باليرمو (Palermo) مدينة إيطالية ، عاصمة إقليم صقلية ذاتي الحكم و كبرى مدنه ، و عاصمة مقاطعة باليرمو .
يبلغ عدد قاطنيها 666542 ساكن ، و هو الخامس بين المدن الإيطالية بعد روما و ميلانو و نابولي و تورينو ، و الثلاثين على المستوى الأوروبي . و هي المركز الثقافي و التاريخي و الاقتصادي-الإداري الرئيسي في صقلية .
أعطاها تاريخها الألفي موروثاً فنياً و معمارياً مميزاً ، فمن بقايا الأسوار البونيقية وصولاً إلى الفيلات على طراز ليبرتي مروراً بالمساكن على الطراز العربي النورماني و الكنائس الباروكية و المسارح الكلاسيكية المحدثة . كانت لأسباب ثقافية و فنية و اقتصادية إحدى أكبر مدن البحر الأبيض المتوسط ، و اليوم تعتبر إحدى أهم الوجهات السياحية في الجزيرة و خارجها.
فهرس |
كانت منطقة باليرمو أصلاً سهلأً شاسعاً تقطعه العديد من الأنهار و الجداول والأراضي الرطبة الواسعة ، تحيط بها جبال عالية تغطي قممها أحياناً الثلوج خلال فصل الشتاء ، مُضفيةً إلى المنظر الطبيعي وجهاً أكثر إعجاباً.
يطل سهل باليرمو على البحر التيراني ، و يكوّن إلى الجبال من وراءه الغور الذهبي . التنظيم البلدي يتبع الخط الساحلي لذلك لها امتداد ساحلي طويل ، و لكنه قليل الاختراق نسبياً للأرضي الداخلية . في الوقت الحاضر الأنهار التي كانت موجودة اختفت (و لكن أكثرها لا تزال تتدفق تحت الأرض). و بالاضافة إلى ذلك ، لم تصل الأراضي البلدية إلى مستوى عالي من الإشباع السكاني كما في مدن إيطالية أخرى.
يعد الوجود البشري في باليرمو و العائد إلى عصر ما قبل التاريخ من بين الأقدم في جزيرة صقلية ، فقد اكتشفت عام 1953 رسوم و نقوش مثيرة للإهتمام على جدران كهوف الدورة : صور رقص بطقوس سحرية معينة ، و ربما "شامانية" لشعب عاش على الجزيرة.
بـُنيت مدينة باليرمو في عصر غير معروف ، على مستوطنات ما قبل التاريخ في شكل يختلف عن الحالي ، عند التقاء جزئين طبيعيين ، سـُميت سيس (Sis) ، بمعنى "الزهرة" في اللغة الأولى إفريقية الأصل غرار سكانها الأوائل ، الماتابيون قوم قدِموا أصلاً من فلسطين ، و إلى وصلوا الجزيرة مروراً بإسبانيا . قال عنهم المؤرخ اليوناني هيرودوت أنهم كانوا جميعاً من السيكانيين ، و سمّوا المستوطنة الحضرية "الشاطئ الجميل" لخصائص أراضيها الجغرافية ، و كانت مركز سيكانيا بين القرنين العاشر و الثاني عشر قبل الميلاد.
في سنة 734 ق.م أنشأ الفينيقيون القادمون من صور هناك مستعمرةً تجارية مزدهرة كان لها علاقات و تصادمات مع السيكوليين ، سكان الجزء الشرقي من صقلية .
تحولت أولى المستوطنات و الخانات إلى مدينة رائعة ، أُطلق عليها اسم مابونات (Mabbonath) ، و تعني بالفينيقية "المساكن" . سرعان ما صارت الأهم فيما يُسـمى المثلث الفينيقي ، الذي يضم أيضاً مدينتي موتيا و سولونتوم ، الذي ذكره حتى ثوكيديدس . بقيت بعض الآثار من الفترة الفينيقية : أسوار المدينة القديمة و مقبرة نكروبولس . يـُذكـّر شكل المدينة آنذاك بالقدم ، و بالفعل ، كثيراً ما لـُقبـّت بالقدم الفينيقية .
أثناء قيام الإغريق بحملات لاستعمار صقلية بين القرنين الثامن و السادس قبل الميلاد . أعطوا المدينة اسم بانورموس (panormos) "الكـُل ميناء" (تأكيداً على الخصائص الجغرافية لشبه جزيرة محاطة بمصبي نهرين ، و بالتالي سهولة الدفاع عنها) و لم يفلحوا أبداً بالاستيلاء عليها ، و هم الذين استعمروا الجزء الشرقي من صقلية .
ظلت باليرمو مدينة فينيقية حتى الحرب البونيقية الأولى (264-241 ق.م) ، التي سقطت على إثرها صقلية تحت حكم الرومان . كانت الحقبة الرومانية هادئة ، و شكلت باليرمو جزءاً من مقاطعة سيراقوسة الرومانية . بانقسام الإمبراطورية الرومانية ، تـَبـِعـَت صقلية و معها باليرمو الإمبراطورية الرومانية الشرقية .
و كانت باليرمو خلال الحروب البونيقية في صميم الصراع بين القرطاجيين و الرومان ، حتى حاصر الأسطول الروماني المدينة سنة 254 ق.م ، مجبرينها على الاستسلام و مستعبدين أهلها الذين اضطروا لدفع ضريبة حرب لاستعادة حريتهم . حاول صدربعل استرداد المدينة ، و لكن القنصل الروماني ميتيلوس ، حقق انتصاراً باهراً.
و لم تفلح أيضاً محاولة حاميلقار برقة باستعادتها سنة 247 ق.م . و الذي خيـّم عند سفح جبل بليغرينو ، دون تحقيق النصر . ثم ظلت المدينة مخلصة لروما و حظيت بلقبي البريتور و النسر الذهبى و حق سك العملة ، باقية إحدى خمس مدن حرة بالجزيرة.
يشهد على رخاء و روعة "بانورموس" (Panormus) الرومانية " مباني تلك الفترة بمنطقة ساحة فيتوريا من بينها المسرح الذي كان قائماً حتى عصر النورمان و الفسيفساء التي اكتشفت في عام 1868 في ساحة ديلا فيتوريا. في عهد الإمبراطوري كانت مستعمرة رومانية - كما يروي سترابو - و كانت أيضاً ممون روما بالقمح ، لكنها انحدرت بعد فسباسيان ، و غزاها البرابرة منذ عام 445 مع غايسريك ملك الوندال الذي سيطر عليها بالحديد و النار ، ثم تبادل السيطرة عليها كل من أودواكر و ثيودوريك و القوط.
انتزع بيليساريوس بأسطوله البحري باليرمو سنة 535 من القوط ؛ و هكذا بدأت الفترة البيزنطية التي استمرت حتى عام 830 لـمّا فتحها العرب الذين كانوا قد هبطوا مارسالا قبل أربع سنوات ، و جعلوا باليرمو عاصمة حكمهم .
في القرن التاسع توجـّه المسلمون الأغالبة فاتحين من إفريقية نحو صقلية ، و فتحوا باليرمو عام 831 و كامل الجزيرة عام 965 . سمـّوها بلرم و نقلوا عاصمة صقلية إليها ، حيث لا تزال كذلك حتى الآن . كانت باليرمو أثناء الفترة الإسلامية مدينة مهمة تجارياً و ثقافياً و يُـقال أنه كان بها أكثر ثلاثمائة مسجد ؛ كانت معروفةً في كل البلاد العربية . و كانت فترة ازدهار و تسامح : فلم يُـضطهد لا النصارى و لا اليهود و سمح لهم بممارسة شعائرهم بحرية .
حسمت سنوات الحكم العربي رُقـِي المدينة و عـُلـُو مكانتها على سائر مدن صقلية . كانت باليرمو مقراً لإمارة قوية ، و بفضل قدرة الأغالبة الإدارية ، صارت أرضاً غنية و زاهرة بالتقاليد المميزة للمسلمين مع تأثيراتهم في اللغة و أسماء المواقع و الزراعة و هندسة المباني . و آثار ذلك لا تزال باقية حتى في المعالم التاريخية المكوّنة لوسط المدينة القديمة بأحياءها الخمسة : القصر Kasr ؛ و حي الجامع الكبير ؛ و الكلسة Kalsa (بمعنى المختارة) مقر الأمراء على شاطئ البحر ؛ و منطقة العبيد المخترقة بنهر بابيريتو ؛ وأخيراً غرباً المعسكر Moascher حي الجنود و مقر الأمراء القديم .
هذا ما أفادنا به الراهب تيودوزيو و أوردنا أيضاً ببناء ثلاثمائة مسجد في أراضي باليرمو ، و أُسند التعليم إلى ثلاثمائة معلم لسكان المدينة البالغين ثلاثمائة ألف آنذاك .
قـُسمت صقلية إلى ثلاثة أدوية (وادي مازارا ، و وادي ديموني ، و وادي نوتو) و المنطقة يشرف عليها نوع من السادة يطلق عليه لقب قائد “Kaid”.
لكن القوى الإسلامية أخذت في تآكل بسبب الصراعات التي خاضتها الإمارة و فتحت طريق للأجنبي إلى صقلية ، فشن النورمان بدأً من عام 1060 حرباً صليبية ضد إمارة صقلية المسلمة ، و استولى الكونت روجر الأول ملك النورمان على باليرمو في 10 يناير 1072 بعد أربع سنوات من الحصار ، و على كامل الجزيرة بحلول سنة 1091 . و قد عزز الخليط الناتج من امتزاج الثقافتين العربية و النورمانية أسلوب العمارة الهجينة و الفريدة ، كما يتبين في المصلى البالاتيني ، و كنيسة سان جوفاني ديلي إريميتو و الزيسا .
سقطت صقلية عام 1194 تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة . و كانت باليرمو المدينة المفضلة لدى الإمبراطور فريدريك الثاني . بعد انقطاع كانت فيه تحت حكم آل أنجو (1266-1282) ، حـَكم صقلية آل أراغون ، ثم مملكة اسبانيا سنة 1479 .
شارك في الحروب الأوروبية بين فرنسا و النمسا و إسبانيا ، و بمعاهدة أوتريخت 1713 ذهبت صقلية لفترة وجيزة إلى فيتوريو أميديو الثاني من آل سافويا حتى عادت عام 1734 إلى آل بوربون مع كارلوس الثالث ، الذي اختار باليرمو ليتوج ملكاً على مملكة نابولي و مملكة صقلية ، و شهدت المدينة تحت هذه الملكية ازدهاراً سكانياً و صناعياً و تجارياً . لم يرحب الباليرميون كثيراً بابنه و خليفته فرديناندو الأول الذي و وحـّد العرشين ضمن مملكة الصقليتان ، و لكن أحداث الثورة الفرنسية في سنة 1789 اضطر الملك للجوء في باليرمو .
شاركت صقلية في الحركات الثورية بين عامي 1820 و 1848 التي شهدت في 12 يناير 1848 انتفاضة شعبية قادها جوزيبي لا ماسا و أعلن أول برلمان و الملكية الدستورية بمجالس ترأسها رودجيرو سيتيمو الذي كان رئيس حكومة مؤقتة استمرت ستة عشر شهراً . لكن آل بوربون استعادوا السلطة قاصفين المدن الصقلية (الملك فرديناندو الرابع ولذا سمي "الملك القنبلة") و احتفظوا بها حتى وصول غاريبالدي في عام 1860. فانضمت صقلية إلى مملكة إيطاليا الموحدة .
مرت باليرمو بفترة زاهرة خلال العقدين الأولين من القرن العشرين ، مع فترة قصيرة ولكنها مكثفة من أرت نوفو أبرز شخصياتها إرنستو بازيلي . لم تتأثر باليرمو بالصراع خلال الحرب العالمية الأولى ، بينما تضررت كثيراً في الحرب العالمية الثانية لأهمية مينائها. فعانت المدينة خلال الحرب أضراراً جراء قصف قوات الحلفاء حتى أن بعض آثاره ما زال يمكن مشاهدتها في بعض مناطق المدينة القديمة . و احتلتها قوات الحلفاء في يوليو 1943 بقيادة الجنرال الامريكي جورج سميث باتن.
زادت أهمية باليرمو لـمّا صارت صقلية إقليماً ذاتي الحكم (1947) . و لكن تزايد نفوذ المافيا أحبط أي تحسن ، والتي ما تزال حتى اليوم هي صفة مميزة للمدينة ، كما هو الحال جنوب إيطاليا.