الرئيسيةبحث

السيوف المشرقة/المقصد الثالث

لنصير الدين محمد الشهير بخواجة نصر الله الهندي المكي، اختصره وشذبه محمود شكري الآلوسي
  ► المقصد الثاني في الإلهيات المقصد الثالث في مباحث النبوة المقصد الرابع في الإمامة ☰  

☰ جدول المحتويات



المقصد الثالث في مباحث النبوة


الفصل الأول في أن البعثة لطف من الله تعالى

ذهبت الكيسانية والزيدية الغير المخلصين والإمامية إلى أنه يجب على الله تعالى بعث الأنبياء. وهو باطل.

والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم أن بعث الأنبياء لطف من الله تعالى ورحمة لما فيه من الحكم والمصالح التي لا تحصى، كمعاضدة العقل فيما يستقل بمعرفته، مثل وجوب الواجب وعلمه وقدرته وإرادته واستفادة ما لا يستقل به كالمعاد الجسماني وتكميل النفوس الإنسانية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات وتعليم الأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والصناعات الكاملة كالمنازل والمدن والإخبار بتفاصيل ثواب المطيع وعقاب العاصي، إلى غير ذلك من الفوائد التي لا تحصى.

واحتج من خالف أهل الحق بأن نظام العالم المؤدي إلى صلاح العباد وعلى العموم في المعاش والمعاد لا يكمل إلا ببعثة الأنبياء، فيكون واجبا.

والجواب أنه لا يجب عليه شيء كما سبق غير مرة.

الفصل الثاني في جواز خلو الزمان عن نبي ووصي

ذهبت السبعية من الإسماعيلية إلى أنه يجب أن يكون في كل عصر نبي أو وصي، ولا يجوز خلوه عن أحدهما، وكذا الإمامية والمفضلية والعجلية والإسحاقية، غير أن الفرق الثلاثة الأخيرة ذهبوا إلى أنه لا يخلو زمان عن نبي. والكل باطل.

والحق ما ذهب إليه أهل السنة وجمهور المسلمين من أنه لا يجب ذلك لما سبق، ولأن الكتاب ناص على وجود زمن الفترة.

واحتجت الإسماعيلية على مذهبهم بأنه لما كان العالم العلوي مشتملا على عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية يصدر عنها الكائنات، وجب أن يكون في العالم السفلي عقل كامل كلي ونفس ناقصة كلية نسبتها إلى الرسول الهادي إلى سواء السبيل نسبة النفس الأولى إلى العقل الأول فيما يعود إلى الإيجاد، وهذه النفس هي الإمام والوصي للرسول. ولما كان تحرك الأفلاك بتحريك العقل كان تحرك النفس الإنسانية إلى النجاة بتحريك الرسول، فعلى هذا لا يخلو الزمان عن أحدهما.

والجواب أن هذا استدلال بما تتوهمه الأوهام ولا تقبله العقول والأفهام، ولا نسلم أن العالم العلوي مشتمل على عقل ونفس، ولو سلم فلا نسلم أن العالم السفلي مشتمل عليهما أيضا، بل هذا ادعاء محض.

واحتجت الإمامية بأن وجود أحدهما لطف، واللطف واجب عليه سبحانه.

والجواب أنه لا يجب عليه سبحانه اللطف كما برهنا عليه سابقا، ولا حجة للمفضلية والعجلية على ما زعموه. والكتاب ناص على أن النبوة قد ختمت. وكذا الأخبار الصحيحة والآثار المروية عن أهل البيت.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل}، {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}.

وأما الأخبار الصحيحة: فمنها ما رواه البخاري في صحيحه قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين". ومثله في صحيح مسلم والترمذي. وقال عليه الصلاة والسلام: «لا نبي بعدي» إلى غير ذلك.

وأما الآثار المروية عن أهل البيت؛ فمنها ما روي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول في صلاته على النبي ﷺ: "اللهم داحي المدحوات ورافع المسموكات، اجعل شرائف صلواتك ونواحي بركاتك على محمد عبدك ورسولك، الخاتم لما سبق والفاتح لما أغلق"، وقال في بعض خطبه: "أرسله على فترة من الرسل وطول الحجة من الأمم"، وقال أيضا: "أمين وحيه وخاتم رسله وبشير رحمته ونذير نقمته"، إلى غير ذلك.

الفصل الثالث في أن الرسول أفضل الخلق ولا يكون غيره أفضل منه

ذهبت الإمامية وكثير من فرق الشيعة إلى أن عليا أفضل من الرسل إلا محمدا ﷺ فإنه يساويه في الفضل، وكذا الأئمة من ولده. وقالت فرقة منهم: هو أفضل من جميع الرسل إلا أولي العزم، فإنه يساويهم في الفضل، وكذا الأئمة من ولده. وتوقف بعضهم في الأفضلية على أولي العزم، منهم ابن المطهر الحلي. والكل باطل.

والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم أن غير النبي لا يكون أفضل من النبي، لإجماع المسلمين في القرون الثلاثة على ذلك، وهذا الإجماع حجة بالاتفاق، لأن فيهم أئمة. وقد روى أهل السنة والزيدية عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أنه كان يضلل القائل بالتفضيل على الأنبياء. ولكون رتبة الأنبياء أرفع قدموا في الذكر قال تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} وقال ﷺ: "الأنبياء والرسل سادة أهل الجنة".

واحتج من خالف أهل الحق بما رواه الراوندي عن أبي عبد الله قال: "إن الله عز وجل فضل أولي العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم وورثنا علمهم وفضلنا عليهم، وعلم رسول الله ﷺ ما لا يعلمون، وعلمنا علم رسول الله ﷺ "، وتلا قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. وما رواه حسن بن كبش عن أبي ذر قال: نظر النبي ﷺ إلى علي بن أبي طالب وقال: "هذا خير الأولين وخير الآخرين من أهل السموات والأرض". وما رواه عن أبي وائل عن عبد الله بن عباس قال: حدثني رسول الله ﷺ قال: قال لي جبريل: "علي خير البشر، ومن أبى فقد كفر". ومما رواه ابن بابويه وغيره من الإمامية عن أبي عبد الله أن النبي ﷺ قال لعلي: "يا علي، ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا".

والجواب أن هذه الأخبار كلها موضوعة مكذوبة على أهل البيت، وقد تفرد بها الإمامية. ولا يجوز الاحتجاج بها عندهم لأنها معارضة بمثلها. فقد روى الكليني وغيره عن هشام الأحول أنه قال: "سألت زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: الأنبياء أفضل أم الأئمة؟ فقال: الأنبياء أفضل". ولو كانت الأئمة أفضل لأخبره بذلك أبوه، ولو أخبره لما خالفه. وروت الزيدية عن الأئمة الثلاثة أن من قال إن إماما من الأئمة أفضل من نبي فهو هالك. وروى محمد بن بابويه القمي في الأمالي عن الصادق عن آبائه في خبر تزويج فاطمة لعلي أن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها: "ألا إني زوجت أحب النساء إلي أحب الرجال إلي بعد النبيين"، والأحب أفضل. ولأن تلك الأخبار على فرض صحتها لا تفيد في باب العقائد لأنها أخبار آحاد وهي تفيد الظن، ولأنها ليست بحجة مطلقا عند المحققين من الإمامية، كابن زهرة وابن إدريس وابن السراج والمرتضى وجمع من المتقدمين والمتأخرين. ولأن الزيادة في العلم لا توجب الأفضلية بمعنى كثرة الثواب، وإلا لزم كون خضر أفضل من موسى لكونه أعلم، على ما نص عليه الكتاب، ولا قائل به. روى ابن الشريفة الواسطي عن ميثم الهاشمي عن أمير المؤمنين: "أن موسى بن عمران أنزل الله عليه فظن أن لا أحد أعلم منه، فأخبر أن في خلقه من هو أعلم منه، فدعا ربه أن يرشده إلى العالم، فجمع الله تعالى بينه وبين خضر". والمراد بالعلم في قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} العلم النافع في الدين، الذي هو مناط الاعتقاد والعمل. وأما غيره من العلوم فلا يوجب التفضيل، ولم يكن نبي من الأنبياء غير عارف بشيء منه. ومن ادعا مساواة أحد من الأئمة لنبي من الأنبياء فليس له دليل عليه.

وزاد في الغلو الإمامية فقالوا: لولا علي لم يخلق الله الجنة ولا الأنبياء ولا الملائكة. وتمسكوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان -شيخ المرتضى وأبي جعفر الملقب عندهم بالمفيد- عن محمد بن الحنفية قال: قال أمير المؤمنين: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "أنا سيد الأنبياء وأنت سيد الأوصياء، لولانا لم يخلق الجنة يا علي ولا الأنبياء ولا الملائكة". وهذا أيضا من مفترياتهم، إذ هذه المرتبة لم تثبت لغير رسول الله ﷺ.

الفصل الرابع في أن النبي لا يحتاج إلى غير النبي لا يوم القيامة ولا في الدنيا

ذهبت الإمامية إلى أن كل نبي مرسل وملك مقرب محتاج إلى علي بن أبي طالب يوم القيامة.

واحتجوا على ذلك بما رواه ابن بابويه عن سماعة قال: قال أبو الحسن: "إذا كان يوم القيامة لم يبق ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان إلا وهو محتاج إلى محمد وعلي في ذلك اليوم". وروى ابن بابويه أنه وجد بخط محمد بن الحسن بن علي العسكري ما نصه: "أعوذ بالله من قوم حذفوا محكمات الكتاب ونسوا رب الأرباب والنبي وساقي الكوثر في يوم الحساب ولظى الطامة الكبرى ونعيم دار المتقين، فنحن السنام الأعظم، وفينا النبوة والولاية والكرم، نحن منار الهدى والعروة الوثقى، فالأنبياء كانوا يقتبسون من أنوارنا، ويقتفون آثارنا، وسيظهر حجة الله على الخلق، والسيف المسلول لإظهار الحق".

والجواب أن هذه محض كذب وبهتان، ليس لهم على ذلك حجة ولا برهان. والناس إنما يحتاجون إلى سيد الكونين ورسول الثقلين ﷺ، فإنه صاحب الشفاعة العظمى والحوض المورود والمقام المحمود، الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، وبيده لواء الحمد، وآدم ومن دونه تحت لوائه. وابن بابويه نفسه قد نص في بعض كتبه على وضع ما وجد بخط محمد. ألا لعنة الله على الكاذبين.

الفصل الخامس في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا عارفين بما يجب من اعتقادات

زعمت الإمامية أن بعض الرسل كانوا غير عارفين بكل ما يجب على المكلف معرفته.

واحتجوا على ذلك بما روى محمد بن بابويه القمي في أخبار الرضا وكتاب التوحيد عن علي بن موسى الرضا عن آبائه عن علي بن أبي طالب، ومحمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن أبي جعفر: أن موسى بن عمران سأل ربه فقال: "يا رب، أبعيد أنت مني فأناديك أم قريب فأناجيك؟" وروى الكليني عن أبي عبد الله: أن يونس كان يقول في سجوده: "أتراك معذبي فقد عفرت لك بالتراب وجهي، أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، قال: فأوحى الله عز وجل إليه أن ارفع رأسك فإني غير معذبك"، فقال: إن قلت: لا أعذبك ثم عذبتني؟ قال: "فإني غير معذبك، إني إذا وعدت وعدا وفيت".

والجواب أن هذين الخبرين من الأخبار الموضوعة، بناءً على ما تقرر من أنه إذا أوهم الخبر باطلا ولم يقبل تأويلا قطع بكذبه. ولا شك أن هذين الخبرين من هذا القبيل على ما لا يخفى.

الفصل السادس في أن الأنبياء لم يصدر عنهم ذنب كان الموت عليه هلاكا

ذهبت الإمامية إلى أن بعض الرسل أذنب بعد البعثة ذنبا كان الموت عليه هلاكا.

واحتجوا بما رواه الكليني في الكافي عن ابن يعفور قال: سمعت أبا عبد الله يقول وهو رافع يده إلى السماء: "رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ولا أقل من ذلك"، فما كان بأسرع من أن تحدر الدمع من جوانب لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا ابن يعفور، يونس بن متى وكله الله عز وجل إلى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلك الذنب، قلت: فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ فقال: لا، ولكن الموت على تلك الحالة هلاك".

والجواب أن يونس عليه السلام لم يحدث قط ذنبا، وقوله تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} لا يدل على أنه أذنب ذنبا، لأن غضبه كان لله على قوم كفروا به، فخرج منهم بغير وحي من الله تعالى، وهو ليس بذنب، ونقدر من القدر، وهو الضيق كما في قوله تعالى: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} والمعنى فظن أن لن نضيق عليه؛ وأما اعترافه بالظلم فهو هضم للنفس واستعظام لما صدر عنه من ترك الأولى، وهو الخروج بغير وحي. وقد روي مثل ذلك عن كثير من الرسل والأنبياء وأوصياء الأمة الذين هم عند الإمامية أفضل من الأنبياء.

الفصل السابع في أن الأنبياء عليهم السلام كانوا منزهين عن الخصال الذميمة

زعمت الإمامية أن بعض النبيين كان يحسد بعض الرسل وخيار عباد الله الصالحين على ما آتاهم الله من فضله.

واحتجوا على ذلك بما رواه محمد بن بابويه القمي في أعيان أخبار الرضا ومعاني الأخبار عن ابن موسى الرضا: أن آدم لما أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة له، وإدخاله الجنة قال في نفسه: أنا أكرم الخلق، فناداه الله عز وجل ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش، فوجد فيه مكتوبا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله أمير المؤمنين، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب، من هؤلاء؟ فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك، وهم خير أمتك من جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض، فإنك إن تنظر إليهم بعين الحسد أخرجتك من جواري، فنظر إليهم بعين الحسد، فسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى الله عنها. وروى ابن بابويه أيضا في معاني الأخبار عن الفضل بن عمر عن أبي عبد الله قال: لما أسكن الله عز وجل آدم وزوجه الجنة قال لهما: {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم، فوجداها أشرف منازل أهل الجنة، فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟ فقال الله جل جلاله ارفعا رؤوسكما إلى ساق عرشي، فرفعا رؤوسهما، فوجدا أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبار جل جلاله، فقالا: يا ربنا ما أكرم هذه المنزلة عليك وما أحبهم إليك وما أشرفهم لديك! فقال الله جل جلاله لولاهم ما خلقتكما، هؤلاء خزنة علمي وأمنائي على سري، إياكما أن تنظرا إليهم بعين الحسد وتتمنيا منزلتهم عندي ومحلهم من كرامتي، فتدخلا من ذلك في نهيي وعصياني، فتكونا من الظالمين، فوسوس إليهما الشيطان فدلاهما بغرور وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهما بعين الحسد فخذلا لذلك".

والجواب أن هذا الخبر أيضا من مفترياتهم وكذبهم. وقد ذم الله تعالى اليهود لحسدهم فقال تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}. وقد وردت أحاديث صحيحة عند الفريقين في ذم الحسد. والمذموم من الحسد أحد الكبائر، فكيف يتصف به آدم عليه السلام؟ والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن المعصية قبل النبوة وبعدها.

وفي كتابي مختصر التحفة في هذا المقام ما يشفي العليل.

الفصل الثامن في أن الأنبياء عليهم السلام أقروا جميعا يوم الميثاق بما خاطبهم الله تعالى

ذهبت الاثنا عشرية وجمع من الإمامية إلى أن آدم أبا البشر لما أخرج الله تعالى ذريته من صلبه وخاطبهم سبحانه بقوله: ألست بربكم؟ وهذا محمد رسول الله؟ وعلي أمير المؤمنين؟ وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزان علمي؟ وأن المهدي أنتقم به من أعدائي وأعبد به طوعا وكرها؟ قالوا: أقررنا وشهدنا، وآدم لم يقر ولم يكن له عزم على الإقرار به. واحتجوا على ذلك بما رواه محمد بن الحسن الصفار عن أبي جعفر في خبر الميثاق أنه قال: "قال الله لآدم وذريته التي أخرجها من صلبه: ألست بربكم؟ وهذا محمد رسول الله؟ إلى قوله: وآدم لم يقر".

والجواب أن هذا أيضا من موضوعاتهم ومفترياتهم، كيف لا وهو يوجب تكفير رسول خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه واصطفاه وأمر الملائكة بالسجود له، ومن كفر نبيا فهو كافر كما هو ظاهر. وقد بالغ المرتضى في عدم صحة هذا الأثر وأنكر الميثاق في كتابه المسمى بالدرر والغرر.

الفصل التاسع في أن نبيا من الأنبياء لم يعتذر عن الرسالة ولم يستعف منها

ذهبت الإمامية إلى أن بعض الرسل من أولي العزم استعفا عن الرسالة واعتذر عنها.

واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون} فهذه الآية تدل على الاعتذار والاستعفاء.

والجواب أن هذه الآية لا تدل مدعاهم؛ لأن قوله: {ويضيق صدري} لم يكن اعتذارا عن الامتثال، بل إنه تمهيد لطلب المعين على تنفيذ الأمر وأداء الرسالة، ولم يرد أن يكون المرسل أخاه دونه، بل استدعى ضمه إليه واشتراكه في أمره، والمعنى فأرسل جبريل إلى هارون أخي واجعله نبيا يعينني على الرسالة. يدل عليه قوله تعالى: {واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري} الآية، وقوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني}. وقوله: {فأخاف أن يقتلون} ليس تعللا بل هو استدفاع البلية المتوقعة، كما أن قوله: {أخاف أن يكذبون} استمداد استظهار في أمر الدعوة. وأيضا خاف أن يقتل قبل أداء الرسالة، لأن فرعون أمر قومه أن يقتلوه حيث وجدوه قبل قتل القبطي والفرار منهم، فكيف يكون تعللا؟ فقد ظهر لك بطلان ما ذهبوا إليه.

الفصل العاشر في أن المبعوث هو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه

ذهبت الغرابية إلى أن الله تعالى لم يبعث محمدا نبيا ولم يرسل إليه جبريل بالرسالة، ولكنه أرسله إلى علي بن أبي طالب، وكان محمد أشبه بعلي من الغراب بالغراب والذباب بالذباب، وقد بعث الله جبريل إلى علي فغلط جبريل في تبليغ الرسالة إلى علي بن أبي طالب، فبلغها إلى محمد بن عبد الله. قال شاعرهم: "غلط الأمين فحادها عن حيدره"، ويلعنون صاحب الريش، ويعنون به جبريل عليه السلام.

وهذا باطل عند أهل الحق ومن وافقهم من الفرق، لقوله تعالى: {محمد رسول الله}، {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}، {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين}، {ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد}.

وفي التوراة في السفر الأول منها، قال الله تعالى لإبراهيم: "إن هاجر تلد ويكون من ولدها من يده فوق الجميع، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع". وفي السفر الخامس منها: "يا موسى إني مقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم وأجري قولي في فيه ويقول لهم ما آمره به، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا أنتقم منه". وفي السفر الخامس أيضا: "أن الرب جاء من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى من جبال فاران، ومعه عن يمينه ربوات جيش القديسين إلى الشعوب، ودعا لجميع قديسيه بالبركة". فمجيء الرب تعالى من طور سيناء هو إنزاله التوراة على موسى، وإشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى، لأنه سكن في ساعير أرض الخليل في قرية ناصرة، واستعلاؤه من جبال فاران إنزال القرآن على محمد ﷺ، وفاران هي جبال مكة على قول الجميع.

وفي الإنجيل: قال المسيح للحواريين: "أنا ذاهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له، وهو يشهد علي، وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس، وكل شيء أعده الله لكم يخبركم به". وفي نقل يوحنا عنه: "أن الفارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا، ولكنه مما يسمع به يكلمكم، ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب". وفي نقل آخر عنه: "إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله باسمي هو يعلمكم كل شيء". وفي نقل آخر عنه: "أن البشير ذاهب، والفارقليط بعده يجيء لكم، ويقسم لكم كل شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني لأجيئكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل". والفارقليط بلغتهم لفظ من الحمد: أحمد أو محمود أو محمد.

وفي الزبور: "يا أحمد، فاضت الرحمة على شفتيك، من أجل ذلك أبارك عليك، فتقلد السيف، فإنه بهاؤك وحمدك الغالب، وبوركت كلمة الحق، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، سهامك مسنونة، والأمم يجبرون، تحتك كتاب حق، جاء الله من اليمن، والتقديس من جبل فاران، فامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه، وملك الأرض ورقاب الأمم". وفي موضع آخر منه: "لقد انكسفت السماء من بهاء أحمد، وامتلأت الأرض من حمده". وفيه: "سبحان الذي هيكله الصالحون، يفرح إسرائيل بخالقه، وبيوت صهيون من أجل أن الله اصطفى له أمته، وأعطاه النصر، وسدد الصالحين منه بالكرامة، يسبحونه على مضاجعهم، ويكبرون الله تعالى بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذوات شفرتين، لينتقموا من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود، وأشرافهم بالأغلال". ومعلوم أن سيوف العرب هي ذوات الشفرتين، ومحمد ﷺ هو المنتقم بها من الأمم. وفيه: "أن الله أظهر من صيفون إكليلا محمودا"، وصيفون العرب، والإكليل النبوة، ومحمود هو محمد ﷺ. وفي مزمور آخر منه: "أنه يجوز من بحر إلى بحر، ومن أنهار إلى أنهار، إلى منقطع الأرض، وأن تخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، وتلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين، وتسجد وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، لأنه يخلص الضطهد البائس ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وأنه يعطي من ذهب بلاد شتى، ويصلي عليه في كل وقت، ويبارك عليه في كل يوم، ويدوم ذكره إلى الأبد". ومعلوم أنه لم يكن هذا إلا لمحمد ﷺ، إلى غير ذلك من البشائر التي لا تحصيها الدفاتر، وكلها تدل صراحة على أن النبي محمد لا علي. وقد اعترفت العيسوية من اليهود وكثير من النصارى بنبوته ﷺ، غير أنهم يزعمون أنه مبعوث للعرب خاصة.

وقد ثبت عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه لدى الفريقين أنه كان يقول: "وأشهد أن محمدا عبده المصطفى وأمينه المرتضى، أرسله لوجوب الحجج وظهور الفلج وإيضاح المنهج، فبلغ الرسالة صادعا بها، وحمل على الحجة دالا عليها". وكان يقول أيضا: "أقام أعلام الاهتداء ومنار الضياء"، ولأنه لما ادعى محمد ﷺ النبوة بادر علي إلى تصديقه، فآمن به ونصره وقاتل معه من أنكر نبوته.

والحاصل أن هذا كلام مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يستوجب أن يعرج عليه، فإن بطلانه غير خفي على أحد، وفساده لا ينكر ولا يجحد. والله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته ويودع من شاء حكمته ونبوته. والله يهدي من يشاء على صراط مستقيم.

الفصل الحادي عشر في أن محمدا ﷺ خاتم النبيين

ذهبت الخطابية والمعمرية والمفضلية والإسحاقية والمنصورية والسبعية إلى أن محمدا ﷺ ليس بخاتم النبيين. فزعمت الخطابية أن الأئمة أنبياء، وأن أبا الخطاب نبي. وأبو الخطاب هذا كان يتردد إلى جعفر بن محمد الصادق فلما علم منه غلوه فيه تبرأ منه، فلما اعتزل عنه ادعى الأمر لنفسه، فزعم أنه نبي، والأنبياء عليهم السلام فرضوا على الناس طاعته. والمعمرية زعمت أن جعفر بن محمد نبي، وبعده أبو الخطاب، وبعده معمر. وزعمت العجلية والمفضلية والمنصورية أن الرسل لا تنقطع أبدا، وأن أبا منصور نبي. وكان أبو منصور رجلا من بني عجل، وكان أبوه من عجل، سما نفسه إلى الصادق، فلما رأى سوء اعتقاده تبرأ منه وطرده. وزعم أنه رأى الله ومسح رأسه بيده وقال: "يا بني، اذهب فبلغ عني"، ثم أنزله إلى الأرض، وكان يقول: أنا الكسف في قوله تعالى: {وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم}. وزعمت السبعية أن خاتم الرسل هو المهدي. وزعمت الإسحاقية أن الأرض لا تخلو من نبي. وكل ذلك باطل.

والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من المسلمين من أن محمدا خاتم النبيين، لقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار وأخبار الكتب السماوية. ولا حجة لهؤلاء الغواة على ما زعموه. إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس.

الفصل الثاني عشر في أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد من الرسل والأئمة

ذهبت الإمامية إلى أن الله تعالى فوض أمر الدين إلى رسول الله ﷺ فيحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ثم من بعده إلى الأئمة من أهل بيته.

وشبهتهم في ذلك: ما رواه حسين بن محمد بن جمهور القمي في النوادر عن محمد بن سنان قال: "كنت عند أبي جعفر، فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد، إن الله تعالى لم يزل منفردا بالوحدانية، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين، فمكثوا ألف سنة، فخلق الأشياء وأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورهم إليهم، يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون". وما رواه الكليني عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله قال: "إن الله تعالى أدب نبيه ﷺ فإذا انتهى إلى ما أراد قال له: {وإنك لعلى خلق عظيم} وفوض إليه أمر دينه". وما رواه أيضا عن محمد بن الحسن الميثمي عن أبي عبد الله قال: سمعته يقول: "إن الله تعالى أدب رسوله حتى قومه على ما أراد، ثم فوض إليه دينه فقال: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} فما فوضه الله إلى رسوله ﷺ فقد فوضه إلينا".

والجواب أن هذه الأخبار كلها موضوعة. والحسين بن محمد روى عن الضعفاء، وكثيرا ما اعتمد على المراسيل، قال النجاشي: "ذكره أصحابنا بذلك"، والميثمي من المجسمة.

والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم من أن الله تعالى لم يفوض أمر الدين إلى أحد، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}. ولو فوض الله تعالى أمر دينه إلى النبي ﷺ والأئمة لجاز العمل بكل ما روي عنهم، لأن كلا من هؤلاء صاحب شرع، فلا حاجة إلى التوفيق بين الروايات المتعارضة وارتكاب التكلفات في ذلك، أو لم يجز العمل بشيء منها، لأن كلا منهم راعى مصلحة في الأمر والنهي، وهي مستورة، فيلزم التعطيل. ولأنه لو فوض سبحانه أمر دينه إلى رسوله ﷺ لم يعاتبه على كثير من الأمور، [كالإذن بالتخلف] عن غزوة تبوك وإنجاز الأسرى يوم بدر وتحريم مارية القبطية على نفسه وغيرها، والمخصص يطالب بالبرهان. والقول بأن العتاب بسبب التعجيل وترك التأمل قول لا طائل تحته، لأن من فوض الله إليه دينه وكان مأمونا من الخطأ معصوما عن الزلل كيف يصدر عنه ما يوجب العتاب؟ ولأنه ﷺ أجل من أن يأمر وينهى ويتكلم فيما يتعلق بأمر الدين من غير روية، وقد أدبه ربه فأحسن أدبه حتى انتهى إلى ما أراد. ولأن من كان معه الروح الأمين يقومه ويسدده -على ما زعموا- كيف يصدر عنه ما يوجب العتاب؟ ولأن التأمل في الحكم ليظهر الأولى اجتهاد، وقد أجمعت الإمامية على عدم جواز الاجتهاد على المعصوم، ولو جاز تفويض الأحكام له لجاز أن يجتهد، ليظهر له ترجيح أحد الأمرين. ولأن الأئمة يروون الحلال والحرام عن آبائهم عن النبي ﷺ، ولم يرو أحد من الشيعة أنهم حللوا شيئا حرمه رسول الله ﷺ أو حرموا شيئا حلله. فعزو هذا القول إليهم كذب وافتراء. وقد شددت الزيدية النكير على القائل بالتفويض، وكذبوا من عزاه إلى أهل البيت. والحق أحق بالاتباع.

الفصل الثالث عشر في أن المعراج لرسول الله ﷺ حق

ذهبت الإسماعيلية والمعمرية والذمية إلى أن المعراج باطل وخبره كذب. وشبهتهم في ذلك أن الحركة البالغة إلى هذا الحد من السرعة ممتنعة.

والجواب أنها ممكنة في نفسها، كما هو المعلوم من طلوع قرص الشمس، فإنه يحصل في زمان لطيف في غاية السرعة. وقد ثبت في الهندسة أن قرصها يساوي كرة الأرض مئة وستين مرة، وذلك يدل على أن بلوغ الجسم في الحركة إلى ما ذكرنا أمر ممكن في نفسه، ولأن النص دل على أن الذي عنده علم من الكتاب أحضر عرش بلقيس من اليمن إلى الشام في مقدار لمح البصر، وقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالق العالم قادر على جميع الممكنات. ومن شبههم أيضا أن صعود الثقيل إلى العلو محال فإنه يميل إلى المركز دائما. والجواب أنا لا نسلم أنه محال، بل هو ممكن كما هو مشاهد من صعود الطيور العظام، وقد تقف في الجو عند قبض أجنحتها وبسطها: {أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن}، والمغناطيس إذا حاذى الحديد وهو فوقه يجذبه إلى العلو مع ثقله.

ومن شبههم أن العروج يستلزم خرق الأفلاك، وهو مستحيل.

والجواب أن الاستحالة ممنوعة، وذلك لأن الأجسام متماثلة، فيصح على كل جسم ما يصح على الآخر، والنص يدل على وقوعه، قال تعالى: {إذا السماء انشقت}، {إذا السماء انفظرت} وغير ذلك. ودلائل الفلاسفة على الاستحالة مردودة في كتب الكلام.

وذهبت طائفة أخرى من الشيعة، وهم المنصورية، إلى أن المعراج لم يكن مخصوصا بمحمد ﷺ، فإن أبا منصور العجلي قد عرج بجسده إلى السماء في اليقظة.

وذهبت الإمامية إلى أن عليا رأى ما رآه النبي ﷺ ليلة أسري به. ويحتجون بما رواه ابن بابويه في كتاب المعراج من خبر طويل أن عليا كان ليلة المعراج في الأرض، ولكنه رأى من ملكوت السماء ما رآه النبي ﷺ. وقد رووا ما يعارض هذا من أن عليا كان على نوق من نياق الحبشة وبيده لواء الحمد وحوله شيعته ومحبيه.

وجميع هذه الأقوال مما لا ينبغي أن يلتفت إليها، لأنها أشبه شيء بهذيان المحموم. فما ذهب إليه أهل السنة من أن المعراج، وهو الإسراء بالنبي ﷺ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السماوات السبع فما فوقها بجسده في اليقظة مختصا به، هو الحق الحقيق بالقبول، لقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، {ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى}. والأخبار الصحيحة في ذلك كثيرة في كتب الفريقين.

الفصل الرابع عشر في أن ما ورد من النصوص محمولة على ظواهرها

ذهبت السبعية من الإسماعيلية والمنصورية والخطابية والمعمرية والباطنية والقرامطة والرزامية إلى أن ما ورد في الكتاب والسنة من الوضوء والتيمم والصلاة والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة وغيرها ليست على ظواهرها، بل كلها مؤولة.

فزعمت السبعية من الإسماعيلية أن الوضوء عبارة عن موالاة الإمام، والتيمم الأخذ من المأذون عند غيبة الإمام الحجة، والصلاة عبارة عن الناطق الذي هو الرسول، بدليل قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، والزكاة عبارة عن تزكية النفس، والكعبة عبارة عن النبي، وكذا الصفا، والباب عبارة عن علي، وكذا المروة، والميقات والتلبية عبارة عن إجابة دعوة الإمام، والطواف بالبيت سبعا عبارة عن الأئمة السبعة، وهم الذين بين النطقاء إلى الأنبياء، والسلام عبارة عن إفشاء سر من أسرارهم إلى من ليس من أهله، والغسل عبارة عن تجديد العهد، والجنة عبارة عن راحة الأبدان عن التكليف، والنار عبارة عن تعبها بمزاولة التكاليف.

والباطنية من الإسماعيلية أولوها مثل السبعية إلا أنهم أولوا الطواف سبعا بموالاة الأئمة السبعة، الذين هم علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وإسماعيل بن جعفر، وهو آخر الأئمة عندهم.

والقرامطة منهم أولوا الجنة بالنعم، والنار بالسقم. وهم الذين فعلوا ما فعلوا بالحجاج في البيت المكرم وأباحوا المحرمات وقلعوا الحجر كما سبق.

والبرقعية منهم أنكروا كثيرا من النبيين.

وزعمت الباطنية أن الأحكام من الصلاة والصوم والزكاة وغير ذلك مما ابتدعه الخلفاء، والصوم شهرا ابتدعه عمر.

وقالت الخطابية والمنصورية والمعمرية والجناحية: الفرائض المذكورة في الشريعة أسماء رجال أمرنا بموالاتهم، والمحرمات أسماء رجال أمرنا بمعاداتهم.

وقالت المنصورية والرزامية: الجنة رجل أمرنا بمبايعته وهو الإمام، والنار رجل أمرنا ببغضه وهو خصم الإمام، كأبي بكر وعمر.

وقالت المعمرية: الجنة نعيم الدنيا، والنار آلامها، فالدنيا لا تفنى. إلى غير ذلك من الخرافات والأكاذيب.

والحق ما ذهب إليه أهل السنة ومن وافقهم أن ما ورد في الكتاب والسنة محمول على ظاهره غير مؤول. فإن النبي ﷺ فسر ذلك للأمة ونقل إلينا متواترا. ولا حجة للمخالفين على ما زعموا من التأويلات الباطلة.

وقد أباح هؤلاء الفجرة وطء البنات والأمهات والعمات والخالات وغيرهن من المحارم، وسيرون ماذا يلاقون من غضب الله وسيصلون جهنم وساءت مصيرا.

الفصل الخامس عشر في أنه تعالى لم يرسل بعد خاتم الأنبياء ملكا إلى أحد بالوحي

ذهبت الإمامية إلى أن الله تعالى أرسل جبريل بعد خاتم النبيين ﷺ إلى علي بن أبي طالب يبلغه رسالات ربه، لكنه يسمع صوته ولا يراه. واستدلوا على ذلك بما رواه الكليني في الكافي عن السجاد أنه قال: "إن علي بن أبي طالب كان محدثا، وهو الذي يرسل الله إليه الملك فيكلمه ويسمع الصوت ولا يرى الصورة".

والجواب أن هذه الرواية كذب، مع أنه يناقضها الروايات الأخر الثابتة عندهم عن الأئمة. منها أن النبي ﷺ قال: "أيها الناس، لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات". ومنها ما ثبت عندهم: أن الله تعالى أنزل كتابا مختوما بخواتيم الذهب إلى النبي ﷺ وهو أوصله إلى الأمير، والأمير أوصله إلى الإمام الحسن، وهكذا إلى المهدي، وكان السابق يوصي اللاحق أن يفك خاتما واحدا من ذلك الكتاب ويعمل بما فيه. فلا حاجة حينئذ إلى إرسال الملك والإيحاء. ولأنهم زعموا أن الله تعالى فوض أمر الدين إلى الأئمة، فلهم أن يفعلوا ما يشاءون.

وذهبت طائفة من الإمامية إلى أن سيدة النساء فاطمة رضي الله تعالى عنها كان يوحى إليها بعد وفاة النبي ﷺ، وقد جمع ذلك الوحي بعضهم وسماه مصحف فاطمة، ويزعمون أن أكثر الوقائع المستقبلة والفتن والملاحم مذكورة فيه، والأئمة إنما كانوا يخبرون الناس بأخبار الغيب من ذلك المصحف. سبحانك هذا بهتان عظيم. وكيف ساغ لهم التلفظ بمثل هذا الكلام وهم يتلون قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.

الفصل السادس عشر في أن النسخ من وظائف الشارع

ذهبت الاثنا عشرية وجمهور الإمامية إلى أن بعض الأحكام ينسخه خاتم الأئمة. وذهبت الحميرية إلى أن الإمام يجوز له أن ينسخ الأحكام كلها.

واحتجوا على ذلك بما رواه محمد بن بابويه القمي عن أبي عبد الله أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى آخى بين الأرواح في الأزل قبل أن يخلق الأجساد بألفي عام، فلو قد قام قائم أهل البيت ورث الأخ من الذين آخى بينهما في الأزل ولم يورث الأخ من الولادة".

والجواب أن هذه الرواية كذب وافتراء. ومما يدل على ذلك أن التكاليف الشرعية لما كانت لازمة لعامة الناس لا بد أن تكون منوطة بالعلامة الظاهرة والأمور الجلية، كالتوالد والقرابة ونحوهما مما يدركه البشر، والمؤاخاة الأزلية لا يدركها العقل. ونص الإمام لا يمكن في كل فرد فرد.

والحاصل أن قولهم هذا مخالف لظاهر العقل، لأن الإمام خليفة النبي في ترويج الشريعة وتعليمها، فإن كان له دخل في تبديل الأحكام وتغييرها فقد خالفه مع أنه ليس بشارع، وكذا النبي ﷺ لقوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الآية، وقوله تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} فالناسخ هو الله تعالى، ولا يجوز لنبي ولا رسول أن ينسخ حكما فضلا عن الإمام. ونسأل الله تعالى التوفيق، نعم المولى ونعم الرفيق.