الرئيسيةبحث

السيوف المشرقة/المقصد الخامس

لنصير الدين محمد الشهير بخواجة نصر الله الهندي المكي، اختصره وشذبه محمود شكري الآلوسي
  ► المقصد الرابع في الإمامة المقصد الخامس في رد مطاعن الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم المقصد السادس في المعاد ☰  



المقصد الخامس في رد مطاعن الخلفاء الثلاثة وأم المؤمنين وسائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم


اعلم أن الشيعة أوقدوا نار الحرب بأسنة الشبه أمام كل لاحب، فعشى إليها كل أعشى غرّه قياس الشبهة ولم يعلم أنه نار الحباحب، وسلكوا كل طرق من طريق الضلال وتمسكوا بما وسوست إليهم شياطينهم من الأفعال والأقوال، حتى أطالوا لسانهم على أصحاب سيد الكونين ورسول الثقلين وحور عين العماء وتورد وجنة النبوة وآدم عليه السلام بين الطين والماء، ولم يعلموا أن الله تعالى أخرجه من قشر الإمكان لبابا واختاره من بين أعيان الأعيان واختار له أصحابا فبدو في سماء الدين نجوما وغدوا لشياطين الكفرة الملحدين رجوما.

أرخصوا في الوغي نفوس ملوك ** حاربوها أسلابها إغلاء

كلهم في أحكامه ذو اجتهاد ** وصواب وكلهم أكفاء

رضي الله عنهم ورضوا عنه ** فأنى يخطو إليهم خطاء

ويكفي الرافضة خزيا معاداتهم لمثل هؤلاء الرجال الذين بذلوا أنفسهم ونفيسهم لتشييد الدين الدين ومحو الكفر الضلال، فتفوهوا في حقهم بما لا يخفى بطلانه على صغار المتعلمين فضلا عن الراسخين من العلم من المسلمين. فدونك فانظر فيها وتأمل بظواهرها وخوافيها.

المطاعن الأولى في الصديق الأجل رضي الله تعالى عنه

منها أنه صعد يوما على منبر رسول الله ﷺ ليخطب فقال له السبطان: انزل عن منبر جدنا. فعلم أن ليس له لياقة الإمامة.

والجواب بعد التسليم أن السبطين كانا إذ ذاك صغيرين، فإن الحسن ولد في الثالثة من الهجرة في رمضان والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشرة، فأفعالهما إن اعتبرت بحيث يترتب عليها الأحكام لزم ترك التقية الواجبة، وإلا فلا نقص ولا عيب، فمن دأب الأطفال أنهم إذا رأوا أحدا في مقام محبوبهم ولو برضائه يزاحمونه ويقولون قم عن هذا المقام. فلا يعتبر في العقلاء هذا الكلام. وهم وإن ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكام. ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد الكمال. ألا ترى أن الأنبياء لم يبعثوا إلا على رأس الأربعين إلا نادرا كعيسى، والنادر كالمعدوم.

ومنها أنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه أيضا. ولهذا أنكر عليه عمر لأنه قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة.

وجوابه أن في قتله شبهة، إذ قد شهد عنده أن مالك وأهله أظهروا السرور فضربوا بالدف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي ﷺ، بل وقد قال في حضور خالد في حق النبي ﷺ قال: رجلكم أو صاحبكم، وهذا التعبير إذ ذاك من شعار الكفار المرتدين. وثبت عنه أيضا أنه قال لما سمع بالوفاة فردّ صدقات قومه عليهم: "قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل". فلما حكي هذا للصديق لم يوجب عليه القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما. فليتدبر. هذا ثم إن الصديق حكم في درء القصاص حكم رسول الله ﷺ، إذ قد ثبت في التواريخ أن خالدا هذا أغار على قوم مسلمين فجرى على لسانهم: "صبأنا صبأنا" أي صرنا بلا دين، وكان مرادهم أنا تبنا عن ديننا القديم ودخلنا في الصراط المستقيم، فقتلهم خالد حتى غضب عبد الله بن عمر فأخبر النبي ﷺ فأسف وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يقتص منه ولم يودهم. فالفعل هو الفعل، على أن الصديق أودى.

ويجاب أيضا أنه لو كان توقف الصديق في القصاص طعنا لكان توقف الأمير في قتلة عثمان أطعن، وليس فليس. وأيضا استيفاء القصاص إنما يكون واجبا لو طلبه الورثة، وليس فليس. بل ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع عشقه له، ومحبته فيه تضرب بها الأمثال، وكان يقول:

وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالكا ** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق، فلذا لم يقتص من خالد. والله ولي التوفيق.

ومنها أنه تخلف عن جيش أسامة المجهز للروم مع أنه ﷺ أكد التأكيد الشديد حتى قال: "جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف".

وجوابه إن كان الطعن من جهة عدم التجهز فهذا افتراء صريح، لأنه جهز وهيأ؛ وإن كان من جهة التخلف فله عدة أجوبة. الأول أن الرئيس إذا عين رجلا مع جيش ثم أمره بخدمة من خدمات حضوره فقد استثناه وعزله، والصديق لأمره بالصلاة كذلك، فالذهاب إما ترك الأمر أو ترك الأهم وهو محافظة المدينة المنورة من الأعراب. الثاني أن الصديق قد انقلب له المنصب، لأنه كان آحاد المؤمنين فصار خليفة النبي ﷺ فانقلبت الأحكام. ألا ترى كيف انقلبت أحكام الصبي إذا بلغ والمجنون إذا عقل والمسافر إذا أقام والمقيم إذا سافر إلى غير ذلك. والنبي ﷺ لما ذهب فالخليفة لكونه قائما مقامه يكون كذلك. الثالث أن الأمر عند الشيعة ليس مختصا بالوجوب، كما نص عليه المرتضى في الدرر والغرر، فلا ضرر في المخالفة. وجملة "لعن الله من تخلف" لم تثبت في كتب أهل السنة. الرابع أن مخالفة آدم ويونس لحكم الله تعالى بلا واسطة عند الشيعة، فالإمام لو خالف أمرا واحدا فلا ضير، فتدبر. الخامس أن الأمر عام يشمل جميع الصحابة، وكان علي منهم، والجواب هو الجواب.

ومنها أن النبي ﷺ لم يؤمّر أبا بكر قط على أمر مما يتعلق بالدين، فلم يكن حريا بالإمامة.

الجواب أن هذا كذب محض. يشهد على ذلك كتب السير والتواريخ. فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضا في غزوة بني فزارة كما رواه الحاكم عن سلمة بن الأكوع، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضا ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضا بالصلاة قبل الوفاة، إلى غير ذلك مما يطول. ويجاب أيضا على تقدير التسليم بأن عدم الجعل ليس لعدم اللياقة، بل لكونه وزيرا ومشيرا على ما هو العادة. روى الحاكم عن حذيفة بن اليمان أنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إني أريد أن أرسل الناس إلى الأقطار البعيدة الممتدة لتعليم الدين والفرائض كما كان عيسى أرسل الحواريين" قال من الحضار: يا رسول الله مثل هؤلاء الناس موجودون فينا كأبي بكر وعمر، قال: "لا غنى لي عنهما إنهما من الدين كالسمع والبصر". وأيضا قال ﷺ: "أعطاني الله أربعة وزراء، وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر". وأيضا لو كان عدم الإرسال موجبا لسلب اللياقة يلزم عدم لياقة الحسنين، معاذ الله من ذلك.

ومنها أن أبا بكر ولّى عمر أمور المسلمين مع أن النبي ﷺ ولاه على أخذ الصدقات سنة ثم عزله، فالتولية مخالفة.

ويجاب بأن هذا محض جهالة. أفيقال لانقطاع العمل عزل؟ وعلى تقدير العزل فأين النهي عن توليته كي يلزم المخالفة بالتولية؟ فافهم.

ومنها أن النبي ﷺ جعله وعمر تابعين لعمرو بن العاص وأسامة أيضا، ولو كانا لائقين لأمّرهما.

ويجاب بأن ذلك لا يدل على الأفضلية ونفي اللياقة، إذ المصلحة ربما اقتضت ذلك. فإن عمرا ذا خديعة ومكر وحيل عارفا بمكائد الأعداء، ولم يكن غيره فيها كذلك، كما يولّى مثل هذا لأخذ السارقين وعسس الليل ونحوهما مما لا يولى عليه الأكابر. وأسامة استشهد أبوه على أيدي كفار الشام والروم، فكان ذلك تسلية له وتشفية. وأيضا مقصود النبي ﷺ من ذلك إطلاعهما على حال التابع والمتبوع كما هو شأن تربية الحكيم خادمه، فلا تغفل.

ومنها أن أبا بكر استخلف والنبي ﷺ لم يستخلف، فقد خالف.

ويجاب بأنه ﷺ أشار بالاستخلاف، والإشارة إذ ذاك كالعبارة. وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثو عهد بالإسلام وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات. وفي كل زمان رجال، ولكل مقام مقال. وأيضا عدم استخلاف النبي ﷺ إنما كان لعلمه بالوحي بخلافة الصديق كما ثبت في صحيح مسلم، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة. ونعم ما عمل فقد فتح البلاد ورفع ذوي الرشاد وأباد الكفار وأعاذ الأبرار.

ومنها أن أبا بكر كان يقول: "إن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني"، ومن هذا حاله لا يليق بالإمامة.

ويجاب بأن هذا غير ثابت عندنا. بل الثابت أنه أوصى عمر قبل الوفاة وقال: "والله ما نمت فحلمت وما شبهت فتوهمت، وإني لعلى السبيل ما زغت ولم آل جهدا، وإني أوصيك بتقوى الله تعالى" الخ. نعم أول خطبة خطبها على ما في مسند الإمام أحمد: "يا أصحاب الرسول، أنا خليفة الرسول، فلا تطلبوا الأمرين الخاصين بالنبي ﷺ الوحي والعصمة من الشيطان" وفي آخرها: "إني لست معصوما، فإطاعتي فرض عليكم فيما وافق سنة الرسول وشريعة الله تعالى من أمور الدين، ولو أمرتكم فرضا بخلافها لا تقبلوه مني ونبهوني". وهذا عين الإنصاف. ولما كان الناس معتادين عند المشكلات الرجوع إلى وحي إلهي وإطاعة النبي المعصوم ﷺ كان لازما على الخليفة التنبيه على الاختصاص بالجناب الكريم. وأيضا روى الكليني في رواية صحيحة عن جعفر الصادق: "إن لكل مؤمن شيطانا يقصد إغواءه". وفي الحديث ما يؤيد هذا أيضا، ومن جملته: "حتى أنت يا رسول الله؟ قال: نعم ولكن الله أعانني عليه فأسلم". فأين الطعن فيما ذكروه. والمؤمن يعتريه الشيطان بالوسوسة فينتبه. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}. نعم النقصان الاتباع، وهو بمعزل عنه.

ومنها ما روي عن عمر أنه كان يقول: "كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المؤمنين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وهو صريح في أن خلافته لم تبن على أصل.

والجواب أن هذا لا يدل على طعن في خلافة الصديق، فإن هذا الكلام من عمر ليس محمولا على الذم. وكيف يتصور منه ذلك وقد كانت إمامته بعهد أبي بكر إليه، والقدح في إمامة أبي بكر قدح في إمامته. بل هذا الكلام صدر من عمر في زجر رجل كان يقول في زمانه: "إن مات عمر أبايع فلانا وأجعله خليفة"، لأن واحدا أو اثنين كانا بايعا أبا بكر أولا فلتة وقد صارت بيعة في آخر الأمر متمكنة حتى تبعه المهاجرون والأنصار كلهم. فمعنى كلام عمر أنها بيعة واحد أو اثنين وإن كانت بلا تأمل ومراجعة، ولكن وصل الحق إلى أهله ولم يقع في غيره موقعه لأجل ما تبين من أدلة خلافته من إمامة الصلاة والقرائن الحالية والمقالية الواقعة من النبي ﷺ في حقه فقط، وقد سبق شيء منها. وفي صحيح البخاري من فضائل الصديق قال: أتت [امرأة] النبي ﷺ فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول الموت، قال ﷺ: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر". وغير ذلك. ولتحقق أفضليته على سائر الصحابة فلا يقاس عليه غيره. بل إن بايع أحد غيره كذلك فاقتلوه، فإنه ترك ما وجب عليه من التأمل والاجتهاد واجتماع أهل الحل والعقد وصار باعثا للفتنة والفساد بين أهل الإسلام. ويصرح بذلك ما ذكره عمر في آخر كلامه هذا: "وأيكم مثل أبي بكر" في الأفضلية والخيرية وعدم الاحتياج إلى المشورة والتأمل في حقه؟ فعلى هذا يكون معنى قول عمر: "وقى الله شرها" أن خلافة أبي بكر وإن وقعت عاجلة في سقيفة بني ساعدة لكن بفضل الله تعالى الحق استقر مركزه لما ذكرنا. وليس مراد عمر أن بيعة أبي بكر ما كانت صحيحة، لأن عمر وأبا عبيدة بايعاه أولا ثم الآخرون، وقال كل منهما في حقه: "أنت خيرنا وأفضلنا"، فلم ينكر عليهما أحد من المهاجرين والأنصار بل سلموه، فثبت أن كون أبي بكر أفضل عند جميع الصحابة مسلّم الثبوت، ولم يناقش الأنصار في ذلك بل ناقشوه في أن يكون خليفة منهم. وقد بايعه سعد بن عبادة بعد هذه المناقشة كما ثبت في الروايات الصحيحة. وبايعه بعد ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام واعتذرا عن التخلف بما اعتذرا.

ومنها أنه كان يقول: "أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم"، فإن ذلك منافٍ لإمامته مع صدقه، وكذا مع كذبه لقبح الكذب من سائر العباد، فكيف من الأئمة المطلوب منهم الهداية إلى جادة السداد والرشاد.

والجواب أن هذا الكلام ليس بثابت عن أبي بكر عند أهل السنة بل هو من مفتريات الرافضة. وعلى تقدير صحته فليس بوارد على أهل السنة أصلا، لأنه لا يلزم تفضيل علي عليه، لأنه إنما نفى خيريته على جميع الصحابة وعلي فيهم، ولا يلزم من نفي ذلك نفي المساواة، فاللازم من كلامه مساواته لهم وعلي فيهم، ولا يلزم من مساواته للجميع مساواته لكل فرد فرد منهم، بل اللازم خيريته على كل فرد فرد بطريق الانفراد ومساواته لجميعهم بطريق الاجتماع. ولو سلمنا أن اللازم من كلامه مساواته لعلي يكون ذلك من تواضعه وهضم نفسه لقيام الأدلة على تفضيله على علي، فيكون هذا الكلام منه على قول النبي ﷺ: "لا تفضلوني" وفي رواية: "لا تخيروني على الأنبياء" وقوله: "من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب"، مع أنه ﷺ أفضل المخلوقين كلهم الأنبياء وغيرهم بشهادة قوله ﷺ: "أنا سيد الناس يوم القيامة" رواه البخاري، وقوله: "أنا سيد العالمين" رواه البيهقي، وغير ذلك من الأحاديث.

وإن أرادوا الطعن بقوله: "أقيلوني" الخ فإنه استعفاء عن الإمامة وهو يدل على عدم اللياقة فعجيب ذلك منهم، لأن الاستعفاء عند الرافضة لا بأس به حتى جوزوه على الأنبياء على ما سبق في مقصد النبوة. وأيضا قد ورد عن علي بن أبي طالب مثل ذلك. فقد ذكر في نهج البلاغة أنه قال للناس بعد قتل عثمان: "دعوني والتمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا"، وقال لهم: "اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم"، فأبوا عليه وبايعوه. وأيضا روي في الصحيفة الكاملة عن السجاد أنه كان يقول في دعائه: "أنا الذي أفنيت في الذنوب عمري"، فإنه إن كان صادقا لا يليق بالإمامة وإن كان كذبا فكذلك لكذبه.

ومنها أن النبي ﷺ أرسله لأداء سورة براءة للناس بمكة ثم عزله عن ذلك ونصب عليا مكانه، ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها كيف يصلح للإمامة المتضمنة أداء الأحكام لجميع الناس.

والجواب أن هذا الكلام كذب وافتراء لإجماع المحدثين أن النبي ﷺ ولّى أبا بكر إمارة الحج وأن عليا تولى أمر القراءة فقط وأنهما ذهبا جميعا إلى مكة، وكان علي يقتدي بأبي بكر في ذلك السفر ويصلي خلفه ويتابعه في مناسك الحج. وقد صح في كتب الأحاديث والسير أن عليا لما خرج من المدينة مسرعا ووصل قرب أبي بكر وسمع أبو بكر حفيف ناقة رسول الله ﷺ اضطرب وظن أن الرسول جاء بنفسه لأداء الحج فأمر الجيش كلهم بالوقوف، فإذا علي طلع عليهم فاستفسر منه بعد ما لاقاه: "أمير أنت أم مأمور؟" فقال علي: "بل أنا مأمور"، فذهب أبو بكر مع عسكره وخطب قبل التروية وأخذ يبين مناسك الحج على طبق طريق الإسلام. وتولية علي رضي الله تعالى عنه على القراءة يدل على اعتناء النبي ﷺ بالصديق رضي الله تعالى عنه لأن قراءة سورة براءة في هذا الجم الغفير وتبليغها لكل منهم تحتاج إلى التردد الكثير والكلفة الشديدة وإلى رفع الصوت، ولا يمكن لأمير الحج لشغله بتفحص أعمال الحج وحفظ الناس من الفتنة والفساد وما يفسد الإحرام وغير ذلك، فأحب النبي ﷺ أن يؤدي هذا الأمر معه رجل عظيم القدر. ولأن عادة العرب في أخذ العهد ونبذه أن يتولاه الرجل بنفسه أو رجل من خاصة أهله، فأرسل عليا أميرا على القراءة وأبا بكر أميرا على الحج. وأيضا في ذلك مصلحة أخرى، وهي أن يتبين للناس أن العهد والميثاق معتنى بشأنه أشد اعتناء، لذا عيّن له شخصا ولم يجعله من توابع الحج. ولو سلمنا أنه عزل فعزله لم يكن لعدم أهليته لذلك لأنهم أجمعوا على عدم عزله عن إمارة الحج وكفى بها فضيلة، وإذا لم ينعزل عنها ثبت له اللياقة المتضمنة لإصلاح عبادات ألوف مؤلفة من المسلمين المستلزمة لأداء أحكام كثيرة وتعليم مسائل لا تحصى، فكيف لا يكون أهلا لقراءة آيات معدودة بصوت؟ على أن عليا لم ينفرد بذلك. فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: "بعثني أبو بكر في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان"، قال [حميد] بن عبد الرحمن: "ولى ﷺ أبا بكر الحج ثم أردف علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا علي يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان". وأيضا عزل عدلٍ يصلح للإمامة قد يكون لمصلحة فلا طعن فيها. وقد عزل الأمير كرم الله تعالى وجهه عمر بن أبي سلمة المخزومي عن ولاية البحرين وكان من خيار شيعته وكتب له: "إني استعملت النعمان بن عجلان [الزرقي] على البحرين ونزعت يدك بلا ذم لك ولا تثريب عليك فقد أحسنت الولاية وأديت الأمانة، فأقبل غير ضنين ولا ملوم ولا متهم ولا [مأثوم]" الخ، مع أن عمر كان أفضل من [الزرقي] حسبا ونسبا.

ومنها أنه منع فاطمة رضي الله تعالى عنه إرثها فقالت له: "يا ابن أبي قحافة ترث أباك ولا أرث أبي"، واحتج بخبر واحد تفرد به وقال إن رسول الله ﷺ قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"، مع أنه يخالف قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فإنه عام يشمل النبي وغيره، وقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} فإنه نص على أن الأنبياء يرثون ويورثون.

والجواب أن أبا بكر إنما منع ورثة النبي ﷺ عن الميراث للنص ولم ينفرد هو برواية الحديث. فإن حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة أيضا رووه. وأخرج البخاري في صحيحه عن مالك بن أوس البصري أن عمر بن الخطاب قال بمحضر من الصحابة وفيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: "أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله ﷺ قال: لا نورث ما تركناه صدقة، يريد بذلك نفسه؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على علي والعباس فقال: أنشدكما بالله هل تعلمان أن رسول الله ﷺ قد قال ذلك؟ قالا: نعم". فهذا الخبر مساوٍ للآية القطعية، ولا يخالفها لأنها من العموميات، وتخصيص الكتاب بالسنة جائز من غير نكير. ولأن الإمامية قد روت حديث الميراث في صحاحهم. فقد روى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق أنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر". وآخره ينص على ذلك أيضا لأن كلمة "إنما" موضوعة للحصر عند الفريقين. ولأن تخصيص الكتاب بخبر الآحاد جائز عند الفريقين. ولأن الآية عام مخصوص البعض كالقاتل والكافر، ودلالته ظنية فهي في الدلالة كخبر الآحاد. ولأن الخطاب للأمة والخبر مبين له. والآية الثانية لا تدل على التعميم فلا تنافي في التخصيص لأن المراد ورثة العلم والنبوة دون المال لما روى الكليني عن أبي عبد الله: "أن سليمان قد ورث داود وأن محمدا ورث سليمان". وأيضا لو كان المراد ميراث المال لم يخصّ سليمان بالإرث فإنه كان له عدة أولاد كما رواه الكليني عنه. وأيضا ما بعد هذه الآية وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} يدل على ذلك. وقد وقعت هذه الوراثة بهذا المعنى في غير آية من القرآن. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ}، {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}، وقال تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فإنه لما خاف بني عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل أن يغيروا الدين طلب من الله وليا من صلبه يخلفه في إحياء الدين كما يدل عليه قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}. وأيضا منصب النبوة يأبى طلب ولد يرث ماله، فإن القصد بقاء ذكر الوالد والدعاء له وتكثير سواد الأمة، فمن رامه لغيرها كان معلوما مذموما. وإقرار أمهات المؤمنين في الحجرات لأنها كانت في ملكهن لأنه ﷺ ملكهنّ في حياته. وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} دال على اختصاصهن بها. وإنما دفع سيفه وبغلته عليه الصلاة والسلام لعلي لأنه ﷺ أوصى بذلك، ولم يكن علي وراثه. فلا منافاة بين قول أبي بكر وفعله كما زعموه.

ومنها أنه منع فاطمة فدكا، وقد ادعت أنه ﷺ وهبها إياها فلم يصدقها مع عصمتها، فجاءت بعلي وأم أيمن فرد شهادتهما فغضبت عند ذلك، وقد قال ﷺ: "فاطمة بضعة مني من أغضبها أغضبني".

والجواب أن الموهوب لا يصير ملكا للموهوب له إلا بعد التصرف، وكان في يده عليه الصلاة والسلام يتصرف فيه كما يشاء إلى أن قضى نحبه. ولم يرد أبو بكر شهادة علي وأم أيمن بل طلب امرأة أخرى ليتم نصاب الشهادة، فلو حكم لكان مخالفا للنص. وعصمة المدعي لا توجب الحكم على وفق دعواه من غير بينة لعموم النص. ولا يقدح فيه غضبها، فإن الوعيد في إغضابها، والضابط في الإغضاب أن يقول الإنسان قولا أو فعلا يقصد بذلك أذى شخص فيغضب به. ولم يقصد أبو بكر أذاها، حاشاه ثم حاشاه عن ذلك، ولكنه حكم حكما شرعيا فغضبت منه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها مع نزاهة باطنها وطهارة قلبها كانت من البشر وكان لها نفس، وللنفس صفات تظهرها. وقد غضب موسى غضبا شديدا على أخيه حتى أخذ برأسه يجره إليه وألقى الألواح التي فيها كلام الله، وكان رسولا من أولي العزم وكان هارون أكبر منه. قال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ} وقال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا}. والقول بأنه لم يغضب ولكنه أظهر الغضب رجم بالغيب ودعوى بلا دليل.

ولأنه قد وقع منها الغضب مرارا على علي بن أبي طالب كما هو مشهور بين الفريقين. فمن ذلك أنها غضبت عليه لما أراد أن يخطب بنت أبي جهل وجاءت بين يدي أبيها ﷺ باكية وأن النبي ﷺ قال لذلك: "ألا إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما أرابها، فمن أغضبها أغضبني". ومنها أن عليا ناقشها يوما وخرج من البيت ونام على أرض المسجد بلا فراش، فاطلع رسول الله ﷺ على ذلك فجاء فاطمة فسأل: أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج.

ولأنه قد روى البيهقي في كتاب الاعتقاد أن أبا بكر دخل على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه. وروى بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاه أبو بكر الصديق فاستأذن عليا فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها وقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضاها حتى رضيت. والحمد لله.

وروى صاحب محجاج السالكين وغيره من علماء الشيعة أن هذا الأمر شق على أبي بكر فحضر على باب بيتها واستشفع من علي حتى رضيت فاطمة عنه. وروى عنه أيضا أن أبا بكر لما رأى فاطمة غضبت وهجرته ولم تتكلم بعد في أمر فذلك ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال لها: "يا ابنة رسول الله أنت محقة فيما ادعيت لكني رأيت رسول الله ﷺ يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطي منها قوتكم، فقالت: افعل فيها كما كان يفعل أبي رسول الله ﷺ، فقال: ولك الله علي أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك، فقالت: والله لتفعلن ذلك؟ فقال: اللهم اشهد، فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه، وكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل". ولأن ابن المطهر الحلي ذكر في كتابه منهاج الكرامة أنه لما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك كتب لها كتابا وردها عليها. فلا طعن بعدما ثبت عندهم هذا المقال، ولا قيل ولا قال.

ومنها أنه قطع يد السارق ولم يعلم أن القطع لليمنى.

والجواب أنه قطع يسار السارق للسرقة الثالثة، كما أخرج النسائي عن الحارث بن حاطب اللخمي والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وقطع مرة يسرى سارق أقطع اليد والرجل كما أخرج مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه. ولم يثبت عند أهل السنة أنها قطعت للسرقة الأولى. ولو سلمنا ذلك فأبو بكر من أهل الاجتهاد، فيحتمل أنه كان يرى بقاء الآية على إطلاقها، فإن الآية شاملة لكلا الأمرين، وأن قطعه عليه السلام يمين السارق في السرقة الأولى ليس على الحتم بل الإمام مخير في ذلك. وإنما وقع الإجماع على قطع الرجل في السرقة الثانية بعد أبي بكر.

ومنها أنه أحرق من أتى رجلا في دبره، وقد نهى النبي ﷺ عن التعذيب بالنار.

والجواب أن هذا الخبر لم يثبت بإسناد يحتج به، وإنما رواه البعض عن أبي ذر بإسناد ضعيف. وعلى فرض صحته لا يدل على أنه أحرقه حيا. وقد روى سويد بن غفلة أنه أمر به فضربت عنقه ثم أمر به فأحرق. واعترف به المرتضى. ولأن ترك العمل بخبر الواحد لا يوجب الطعن لأنه يحتمل أن يكون ذلك لما عنده من مخصص أو ناسخ أو ما يحمل الأمر به على الندب والنهي على التنزيه أو لم يثبت الخبر عنده. ولأنه ذكر المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة أن عليا أحرق رجلا أتى غلاما في دبره، وهو بظاهره يدل على أنه أحرقه حيا. ولأنه لو ثبت أنه أحرقه حيا فإنما فعل ذلك بأمر علي، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن أبي الدنيا بإسناد جيد عن محمد بن المنكدر والواقدي في كتاب الردة في آخر ردة بني سليم أن أبا بكر لما استشار الصحابة في عذاب اللوطي قال علي: أرى أن يحرق بالنار، واجتمع رأي الصحابة على ذلك، فأمر به أبو بكر فأحرق بالنار. وما ذكره بعضهم أن الفجاءة وهو رجل من بين سليم كان يقطع الطريق في خلافة أبي بكر فأتوا به مع رجل من بني أسد يقال له شجاع بن زرقاء ينكح في دبره نكاح المرأة، فتقدم أبو بكر فأمر أن يؤجج لهما نار عظيمة ثم زج الفجاءة فذهب فيها مشدودا فكلما مسته النار سال فيها وصار فحمة ثم زج شجاعا فيها غير مشدود فلما اشتعلت النار في بدنه خرج منها وأحرق بعد زمان فقال الناس في المدينة: "أوحى من عقوبة الفجاءة" فذهبت مثلا؛ فلم يصح. والصحيح إحراق ابن الزرقاء. وعلى فرض صحته فلا مطعن فيه لموافقة علي في ذلك. والمثل لا يدل على أن تلك العقوبة كانت بالإحراق.

ومنها أنه لم يعرف ميراث الجدة وحكم الكلالة.

والجواب أن عدم العلم ببعض المسائل لا يقدح في الإمامة. روى عبد الله بن بشر أن علي بن أبي طالب سئل عن مسألة فقال: "لا علم لي بها" ثم قال: "وأبردها على كبدي إن سئلت عما لا أعلم فأقول: لا علم لي بها" رواه سعدان بن نصير. ولأن داود عليه السلام لم يعرف ما هو الحق من الحكم {فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}، ولأن يونس عليه السلام لم يعلم أن الله لا يخلف الميعاد كما زعمت الشيعة على ما سبق. وروى صاحب قرب الإسناد من الإمامية عن إسماعيل بن جابر أنه قال: قلت لأبي عبد الله في طعام أهل الكتاب فقال: لا تأكله، ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تنزها، إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير"، فإن نهيه عن أكل الطعام ثم سكوته ثم أمره آخرا بالتنزه يدل على تردده فيه. ولأن صاحب الزعامة لا يلزم أن يكون عالما بجميع المسائل، فإن طالوت قد آتاه الله الملك مع أنه كان لا يعرف كثيرا من الأحكام الشرعية، وقوله تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} المراد منه علم الحروب، مع أنه لا يدل على أنه عالم بجميع الأحكام بحيث لا يشذ عن علمه حكم، وإنه لم يكن أعلم من نبي زمانه، بل كان داود عليه السلام أعلم منه. والله الموفق للسداد وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

المطاعن الثانية في حق الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه

منها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما طلب قرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده منع عمر قول النبي ﷺ ورد الوحي لأنه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، ورد الوحي كفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.

والجواب أنا لا نسلم أن جميع ما ينطق به النبي ﷺ عن وحي، لأنه لو كان كذلك لكان كل ما ينطق به مما علمه شديد القوى، وليس بالاتفاق. والآية لا تدل على ذلك، فإن الظاهر أن الضمير عائد إلى القرآن، وإرجاعه إلى كل ما ينطق تعسف، مع أن مجرد الاحتمال يبطل الاستدلال. ولأن الحق الذي اتفق عليه الفرق الإسلامية حتى الإمامية خلاف ذلك كما سيجيء إن شاء الله تعالى. ولأنه لو كان ينطق به عن وحي لم يعاتب على إذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك واتخاذ الأسرى وتحريم ما أحل الله. ولأن قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ناصّ على أن ليس كل ما ينطق عن وحي، فإنه لو كان الإذن عن وحي لم يقل له {لِمَ أَذِنْتَ}. ولأنهم يعتقدون أن الله تعالى فوّض أمر دينه إليه فحلل ما شاء وحرم ما شاء كما قدمنا ذلك في مقصد النبوة، فكيف يكون جميع ما يصدر عنه عن وحي؟

روى محمد بن الحنفية عن أبيه قال: قد كان كثر على مارية القبطية أم إبراهيم ﷺ في ابن عم لها قبطي كان يزورها ويختلف إليها، فقال النبي ﷺ: "خذ هذا السيف وانطلق فإن وجدته عندها فاقتله" فلما أقبلت نحوه علم أني أريده وأتى نخلة فرقى إليها ثم رمى بنفسه على قفاه وشعر برجليه فإذا به أجب أمسح ما له ما للرجال لا قليل ولا كثير، قال: فغمدت السيف ورجعت إلى النبي ﷺ فأخبرته، فقال: "الحمد لله الذي صرف عنا الرجس أهل البيت". كذا ذكره المرتضى في كتاب الدرر والغرر. فلو كان كل ما ينطق به النبي ﷺ عن وحي لكان أمره عليا بقتل القبطي عن وحي، ولا يقول به ذو لب. ولأن عليا خالف أمره ﷺ، فقد روى محمد بن بابويه في الأمالي والديلمي في إرشاد القلوب: أن رسول الله ﷺ أعطى فاطمة سبعة دراهم وقال لها أعطيها عليا ومريه أن يشتري لأهل بيته طعاما، وقد غلبهم الجوع، فأعطتها عليا وقالت إن رسول الله ﷺ أمرك أن تبتاع لنا طعاما، فأخذها علي وخرج من بيته ليبتاع طعاما لأهل بيته فسمع رجلا يقول: من يقرض الله الملي الوفي، فأعطاه الدراهم". فقد خالف أمر الرسول وتصرف في مال الغير. ولأن الشريف المرتضى ذكر في الدرر والغرر أن مجرد أمر الرسول لا يقتضي الوجوب. فلذلك راجع النبي ﷺ مراجعة خفيفة في ذلك حيث قال لمن اختلف من أهل البيت وتنازع في الأمر: حسبكم كتاب الله، ولم يخاطب النبي ﷺ بشيء قصدا للتخفيف عليه عند شدة الوجع وقرب الوفاة مع ما غشيه من الكرب من بعد التكلم. وليست المراجعة حكما بخلاف ما أنزل الله. وقد راجع النبي ﷺ ربه تسع مرات بإشارة موسى الكليم عليه السلام كما ذكر ابن بابويه في كتاب المعراج. وراجع موسى ربه: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ} حيث قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}، فلم تكن المراجعة ردا للوحي. ولأن خبر القرطاس كما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس هو أنه اشتد برسول الله ﷺ جدا فتنازعوا فقالوا: ما شأنه أهجر استفهموه، فذهبوا يروون عنه فقال: "دعوني ما أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة أو قال نسيتها". وفي رواية: وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال: غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله. وهو يدل على أن أهل البيت اختلفوا في الأمر، وإنما رجح عمر قول من ذهب إلى عدم الاحتياج لما عرف أن الأمر لم يكن جزما منه لأنه لم يبالغ فيه ولم يقل أولا ولا آخرا إن الله أمرني أن أكتب كتابا، فكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بالكتابة حين بدى له مصلحة ثم ظهر له أن المصلحة تركه فلم يكرر القول ولم يبالغ فيه ولم ينكر على من رأى أن المصلحة ترك الكتابة، فسكت عنها وأوصاهم بالأمور الثلاثة. ولأن النبي ﷺ كان مأمورا باستشارة الصحابة لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وكان عظماؤهم إذا أمرهم بأمر يراجعونه، فإن كان المأمور به جزما ما أمرهم به ولا تركه برأيهم. وقد راجعه علي حين استخلفه على المدينة فقال: "أتخلفني في النساء والصبيان". ولأنه تعالى قال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}، فإنه ناص على أنه قد يوافقهم في بعض من الأمر. ولأنه لو كان مأمورا بها من عند الله لأمضاه ولم يلتفت إلى قول من خالفه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. ولأن سكوته ﷺ دال على أنه رضي بما أشار به عمر. ولأن الإمامية روت أنه ﷺ رد ما أوحي إليه في غدير خم ولم يأتمر بما أمره ربه، وقد سبق ذلك في مباحث النبوة. ولأنهم رووا عن الأئمة أنهم حكموا بخلاف ما أنزل الله في كثير من الأحكام، وذلك مثل وطئ أمة الغير بإذنه، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وليس المحلَّلة زوجة ولا ملك يمين، وكجواز الصلاة مع الثوب المطلخ بدم الجروح والقروح، وقد قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، وكروايتهم عن الصادق النهي عن تعليم المرأة مسائل الاحتلام، وكروايتهم عن الكاظم النهي عن تعليم الخلق أصول دينهم، وقد أمر الله بذلك.

هذا وأقول إن لهذا الكلام تتمة لم يذكرها المؤلف، فإن أحببت الوقوف عليها فارجع إلى ترجمة التحفة أو مختصرها.

ومنها أنه قصد إحراق بيت فاطمة.

والجواب أن هذا كذب محض. وقد اختلفت كلمتهم في ذلك فالأكثرون منهم على أنه أحرقه، والآخرون قالوا إنه قصد إحراقه ولم يفعل. وكلا القولين باطل. على أن ذلك لو صح لأفسد عليهم أساس دينهم -أعني التقية- لأنهم زعموا أن ذلك كان بسبب إباء علي عن البيعة، مع أن الواجب عليه بمقتضى ما ذهبوا إليه إظهار البيعة تقية.

ومنها أنه أنكر موته ﷺ وحلف أنه لم يمت، ولم يدر أن الموت يجوز عليه حتى تلا أبو بكر قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.

والجواب أن إنكار موت شخص في وقت معين لا يستلزم إنكار موته مطلقا. وقوله لما تلا أبو بكر هذه الآية المذكورة كأني لم أسمع هذه الآية لا يدل على عدم علمه بها بل على عدم حضوره، ولأن البشر عند تفاقم أمواج الكرب والأحزام قد يجري على لسانه ما لا يعتقده. ولأن عدم العلم بجواز الموت على النبي ﷺ ليس بأعظم من عدم العلم بأنه تعالى يعلم السر وأخفى وأنه منزه عن المكان. وقد صح عند هؤلاء القوم أن موسى كليم الله لا يعلم ذلك.

ومنها أنه كان لا يعلم المسائل الشرعية، فأمر برجم امرأة حاملة فقال له أمير المؤمنين: إن كان عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها من سبيل، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر. وأراد أن يرجم مجنونة فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يبرأ ويعقل وعن الطفل حتى يحتلم". ولم يعلم أن الميت لا يحد فإنه غير مكلف، وقد ضرب ابنه أبا شحمة حد الزنا ولم يتم مائة جلدة حتى مات فضربه ما بقي بعد موته. ولم يعلم حد شرب الخمر. وأنه لقن الشهود. فهذه كلها تدل على قلة معرفته.

والجواب عن رجم الحاملة أنه لم يثبت، وعلى ثبوته فلعله لم يعلم بالحمل. وهو وإن كان محتاطا في الأحكام يمكن أن يطرأ عليه ذهول أو نسيان، وقد نسي آدم وموسى وفتاه كما نطق به الكتاب، ونسي النبي ﷺ كما رواه الكليني وأبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله كما تقدم، وكذا الأئمة كما رواه الطوسي عن [عبيد الله] الحلبي: "أن الإمام أبا عبد الله كان يسهو في صلاته ويقول في سجدة السهو: بسم الله وبالله وصلى الله على محمد وعلى آل محمد". وقوله: "لولا علي لهلك عمر" أراد به ما يعتريه من الحزن والغم بعد العلم بكونها حامل. وقد أمر النبي ﷺ بقتل القبطي بمجرد التهمة من غير جرم واحتياط منه في القتل. أو إن عمر علم بالحمل لكنه لم يعلم أنه نفخ فيه الروح، وإذا كان الحمل مضغة أو علقة يجب الحد لعدم الحياة ولا حجة للمنكر. ولأنه روي عن النبي ﷺ أنه أمر عليا بإقامة الحد على امرأة حديثة بنفاس فلم يقمه خشية أن تموت، فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال: أحسنت دعها حتى ينقطع دمها ثم أقم عليها الحد.

وأما إرادة رجم المجنونة فلم يثبت عند أهل السنة. وعلى فرض ثبوته فلعله لم يعلم بجنونها، كما لم يعلم النبي ﷺ بنفاس المرأة، وذلك لسكوتها وفقد أمارات الجنون. وعلى فرض علمه بجنونها يحتمل أن جنونها لم يبلغ إلى درجة المنع من الحد، فلما روى علي الحديث عمل بإطلاقه أو علم أن عليا كان أعلم بها منه. ولأن ابن بابويه القمي روى في فقيه من لا يحضره الفقيه أن عليا كان يأمر بإقامة حد السرقة على الصبي قبل أن يحتلم. وهذا يدل دلالة صريحة بأنه لم يعمل بما رواه وخالف رسول الله ﷺ. فعمر أراد إقامة الحد على من رفع عنه القلم مرة واحدة مع احتمال الذهول وعدم العلم بالمانع، وعلي أمر بإقامة حد السرقة على كل صبي يسرق وحكم به حكما جازما ومؤبدا مع علمه بكونه لم يحتلم. فلا يسوغ لهم الطعن على عمر في ذلك.

وأما حد الميت فهو أيضا من مفترياتهم. والصحيح أنه ضربه مائة جلدة ومات بعد حين من الحد.

وأما حد شرب الخمر فإنه لم يقدّر في زمن رسول الله ﷺ لشرب الخمر حد، وكان رسول الله ﷺ يحد شارب الخمر بضرب الجريد والنعال، وضرب مرة شارب خرم بجريدتين نحو أربعين كما رواه مسلم في صحيحه. ثم جلد أبو بكر أربعين. ثم لما أفضت الخلافة إلى عمر استشار الصحابة في حد الخمر فقال له علي: "أرى أن تجلد ثمانين جلدة"، واتفق على ذلك أصحاب رسول الله ﷺ. وقد صح ذلك عن الإمامية كما ذكره الحلي في منهاج الكرامة.

وأما تلقين الشاهد فكذب أيضا. والصحيح ما ذكرهابن جرير الطبري والإمام البخاري والحافظ عماد الدين بن الأثير والحافظ جمال الدين أبو الفرج بن الجوزي والشيخ شمس الدين المظفر سبط ابن الجوزي في تواريخهم هو: أن المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة وكان الناس يلقونه فكتبوا إلى عمر أنه زنى بامرأة يقال لها أم جميل وعليه شهود، فأمر أن يقدموا عليه جميعا المغيرة والشهود، فلما قدموا مجلس عمر فدعا بالمغيرة والشهود فتقدم واحد منهم فقال: رأيته بين فخذيها، فقال عمر: لا والله حتى تشهد أنك رأيته يلج فيها ولوج المرود في المكحلة، فقال: نعم أشهد على ذلك، ثم دعا شاهدا آخر فقال: علام تشهد؟ فقال: على شهادة الأول، فقال: هلا تشهد أنه يولج فيها ولوج المرود في المكحلة؟ قال: نعم حتى بلغ قدره، ثم دعا الشاهد الثالث فقال له: علام تشهد؟ فقال: على شهادة صاحبيّ، ثم دعا الرابع وكان غائبا، فلما حضر قال: ما عندك؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته جالسا ونفسا حسيسا وانتهازا، ورأيته مستبطنها ورجلين كأنهما أذنا حمار، فقال عمر: رأيته كالميل في المكحلة؟ فقال: لا، فأمر عمر أن يضرب كل من الشهود ثمانين سوطا. وقد روى ابن بابويه القمي في الفقيه أنه جاء رجل إلى أمير المؤمنين وأقر بالسرقة إقرارا تقطع به يده فلم يقطعها.

ومنها أنه منع عن المغالاة في المهر. فقد روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين أن عمر بن الخطاب أمر على المنبر أن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره، فذكّرته امرأة من جانب المسجد بقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} فقال عمر: كل أحد أعلم من عمر.

والجواب أنه ليس فيما ذكر طعن على عمر أصلا. وأما تسليمه للمرأة فلم يكن عجزا عن جوابها وإنما كان لمزيد أدبه مع كلام الله تعالى، إذ لا يليق بحال أهل الإيمان أن يصرفوا بإزائه فنون العلم وتوجيهات الجرح وأن يتكلموا بلم، بل لا يستقيم لهم إلا التسليم لظاهر الكلمات. وليس مقصود المرأة من تلاوة هذه الآية إثبات رضاء الله تعالى بمغالاة المهور، وإلا لكان ذلك مخالفا لفهم النبي ﷺ معاني الكتاب، لأن النهي عن ذلك وارد عن النبي ﷺ. فقد روى الخطابي في غريب الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: "تياسروا في الصداق فإن الرجل يعطي المرأة حتى يبقى في نفسه حسيكة". وروى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إن من خير النساء أيسرهن صداقا". وعن عائشة عنه ﷺ أنه قال: "يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها". وروى أحمد والبيهقي مرفوعا بإسناد جيد: "أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا". وغاية ما يثبت من الآية جواز المغالاة ولو مع الكراهة، مع ذلك إن الآية ليست نصا في أن هذا القنطار مهر، إذ يحتمل أن يكون عطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر، فإن الزوج لا يصح له الرجوع عن هبة زوجته خصوصا إذا أوحشها بالطلاق، والنهي عما يجوز لمصلحة هي نصيحة للمؤمنين في حفظ أموالهم من الإضاعة والإسراف لا شك في جوازه. فقد نهى النبي ﷺ زيدا عن طلاق زينب مع أن الطلاق جائز بلا شبهة. وقد نهى علي أهل الكوفة عن تزويج الحسن مع أن التزويج جائز بلا شبهة حيث قال: "يا أهل الكوفة لا تجوزوا الحسن فإنه مطلاق للنساء".

وأما قوله: "كل أحد أعلم من عمر" فإنه من باب التواضع وحسن الخلق، فإنه لو أبطل استنادها بالتوجيهات الحقة لم ترغب بعد ذلك في استنباط المعاني من كتاب الله، فأظهر ذلك استحسانا لها واعترافا بالقصور على نفسه على زعمها ليكون بعد ذلك لها ولغيرها تحريض على تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه. وهذه منقبة عظيمة لعمر مخصوصة به. وإلا فأي رئيس ذي اقتدار يرضى أن يكون مغلوبا لامرأة يحضور الأعيان والأكابر؟ فالطعن عليه بهذه القصة من عدم الإنصاف. ولو فرضنا أن عمر لم يتأت له ارتجالا جوابا ما لكنه كان يمكنه أن يقول: اقتلوا هذه المرأة فإني أذكر سنة النبي وهذه الجاهلة تقابلها بالكتاب، ألم يفهم النبي معاني الكتاب كما هي وتفهم هذه المرأة أحسن منه؟ وقد صدر من علي هذه القصة، فقد أخرج ابن جرير وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل عليا عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، قال علي: أصبت وأخطأنا، وفوق كل ذي علم عليم.

وينبغي أن يعلم أن عمر لو لم يعلم المسألة وفهمها غيره بأحسن وجه لا يسلب لياقة الإمامة كما في قصة داود وسليمان عليهما السلام. فقد روى ابن بابويه في الفقيه عن أحمد بن عمر الحلبي قال: سألت أبا الحسن عن قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} قال: حكم داود برقاب الغنم، وفهّم الله سليمان الحكم لصاحب الحرث لينتفع بمنافعها من اللبن والصوف ويدفع الأرض إلى صاحب الغنم ليبذر ويزرع له، فإذا بلغ الحرث كهيئة يوم أكل يدفعه إلى أهله ويأخذ غنمه". ولو فرضنا أن الله تعالى فهم امرأة حكم مسألة واحدة ولم يفهمه عمر لا يضر عمر ذلك كما لم يضر داود في مثل هذه الواقعة.

ومنها أنه منع أهل البيت خمسهم الذي هو سهم ذوي القربى لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.

والجواب أن الأئمة ليسوا بنص المدعى لاحتمال أنهم مصارفه لا على سبيل الاستحقاق، فجاز الاقتصار على صنف واحد. وقد ذهب الإمامية إلى أنه يجوز أن يخص بالخمس طائفة، نص عليه أبو القاسم الملقب عندهم بالمحقق صاحب الشرائع والأحكام وغيره، ومستنده ما روي عن الأئمة الكرام. ولأن أمير المؤمنين لم يخالفه في قسمة الخمس. وقد ثبت أنه خالف عمر وغيره من الخلفاء في مسائل توافق رأيه. وقد أخرج الطحاوي والدارقطني عن محمد بن إسحاق أنه قال: "سألت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أن علي بن أبي طالب لما ولي أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى؟ قال: سلك به والله مسلك أبي بكر وعمر". وزاد الطحاوي: "فقلت فكيف أنتم تقولون ما تقولون؟ فقال: والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه". ولأن رواية المنع معارضة برواية الإعطاء. فقد أخرج أبو داود عن [عبد الرحمن] بن أبي ليلى عن علي: "أن أبا بكر وعمر قسما سهما لذوي القربى". وأخرج أبو داود أيضا عن جرير بن مطعم: "أن عمر كان يعطي ذوي القربى خمسهم". ولأنه لم يرو أحد أن عمر منع جميع ذوي القربى حقهم، فلعله منع من له ثروة وصرفه إلى من هو دونهم. ولا محذور في ذلك.

ومنها أنه أحدث في الدين ما لم يكن منه كصلاة التراويح.

والجواب أن صلاة التراويح لم تكن محدثة، فقد صلاها النبي ﷺ في ثلاث ليال من رمضان جماعة، ولم يجرها مجرى سائر النوافل كما رواه أبو داود والترمذي وصححه وأحمد والنسائي وابن ماجه عن أبي ذر، ولكن لم يواظب عليها، وبيّن العذر في تركه المواظبة على ذلك بقوله: "إني خشيت أن تفرض عليكم" لما أخرج البخاري ومسلم عن عائشة أنه ﷺ "صلى في المسجد وصلى بصلاته ناس، ثم صلى ﷺ من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا في الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي [صنعتم] فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت [أن تفرض] عليكم»، وذلك في رمضان". وقد نبه على العلة لتشعر بثبوت الحكم عند ارتفاعها، فهي سنة وليست ببدعة. وقول عمر: "نعمت البدعة هي" فإنما أراد بها معناها اللغوي، وهو المحدث، لأنها اسم من الابتداع بمعنى الإحداث كالرفعة من الارتفاع، وعنى بها المواظبة على الجماعة. ولأن البدعة هي ما أحدث في الدين وليس له أصل في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وسنة الخلفاء الراشدين ليست من البدعة في شيء لقوله عليه الصلاة والسلام: «من عيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» أخرجه الترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية. فإنه ناص على أن فعل الخلفاء ليس من البدعة. وكذا إجماع الأمة لقوله ﷺ: "لا تجتمع على ضلالة". وقد سبق أن الأئمة أحدثوا صلاة الغدير وصلاة النيروز وصلاة يوم وفاة عمر، وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم. فكيف يطعنون على عمر في ذلك؟

ومنها أنه قضى في الجد مائة قضية.

والجواب أن هذا لا أصل له، بل هو من مفترياتهم. وعلى فرض التسليم إنا لا نسلم أن الحد الذي قضى فيه قد قدّر له عدد معين في عهد رسول الله ﷺ. والمدعي مطالب بالدليل. وقد ذكر غير واحد من الإمامية أنه قضى في حد الخمر، فلا طعن حينئذ، لأن حده لم يكن مقدرا في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام كما سبق، ولأنه يحتمل أن تكون الزيادة على الثمانين لأمر آخر كما زاد على الثمانين حين أتي بالنجاشي الحارثي الشاعر قد شرب الخمر في رمضان، كما رواه محمد بن بابويه القمي في فقه من لا يحضره الفقيه.

ومنها أنه نهى عن متعة النساء ومتعة الحج، وقد كانتا في عهد النبي ﷺ، فنسخ حكم الله وحرم ما أحل الله.

والجواب أن نهيه عن متعة النساء لنهي النبي ﷺ عنها نهيا مؤبدا يوم أوطاس. فقد أخرج مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه قال: "رخص رسول الله ﷺ المتعة [عام] أوطاس ثلاثا ثم نهى عنها". وإنما رخص للمضطرين من العسكر لا جميع المسلمين، كما رخص للزبير لبس الحرير لدفع تولد القمل، ثم نهاهم نهيا مؤبدا. وأخرج أيضا أنه ﷺ قال: «قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا». وروى مالك وجماعة من المحدثين عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أنه قال: "أمرني رسول الله ﷺ أن أنادي بالنهي عن المتعة". وتحريمها بعد أن كان أمر بها، فمن بلغه النهي انتهى عنها، ومن لم يبلغه النهي كان يقول بالإباحة، فلما علم ذلك عمر في إبان خلافته نهى عنها وبالغ في النهي. ولأن الله تعالى لم يحل للرجال من النساء إلا الزوجة والسرية. قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، وهذه الآية نص على حرمة المتعة لأن المرأة التي في عقد المتعة ليست من الأزواج لما رواه أبو بصير عن الصادق: أنه سئل عن المتعة أهي من الأربع؟ قال: "لا ولا من السبعين". ولانتفاء أحكام الزوجة عنها من العدة والإيلاء والظهار والإحصان واللعان والإرث، ولا هي من ملك اليمين، وهو ظاهر. ولأن الاستمتاع بالنساء إنما يحل إذا صار الزوج محصنا لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} والمتمتع ليس بمحصن.

واستدلوا على إباحة المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وذلك من وجهين: الأول أنه لو لم تحمل عليها لزم أن لا يجب شيء من المهر على من لا ينتفع من الزوجة الدائمة لأنه تعالى علق إيتاء الأجر بالاستمتاع فلا يجب بدونه، وهو خلاف الإجماع فإن الإجماع على أنه لو طلقها قبل أن يمسها يلزم نصف المهر وإلا لزم المهر. الثاني أن المتعة بمعنى العقد المؤقت حقيقة شرعية وفي غيره مجاز، فلو حمل على غير المتعة لزم المجاز ولا يصار إليه من غير ضرورة.

والجواب عن الأول أن الآية إذا دلت على عدم لزوم شيء من المهر فيما ذكر لا يضر لأن النصف إنما ثبت بالسنة والإجماع ولأنه سبحانه علق إيتاء الأجر بالاستمتاع، والنصف ليس بأجر لأن الأجر بأداء العمل. وعن الثاني أنا لا نسلم أن المتعة حقيقة شرعية فيما ذكر لاحتمال أن تكون حقيقة لغوية أو عرفية، وإنما يثبت ذلك لو ثبت أن هذا العقد لم يكن في الجاهلية أو كان ولم يكن مسمى بهذا اللفظ، ودون إثبات ذلك خرط القتاد. ولأن المراد بالنساء الزوجات، ومن التمتع التمتع بالوطئ بالنكاح، فإن [ذلك] مسوق لبيان ما أحل من النساء وإيتاء ما فرض لهن من مهورهن أو بملك اليمين وما حرم منهن، ولأن قوله تعالى: {مِنْهُنَّ} نص على أن المراد بالاستمتاع الوطئ بالنكاح دون المتعة، فإن المتمتع ليس بمحصن. قال البهائي في كتابه المسمى بوسائل الشيعة: "إن من تمتع لا يكون محصنا ومن تزوج أو وطأ بملك اليمين يكون محصنا". واستدل على ذلك برواياته عن أهل البيت وأطال الكلام في ذلك، فلا يجوز أن يستدلوا على الإباحة ولا يجوز حمل الإحصان على التعفف لأن الإحصان لفظ شرعي معناه تحصين النفس عن الوقوع في الزنا.

واستدلوا على الإباحة أيضا بما في مصحف مسعود: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} "إلى أجل مسمى". وكان ابن عباس يقرأ كذلك وكذا أبي بن كعب.

والجواب أن هذه القراءة غير ثابتة عند أهل السنة. ولو سلمنا ثبوتها فهي قراءة منسوخة وهي لا تستعمل في إثبات الأحكام مع كون القراءة المشهورة بل المتواترة تخالفها. ولو سلمنا ذلك لا نسلم دلالتها على المتعة أيضا لأن لفظ "إلى أجل مسمى" متعلق بالاستمتاع لا بنفس العقد، والمدة المتعينة في المتعة إنما تكون بنفس العقد لا بالاستمتاع.

وأما ما يحكى عن عبد الله بن عباس في المتعة من إباحتها عند الاضطرار فقد رجع عنه كما ورد في روايات صحيحة منها ما رواه ابن النحاس عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس: "إنك رجل تائه، إن رسول الله ﷺ نهى عن المتعة". وكان هذا هو السبب لرجوع ابن عباس عن القول بإباحتها إلى القول بأنها منسوخة. وأخرج الطبراني والطيالسي عن سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: لا أفتي بحل المتعة، أتدري ما صنعت ربما أفتيت فسارت بفتياك الركبان وقالت فيها الشعراء، قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا:

قد قال لي الشيخ لما طال مجلسه ** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة ** تكون مثواك حتى مصدر الناس

فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا أحللت منها إلا ما أحله الله من الميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرج البيهقي من طريق ابن شهاب الزهري قال: "ما مات ابن عباس حتى رجع عن هذه الفتيا". وروى الترمذي عن ابن عباس قال: "إنما المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزل قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} قال ابن عباس: كل فرج سواهما فهو حرام.

هذا والمتعة التي تزعم الرافضة إباحتها هي أن يقول الرجل للمرأة: متعيني بنفسك مدة كذا بكذا، وتقول المرأة: قبلت، من غير حضور شهود. وهي التي أباحها النبي ﷺ لأصحابه عند الضرورة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا مؤكدا. ولو قال لها متعيني بنفسك بكذا وذكر قدرا من المال بحضور الشهود وقبلت المرأة ثم قال: إذا مضت مدة كذا فأنت علي حرام أو أنت طالق، صح عند أبي حنيفة وغيره من الفقهاء. وكذا لو وكلته امرأة بأن يزوجها من نفسه بمحضر من الشهود: وكلتني فلانة بأن أزوجها من نفسي فزوجتها من نفسي على صداق كذا وإذا مضى شهر فهي علي حرام وكان كفؤا له صح النكاح عند الحنفية خلافا لزفر، وإذا مضى الشهر حرمت المرأة عليه. وكذا لو قال زوجت نفسي من موكلتي وجعلت أمرها بيدي صح عند الحاكم الشهيد، كما ذكره في المنتقى، وكذا عند الخصاف. قال شمس الأئمة الحلواني: لا يجوز عند مشائخنا ومشائخ بلخ ما لم يذكر اسمها.

وأما متعة الحج، أعني تأدية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته، فعمر لم يمنعها قط. ورواية منعها عنه افتراء صريح. نعم إنه كان يرى إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القِران، أو في سفر واحد وهو التمتع، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. فأوجب سبحانه الهدي على المتمتع لا على المفرد لما فيه من النقصان، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه قصور ونقص. ولأنه ﷺ حج في حجة الوداع مفردا، واعتمر في عمرة القضاء وعمرة الجعرانة كذلك ولم يحج فيها، بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة.

وأما ما رووا من قول عمر: "وأنا أنهى عنهما" فمعناه أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب وهو قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} إلا أن يحكم عليهم الحاكم أو السلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه، فلذلك أضاف النهي إلى نفسه، فالإضافة إضافة مجاز والمراد أنا أظهر النهي، كما يقال نهى الشافعي عن شرب كل مسكر قليلا كان أو كثيرا. والإضافة لأدنى ملابسة شائعة. على أنه صح عند الإمامية أن الأئمة أباحوا التحليل ففسخوا حكم الله وحللوا ما أحل الله.

المطاعن الثالثة في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه

منها أنه ولى أمر المسلمين من ظهر منه الخيانة.

والجواب أنا لا نسلم ذلك، بل إنه ولى من كان له حسن الظن به ولم يعلم الغيب، والمرؤ إنما يعرف بالمعاملة، ومن ظهر منه الخيانة عزله. ولأن أمير المؤمنين ولّى غير واحد ممن ظهر منه الخيانة، منه بعض بني أعمامه كما يدل عليه كتابه الذي في نهج البلاغة، وهو هذا: "أما بعد، فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل في أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب والعدو قد حرب وأمانة الناس قد خزيت وهذه الأمة قد فنكت (أي بعدت) وشغرت (اشتدت) قلبت لابن عمك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين وخذلته مع الخاذلين وخنته مع الخائنين، فلا ابن عمك آسيت ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن على بينة من ربك وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم وتبتغي غرتهم عن فيئهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من الحملة أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه كأنك لا أبا لغيرك حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك، فسبحان الله أما تؤمن بالمعاد؟ أوَما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد، فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار" الخ. ومنهم المنذر بن الجارود العبدي، وقد كتب له هذا الكتاب وهو في النهج أيضا: "أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رتي (أي رفع) لي عنك لا تدع لهواك انقيادا ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك ومن كان بصفتك، فليس بأهل أن يسد به ثغر أو ينفذ به أمر أو يعلى له قدر أو يشرك في أمانة أو يؤمن على جباية، فأقبل إلي حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله". مع أن عليا يعلم أحوال من يوليه لأن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة بإجماع الإمامية، فقد روى محمد بن يعقوب الكليني وغيره بأسانيدهم ما ينص على ذلك. وقد ولّى زيادا المتجسم من محض الفساد، بل هو بشهادته على نفسه وشهرة ذلك بين أبناء جنسه. ولو ذكرنا نبذة من قبيح أفعاله وشيئا من فحش أقواله لاسود وجه القرطاس وهان فعل إبليس بالنسبة إلى فعله لدى الناس. ومن طالع مكاتبات الأمير كرم الله تعالى وجهه المذكورة في النهج تبين له حال عماله بأوضح حجج. ومع ذلك لم يتفوه أحد بالاعتراض على الأمير، وأنى يتسنى لأحد التصدي لمثل هذا الأمر الخطير. ولكن الرافضة قاتلهم الله تعالى يخبطون خبط عشواء ولا يستحون من الكلمة العوراء.

ومنها أنه أدخل الحكم أبا المروان ابن أبي العاص المدينة، وقد طرده النبي ﷺ وأبعده عن المدينة وامتنع أبو بكر وعمر عن رده.

والجواب أن رسول الله ﷺ إنما أخرجه لحبه المنافقين وتهييجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار وميله إلى الفجار، ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وقوي الإسلام في خلافة الشيخين لم يبق محذور من إرجاعه إليها. وقد تقرر لدى الفريقين أن الحكم إذا علل بعلة ثم زالت زال، وقد سبق ذلك. وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه على ما كان عليه في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته لأن الحكم كان ابن أخيه. على أن عثمان قال لما اعترضوا عليه بذلك إني كنت أخذت الإذن من رسول الله ﷺ في مرض موته على دخول الحكم المدينة. وعدم قبول الشيخين ذلك لعدم كفاية شاهد واحد. فلما آلت الخلافة إلى عثمان عمل بما علم.

ومنها أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال ويقدمهم على غيرهم من الرجال.

والجواب على فرض التسليم أن عثمان بذل ذلك من ماله وكان كثير المال ثريا قبل أن يكون خليفة، حتى أنه رضي الله تعالى عنه كان يعتق في كل جمعة رقبة وكان يضيف المهاجرين والأنصار كل يوم. وقد روي عن الحسن البصري أنه قال: "إني شهدت على منادي عثمان ينادي: يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم، فيغدون فيأخذونها وافية، حتى والله سمعته يقول: اغدوا على كسوتكم فيأخذون الحلل". ومن راجع كتب السير علم درجة كرمه. وهكذا شأن أصحاب رسول الله ﷺ.

ومنها أنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن النبي ﷺ جعلهم سواء في الماء والكلأ.

والجواب أنا لا نسلم أن الأرض التي حماها مما لا يجوز حميها لأنه على ما روي أنه حمى أرضا كانت ملكا له قد تركها للمسلمين ثم حماها لما سنح له، ولأنه حماها لأجل خيل المجاهدين سنة الجدب.

ومنها أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسرت أضلاعه، وقدم على عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق، وأنه ضرب أبا ذر ونفاه إلى الربذة.

والجواب أن ضرب عبد الله بن مسعود لم يثبت في كتب أهل السنة. وأما ضرب عمار فبغير علم عثمان، بل إنما ضربه بعض غلمانه حيث لم يعرفوا جلالة قدره ونباهة شأنه، حتى لما أخبر عثمان بذلك اعتذر منه حتى رضي رضي الله تعالى عنه، وحدوث الفتق من مفتريات الشيعة. وأما ضرب أبي ذر ونفيه إلى الربذة فلم يصح، وإنما خرج إلى الربذة باختياره، فقد ذكر الطبري وابن الجوزي وابن عبد البر أنه خرج بعد وفاة أبي بكر من المدينة إلى الشام فلم يزل بها حتى ولي عثمان فكتب معاوية إليه يشكو أبا ذر لأنه كان قوالا بالحق وكان يغلظ في القول فكتب إليه عثمان يطلبه إلى المدينة فلما نصحه عثمان بحسن العشرة فقال أبو ذر أستاذن منك أن ألحق بفلاة من الأرض، فخرج من المدينة حاجا أو معتمرا فلما قضى نسكه رجع وسكن في الربذة غير منفي ومات بها.

ومنها أن الصحابة تبرؤا منه ولم يدفنوه بعد موته ثلاثة أيام ولم ينكروا على من أجلب عليه من الأمصار بل سلموه ولم يدافعوا عنه.

والجواب أن هذا كذب صريح، لأن الصحابة لم يقصروا في الذب عنه، وكان أمر الله قدرا مقدورا. وقد جاءوا إلى عثمان وفيهم عبد الله وزيد بن ثابت وكل منهما متقلد سيفه فقال له زيد: "إن الأنصار يقولون إن شئت كنا أنصار الله، مرتين، قال: لا حاجة لي في ذلك". وكان معه في الدار الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وأبو هريرة وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وكل منهم شاكي السلاح، فعزم عليهم في وضع أسلحتهم وخروجهم ولزومهم بيوتهم فخرجوا وقال: "لئن أقتل قبل الدماء أحب إلي من أن أقتل بعد الدماء". ولما خرجوا من داره بعث أمير المؤمنين بنيه وأولاد أخيه جعفر ومولاه قنبر وكل منهم شاكي سلاحه، وبعث الزبير وطلحة وكثير من الصحابة أبناءهم وعبيدهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان، فقاموا على بابه حتى خضب الحسين بالدماء حين رمى عليه الناس بالسهام وخضب محمد بن طلحة وشج قنبر، فلم يقدر أحد ممن أراد قتله أن يدخل عليه من باب داره فتسوروا من دار بعض الأنصار. وقد ثبت عن الفريقين أن أمير المؤمنين قال: "والله قد دفعت عنه" كما في نهج البلاغة. وذكر غير واحد من الشارحين أنه بالغ في الذب عنه وأنه كان يضرب محاصري عثمان ويغلظ عليهم في الشتم. وكان عبد الله بن سلام يدخل عليهم ويقول لا تقتلوه. وكان حذيفة يحذرهم من قتله. ذكر ذلك القرطبي في التذكرة. أما ترك الدفن فقد ذكر المحققون من أهل السنة ومنهم صاحب التحفة أنه لم يتأخر الدفن بل دفن بثيابه الملطخة بالدم ليلا، وقد شيع جنازته جمع من الصحابة والتابعين. فما نقل صاحب الأصل عن القرطبي من أنه رضي الله تعالى عنه ألقي على المزبلة فأقام فيها ثلاثة أيام لا يصح، وقد شنع عليه أكثر من واحد في إيراد ذلك.

ومنها أنه ترك القود الواجب على عبيد الله بن عمر حين قتل الهرمزان ملك الأهواز، وكان مسلما.

والجواب أن الثقاة من المؤرخين ذكروا أن عمر لما قتله أبو لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة أُخبر عبيد الله ابنه أنه فعل ذلك بإشارة ملك الأهواز هرمزان، فلما رجع من دفن أبيه دخل دار الهرمزان فقتله، فلما آل أمر الخلافة إلى عثمان استرضى أهله. وأقر ذلك الطبري وغيره من مؤرخي المحدثين. ولأن جميع ورثته لم يكونوا في المدينة. وقد ثبت أنه كان للهرمزان جماعة في فارس لم يقدموا عليه خوفا، نص عليه المرتضى وغيره من علماء الفريقين: ولأنه لم يكن عند قتله من يشهد عليه. ولأن عليا ترك القود الواجب على قتلة عثمان مع كثرة المطالبين به من الورثة وغيرهم حتى هاجت بسبب ذلك فتن كثيرة.

ومنها أنه غير الشريعة وخالف فعل النبي ﷺ حيث صلى الظهر والعصر بمنى أربعا أربعا، وكان رسول الله ﷺ يصلي ركعتين.

والجواب أن عائشة أم المؤمنين روت عن النبي ﷺ كلا من الإتمام والقصر. ويؤيده قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. وقد صحح الدراقطني الإتمام عن النبي ﷺ، وهو مذهب جمع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين كمالك بن أنس والشافعي وأحمد والطحاوي وابن أبي شيبة وأبو عمر بن عبد البر. وروي أن عثمان لما صلى بمنى أربع ركعات أنكر الناس عليه فقال: "يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: من تأهل ببلد فليصل صلاة المقيم". وقد كان قبل يصلي ركعتين كما أخرج الشيخان عن حفص بن عاصم. والله الهادي إلى سواء السبيل.

المطاعن الرابعة في أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها

منها أنها خرجت إلى البصرة وقد نهاها الله تعالى عن الخروج وأمرها بالاستقرار في منزلها، فقال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، فهتكت حجاب الله تعالى ورسوله ﷺ وتبرجت في محفل يزيد على ستة عشر ألفا.

والجواب أن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس بمطلق. ولو كان مطلقا لما أخرجهن رسول الله ﷺ بعد نزول الآية إلى الحج والعمرة والغزوات ولا رخص لهن بزيارة الوالدين وعيادة المريض وتعزية أقاربهن. واللازم باطل فكذا الملزوم. والمراد من هذا الأمر والنهي تأكيد التستر والحجاب بأن لا يدرن ولا يحمن في الطرق والأسواق كنساء العوام. ولا منافاة بين الخروج وبين التستر والحجاب. ألا ترى أن المخدرات من نساء الأمراء والملوك يخرجن من بلد إلى بلد ومعهن جمع من الخدم والأتباع. ولا سيما إذا كان السفر متضمنا لمصلحة دينية أو دنيوية كالجهاد والحج والعمرة. وسفر أم المؤمنين كان من هذا القبيل، لأنها خرجت لإصلاح ذات البين وأخذ القصاص من قتلة عثمان المقتول ظلما وعدوانا، وذلك لا يعد تبرجا.

ويجاب أيضا بأن ما طعنوا به أم المؤمنين وجد في فاطمة أيضا لما ثبت في كتبهم بطريق التواتر أن الأمير قد أركب فاطمة على مطية وطاف بها محلات المدينة ومساكن الأنصار طالبا منهم الإعانة على ما غصب من حقها زمن خلافة الصديق.

ويجاب أيضا بأن جميع رجال المؤمنين أبناء لأزواج النبي ﷺ بالاتفاق، وجميع من كان مع الصديقة في سفرها فهم أبناؤها. ولذا طلبت القصاص من القتلة، فلا إشكال في الطلب أيضا.

ومنها أنها خالفت أمر الله ورسوله ﷺ، فقد روى نعيم في كتاب الفتن وابن مسكويه في تجارب الأمم وابن قتيبة في كتاب السياسة: أنه لما انتهى عسكر عائشة إلى ماء الحوأب نبحها كلابه، فقالت لمحمد بن طلحة: أي ماء هذا؟ قال: ماء الحوأب، فقالت: ما أراني إلا راجعة، قال: ولم؟ قال: سمعت النبي ﷺ يقول لنسائه: كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، فإياك أن تكوني أنت يا حميراء. فإنها مع تذكر قوله ﷺ أصرت على ذلك ولم ترجع.

والجواب أن الثابت عندنا أنها لما علمت ذلك وتحققته من محمد بن طلحة همّت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه، ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم على ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس بحوأب. على أن "إياك أن تكوني يا حميراء" ليس موجودا في الكتب المعول عليها عند أهل السنة، ولا في الكتب الثلاثة. فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد، [على أنه] لو كان فلا يرد محذور أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، وحيث علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة. وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من إصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة. والحوأب كجعفر منزل بين البصرة ومكة.

ومنها أنها كانت تظهر العداوة لعلي وقد فرض الله تعالى عليها محبته، وهي التي حرضت الناس على قتل عثمان.

والجواب أنا لا نسلم أن عائشة كانت كذلك مع علي، فإنها كانت تروي أحاديث عديدة في فضائله عن النبي ﷺ. منها ما أخرجه الديلمي عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: حب علي عبادة. ولم تخرج عليه لتقاتله بل لإصلاح ذات البين كما سبق. والتحريض على قتل عثمان من المفتريات، فإنها تعترف بأنه إمام مفترض الطاعة. فقد أخرج الترمذي وابن ماجه عنها أنها قالت: قال النبي ﷺ لعثمان: "يا عثمان لعل الله يقمصك قميصا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم"، وفي رواية: "لا تخلعه" ثلاثا.

وما ذكره ابن قتيبة: "أن عائشة أتاها خبر بيعة علي وكانت خارجة من المدينة فقيل لها: قتل عثمان وبايع الناس عليا، فقالت: ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوما وأنا مطالبة بدمه، فقال عبيد: أول من دس عليه وأطمع الناس فيه لأنت وقد قلت اقتلوا نعثلا فقد فجر، قالت عائشة: والله قد قلت وقال الناس، فقال عبد:

منك البداء ومنك الغير ** ومنك الريح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الإمام ** وقلت لنا إنه قد فجر

ولما أتاها أن أهل الشام ردوا بيعة علي أمرت أن يعمل لها هودج من حديد، فخرجت ومعها طلحة والزبير وابناهما" - فهو كذب لا أصل له. وأكثر ما يذكره ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي في كتبهم من هذا القبيل، فلا يعتمد عليه.

ومنها أن عسكرها لما خرجوا من مكة نهبوا بيت مال المسلمين وقتلوا جمعا من عمال علي وأخرجوا عامله عثمان بن حنيف الأنصاري مهانا، مع أنه من أصحاب رسول الله ﷺ.

والجواب أن ذلك لم يثبت بروايات صحيحة لأنها خرجت لإصلاح ذات البين ولم تأمر أحدا بذلك. فإن وقع شيء فإنه وقع بغير رضاها من بعض جهلة العسكر ولم تعلم به، حتى قيل إنها لما علمت ما جرى بعثمان بن حنيف اعتذرت له واسترضته. ولأن مثل هذا وقع لعسكر الأمير مع أبي موسى الأشعري فقد أحرقوا بيته ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة، ومنهم مالك بن الأشتر.

ومنها أنها أفشت سر النبي ﷺ لقوله تعالى: {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}.

والجواب أن إفشاء السر وقع من حفصة لا غير بإجماع المفسرين، وذلك أنها رأت النبي ﷺ مع مارية في فراشها من ثقب الباب، وقال لها: إني حرمت مارية على نفسي فاكتميه ولا تفشيه، فذهبت حفصة وبشرت عائشة بذلك. ومن مزيد فرحها اشتبه عليها الأمر فظنت أن الذي أمرت بكتمانه هو ما رأته من الشق لا التحريم. وقد عد ذلك الإفشاء من حفصة معصية وقد تابت عنها. وما ذكرناه ثابت أيضا في تفسير مجمع البيان للطبرسي أحد علماء الإمامية.

ومنها أنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي ﷺ ما غرت على خديجة وما رأيتها قط ولكن كان رسول الله ﷺ يكثر ذكرها.

والجواب أن الغيرة أمر طبيعي في النساء، ولا مؤاخذة على الأمور الجبلية. نعم لو صدر قول أو فعل مخالف للشرع للغيرة تتوجه الملامة. وفي الحديث الصحيح أن بعض أمهات المؤمنين غارت على الأخرى حين أرسلت إلى رسول الله ﷺ طعاما لذيذا وكان النبي ﷺ إذ ذاك في بيت من تغار، فأخذت الطبق من يد خادمتها فضربت به على الأرض حتى انكسر الإناء وانصب الطعام، فقام رسول الله ﷺ إلى ذلك الطعام بنفسه فاجتباه وجمعه من الأرض وقال: «قد غارت أمكم» ولم يعاتبها ولم يوبخها. فكيف يسوغ لأفراد الأمة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفا لسهام مطاعنهم؟ نسأل الله تعالى العصمة من الزلل.

ومنها أن النبي ﷺ قال: ههنا الفتنة ثلاثا من [هنا] يطلع قرن الشيطان، وأشار نحو مسكن عائشة.

والجواب أنه ﷺ أشار إلى ناحية المشرق وكانت حجرة عائشة في ناحية المشرق. ويؤيده قوله: "من حيث يطلع قرن الشيطان". فإنه صح أنه ﷺ قال إن الشمس حين تطلع "تطلع بين قرني الشيطان". وقد رواه الشيعة بأسانيد صحيحة عندهم. وقد جاء في رواية أنه أشار إلى الشرق وقال ذلك. وفي رواية عن ابن عمر أنه ﷺ خرج من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان. ولأنه لو كانت عائشة فتنة لوجب على الله تعالى أن لا ينهى نبيه عن تبديلها فإن ذلك أصلح. والصحيح أن الفتنة كما جاء في الأخبار الدجال، فإنه يخرج في بعض الجزائر الشرقية التي سكن فيها ملك التتار ورؤساء أهل البدعة، لأنها نبعت من العراق، فالرافضة من الكوفة والمعتزلة من البصرة والقرامطة من سواد الكوفة والخوارج من النهروان. ولأنها لما دفن عمر في الروضة خرجت عائشة منها وسكنت موضعا آخر من الدار. ولأنها خرجت منها إلى مكة زادها الله تعالى شرفا. ولأن [في] الحجرة كان رأس الإيمان ومحل السكينة ومهبط الوحي وسكن خير الرسل حيا وميتا ﷺ.

ومنها أنها زينت يوما جارية كانت عندها وقالت: لعلنا نصطاد بها شابا من شباب قريش.

والجواب أن هذه الرواية وردت عن وكيع بن الجراح عن العلاء بن عبد الكريم عن عمار بن عمران عن امرأة من غنم، وعمار والامرأة مجهولان، فلا تقبل هذه الرواية بمقتضى قواعد الفريقين. والله الهادي إلى سواء السبيل.

المطاعن الخامسة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين

منها أنهم فروا عن الزحف مرتين، مرة يوم أحد وأخرى يوم حنين، والفرار عن الزحف كبيرة.

والجواب أن الفرار عن الزحف يوم أحد كان قبل النهي عنه، ولأنه تعالى قد عفى عنهم لقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}. وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه لم يصر عليه المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ}. ولأن الإمامية رووا عن الرسل ما هو أعظم من ذلك على ما مر غير مرة.

ومنها ما يدل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}.

والجواب أن تلك القصة إنما كانت في أول زمان الهجرة قبل التأدب بآداب الشريعة، فما وقع حينئذ كانوا معذورين فيه، ولهذا لم يتوعدهم عليه ولم يعاتبهم رسول الله ﷺ به. والآية خارجة مخرج العتاب بطريق الوعظ والنصيحة. على أنه قد أعقب ذلك الفعل أنواع من الطاعات والاستغفار، و {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.

ومنها أنه ورد فيهم ما روي عن أنس بن مالك وحذيفة بن اليمان مرفوعا: "ليردن علي أناس من أصحابي حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". وفي رواية: "فأقول: سحقا سحقا".

والجواب عنه أولا بأنا لا نسلم بأن المراد بأصحابي الصحابة بالمعنى المتعارف، بل المراد بهم مطلق المؤمنين به ﷺ المتبعين له. وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي [أصحاب الشافعي] وهكذا، وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع، وكما يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا، مع بينه وبينهم عدة سنين. وعبارات الفقهاء ملأى من ذلك كما لا يخفى على المتتبع. وأيده بعضهم بأنه وقع في بعض الروايات: "أمتي"، وعلى هذا فالمراد من هؤلاء الأناس عصاة من المؤمنين. ومعرفته ﷺ أنهم من أمته من أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في الخبر أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة عن عصاة غيرهم، كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم. وجذبهم وردهم عن الحوض كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم. ويلحق بذلك دعاؤه ﷺ بقوله: "سحقا سحقا"، وجعله بعضهم من قبيل قوله عليه الصلاة والسلام لصفية رضي الله تعالى عنها: "عقرى حلقى"، وليس بشيء.

وثانيا بأنا سلمنا أن المراد بالأصحاب الصحابة بالمعنى المتعارف، إلا أن المراد من أولئك الأناس الذين يختلجون ويؤخذون قهرا ويردون عن ورود الحوض الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله تعالى عنه. وقوله ﷺ: "أصحابي" لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن عنه ما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. وهذا الجواب أولى من الجواب المنعي كما لا يخفى. ولا يفيد ذلك الشيعة شيئا، لأنا لا ننكر ارتداد أحد من الصحابة وإنما ننكر ارتداد الخلفاء الثلاثة ومن تابعهم وارتداد من حضر وقعتي الجمل وصفين منهم كما هو زعم الشيعة؛ والحديث لا يدل على ذلك أصلا.

فإن قيل إن أناسا في الحديث كما يحتمل أن يراد منه من ذكر من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد منه ما زعمته الشيعة، فما الدليل على ما أردت؟

أجيب بأن ما جاء عن الله تعالى والنبي ﷺ من مدحهم والثناء عليهم وكذا ما جاء عن الأئمة المعصومين عند الشيعة مما علمت ومما ستعلم إن شاء الله تعالى مانع من إرادة ما زعمته الشيعة. وحينئذ يتعين ما أردنا حذرا من إلغاء الحديث.

ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال إن رسول الله ﷺ قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى. فقال رسول الله ﷺ: كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة. وذلك ينافي العدالة.

والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب، فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم، فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه، ولا كلام لنا فيهم.

ومنها ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين من مسند عائشة من عدة طرق أن النبي ﷺ قال: "يا عائشة، لولا قومك حديثو عهد بالجاهلية -وفي رواية: بالشرك- وأخاف أن تنكر قلوبهم لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين شرقيا وغربيا فبلغت به أساس إبراهيم". وقوم عائشة قريش، وهذا يدل على فساد بواطنهم في قبول قوله.

والجواب أن هذا الحديث ليس فيه مطعن أصلا، لأنه إن كان المراد بقوم عائشة قريشا كما زعموا فهم إما جميعهم أو بعضهم؛ فإن أريد الأول يلزم منه دخول علي بن أبي طالب وغيره من بني هاشم أيضا فيهم لأنهم من قريش؛ وإن أريد الثاني فلا يكون مفيدا للمدعى، إذ يجوز أن يكون الخوف من المؤلفة قلوبهم وحديثي الإسلام بعد الفتح الذين لم يتأدبوا بعد بآداب الشريعة ولم يكمل إيمانهم، والمهاجرون ومن تبعهم بإحسان ليسوا منهم. على أن الواقع في الحديث هو الخوف من وقوع أمر بسبب لا يستلزم وقوعه. فتبين أن إيراد هذا الخبر في مطاعن الصحابة دليل على جهل الرافضة وعدم فهمهم لنصوص الشرع.

ومنها أنهم خالفوا أمر رسول الله ﷺ، فقد طلب ﷺ في مرض موته إداوة وقرطاسا ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده فأبوا أن يأتوه بذلك حتى قال عمر ما قال وكثر اللغط، فقال رسول الله ﷺ: "اخرجوا عني"، والله تعالى يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.

والجواب أن الأمر منه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا من باب الاستحباب وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري وإلا لفعله ﷺ بعد مع خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله تعالى وجهه، فإنه بقي عليه الصلاة والسلام حيا بعد ذلك خمسة أيام. ويؤيد ذلك كما قال غير واحد قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو ظاهر. والتخلف عن الامتثال ناشئ عن محض المحبة والوداد دون الشقاق والعناد لما رأوا من شدة مرضه عليه الصلاة والسلام، ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا وإلا لزم فسق جميع الحاضرين ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ولا قال به بالإجماع. وقد وقع للأمير رضي الله تعالى عنه مثل هذه المخالفة عام الحديبية، فإنه كتب الصلح: "هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله"، فلم يرض المشركون بهذا العنوان وقالوا: لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه، فأمر عليه الصلاة والسلام عليا أن يمحو ذلك وبالغ فيه فلم يفعل حتى محاه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة. بل وقع منه كرم الله تعالى وجهه ما يرى أنه أشد من ذلك، فقد صح من طرق متعددة أن النبي ﷺ ذهب إلى بيت الأمير والبتول رضي الله تعالى عنهما ليلة وأيقظهما لصلاة التهجد وأمرهما بها، فقال الأمير: "والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا، وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا"، فرجع عليه الصلاة والسلام وهو يضرب فخذيه ويقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}. وقد رواه البخاري أيضا في صحيحه. وأمره ﷺ بالخروج لمن في الحجرة لم يكن إلا لما فيه من المرض. وكلام عمر رضي الله تعالى عنه لم يكن إلا لغلبة الحال عليه الناشئة من كمال المحبة. وقد سبق الكلام على هذا الحديث في رد مطاعن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه.

ومنها ما رواه البخاري بسنده أن النبي ﷺ قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي [بأخذ القرون قبلها] شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال: ومن الناس إلا أولئك". وصح عن النبي ﷺ أنه قال: "لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟".

والجواب أنا لا نسلم أن المراد الصحابة، وكيف يصح حصر جميع الأمة بالصحابة؟ ومن تدبر ألفاظ الحديث يهزأ بعقل الرافضة ويحكم بجهلهم، إذ الواقع في الحديث لفظ الأمة لا لفظ الصحابة. وإن أكثر أمته ﷺ شبها الروافض، فإنهم هم الذين شابهوا كفار فارس والروم في أكثر العقائد والأعمال والأخلاق والأعياد والرسوم، فإن الروم زعموا تعدد الآلهة وكذلك الغلاة من الشيعة زعموا أن الآلهة خمسة، وإنهم قالوا بحشر الأرواح دون الأجساد وكذلك جمع من الشيعة على ما سبق، وإنهم أثبتوا لله ابنا وكذلك قال بعض الفرق زعموا أن الأئمة أبناء الله، وإنهم يصلون مع نجاسة ثيابهم وكذلك الإمامية، وإنهم افتروا على الله ورسوله الكذب وكذلك الرافضة، وإنهم يكفرون أهل الحق وكذلك الرافضة. وأما الفرس فيزعمون أن الخالق غير واحد وكذلك بعض فرق الروافض، وإنهم ينكرون القدر وكذلك الروافض، وإنهم يزعمون أنه قد يقع مراد غير الله ولا يقع مراد الله تعالى وكذلك يزعم بعض فرق الرافضة، وإنهم لا غيرة لهم في النساء وكذلك الرافضة. إلى غير ذلك مما هو مشاهد في العيان لا يحتاج إلى دليل أو برهان. وسيجيء إن شاء الله تعالى وجه شبههم بجميع الكفار.

ومنها أنهم آذوا عليا وحاربوه وقاتلوه وهو ابن عم رسول الله ﷺ وصهره وربيبه، فكيف ساغ لهم ذلك والسلوك في هاتيك المسالك، مع أن من صدر منه دون ذلك ينتفي عنه اسم العدالة.

والجواب أن ذلك محض كذب وافتراء، فإن الصحابة كلهم كانوا يعظمون عليا ويحبونه. قال عبد الرحمن بن أبزى: "شهدنا صفين مع علي في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قتل منهم ثلاث وستون منهم عمار بن ياسر". واستشهد أيضا خمسة عشر من المهاجرين والأنصار. وكتبه تشهد بذلك، وله عبارات كثيرة في النهج تؤيد ما هنالك. وكان الصديق رضي الله تعالى عنه يحبه ويمدحه ويذكر فضائله ويحث الناس على حبه. روى الدارقطني عن الشعبي أنه قال: "بينا أبو بكر الصديق جالس إذ طلع علي، فلما رآه قال: من سره أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة وأقربهم قرابة وأفضلهم تبعا له وأكثرهم غنى عند رسول الله ﷺ فلينظر إلى هذا الطالع". وكان عمر يعظمه ويوقره ويفتخر به ويقبل قوله. وروى الدارقطني عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: "اعلموا أنه لا يتم شرف إلا بولاية علي". ولما اختلف الصحابة في الموؤدة وقال لهم علي: إنها لا تكون موؤدة حتى يأتي عليها التارات السبع، قال له عمر: صدقت أطال الله بقاءك. قال أبو القاسم الحريري في درة الغواص في أوهام الخواص: كان عمر أول من نطق بهذا الدعاء. وكان ابنه عبد الله يتأسف في تخلفه عن حروبه.

وأخرج الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد حسن عن ابن عمر أنه: "لما بلغه توجه الحسين إلى العراق لحقه مسيرة ثلاثة أيام فقال له: أين تريد؟ فقال: العراق، فإذا معه طوامير وكتب، فقال: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال: لا تنظر إلى كتبهم ولا تأتهم، فأبى، فقال ابن عمر: إني محدثك حديثا، إن جبريل أتى النبي فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة، وإنك بضعة رسول الله ﷺ، والله لا يليها أحد منكم أبدا وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل". وروى البزار نحوه بإسناد حسن.

وأكثر ما ذكر المؤرخون من الوقائع والحروب لا يوثق به إذ ليس له إسناد. والحق أن ما وقع من الحروب لم يكن عن عداوة، قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وإنما هاجت الفتن بسبب آخر؛ وهو أنه لما بويع لعلي بالخلافة لم يتعرض لقتلة عثمان لما سيجيء إن شاء الله تعالى، وكانوا يزعمون أنهم على الحق وعثمان على الباطل وأنهم مصيبون في قتله ويفتخرون بذلك. وكانت جماعة من كبار الصحابة كطلحة والزبير بن العوام ونعمان بن بشير ومحمد بن مسلمة وكعب بن عجرة وغيرهم يتلهفون على عثمان ويقولون إنه كان على الحق ومقاتلوه على الباطل وإنه قتل مظلوما. وسمع ذلك قتلة عثمان فغضبوا وأردوا بهم كيدا، فلما أحسوا بذلك هرب كل منهم إلى ناحية، فهرب طلحة والزبير إلى مكة، فلما قدما إليها وجدا فيها أم المؤمنين، وكانت حاجّة في السنة التي قتل فيها عثمان، فقالت: ما وراؤكما؟ فقالا: إنا تحملنا هربا من المدينة من غوغاء الأعراب، ثم قالا مع جمع آخر لها عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم وهي تمتنع عليهم ويحتجون عليها بقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}، فأجابتهم عائشة. وأرادوا موضعا يأمنون به من شر البغاة فإنهم علموا أن قتلة عثمان يقصدونهم فاستقام رأيهم على التوجه إلى البصرة. ولما سمع أمير المؤمنين أنهم خرجوا إلى البصرة سار متوجها إليها، فلما بلغتها أرسل الأمير إلى طلحة والزبير قعقاعا وكان من أصحاب النبي ﷺ وقال: ادعهما إلى الإلفة والجماعة وعظّم عليهما الفرقة والمباينة، فخرج قعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة وسلم عليها فقال: يا أم ما أشخصك وأقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس، ثم بعث إلى طلحة والزبير فحضرا فقال القعقاع: أخبراني ما وجه الإصلاح؟ قالا: قتلة عثمان، قال: هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وتسكين الفتنة في هذه الساعة والمسالمة، فقالا: قد أصبت وأحسنت. فرجع القعقاع إلى علي وأخبره بذلك فسر به وأعجب، وأشرف القوم على الصلح وأقاموا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح. وأرسل الأمير كرم الله تعالى وجهه عشية اليوم الثالث إلى طلحة والزبير بالسلام وأرسلا إليه بالسلام وترددت الرسل بينهما بالصلح. وفرح الناس بذلك، وحزن قتلة عثمان وباتوا يتشاورون طول ليلهم، فقال رئيسهم عبد الله بن سبأ: يا قوم إن عزكم في مخالطة القوم فالزموا عليا ولا تتركوه، فإذا كان الغد والتقى الناس للمصالحة فأفشوا القتال، فاجتمع رأيهم على ذلك. فلما غشي الليل أنشبوا نار الحرب ووقع ما وقع. فهذا الحرب لم يكن عن عزيمة من الفريقين كما ذكر القرطبي وجماهير من أهل العلم. وهذا هو الصحيح المشهور.

وكان معاوية يومئذ بالشام ولا يريد المحاربة مع الأمير، غير أنه التمس منه أن يسلمه قتلة عثمان أو يخرجهم من عنده، وكان الأمير يأبى ذلك. ولما فرغ من حرب الجمل استقر رأي الناس إلى المسير إلى معاوية فبلغه ذلك فاضطر إلى الخروج إلى الشام. ولما تهيأ كل منهم إلى القتال أرسل الأمير كرم الله تعالى وجهه جمعا من أصحابه إلى معاوية، منهم بشر بن عمرو بن محصن الأنصاري، ليدعوه إلى الطاعة، فقال بشر: إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها، فقال معاوية: ما يطلب من علي إلا قتلة عثمان فإنهم شرار الخلق، فانصرفوا وأخبروه بذلك. وامتنع الأمير أن يسلمهم وأبى معاوية إلا تسليم القتلة، ورأى القتال معهم واجبا لأنهم كانوا بغاة وكذلك من يعاونهم، وأخطأ هو ومن معه من الصحابة وهم رجال معدودون وقد رجع أكثرهم عن ذلك، ولكنهم صاحبوا معاوية خوفا من قتلة عثمان وحضر بعضهم ولم يقاتل. ومع ذلك لم يبدأ معاوية بالقتال وإنما بدأ الأمير كرم الله تعالى وجهه لعدم طاعة معاوية للخليفة، فكان هو ومن معه من البغاة، ويجب على الأمير أن يحاربهم حتى يرجعوا عما هم عليه من البغي. وقد صح عن الأمير أنه قال: "أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل" كذا في نهج البلاغة. وإنما امتنع الأمير من تسليم القتلة لشوكتهم وشدة شكيمتهم وكثرتهم واختلاطهم مع العسكر، فرأى تأخير التسليم أصوب إلى أن يرسخ القدم في الخلافة وتتفق كلمة المسلمين [فتعود] قوتهم، فإن المبادرة بالتسليم حينئذ تؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة وتفاقم الفتنة. وقد قال له بعض أصحابه: لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان؟ فقال: "يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف لي [بقوة والقوم] المجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وهاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا". كذا في نهج البلاغة.

والحاصل أن أصحاب رسول الله ﷺ منزهون عما يشينهم من ذميم الأخلاق مبرؤون عن وصمة الفسق على الإطلاق، ولم يتوف رسول الله ﷺ حتى ماز الله الخبيث من الطيب. والآيات التي يوردها الشيعة بعد تسليم أن معانيها كما زعموا ليس مورادها كما فهموا، بل هي واردة في حق إخوانهم المنافقين لا في حق الصحابة الصادقين، بل أولئك الذين اختارهم الله لصحبة نبيهم ﷺ ومات وهو راض عنهم؛ هم الذين فتحوا البلاد بالسيوف وسقوا الأعاجم سم الحتوف ومهدوا قواعد الدين وهدموا أساس المشركين. وهيهات أن يصدر من أولئك الأكابر كبيرة أو يصر أحدهم على صغيرة، وإن وقع منهم حيث لا عصمة ما يقتضي التفسيق فيأبى الله تعالى أن يموتوا عليه وأن يقوموا يوم القيامة من غير توبة بين يديه، حيث أشرقت أنوار النبوة على صفائح قوالب قوابل قلوبهم وكرّه الله إليهم الكفر والفسوق والعصيان، فحاشا أن يكون من مرغوبهم.

وماذا علينا إذا قلنا: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وماذا يلزمنا إذا حملنا أمر أصحاب نبينا ﷺ الذين آمنوا به وصدقوه وجاهدوا معه ونصروه على الصلاح، وأي ضرر يعترينا لو قلنا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.