الأمر عالم يقتدى به، ولما قدم محمد بن عبد الله بن عبيد الله الملقب بالمهدي بلاد المغرب، وكان إسماعيليا دعا أهله إلى مذهب الإسماعيلية فأجاب أكثرهم دعوته وتمذهبوا بمذهبه، فلما رأى أن أمره مطاع ادعى أنه من نسل إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق وسمت نفسه إلى الخلافة فجمع من أطاعه وحرضهم على قتال من خالفهم، فحاربوا عمال المقتدر العباسي وولاته، فغلبوا عليهم، فكثرت حينئذ أتباعه ودعاته ولقبوه بالمهدي ودعوا الناس إلى إمامته. ولم يكن دعاته أول الأمر من أهل العلم، كانوا يدعون الناس إلى مذهبه بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وكان أهل الحجاز والعراق ومصر والشام لا يصدقونه في دعواه هذا النسب. وقد صعد العزيز أحد أولاد المهدي المنبر يوم الجمعة، فوجد فوق المنبر رقعة قد كتب فيها هذه الأبيات:

إنا سمعنا نسبا منكرا ** يتلى على المنبر في الجامع

إن كنت فيما تدعي صادقا ** فاذكر أبا بعد الأب الرابع

وإن ترد تحقيق ما قلته ** فانسب لنا نفسك كالطائع

أو لا دع الأنساب مستورة ** وادخل بنا في النسب الواسع

فإن أنساب بني هاشم ** يقصر عنها طمع الطامع

لأن هذه القصة جرت في خلافة الطائع العباسي وكان نسبه مشهورا لا يرتاب فيه أحد، وأما المهدي فكان لا يعرف نسبه أحد، وأجمع أهل الحجاز والمدينة والعراق والشام ومصر على أنه كذاب أفاك. وإنما قال الشاعر: "فاذكر أبا بعد الأب الرابع"؛ لأن أباه الرابع إنما هو أبو المهدي عبد الله بن عبيد الله، ولهذا يقال لبنيه العبيديون، والمهدي غير اسم أبيه وسماه عبد الله، فإن اسمه كما تقدم أحمد، لأنه يزعم أنه هو المهدي الموعود، وكان قد سمع من الأخبار المشهورة أن اسم المهدي محمد واسم أبيه عبد الله، ويدعي أنه ابن عبد الله بن عبيد الله بن قاسم بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق، ولم يخلف محمد ولدا. ولما استولى على بلاد المغرب، وأولاده على مصر والشام والحجاز واليمن، وانتشروا في البلاد، وآثر الناس مذهبهم، نشأ فيهم العلماء، ورجع بعض علماء أهل السنة إلى مذهبه، فممن نشأ فيهم أبو الحسن علي بن نعمان وأبو عبد الله محمد بن نعمان، وذلك في أيام المعز والعزيز، وأبو القاسم عبد العزيز في زمن الحاكم، وعامر بن عبد الله الرواحي وعلي بن محمد بن علي الصليحي زمن المستنصر. ومن الذين انتقلوا من مذهب أهل السنة إلى مذهب الإسماعيلية أبو حنيفة بن أبي عبد الله ومحمد بن منصور صاحب الثغر وقاضيه، وكان مالكي المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإسماعيلية لطلب المال والجاه، ولم يكن في دولة العبيدية مثله، فإنه كان عالما فاضلا، وكان ينتصر لمذهب الرافضة، وكان ملازما لصحبة المعز، ولم يزل عنده معززا مبجلا، وقد تبعه جمع من الناس.

إن الفقيه إذا غوى وأطاعه ** قوم غووا معه فضاع وضيعا

مثل السفينة إذا هوت في لجة ** غرقت وأغرق ما هنالك أجمعا

ومن علماء أولاد المهدي جمع منهم: العزيز ابنه، فإنه كان أديبا فاضلا وعالما كاملا. ومنهم المعز والحاكم بن المعز. والحاكم هذا يدعي أنه يناجي ربه في الطور كما كان موسى عليه السلام يناجيه، وكان يعلم شيئا من علم الكيمياء وله كتاب سماه التعويذ، وهو مشهور بين أرباب هذا الفن، وكذا كتاب الهياكل.

وكان الملوك من أولاد عبيد كلهم يدعون معرفة المغيبات، وأخبارهم في ذلك مشهورة.

وصعد العزيز يوما المنبر فرأى في رقعة:

بالظلم والجور قد رضينا ** وليس بالكفر والحماقة

إن كنت أُعطيت علم غيب ** فقل لنا كاتب البطاقة

وكان الحاكم هذا من المغالين في الرفض، وهو الذي بعث رجالا إلى المدينة سرا لاستخراج جسد الشيخين الثاويين جوار سيد الثقلين -صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فلما قدموا المدينة خدعوا بعض العلوية ممن كان مجاورا للمسجد الشريف النبوي والروضة المطهرة، فآواهم في داره، وكانوا يشتغلون بالحفر ليلا، فلما بلغوا قرب الروضة المطهرة أظلمت المدينة وثار بها غبار واشتد هبوب الرياح والرعد والبرق حتى استيقن الناس بالهلاك، فقام العلويون وأخبروا أمير المدينة بما جرى، فأرسل إليهم وأحضرهم بين يديه وأمر بقتلهم، فانكشفت الظلمة وزالت الصواعق وسكنت الرياح. كذا ذكره القاضي أبو عبد الله منصور السمناني في كتاب الاستبصار.

وأما النزارية فعلماؤهم شرذمة قليلة، وكان أعلمهم الحسن بن الصباح الحميري وأبو الحسن [سنان بن] سليمان بن محمد الملقب براشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية، وله رسائل بديعة، منها ما كتب إلى السلطان نور الدين محمود الشهيد بن علاء الدين زنكي ملك الشام، وهو الذي سير بعض أمرائه، وهو صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى مصر في عهد العاضد، ومات العاضد بعد قدومه، فاستولى على مصر من غير منازع. لما كتب إليه السلطان كتابا يهدده فيه فقال:

"يا للرجال لأمر هال مفظعه ما مر قط على سمعي توقعه

يا ذا الذي بقراع السيف هددنا لا قام قائم جنبي حين تصرعه

قام الحمام إلى البازي يهدده وشمرت لقراع الأسد أضبعه

أضحى يسد فم الأفعى بأصبعه يكفيه ماذا يلاقي منه أصبعه

وقفنا بتفصيله وجمله، وأعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل! وبعوضة تعد في التماثيل! وقد قالها قبلك قوم آخرون فدمرناهم، وما كان لهم ناصرون، أوللحق تدحضون؟ أم للباطل تنصرون؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، أما ما صدرت به قولك من قطع رأسي وقلعك لقلاعي في الجبال الرواسي؛ فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض، كم بين قوي وضعيف ودني وشريف! وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، فلنا أسوة برسول الله ﷺ في قوله: "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت به"، وقد علمتم ما جرى في عترته وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال، والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى، إذ نحن مظلومون للظالمين، ومغبوطون للغابطين، وإذا جاء الحق زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيف قتال رجالنا، وما يتمنون من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم، والله عليم بالظالمين، وفي الأمثال السائرة: أوللبط يهددون بالشط، فهيئ للبلاء جلبابا، وتدرع للرزايا أثوابا، ولا تكونن كالباحث عن حتفه بظلفه، والجاذع مارن أنفه بكفه، وإذا وقفت على كتابنا فكن على أمرنا بالمرصاد، ومن حيلتك على اقتصاد، واقرأ أول النحل وآخر سورة صاد"، ثم ختمها ببيتين وهما:

بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت بيوتك فيه واشمخر عمودها

فأصبحت ترمينا بنبل قد استوى مغارسها فينا وفينا جريدها

وأما علماء الإمامية فهم كثيرون جدا، والمشهورون منهم قيس بن سليم بن قيس الهلالي وهشام بن الحكم وهشام بن سالم وصاحب الطاق وأبو الأحوص وعلي بن منصور وعلي بن جعفر وبيان بن سمعان المكنى بأبي أحمد الحرري وابن أبي عمير وعبد الله بن مغيرة والنطيري وأبو بصير ومحمد بن الحكيم ومحمد بن الفرخ [الرخجي] وإبراهيم الحراز ومحمد بن حسين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم وبكير بن أعين وزرارة بن أعين وعبد الله وسماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعلي بن جعفر وعيسى وعثمان وعلي بن فضال ومنصور بن الحازم وأحمد بن محمد بن عبد الله أبي نصر البزنطي ويونس بن عبد الله القمي وأيوب بن نوح والحسن بن عياش بن الحريش، وغيرهم.

وأما علماء الاثني عشرية فكثيرون أيضا. والمشهورون منهم علي بن مظاهر الواسطي وأحمد بن إسحاق وجابر الجعفي ومحمد بن جمهور العمي وحسين بن سعيد وعبد الدين وعبيد الله ومحمد وعمران وعبد الأعلى بنو علي بن أبي شعبة وجدهم وصاحب المعالم وفخر المحققين ومحمد بن علي الطرازي ومحمد بن علي الجعابي والكراكجي والكفعمي وجلال الدين حسن بن أحمد شيخ شيخهم المقتول ومحمد بن الحسن الصفار وأبان بن بشر البقال وعبد [الكريم] الخثعمي والحسين بن سعيد والفضيل بن شاذان ومحمد بن يعقوب الكليني (وكلين كأمير قرية بالري) وعلي بن بابويه القمي -وهو غير القمي الذي هو أحد مشائخ البخاري وأحد رواته في الصحيح فإن هذا من أهل المائة الرابعة، والذي استشهد به البخاري في كتاب الطب حيث قال في حديث: «الشفاء في ثلاثة شرطة محجم وشربة عسل وكية نار»: رواه القمي عن ليث عن مجاهد، فإن ابن بابويه القمي لم ير الليث ولا من روى عنه- وعبد الله بن علي الحلبي وعلي بن مهزيار (بفتح الميم وسكون الهاء والزاي لا الراء كما وهم) الأهوازي وسلّار وعلي بن إبراهيم القمي وابن براح وابن زهرة وابن إدريس ويونس بن عبد الرحمن والحسن والكيدري ومعين الدين المصري وابن جنيد وحمزة وأبو الصلاح وابن الشريعة الواسطي وابن [أبي] عقيل والغضائري والكشي والنجاشي وحيدر الآملي والبرقي ومحمد بن جرير الطبري وابن هشام الديلمي ورجب بن رجب بن محمد البرسي الحلي وابن شهر آشوب السروي المازندراني و[منتجب] الدين أبو الحسن علي بن عبد الله حفيد علي بن حسين بن بابويه والطبرسي ومحمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري صاحب كتاب نوادر الحكم، وشيخهم المقتول محمد بن مكي، وسعد بن عبد الله صاحب كتاب الرحمة، ومحمد بن الحسن بن الوليد شيخ ابن بابويه، وأحمد بن فهد وميثم بن ميثم البحراني وعبد الواحد بن صيفي النعماني وأبو عيسى الوراق وابن الراوندي والمسبحي وأبو عبد الله محمد بن نعمان الملقب عندهم بالمفيد [وعند البعض ابن المعلم] والشريف المرتضى والشريف الرضي وأبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي وسبطه علي بن موسى بن طاووس وأحمد بن طاووس وجمال الدين أبو علي بن الحسين بن يوسف بن المطهر الأسدي الحلي المشتهر عندهم بالعلامة، وابنه فخر الدين الملقب عندهم بالمحقق [الحلي، ونصير بن محمد الطوسي وأبو القاسم نجم الدين بن سعيد الملقب عندهم بالمحقق] صاحب الشرائع، وتقي الدين بن داود وسديد الدين محمود الحمصي ورضي الدين بن طاووس وجمال الدين بن طاووس وولده غياث الدين والمقداد وعلي بن عبد العالي وصهره الباقر وزين الدين المقتول وتلميذه بهاء الدين العاملي وخليل القزويني شارح العدة والباقر المجلسي صاحب بحار الأنوار. وغيرهم مما يطول ذكرهم.

الفصل السابع عشر في بيان كتب الشيعة

اعلم أن أول من ألف في الأخبار من الرافضة سليم بن قيس الهلالي، وكتابه يعتمد عليه جميع فرق الرافضة. ولنذكر ما لكل فرقة من الكتب:

أما السبائية فليس لهم كتاب إلا ما جمعه بعض الأوغاد منهم في مدح أمير المؤمنين وخوارقه وأنه إله وأنه لم يقتل وأنه في السماء وسينزل بعد حين، إلى غير ذلك مما انطوى عليه من العقائد الزائغة، وكتاب الأخبار التي جمعوها لنصرة مذهبهم. وقد ألفت الحلولية منهم كتابا ذكروا فيه عقائدهم الزائغة والأخبار الموضوعة، مثل إن الله تعالى كان روحه في السماء ثم حل في جسد آدم وأولاده الأصفياء حتى انتهى إلى علي وأولاده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

وأما الكيسانية فليس لهم كتاب إلا ما جمعه بعضهم مما روي عن كيسان في فضل أمير المؤمنين وخوارقه، إلى ابنه محمد - وكان إماما - وشيء من اعتقاداتهم، ولم يبق لهذا الكتاب أثر.

وأما الزيدية فلم يكن لهم كتاب في أول الأمر لا في الأصول ولا في الفروع، وكانوا يتبعون المعتزلة في المسائل الأصولية، وفي الفروع أكثرهم يتبع أبا حنيفة، والقليل منهم يتبع الإمام الشافعي. وكانت لهم روايات عن أئمتهم في الفروع توافق مذهب الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي، لكنها قليلة جدا، وبعض المسائل في الأصول. ثم اجتهد بعض علمائهم في الفروع وخالف الإمام أبا حنيفة والإمام الشافعي في مسائل معدودة، ثم صنف كتبا في الفروع والأصول، منها الأحكام. ولا توجد أكثر كتبهم إلا في بلاد اليمن والحجاز.

وأما الإسماعيلية فلم يكن لهم كتاب قبل دولة العبيديين إلا كتاب البيان للباطنية منهم. وصنفوا بعد خروج المهدي كتبا كثيرة، أكثرها لنعمان بن محمد بن منصور القاضي، ككتاب أصول المذاهب وكتاب الأخبار في الفقه وكتاب الرد على المخالفين الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي وعلي بن شريح، وكتاب اختلاف الفقهاء، وكتاب ابتداء الدعوة العبيدية وغيرها من الكتب. ولما انقضت دولتهم وسكنت ريحهم ورجع الناس عن مذهبهم ضاع أكثر كتبهم ولم يبق منها إلا اليسير في بعض بلاد اليمن كعدن وصنعاء لدى بعض مقلدي هذا المذهب. نقل بعضهم أن من جملة مسائل كتبهم أنه يجب أن يكون الإمام معصوما من المعاصي عند الولاية، وأنه إذا نص الإمام على شيء ثم رجع عنه ونص على نقيضه فالثاني ناسخ للأول، وهو مذهب المتقدمين منهم، وتابعهم المهدوية، وخالفهم النزارية منهم وقالوا النص الثاني لا يعمل به والمعتمد هو النص الأول، وأن الإمام إذا قضى أمرا ما كان للمؤمنين الخيرة من أمرهم، وأنه إذا زوج الإمام امرأة من رجل صح العقد بينهما وليس لهما الفسخ، وأن الله تعالى يكلم الإمام كما كلم موسى تكليما. وكان الحاكم العبيدي من أئمة الإسماعيلية يزعم أن الله تعالى يكلمه في الطور، وكان يذهب إلى الطور في بعض الأوقات، وأن الأئمة يعلمون الغيب، كما هو مذهب الاثني عشرية وجمع من الإمامية، وأنه لا يجوز إدخال كلمة "على" على الآل عند التصلية، ورووا عن النبي ﷺ أنه قال: "من فصل بيني وبين آلي بعلَى فقد جفاني"، وهو من الأخبار الموضوعة المختلقة، ولا يقول به غيرهم من فرق الإسلام، وأنه يجوز للرجل نكاح ثماني عشرة امرأة لقوله تعالى: {فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} فإن مثنى معدول عن اثنين اثنين، وثلاث عن ثلاثة ثلاثة، ورباع عن أربعة أربعة، فالمراد من مثنى أربعة، ومن ثلاث ستة، ومن رباع ثمانية، والمجموع ثماني عشرة امرأة. وهذا من الأوهام الفاسدة، فإن الآية لا تدل عليه، لأن مثل هذا الكلام يستعمل في مقام حصر الأقسام فيما دل عليه لفظ العدد، فمعنى جاء القوم مثنى وثلاث ورباع جاء كل قسم من أقسام القوم اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، والثاني توكيد للأول؛ إلا أنه التزم ذكره لأن التكرير علامة على إرادة التوكيد، وليس من لوازم التأكيد جواز إسقاطه، إذ رب تأكيد يلزم حتى يصير كأنه من الكلمة، نص عليه سيبويه في الكتاب، ومثّل ذلك بما الزائدة في "لا سيما زيدٍ" بجر زيد، فإنها لا تحذف، فصار سيما وما كأنها كلمة واحدة. فمعنى الآية: فانكحوا ما طاب لكم من أقسام أعداد النساء، أي فلينكح كل منكم ما طاب له من النساء، إن شاء اثنين اثنين، وإن شاء ثلاثة ثلاثة، وإن شاء أربعة أربعة، لا أكثر من ذلك كخمسة خمسة، ولم يسمع من العرب استعمال مثل هذا الكلام في غير مقام حصر الأقسام. وتمام الكلام على هذه الآية في كتب التفاسير، وفي روح المعاني - تفسير الجد رحمه الله تعالى - في هذا المقام ما يشفي العليل ويروي الغليل. على أنا لو فرضنا أن الآية لا دلالة فيها على المنع من الزيادة على الأربع فالسنة المتواترة تكفي فيه، فقد نصت على جواز الأربع والمنع من الزائد عليه، وانعقد إجماع الأمة عليه قبل ظهور هذه الفرقة.

وأما الباطنية من الإسماعيلية فكتبهم قليلة جدا، منها كتاب البيان وكتاب تأويل القرآن وكتاب تأويل الأخبار وكتاب التأويلات المنسوب إلى ناصر بن خسرو.

وأما النزارية فكان لهم كتب كثيرة، منها كتب ابن الصباح وكتاب نصير الدين الطوسي صاحب التجريد صنفه بالتماس بعض سلاطينهم، ولكن جلال الدين قد أحرق كل ما وجده في خزانة آبائه الضالين من كتبهم.

وأما الإمامية فلهم كتب كثيرة في الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه وفروعه.

أما كتبهم في الكلام: فمنها مصنفات هشام بن الحكم، وهو أول من صنف في الكلام على مذهب الرافضة، ومنها مصنفات هشام بن سالم ومصنفات محمد بن نعمان شيطان الطاق ومصنفات ابن جهم الهلالي وأبي الأحوص علي بن منصور وحسين بن السعيد والفضل بن شاذان ومصنفات أبي عيسى [الوراق] وابن الراوندي والمسبحي ومصنفات محمد بن الحسن الصفار مثل بصائر الدرجات وغيره، ومنها كتاب علي بن مطاهر الواسطي وكتاب التوحيد لعلي بن بابويه وكتاب التوحيد أيضا لمحمد بن علي بن بابويه وكتاب التوحيد أيضا لحسين بن علي بن بابويه وكتاب الشافي للمرتضى في الإمامة وكتاب محمد بن جرير الطبري في الإمامة أيضا وكتاب تجريد العقائد للطوسي وشرحه لابن المطهر والألفين له ونهج الحق ومنهج الكرامة والباب الحادي عشر له أيضا وشرحه للمقداد والقواعد ونظم البراهين وشرحه ونهج المسترشدين وشرحه وواجب الاعتقاد وشرحه وكتاب ميثم بن ميثم البحراني والتقويم، وغيرها.

وأما كتبهم في التفسير: فالمشهور منها التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن العسكري -رواه عنه ابن بابويه بإسناده، ورواه عنه غيره بإسناد مع زيادة ونقصان، وليس في التفسير الذي رواه عنه أهل السنة كثير مما عزته الشيعة إليه- وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير مجمع البيان للطبرسي وتفسير التبيان لمحمد بن الحسن الطوسي وتفسير النعمان وتفسير العباسي والمحيط الأعظم في تفسير القرآن المكرم للحيدر الآملي وكنز العرفان في تفسير أحكام القرآن للمقداد وتفسير الأحكام لغيره، وغير ذلك.

وأما كتبهم في الحديث: فقد زعموا أنها كانت أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها الأصول، وكان اعتمادهم على تلك الكتب ثم حالت الحال فضاع معظم تلك الكتب. والمشهور مما بقي: الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني والتهذيب لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي والاستبصار فيما اختلف فيه من الأخبار لأبي جعفر أيضا وفقه من لا يحضره الفقيه لمحمد بن علي بن بابويه القمي والمعتبر والسرائر وإرشاد القلوب للديلمي وقرب الإسناد وكتاب المسائل لعلي بن جعفر والنوادر للحسين القمي والجامع المريطي وكتاب المحاسن للبرقي وكتاب العلل لابن بابويه ودعاء الإسلام وكشفه والمقنع والمكارم والملهوف وكتاب العياشي وفلاح السائل وكتاب المناقب لابن شهر آشوب السروي المازندراني ومعاني الأخبار والمجالس لابن المعلم والإرشاد له والروضة له وكتاب المجالس لأبي علي بن أبي جعفر الطوسي وعدة الداعي لابن فهد وكتاب الطرف لابن طاووس وكتاب المحاسن لمحمد بن بابويه والفقه له والمجالس له والاستبصار لابن المطهر الحلي وكتاب إنا أنزلناه لابن عياش وكتاب الخصال وكتاب المحاسن للبرقي والبصائر لسعد بن عبد الله وأعلام الدين للديلمي ومجمع البيان والبصائر للصفار والجامع وكتاب النوادر للراوندي ومجمع البيان ومنتقى الجمان وكتاب الخرائج والجرائح للراوندي وكتاب المحاسن لأبي جعفر الطوسي ومعاني الأخبار له ونوادر الحكمة وكتاب الرحمة وثواب الأعمال والخصال لابن بابويه وكتاب المعراج له وعيون أخبار الرضا له وجامع الأخبار والخلاف للطوسي والمصباح له وإكمال الدين والعيون وعقاب الأعمال والأماني والهداية وعلل الشرائع والاحتجاج ومشارق أنوار اليقين في كشف أسرار أمير المؤمنين واللباب لابن الشريفة الواسطي، وغير ذلك.

وأما أصول الحديث فلم يكن لهم كتاب فيه، وقد ذكر بعضهم أحكام الخبر في أصول الفقه، وقد وضع بعض المتأخرين قواعد ثم زاد عليها من جاء بعده شيئا كثيرا أخذه من كتب أهل السنة، ككتاب البداية في علم الدراية وتحفة القاصدين في معرفة إصلاح المحدثين.

ولم يكن لمتقدميهم كتاب في الجرح والتعديل، وإنما ألف فيه الكشي، وتبعه بعض من تأخر عنه. ومجموع ما ألفوه فيه ثمانية مصنفات: كتاب الكشي وهو مختصر جدا، وكتاب الغضائري والنجاشي وأبي جعفر الطوسي وجمال الدين وأحمد بن طاووس وكتاب الخلاصة للحلي والإيضاح له وكتاب تقي الدين حسن بن داود.

وأما كتبهم في أصول الفقه: فالمشهور منها المعتمد والعدة، وقد شرحها بعض علماء أصفهان شرحا مبسوطا، والمنادي للحلي وشرحه والقواعد للمقتول وشرحه والزبدة وشروحه، وأحسن شروحه شرح المازندراني، وغير ذلك.

وأما كتبهم في الفقه: فمنها فقه الرضا وقرب المسائل والمبسوط والإسناد ومنتهى الطلب والتحرير وتذكرة الفقهاء وكلها لابن المطهر، والمقنعة لابن بابويه والمقنعة لابن المعلم وكتاب الإشراف له والمقنع والمعتبر ومكارم الأخلاق وكتاب العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم وكنز الفوائد للكراكجي وكتاب الإقبال ومدينة العلم لابن بابويه والمجلس له وفلاح المسائل وجنة الأمان للفكعمي واللمعة وشرحها والنهاية والإيضاح والخلاف والتحرير والإرشاد والنافع وشرحه والقواعد والمصباح ومختصر بن جنيد وفتاوى المحقق ومهذب ابن فهد وإيضاح القواعد والمنتهى والشرائع وشرحه والخلاصة والمبسوط وتذكرة الفقهاء والمختلف والمعالم والمجالس لابن بابويه والدروس والذكرى والبيان للمقتول، وغير ذلك.

الفصل الثامن عشر في بيان أحوال كتب أحاديث الشيعة

اعلم أنه ليس لفرق الشيعة كتاب في الأخبار إلا بعرف الإمامية، ولهم كتب كثيرة كما تقدم، وزعموا أن أصح كتبهم أربعة: الكافي، وفقه من لا يحضره الفقيه، والتهذيب، والاستبصار. وزعموا أن العمل بما في الكتب الأربعة من الأخبار واجب، وكذا بما رواه الإمامي ودونه أصحاب الأخبار منهم. نص عليه المرتضى وأبو جعفر الطوسي وفخر الدين الملقب عندهم بالمحقق الحلي؛ وهو باطل لأنها أخبار آحاد. وأصحها الكافي. وقالت جماعة: أصحها فقه من لا يحضره الفقيه. وقال بعض المتأخرين الناقد لكلام المتقدمين: أحسن ما جمع من الأصول كتاب الكافي للكليني والتهذيب والاستبصار، وكتاب من لا يحضره الفقيه حسن.

وما زعموا من صحتها باطل؛ لأن في إسناد الأخبار المروية من هو من المجسمة، كالهشامين وصاحب الطاق وغيرهم. ومنهم من أثبت الجهل لله في الأزل، كزرارة بن أعين وبكير بن أعين والأحولين وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم وغيرهم. ومنهم فاسد المذهب كبني فضال وابن مهران وابن بكير، وجماعة أخرى. ومنهم الوضاع كجعفر القزاز وابن عياش. ومنهم الكذاب كمحمد بن عيسى. ومنهم الضعفاء وهم كثيرون. ومنهم المجاهيل وهم أكثر، كابن عمارة وابن سكوه. ومنهم المستورو الحال كالبقليسي وقاسم الخراز وابن فرقد وغيرهم. وسيجيء ذكر جماعة منهم في المقصد السادس إن شاء الله تعالى. ومنهم من هو فاسق في أفعال الجوارح، وغيرهم. ولأن كتب أحاديثهم مشحونة بالأحاديث الضعيفة، فكيف يجب العمل بكل ما فيها من الأخبار؟

وقد اعترف الطوسي بنفي وجوب العمل بكثير من الأحاديث الصحيحة بأنه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا. والكليني يروي عن ابن عياش وهو كذاب. والطوسي يروي عمن يدعي الرواية عن إمام مع أن غيره يكذبه كابن سكان، فإنه يدعي الرواية عن الصادق وقد كذبه غيره، ويروي عن ابن المعلم وهو يروي عن ابن بابويه الكذاب صاحب الرقعة المزورة، ويروي عن المرتضى أيضا، وقد طلبا العلم معا وقرآ على شيخهما محمد بن النعمان، وهو أكذب من مسيلمة، وقد جوز الكذب لنصرة المذهب، ومن ثمة ألف كتابا مشحونا بالأكاذيب وعزاه إلى نصراني، وكتابا آخر كذلك عزاه إلى جارية كما سبق غير مرة.

ودعوى جماعة من متقدميهم كالمرتضى وشيعته تواتر كثير من الأخبار المودعة في كتب القوم باطلة، إذ لا شبهة في أن كل واحد من الأخبار آحاد. وقد اعترف علماء الفرقة أنه لم يتحقق إلى الآن خبر بلغ التواتر إلا قوله ﷺ: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» نص عليه المقتول في البداية. وكذا القدر المشترك بينها، إذ لم يتواتر مدلولها أيضا، إذ ليس في كتبهم خبر رواه جمع بلفظ واحد أو ألفاظ متقاربة يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات، ولا معنى واحد لأنه هو القدر المشترك بين الأخبار. وذلك ظاهر لمن تصفح كتبهم.

وأعجب من ذلك أنه ادعى أن ما رواه الإمامي وروته أصحابه يوجب العلم، مع أن فيهم من طعنوا فيه. والمتقدمون منهم أيضا كانوا يزعمون ذلك لأنهم كانوا يعملون بما رواه أصحابهم من غير التفات إلى المعلول والمردود والصحيح وغيره. وابن بابويه حكم بوضع بعض ما رواه الكليني بإسناد صحيح عندهم، كالأخبار التي رواها في تحريف القرآن وإسقاط بعض آيات منه. والحلي أيضا حكم بوضع بعض أخبار رواها الكليني أيضا، وكذا أبو جعفر الطوسي، كخبر ليلة التعريس وخبر ذي اليدين. وبالغ المرتضى في وضع ما رواه شيخ شيخه ابن بابويه والصفار من خبر المساق؛ مع أن إسناد كل منهما صحيح عندهم.

الفصل التاسع عشر في أن معتقدات الرافضة وهميات

اعلم أنما اعتقدته الرافضة من الإله والرسول والأئمة ليس له وجود في الأعيان:

أما معبودهم: فهو عند بعضهم رجل واحد، أو اثنان، أو خمسة، وكل منهم يأكل ويشرب وينكح ويلد ويولد، ويغلب عليه عباده؛ أو أنه روح حل في رجل يصح ويمرض ويأكل ويشرب. وعند بعضهم أنه جسد له طول وعرض وعمق وشكل وصورة ورائحة، ونصفه الأعلى أجوف ونصفه الأسفل صمد. وعند بعضهم أنه جسم على صورة إنسان، وهو في مكان وجهة. وبعضهم يعتقده أنه لم يكن في الأزل عالما ولا سميعا ولا بصيرا؛ وبعضهم يجوز عليه الجهل في الأزل، وأنه لا يعلم الأشياء قبل كونها وإنما يعلمها بعد كونها. وعند بعضهم أنه لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها. وعند بعضهم أنه أوجب عليه أمورا، وإن ترك بعض ما يجب عليه استحق الذم. وعند بعضهم أنه لا يحصل أكثر مراداته في الدنيا، وكثيرا ما يقع مراد من يعاديه كإبليس وجنوده وسائر الكفرة. وعند بعضهم أنه يرضى لعباده الضلال، وأن له شريكا في الخلق - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

ولا شك أن ما وصفوه بما وصفوه ليس هو الإله الحق، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع العليم.

وأما الرسول الذي يقتدونه: فهو رجل من العرب لم يبلغ بعض رسالات ربه، وليس هو أفضل الخلق، بل من ليس بنبي يساويه، وأنه رد الوحي مرتين، وأنه لم يبلغ رسالة ربه في آخر حياته خوفا من ضرر أصحابه، وأنه حلل ما شاء وحرم ما أراد، وأنه أمر خيار أهل بيته أن يكذبوا على الله ورسوله ما داموا أحياء، وأن يفتوا في الدين بخلاف ما أنزل الله تعالى، وأن يحللوا فروج فتياتهم لشيعتهم، وأن يكرهوهن على البغاء إن أردن تحصنا، وأن يأمروا شيعتهم بإخراج أمهات أولادهم وسائر جواريهم لأهل مذهبهم، وأن يقرءوا في الصلاة بعض كلمات ليست من القرآن، وألا يقرءوا فيها بعض ما هو القرآن، وأن يأمروا شيعتهم أن يرضوا من خالفهم في المذهب بما لا يرضى الله تعالى لهم من الإضلال، وأن لا يعلموهم أصول دينهم، إلى غير ذلك مما ثبت عند الشيعة من العقائد الفاسدة والأحكام الكاسدة،

ولا شك أن النبي الموصوف بهذه الصفات ليس هو محمد ﷺ، بل لم يرسل الله تعالى مثل هذا النبي الذي وصفوه الشيعة بما وصفوه.

وأما إمامهم في كل عصر: فهو رجل كثير الخوف، يخشى من صفير الصافر. وعندهم أن جميع أئمتهم أذلاء مغلوبون، يفترون على الله الكذب، ولا يمكنهم إظهار الحق، ويخشون من محبيهم الذين يصلون عليهم في صلواتهم، ويرخصون المؤمنات أن يصلين حالة الجنابة، وينصرون الباطل طول أعمارهم، ويقرؤون في صلواتهم ما يجزمون بأنه ليس من القرآن، وينهون شيعتهم عن أن يحدثوا النساء بعض ما وجب عليهن. وخاتمهم كما زعموا أشدهم جبنا، وقد اختفى لما خوّفه في صباه بعض الناس، ولا يظهر من شدة الخوف على أحد، لا على أعدائه ولا على أحبائه، خوفا أن ينتشر بسببهم خبره، وذلك غاية الجبن. وقد طالت مدة غيبته، فتعطل بسببه الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، وسائر الحدود الشرعية، وأن بعض الشيعة يزعم أن إمامه لا يجب عليه شيء، وله أن يفعل ما يشاء، وله إسقاط التكاليف الشرعية. وبعضهم يزعم أن إمامه يعلم المغيبات وأنه يناجي ربه.

فلا شك أن مثل هؤلاء الأئمة لم يوجد في زمان قط إلا في أوهامهم، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

الفصل العشرون في بيان غلو الرافضة في مذاهبهم الباطلة

اعلم أن أشد الفرق الهالكة غلوا في مذهبهم الرافضة، فإنهم يغلون في دينهم أشد المغالاة ويقولون على الله ما لا يعلمون. وهم أشبه الناس باليهود كما سبق.

وقد اتفق جميع فرقهم على الغلو في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه حتى فضلوه على الأنبياء، وفي تكفير بعض أمهات المؤمنين والمهاجرين والأنصار الذين مدحهم الله تعالى في كتابه وأخبر بأنه رضي عنهم ورضوا عنه وأنهم أصحاب الجنة. وقد بالغت الرافضة في تتبع مثالبهم والاستدلال على مطاعنهم بالأخبار الموضوعة والأخبار التي لا توجب علما، مع أن لها محامل صحيحة. وقد ورد في القرآن ما يدل بظاهره على صدور الذنب عن بعض الأنبياء، كقوله تعالى: {وعصى آدم ربه فغوى} وسيجيء ما يتعلق بهذا في مباحث النبوة إن شاء الله تعالى. وقد روي عن الأمير من الأفعال والأقوال ما يدل بظاهره على صدور الذنب، كما ذكره المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة. وقد جعلت الرافضة الآيات الواردة في فضائلهم من المتشابهات، كما ذكره ابن شهر آشوب في مثالبه، وجعلت الأحاديث الصحيحة فيها من الموضوعات.

وأما ما تفردت به كل فرقة من الغلو فهو في الدعاوى الكاذبة والعقائد الزائغة.

أما الغلاة فغلوهم ظاهر، حيث اتخذوا ابن البشر إلها، وقالوا بتعدد الآلهة والحلول من غير دليل.

وأما الكيسانية فغلوهم في إمامة محمد بن علي بعد أبيه من غير برهان، مع وجود السبطين، ودعوى كونه معصوما دونهما، وأنه حي في جبل رضوى، مع أربعين رجلا من أصحابه، عنده ماء وعسل، وأنه صاحب الزمان، وأنه يظهر بعد حين، وأن الله تعالى يوحي إلى الأئمة ونوابهم، وأن من خالفهم كافر.

وأما المختارية منهم فغلوهم في المختار بن أبي عبيد الثقفي حتى قالوا إنه يوحى إليه، وقد ادعى ذلك لنفسه. وهو الكذاب الذي أخبر عنه النبي ﷺ فقال: «إن في ثقيف لمبيرا وكذابا»، والمبير هو حجاج بن يوسف الثقفي.

وأما الكندية منهم فغلوهم فيما تقدم، وفي دعواهم إمامة ابن حرب الكندي الذي كان جهولا كذوبا، مع وجود كثرة العلماء من أهل البيت وقريش والكبراء والسادات.

وأما المنصورية منهم فغلوهم فيما تقدم، وفي دعواهم إمامة المنصور الدوانيقي، مع وجود من سبق، وفي اعتقاد كون الإمام معصوما، وكونه أفضل من رعيته، مع أن المنصور لم يكن من أهل العصمة.

وأما الزيدية غير الأولى منهم فغلوهم في تكذيب ما في القرآن من كون المهاجرين والأنصار من أهل الجنة، وفي أن صاحب الزمان حي مختف، سيظهر أمره بعد حين، وأن المنتظر من قتل أو مات، وفي تضليل مخالفيهم. ولكن بعض فرقهم أقل غلوا من سائر فرق الشيعة.

وأما الإمامية فغلوهم في إنكار بعض كلمات القرآن، وفي نبذ ما ورد فيه من فضائل المهاجرين والأنصار وسائر الصحابة الأخيار، وفي تكفير الصحابة كلهم إلا أربعة أو ستة، وفي لعن أكابر الصحابة وبعض أمهات المؤمنين، وفي اعتقاد وجوب لعنهم، وفي ادعاء أن عليا أفضل من الملائكة والرسل إلا محمد فإنه يساويه، وأن لعلي حقا على الله تعالى ورسوله ﷺ. وأن المراد من الرب في أكثر القرآن علي بن أبي طالب، كما نص عليه علي بن موسى بن طاووس، وأن رقية وأم كلثوم لم تكونا من بنات النبي ﷺ. وأن الله تعالى خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له لأنه سبحانه أودع في صلبه عليا وأولاده، وأن الرسل بعثوا على ولاية علي، وأنهم يسألون الله تعالى أن يجعلهم من شيعة علي. وأن درجة الرسل دون درجة علي في الجنة، وأن شيعته لا تسأل عن ذنوبهم، وأنه لا يدخل الجنة إلا من كان من شيعة علي، وأنهم لا يعذبون في النار، وأنهم يدخلون الجنة بغير حساب. وأن في القرآن تحريفا ونقصا، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى من الخرافات.

وأما الإسماعيلية فغلوهم في صفات الله تعالى بما يوجب ارتفاع النقيضين مع أشياء أخر تقدم ذكرها.

وأما القرامطة فغلوهم في أنهم كفروا بآيات الله تعالى وفي تحليل ما حرم الله سبحانه.

وأما النزارية فغلوهم في ترك العمل بالظواهر وتأويل النصوص بما هو أوهن من نسج العنكبوت.

وأما الغلاة منهم فغلوهم في إسقاط أحكام الشريعة رأسا، وكانوا يعيشون مثل البهائم لا يحللون حلالا ولا يحرمون حراما، فهم كالأنعام أو أضل سبيلا.

الفصل الحادي والعشرون في بيان من لقب هذه الفرقة بالرافضة

اعلم أن أول من لقّب هذه الفرق الضالة بالرافضة هو الإمام الأجل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ووجه تلقيبهم بهذا اللقب هو أن الإمام زيد رضي الله تعالى عنه لما خرج على هشام بن عبد الملك تبعه خلق كثير من العلماء والقراء وجم غفير من شيعة الكوفة وغيرهم، وكان رضي الله تعالى عنه من الطبقة الثالثة من التابعين ومن كبار أهل البيت الطاهرين، وقد حث الإمام أبو حنيفة الناس على متابعته ومبايعته ونصرته وأفتى بصحة خلافته ووجوب نصرته، وأرسل له اثني عشر ألف دينارا من ماله واعتذر من عدم الحضور بنفسه بأن عنده ودائع الناس. فحاربه أمير العراقين يوسف بن عمر الثقفي، الذي يضرب به المثل في الحمق، ووقع بينهما محاربات كثيرة، وأرسل إليه الثقفي جموعا عظيمة فحاربوه، ولما حمي الوطيس حث الإمام زيد رضي الله تعالى عنه الناس على محاربتهم، فجاء إليه أهل الكوفة - وكانوا خمسة عشر ألفا - وقالوا له: إن تبرأت من أبي بكر وعمر أعناك وحاربنا معك الأعداء، وإلا رفضناك، فقال زيد رضي الله تعالى عنهما: لا أتبرأ منهما أبدا بل أتولاهما، فإن أبي كان يتولاهما ولا يذكرهما إلا بخير سرا وعلانية، فقالوا له: إذن نرفضك، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الرافضة، فولوا على أدبارهم ورفضوه، فقاتل مع من بقي من المسلمين المخلصين أشد قتال، وهو يتمثل بقوله:

ذل الحياة وعز الممات وكلًّا أراه طعاما وبيلا

فإن كان لا بد من واحد فسيري إلى الموت سيرا جميلا

وحال المساء بين الفريقين، فانصرف زيد وقد أصابه سهم في جبهته، فطلبوا من ينزع النصل، فأتي بحجام من بعض القرى، فاستكتموا أمره، فاخرج النصل، فمات رضي الله تعالى عنه من ساعته، فدفنوه في ساقية ماء، وجعلوا على قبره التراب والحشيش، وأجروا الماء على ذلك، وحضر الحجام مواراته، فعرف الموضع، فلما أصبح دخل على يوسف فدله على موضع قبره. فاستخرجه يوسف، وبعث رأسه إلى هشام، فكتب إليه هشام أن يصلبه عريانا، فصلبه يوسف كذلك.

وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه وجماعة من المحدثين أنه لما صلبه عريانا في سنة إحدى وعشرين ومائة نسجت العنكبوت على عورته من يومه. وذكر أبو بكر بن عياش وجماعة من الأخباريين أن زيدا رضي الله تعالى عنه بقي مصلوبا خمس سنين عريانا فلم ير أحد عورته سترا من الله تعالى له، وذلك بالكيا من الكوفة، ولم يذكروا نسج العنكبوت. وهذا يدل بظاهره على أنه تعالى أعشى أبصار الخلق عن رؤيتها، وهذا أعجب من الأول. وهو من أعظم كراماته وخوارق عاداته، رضي الله تعالى عنه وأرضاه. ولما مات هشام أمر من استخلف بعده - وهو ذو اليدين - أن يدفن، وقيل: أمر بحرقه ونسفه في اليم نسفا، وقيل: أمر هشام بذلك بعد أن صلب عريانا. وروى غير واحد عن جمع من الصالحين أنهم رأوا النبي ﷺ وهو مستند إلى الجذع الذي صلب عليه الإمام يقول للناس: "هكذا تفعلون بولدي؟"

أقول: وقد رأيت في بعض المواضع أن سبب خروج الإمام زيد رضي الله تعالى عنه أنه كان يدخل على هشام بن عبد الملك بن مروان من فجار بني أمية وظلمتهم، فكان يقع بينهما محاورات، فيفحمه زيد رضي الله تعالى عنه حتى يخجل بين جنده وأعيان مملكته، ومن ذلك أنه قال له يوما: أنت زيد المؤمل للخلافة؟ وما أنت وذاك؟ وأنت ابن أمة، فقال له زيد رضي الله تعالى عنه: إن الأمة لو قصرت بولدها عن بلوغ المعالي لما بعث الله تعالى نبيا هو ابن أمة وجعله أبا للعرب وأبا لخير النبيين، وهو إسماعيل -على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام- وكانت أمه مع أم إسحاق كأمي مع أمك، وما تعييرك برجل أبوه رسول الله ﷺ وجده علي بن أبي طالب. فلما خرج قال هشام لجلسائه: ألستم زعمتم أن أهل هذا البيت قد انقرضوا؟ ألا لعمر الله ما انقرض قوم هذا خلفهم. ودخل عليه مرة أخرى فرأى عنده يهوديا يسب، قيل: كان يسب النبي ﷺ وقيل: كان يسب أبا زيد، فانتهره زيد وقال له: يا كافر، أما والله لئن تمكنت منك لقتلتك، فقال هشام: مه يا زيد، لا تؤذي جليسنا، فخرج قائلا: من استشعر حب البقاء استدثر الذل إلى الفناء.

هذا وقد أخبر النبي ﷺ عليا كرم الله تعالى وجهه بتسمية هذه الفئة الضالة بالرافضة، وأخبره بعلاماتهم. وقد شاع إطلاق هذا اللقب عليهم سنة ثلاث وعشرين ومائة إلى زماننا هذا. خذلهم الله تعالى وأخزاهم.