الرئيسيةبحث

إبلا

قصر ملكي في إبلا
قصر ملكي في إبلا

°35 47' 53" Nا 36° 47' 55" Eا

فهرس

ابلا

إبلا Ebla مدينة أثريةسورية قديمة كانت حاضرة ومملكة عريقة وقوية ازدهرت في شمال غرب سورية في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وبسطت نفوذها على المناطق الواقعة بين هضبة الأناضول شمالاً وشبه جزيرة سيناء جنوباً، ووادي الفرات شرقاً وساحل المتوسط غرباً، وأقامت علاقات تجارية ودبلوماسية وثيقة مع دول المنطقة والممالك السورية ومصر وبلاد الرافدين، كشفت عنها بعثة أثرية إيطالية من جامعة روما يرأسها عالم الآثار باولو ماتييه Paolo Matthiae كانت تتولى التنقيب في موقع تل مرديخ قرب بلدة سراقب محافظة إدلب السورية على مسافة نحو 55 كم جنوب غرب حلب في سوريا.

تنقيب

شرعت البعثة الإيطالية في أعمال تنقيب منظمة منذ عام 1964م في موقع تل مرديخ في شمال سوريا ، وكان ذكر إبلا قد ورد أول مرة في وثائق تعود إلى عصر شروكين الأكدي، مؤسس الإمبراطورية الأكدية (2340 - 2284 ق.م)، نفهم من أحد النصوص أن الإله دجن أعطى شروكين المنطقة الممتدة من مدينة ماري على الفرات حتى جبال الأمانوس على ساحل البحر الابيض المتوسط، وكان يدعى البحر الأعلى. وظلت البعثة الإيطالية تقوم بالحفريات في تل مرديخ عدة سنوات قبل أن تعرف اسمه القديم عام 1968، حتى عثرت على تمثال من البازلت لأحد ملوك إبلا المدعو إيبيط - ليم Ibbit - Lim بن إغريش - خيبا Igrish - Chepa ،لم يبق منه إلا الجذع، ولكن المهم فيه وجود كتابة مسمارية باللغة الأكدية مؤلفة من 26 سطراً على الجزء العلوي من صدر التمثال. تقع هذه الكتابة في قسمين غير متساويين يتضمن الأول تقديم نذر (جرن للتطهر) إلى الربة عشتار، ويتضمن الثاني وَقف تمثال الملك للإلهة عشتار. وقد بينت هذه الكتابة أن الاسم القديم لهذا الموقع هو إبلا، لورود كلمة إبلا مرتين في النص، مرة صفة ومرة اسماً. كما أن كشف المحفوظات الملكية في هذا الموقع في عامي 1974 و1975 لم يدع مجالاً للشك في أن مملكة إبلا الوارد ذكرها تقوم في موقع تل مرديخ.

تاريخ وحضارة عريقة

تعود المحفوظات الملكية في مدينة ايبلا إلى النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، نصوصها مكتوبة بالخط المسماري وبلغة جديدة لم تكن معروفة سابقاً وهي لغة ايبلا التي عرفت وانتشرت قبل حوالي خمسة الاف عام .

ذكرت إبلا او ايبلا أول مرة في نص لشروكين الأكدي. كذلك يفاخر حفيده نارام سين (2259- 2223 ق.م) بأنه أخضع أرمان وإبلا والمنطقة كلها حتى جبال الأمانوس وشاطئ البحر. وتبدو آثار حريق كبير في بقايا قصر إبلا الملكي (القصر G) العائد للألف الثالث قبل الميلاد، والذي كشف عام 1974. ويبدو أن نارام سينٍٍٍٍٍٍ كان السبب في هذا الحريق، والظاهر أن قوة إبلا التجارية وسيطرتها على طرق المواصلات أجبرتاه وجدّه من قبله على القيام بحملة عسكرية كبيرة على هذه المملكة التي بات نفوذها يهدد مصالح الدولة الأكدية وقد استطاع نارام سين القضاء على نفوذ ايبلا في شمال سورية وأعالي بلاد الرافدين والأناضول وسوريا الداخلية ، ولكنها استمرت في الحياة من بعده إذ يرد ذكرها في وثائق تعود إلى عهد السلالة الثانية في لاغاش (2150 - 2110 ق.م) فقد كانت شريكاً تجارياً مهماً لبلاد ما بين النهرين في هذه الحقبة، إذ كان غوديا Goudéa حاكم لاغاش (نحو 2143 - 2124 ق.م) يستورد منها الأنسجة الكتانية وأخشاب الصنوبر والدُّلب وغيرها.ولكن معظم الإشارات إلى إبلا تظهر في نصوص السلالة الثالثة في أور Our (2112 - 2004 ق.م)، وتدور على الأغلب حول جرايات لسعاة وتجار وأناس عاديين من إبلا، وكذلك حول تقديم هدايا ونذور من أشخاص من إبلا لمعابد سومر وآلهتها. كما أن القائمة الجغرافية البابلية الكبرى تذكر مدينة إبلا، والعمل الأدبي المسمى رحلة نانا إلى نيبور يذكر غابة إبلا بوصفها مصدراً لخشب البناء. و من العصر الآشوري القديم رسالة تبين أن مواطنين من إبلا سافروا لأغراض تجارية إلى كاروم كانيش، المستوطنة التجارية الآشورية المشهورة في قبادوقيا الواقعة في قلب الأناضول والتي ازدهرت في القرن التاسع عشر قبل الميلاد. كانت إبلا في هذه الحقبة مملكة مستقلة، وتؤكد ذلك الكتابة على تمثال إيبيط - ليم والمعلومات الواردة عن إبلا في نصوص ألالاخ الطبقة السابعة.

كانت تسكن إبلا آنذاك مجموعات من الآموريين والحوريين، ويُستدل على ذلك من اسم إيبيط - ليم الأموري واسم أبيه إغرش - خيبا الحوري المذكورين في النص المنقوش على التمثال. وتذكر نصوص الطبقة السابعة من ألالاخ (نهاية القرن 18 وبداية 17 ق.م) إبلا عدة مرات. فهناك نصان يشيران إلى رحلات ملك ألالاخ أو رسله إلى إبلا. ونص مؤرخ بالسنة التي حدث فيها زواج ملكي «تلك السنة التي اختار فيها أميتاكُو Ammitaku ملك ألالاخ ابنة حاكم إبلا زوجة لابنه». وهناك نص آخر يخبر عن شراء تاجر من ألالاخ (القرن 15 ق.م) مواطناً من إبلا يحمل اسماً حورياً، كما يرد من العصر الآشوري الوسيط ذكر ساعٍ لملك إبلا جاء إلى آشور. كذلك يرد ذكر إلهة إبلا في قائمة للآلهة تعود إلى هذه الحقبة. ويضاف إلى ذلك أن إبلا تذكر في المصادر الحيثية والحورية والمصرية ووثائق مملكة ماري ، مرة في كل منها، في حين لايرد ذكرها في نصوص أُغاريت .

الملوك والحكام

ترد في نصوص المحفوظات الملكية أسماء خمسة ملوك حكموا إبلا، ويمكن ترتيبهم على النحو التالي:

العلاقة ما بين الملوك الثلاثة الأُول غير معروفة حتى الآن، في حين كان الرابع أباً للخامس ويضيف عالم الآثار الإيطالي جيوفاني بتيناتو إلى هذه القائمة ملكاً آخر هو دُوبُوشو - هادا Dubuchu - Hada ويرى أنه كان ابن إِبّي زِكِر.ويبدو أن إغريش - خلام كان المؤسس بين الملوك الذين حكموا إبلا في العصر الذي تعود إليه المحفوظات الملكيةالتي يمتد عصرها نحو مئة وخمسين سنة،و بعد دراسة النصوص المكشوفة تبين أن هناك تشابهاً كبيراً في شكل الكتابة، وعلاقة ثقافية قوية كانت تقوم بين إبلا وموقع أبو صلابيخ في بلاد الرافدين،إي إن تاريخها يعود إلى 2500 ق.م، ولم يؤيد هذا التاريخ الجديد علماء البعثة الإيطالية المنقبة في تل مرديخ وعلى رأسهم باولو ماتييه مع أن هذا التاريخ تؤيده معلومات تاريخية وتجارية وثقافية في نصوص المحفوظات الملكية.

ولا تذكر ألواح محفوظات إبلا أكّد في حين تذكر مدناً رافدية أخرى منها كيش وآداب. لذلك يظهر أن عصر المحفوظات الملكية سبق قيام أكد وكان معاصراً لسلالة كيش الأولى (2600 - 2500 ق.م). وثمة برهان آخر يؤكد هذا التاريخ هو تكرار ذكر الإله زابابا، إله مدينة كيش، كما ذكر أيضاً ملك كيش (Iugal - Kis (Ki . ويستنتج من هذه الوقائع أن سلالة إبلا كانت معاصرة لسلالة ميسليم في كيش في بلاد الرافدين، وللأسرة الرابعة في مصر الفرعونية .

كانت إبلا في عصر المحفوظات الملكية مملكة مستقلة مزدهرة يحكمها ملك يحمل لقباً سومرياً يعني «سيد» ويقابله في اللغة الإبلوية لغة ايبلا لقب «ملك» وكان الملك في إبلا رأس الدولة وكان مسؤولاً عن السياسة الداخلية والخارجية ويشرف على هذه الأعمال الإدارية والقضائية، وكان إلى جانب الملك مجلس تذكره النصوص باسم «الآبا» Abbu ويمكن تسميته بمجلس الشيوخ وكانت مهمته مراقبة ممارسات الملك للسلطة. وكان له أثر بارز في إدارة شؤون الدولة كما يظهر من النصوص المختلفة، أما الملكة واسمها Maliktum فكان لها دور مهم في حياة إبلا، ولاسيما الاقتصادية، إذ كانت مصانع الغزل والنسيج بإشرافها.

كانت إدارة المملكة رسمياً بيد الملك ولكنها في الواقع كانت تدار من شخص يدعى بالإبلوية السيد Adanu، وكان في تصرفه عدد كبير من الموظفين، ويذكر أحد النصوص أن العدد الكامل لموظفي الدولة 11700 موظف، منهم 4700 كانوا يعملون في قصر «السيد» و7000 في المقاطعات المختلفة.

ويلي السيد في المرتبة مسؤول يدعى «لوغال» Lugal، وهذه التسمية معروفة في شرق الهلال الخصيب وتعني ملكاً، في حين تدل في إبلا على الوالي أو حاكم المقاطعة. وتذكر النصوص أربعة عشر والياً. وهذا يعني أن إبلا كانت مقسمة إلى أربع عشرة مقاطعة، ولم يكن حكام المقاطعات مرتبطين بمنصب الملك أو السيد، بل كانوا يبقون في مناصبهم مدى الحياة، وكان بعض الملوك حكاماً في المقاطعات قبل أن يعتلوا العرش.

كان الاعتقاد السائد لدى المؤرخين أن أكد هي أقدم امبراطوريات المنطقة ولكن النصوص المكشوفة في إبلا دلت على قيام هذه المملكة القوية قبل الإمبراطورية الأكدية بأكثر من مئة عام. واستفادت إبلا من موقعها الجغرافي في شمال سوريا إذ كانت تمر فيها الطرق التجارية القادمة من الأناضول في الشمال إلى مصر في الجنوب، ومن إيران في الشرق إلى سواحل المتوسط في الغرب، فغدت دولة قوية إلى جانب كيش .

كانت علاقات مملكة ايبلا مع الدول والمدن المعاصرة لها تتفاوت ما بين عقد التحالفات والمعاهدات وشن الحروب، وقد عمد ملوك إبلا إلى الزواج السياسي لتعزيز علاقات الصداقة مع الملوك والحكام الآخرين. فها هو ذا الملك إبريوم مثلاً يزوج إحدى بناته ملك إيمار

أما التحالفات فيذكر أحد النصوص إقامة تحالف بين إبلا ومملكة خمازي Chamazi في شمالي إيران، والنص الذي يذكر التحالف هو رسالة موجهة من المشرف على القصر الملكي في إبلا إلى سفير مملكة خمازي في إبلا، يطلب فيها إرسال جنود جيدين، ولكن الجنود المطلوبين كانوا مرتزقة، لأن إبلا لم يكن لديها جيش دائم، وكانت مجبرة على استئجار مرتزقة، وكان الشاغل الأساسي للإبلويّين الزراعة والصناعة والتجارة لا الحرب. ولعل اعتماد إبلا على المرتزقة جعل الملك يزوّج إحدى بناته من زعيمهم.

أما العلاقات الدبلوماسية الدولية، فمن الشواهد عليها المعاهدات التي عقدت بين إبلا وجيرانها، فقد كشفت النصوص حتى الآن عن عشر معاهدات وأهمها المعاهدة بين ملك إبلا وملك آشور التي تنظم العلاقات ما بين المملكتين ولاسيما التجارية منها.ومع أن الإبلويين كانوا مهتمين بالتجارة بوجه أساسي فإنهم كانوا يلجؤون أيضاً إلى السلاح عندما كانت الحاجة تدعو إلى ذلك. ومن الحروب التي خاضتها إبلا، الحرب مع ماري، وهي معروفة من التقرير المرسل من قائد الحملة الإبلوي إنّا - دجن Enna - Dagan إلى سيده ملك إبلا، ويقول فيه إنه انتصر على ملك ماري إبلول إل Iblul - II وخلعه عن عرشه وتسلّم مكانه. ويتحدث أحد النصوص الاقتصادية عن ضريبة كبيرة دفعتها مدينة ماري ( احدى الممالك السورية )إلى ملك إبلا، ربما كانت نتيجة لهذه الحملة العسكرية.

ومما يلفت الانتباه في التقرير ذكر مستوطنة تجارية إبلوية تقع بالقرب من إيمار حررها إنا - دجن، وكذلك ورود اسم ملك ماري مقروناً بلقب «سيد ماري وآشور» وهذا يعني أن الرابطة السياسية بين ماري وآشور قديمة وليست من ابتكار شمشي أدد الذي سيطر على ماري في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.كما ظلت ماري بعد حملة إنا - دجن تابعة لمملكة إبلا سنوات كثيرة.

الاقتصاد

كان غنى إبلا يقوم أساساً على الزراعة وتربية الحيوان ، وكانتا قاعدة اقتصادها القوي وعماد صناعتها ( صناعة النسيج والادوات وصناعات زيت الزيتون .. وغيرها )وتجارتها التي ازدهرت بشكل كبير .

زراعة وتربية الحيوان

مارس الإبلويون أنواعاً مختلفة من الزراعة وساعدهم في ذلك موقع إبلا في سهول زراعية واسعة خصبة تكثر فيها الأمطار فقد كانوا يزرعون على سبيل المثال سبعة عشر نوعاً من القمح وأنواعاً من الشعير وهم أول من زرع شجر الزيتون. وثمة نصوص كثيرة تصف العمليات الزراعية المختلفة كالبذار والحصاد، وكان الإبلويون كذلك يزرعون الكرمة. ويذكر أحد النصوص أن المشرف على زراعة الكروم أرسل إلى حاكم المملكة ما يعادل 300 طن من الخمر. كما كانوا يزرعون الزيتون للإفادة منه ومن زيته. وفي النصوص ذكر لكميات من زيت الزيتون وردت إلى إبلا من عدة قرى وإشارة إلى عدد أشجار الزيتون في بعض الأراضي وإلى تصدير زيت الزيتون إلى إيمار ومدن أخرى. ومن الزراعات المهمة الأخرى في إبلا زراعة الكتان الذي استعمل على نطاق واسع في صناعة النسيج التي كانت مزدهرة فيها.

أما تربية الحيوان فكانت واسعة الانتشار، وفي النصوص ذكر لأعداد كبيرة من الأغنام، كان بعضه يُربّى للحمه وصوفه، وبعضها يقدّم أضحيات للآلهة. وقد ورد في أحد الألواح أن عدد الأغنام التي تخص ملك إبلا كان 79300 رأس. وفي لوح آخر ذكر لتعداد الأغنام جرى في شهر إشي Ishi بيّن أن العدد كان 72240. وفي نصٍ أن عدد الأغنام المخصصة للأضحيات كان 10796 وكان في نص آخر 36892, وتدل هذه الأرقام على أن الأغنام كانت تربّى قطعاناً كبيرة في مراعٍ واسعة، وإلى جانب الأغنام تذكر النصوص الماعز والخنازير والأبقار، وكانت الثيران تستخدم في الأعمال الزراعية.

صناعة

كانت الصناعة تؤلف أحد الأركان الأساسية في اقتصاد إبلا، وأحد المناشط الرئيسة للإبلويين، وكانت تعتمد بالدرجة الأولى على المواد الأولية المحلية كالصوف والكتّان، أو المستوردة كالمعادن.

ومن أهم الصناعات الإبلوية، صناعة الأنسجة الصوفية والكتانية، وكانت عمليات الغزل والنسيج تتم في مشاغل الدولة وكان مشغل الغزل يدعى «بيت الصوف»، وكانت هذه المشاغل تنتج أنسجة متنوعة الألوان والأصناف وتصدّر منتجاتها إلى مختلف البلدان والممالك، ومن أشهر تلك الأنسجة النوع الذي عرف في العصور الوسطى باسم الدمقس Damask (نسبة إلى دمشق)، وهو نسيج من الكتان أو الصوف محلّى بخيوط الذهب. ويلاحظ أن المناطق السورية المختلفة حافظت على شهرتها في صناعة الأنسجة في الحقب التاريخية التي تلت حقبة إبلا مثل يمحاض وألالاخ وفينيقيا، وفي العصور الوسطى والعصر الحديث.

ومع أن القسم الأكبر من عمال إبلا كان يعمل في صناعة النسيج فإن هذه الصناعة لم تكن الوحيدة فيها، فقد كان إلى جانبها صناعة معالجة المعادن وسبكها، وكان الإبلويون يصنعون من الذهب والفضة تماثيل للآلهة والملوك وغير ذلك من المصنوعات الثمينة.

وقد عرف الإبلويون كيف يقيسون نقاوة الذهب، وكانت الفضة متوافرة بكثرة ولكن قيمتها تقل عن قيمة الذهب بنسبة 5 إلى 1. ويذكر من المعادن الأخرى التي عرفتها إبلا واستخدمتها في صنع الكثير من الأدوات، النحاس والقصدير والرصاص وأشابات البرونز، وهناك بعض النصوص التي تذكر كميات من النحاس والقصدير والذهب كانت معدة لصهرها سبائك لصنع أدوات مختلفة. وكان صهر المعادن وسبكها متطورين في إبلا ولاسيما معالجة القصدير والنحاس لإنتاج البرونز. وإلى جانب ذلك عمل الإبلويون في صقل الأحجار الكريمة كالعقيق الأحمر، واللازورد الذي كان يستورد من أفغانستان في الغالب.

تجارة

تبين نصوص إبلا أن التجارة كانت من أهم الفعاليات الاقتصادية في المملكة وقد برع الإبلويون في هذا المجال، وساعدهم في ذلك موقعهم الجغرافي المناسب وحسن إدارة ملوكهم الذين كانوا يعقدون اتفاقات تجارية طيبة ويهتمون بضمان سلامة الطرق والقوافل التجارية. وتأتي الأنسجة في رأس قائمة البضائع المصدرة. وتليها المنتجات المصنوعة من المعادن الثمينة ولاسيما المجوهرات والأحجار الكريمة، وكانت بعض المنتجات الزراعية تجد طريقها إلى مناطق بعيدة عن إبلا كزيت الزيتون.

أما الواردات فكانت تشمل الأحجار الكريمة كالعقيق واللازورد ومعدني الذهب والفضة اللذين كانا وسيلة في البيع والشراء ولايعرف حتى الآن من أين كان الإبلويون يحصلون على هذين المعدنين الثمينين، وربما كانت مصر المورِّد الرئيسي للذهب. كذلك كانت إبلا تستورد الأغنام إلى جانب ما كانت تمتلكه منها لحاجتها إلى كميات كبيرة من الصوف من أجل صناعتها النسيجية. ويذكر أحد النصوص استيراد سبعة عشر ألف رأس غنم من مدن مختلفة. كما يقدم أحد النصوص الكبيرة وصفاً واضحاً لعلاقات إبلا مع الدول الأخرى، وفكرة عن حجم الصفقات التي تمت في شهر واحد، ومنها صفقة المنسوجات لأناس من مدن مختلفة مثل كركميش وحماة وماري وغيرها.

ومع أن المنطقة التي كانت تحكمها إبلا حكماً مباشراً صغيرة المساحة نسبياً وتمتد من الفرات في الشرق حتى سواحل المتوسط في الغرب، ومن طوروس في الشمال حتى منطقة حماة في الجنوب، فإن نشاطها التجاري امتد إلى مناطق بعيدة، وبلغ نفوذها الاقتصادي معظم مناطق شرقي المتوسط القديمة، فشمل كل سورية الجنوبية حتى سيناء، ويبدو أن مدينة أُغاريت الساحلية كانت ميناءً مهماً تؤمه السفن التي تحمل الذهب إلى إبلا، كذلك اتجهت إبلا إلى الغرب فأقامت علاقات تجارية مع جزيرة قبرص الغنية بالنحاس. ومدت نفوذها شمالاً حتى بلغ قبادوقيا في وسط بلاد الأناضول، وكانت كانيش تابعة لإبلا. ولكن نفوذ إبلا التجاري كان أكثر امتداداً في المناطق الواقعة إلى الشرق منها، فبلغ منطقة الفرات ومدنها المشهورة مثل ماري وإيمار وكركميش، وكذلك شمال بلاد الرافدين.

إن اتساع النشاط التجاري لإبلا على هذا النحو وازدياد نفوذها المرافق له يدلان على أن إبلا أنشأت مملكة تجارية كبيرة شملت مناطق واسعة من المشرق القديم وتختلف هذه الدولة عن الممالك الأخرى في المنطقة، إذ كانت مملكة تجارية عمادها القوة الاقتصادية لا العسكرية.

مجتمع

كانت مدينة إبلا مقسمة إدارياً إلى قسمين يضمان أحياء المدينة الأربعة، وكان لها أربع بوابات تحمل كل بوابة منها اسم إله، وهي

ويمكن تخمين عدد سكان إبلا اعتماداً على أحد النصوص الاقتصادية الذي يذكر حصصاً من الشعير مخصصة ل- 260 ألف شخص. ولايذكر هذا النص صراحة أن هذه الحصص تشمل كل سكان إبلا، ولكن يمكن الاعتقاد أن إبلا كانت تعد 260 ألف ساكن على الأقل، منهم نحو أربعين ألفاً في مدينة إبلا نفسها والباقي في المدن والقرى المحيطة بها والتي كانت تؤلف إبلا الكبرى.

وتطلق الوثائق على سكان إبلا اسم «أبناء إبلا» وكان هؤلاء أحراراً يتمتعون بكل الحقوق والامتيازات، ويقسمون إلى فئات تضم: موظفي الدولة، والتجار ورجال الأعمال، والحرفيين، والفلاحين، والعمال اليدويين. وقد استخدمت عدة مفردات للدلالة على التجار، ويبدو أنه كان هناك تجار كبار وتجار صغار، وتجار يعملون في خدمة الدولة وآخرون يعملون لحسابهم الخاص. أما الحرفيون فكانوا يؤلفون مجموعة كبيرة من المواطنين، ولكن من غير المعروف حتى الآن أكانوا منظمين في طوائف حرفية أم لا؟ وكان من بين هؤلاء صانع الفخار والنجار والنحات وصانع التماثيل وعامل النسيج وغيرهم.

كان الفلاحون يقيمون في القرى المحيطة بإبلا يمارسون الزراعة وتربية الحيوان.

وضمت إبلا بالإضافة إلى الإبلويين مجموعة من السكان تسميها النصوص Bar - An Bar - An وتعني الغرباء والأجانب. ويأتي في رأس هؤلاء المحاربون المرتزقة الذين جاؤوا إلى إبلا من مدن مختلفة، ولاتوجد حتى الآن معلومات عن وضعهم القانوني في إبلا، والغالب أنهم كانوا يتمتعون بامتيازات ذات شأن، وكان إلى جانب المرتزقة هؤلاء أسرى الحروب والعبيد، وكان يؤم إبلا كذلك الكثير من التجار والكتاب والمغنين والكهنة.

ثقافة

المدارس والتعليم والآداب

لم تكن إبلا مركزاً تجارياً فحسب بل كانت كذلك مركزاً ثقافياً له مؤسساته وعلاقاته الثقافية مع البلدان المجاورة. ومن الجدير بالذكر أن الكتبة في مناطق شرقي البحر المتوسط كانوا يتعلمون القراءة والكتابة في مؤسسات ملحقة بالمعابد والقصور يمكن تسميتها بالمدارس. ولم تكن المدارس في المدن الرافدية المعاصرة لإبلا مثل أور وأوروك وفارا وأبو صلابيخ وكيش وأداب ونبيور أماكن لتخريج الكتَّاب وحسب، وإنما كانت كذلك أماكن لحفظ التراث الثقافي، وفيها تكتب الأساطير والأشعار المنقولة بالتواتر، وتبتكر الأعمال الأدبية والدينية، وتصنف المعارف في نصوص معجمية. وثمة نصوص مدرسية كشفت يمكن تقسيمها إلى قسمين: يتضمن الأول نصوصاً ربما تكون من كتابة الطلاب، ويتضمن الثاني النصوص التي كتبها المعلمون إما لغرض تربوي أو لحفظ المعرفة والتقاليد المروية. وتظهر أهمية مدارس إبلا بصورة أفضل في الوثائق التي يمكن أن تسمى «كتباً مدرسية»، إذ كانت وسيلة للتدريس يمكن أن تميز فيها قوائم الرموز المسمارية والمعاجم اللغوية والمعاجم ثنائية اللغة.

وقد وجدت كذلك معاجم تذكر الكلمة السومرية مع لفظها. وهكذا فإن النصوص المكشوفة ليست مهمة من أجل معرفة اللغات القديمة وحسب، بل من أجل البحث في اللغة السومرية. ومن الوثائق ما يسمى بالموسوعات أو بالأحرى هي قوائم موسوعية تضم كلمات مرتبة بحسب الموضوع كانت تستخدم كتباً مدرسية، وهناك قوائم بأسماء الحيوانات والأسماك والأحجار الكريمة والنباتات والأشجار والموارد الخشبية والمعادن والمصنوعات المعدنية.

إضافة إلى ما تقدم كان في مملكة ابلا أعمال أدبية متطورة، ومن بينها ما يقرب من عشرين أسطورة محفوظة في نسخة أو أكثر، وقد أمكن تعرّف نسختين من ملحمة غلغامش. ودراسة هذه الأساطير تلقي أضواء جديدة على الاتجاهات الدينية التي كانت سائدة في الألف الثالث ق.م. كذلك توجد روايات أسطورية وترانيم للآلهة ومجموعات من الأمثال. وتدل النصوص على أن إبلا أقامت علاقات ثقافية مثمرة مع عدة مراكز سومرية مهمة. ومن المعتقد أن كتّاباً من مدن أخرى كانوا يزورون إبلا، وكانت تقام بهذه المناسبة بعض اللقاءات أو ما يسمى الآن بالندوات العلمية، وهناك إشارة تدل على أن معلماً للحساب جاء من مدينة كيش إلى إبلا. والكثير من النصوص يدل على صلات ثقافية بين إبلا ومناطق الشرق الأدنى القديم الأخرى. وبعض النصوص المعجمية، ولاسيما القوائم الموسوعية، تشابه وثائق معروفة من أوروك وفارا وأبو صلابيخ.

دين

اتصفت الديانة الإبلوية بصفتين: تعدد الآلهة، وسيادة الآلهة الكنعانية في بانثيون (مجمع الآلهة) إبلا ، وتذكر المصادر المتوافرة أن بانثيون إبلا كان يضم عدداً كبيراً من الآلهة والأرباب،ولم يكن للمعبد والكهنة في إبلا شأن كبير في القضايا السياسية والاقتصادية على خلاف ما كانت عليه الحال في بلاد سومر.

نيداكول

(ربما كان إله القمر) كان له مركز مرموق بين الآلهة المذكرة.

دجن

من الآلهة المهمة الذي دخلت عبادته المنطقة في الألف الثالث قبل الميلاد وورد ذكره في كتابات شروكين الأكدي الذي بنى له معبداً في توتول، وذكره أيضاً نارام سين. وبنى شولجي ثاني ملوك سلالة أور الثالثة مدينة جديدة سمّاها بوزريش - دجن Puzrish - Dagan أي»في حماية الإله دجن» وكانت إحدى بوابات إبلا الأربع تحمل اسم دجن، وفي التقويم الجديد خصص لهذا الإله الشهر الأول من السنة تحت لقب «سيد».

ويظهر اسم دجن في أسماء الأعلام أيضاً بمعنى «سيد»، في حين يخصص في قوائم الأضاحي بإضافة اسم مدينة لتأكيد أنه هو إلهها الحامي. ولكن تعبيرات أخرى مثل «سيد البلاد» أو «سيد كنعان» ترفع دجن إلى مرتبة أحد الآلهة الرئيسة لمملكة إبلا أو لبلاد كنعان. ومن الصفات التي كانت تطلق على دجن باللغة الإبلوية: طيلوماتيم Ti - Luma - tim وتعني الطل أو ندى الأرض. وهذا ما يدعم القول بان اسم دجن يعني الغيم أو المطر ويؤيد ذلك أن كلمة دجن بالعربية مرادفة لكلمة مطر.

شمش

وهو إله الشمس، المعروف في التقاليد الرافدية

هدا

Hada (أدد)إله العاصفة و المطر و الخصب

ككّاب

Kakkab (والأصل كوكب): أي إله النجم.

وهذه الأرباب الثلاثة تدعى في المعاهدة التجارية بين آشور وإبلا «شهود الاتفاق» وكان عليهم أن يصبوا اللعنات على ملك آشور إذا لم يراع الشروط المنصوصة. وكان هناك أرباب أُخر مذكرة مهمة بينها

كاميش

Kamish الذي يظهر في الألف الأول قبل الميلاد إلهاً رئيساً لمؤاب،

راساب

Rasap (رشف) أي إله الطاعون والعالم السفلي،

أشتار

Ashtar إله الحب والحرب المذكر،

ليم

Limالإله الأموري الكبير الذي يظهر في وثائق ماري.

وكذلك النهران المؤلهان الفرات وبليخ في الجزيرة السورية. ومن الآلهة المؤنثة، بالإضافة إلى

بعلتو

بعلتو Belatu بمعنى «سيدة». وهي رفيقة دجن ولكن صفتها هذه عامة لاتسمح بتعرّف طبيعتها

عشتارُت

Ashtarte التي لها صفات أشتار، وإشاتو Ishatu إلهة النار،

تيامات

Tiamat إلهة ماء المحيط.

كذلك كان بانتيون إبلا يضم آلهة أجنبية بينها ما هو حوري مثل خيبات Hepat وسومري مثل إنكي Enki. وكان لكل إله معبد خاص به تقام فيه العبادات والشعائر، ويضم عدداً من الكهنة. وكانت المعابد تدعى بيوت الآلهة، وكان الإله يجسد في المعبد على هيئة تمثال من الذهب أو الفضة. ويتحدث أحد الألواح عن وزن من الفضة يعادل خمسة كيلوغرامات لصنع تمثال أبيض لدجن. وكانت التقدمات للآلهة إمّا من الخبز والزيت والجعة وغير ذلك، أو قرابين من الأغنام وغيرها. وتتحدث الوثائق عن مواكب الآلهة من العاصمة إلى مدن المملكة الأخرى، ويشير اسم إحدى السنين على موكب لدجن «السنة الذي ذهب فيها السيد على المدن» أي أن تمثال دجن غادر المدينة. وكانت هناك أعياد دينية أخرى يحتفل بها الإبلويون.

كتابة ولغة

استعمل الإبليون في كتابة وثائقهم الكتابة المسمارية التي اخترعها السومريون في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، ومن الجدير بالذكر أن الكتابة المسمارية استعملت في الكثير من لغات المشرق القديم كالسومرية والأكدية والإبلوية والحورية والحيثية. وثمة تشابه بين الرموز المسمارية المستعملة في نصوص «فارا» و«أبو صلابيخ» في بلاد الرافدين، ويمكن تعليل هذا التشابه بأن نصوص إبلا معاصرة للنصوص التي وجدت في هاتين المدينتين ويعود تاريخها إلى 2600 - 2500 ق.م. والشكل الخارجي للألواح متشابه أيضاً. وقد كتبت هذه النصوص على ألواح طينية مختلفة القياسات والأشكال، وعلى الوجهين، أما اللغة المستعملة في كتابة نصوص ايبلا ، فيدل النص المكتوب على تمثال الملك إيبيط - ليم، الذي يعود إلى العصر السوري القديم (3000 - 1800ق.م) والوثائق الأخرى التي تعود إلى هذا العصر على أنها كتبت جميعها باللغة الأكدية بلهجة قريبة من اللهجة الآشورية القديمة. أما نصوص المحفوظات الملكية التي تعود كما يرى ماتييه إلى العصر السوري الباكر الثاني (2400- 2250 ق.م)، فإنها كتبت بلغة لم تكن معروفة سابقاً هي اللغة الإبلوية. وفي الواقع استعمل الإبلويون اللغة السومرية، إلى جانب لغتهم الخاصة، في كتابة الألواح المختلفة، وتبين بعد كشف إبلا وجود لغة جديدة انقسمت آراء العلماء حول طبيعتها وعلاقتها باللغات التي دعيت سامية. فيرى جيوفاني بتيناتو مثلاً أن لغة إبلا تختلف كثيراً عن اللغتين الأكدية والآمورية في نظام الأفعال والضمائر والاشتقاقات وتركيب الجملة وغيرها، وهي أقرب إلى اللغات التي تصنف على أنها سامية شمالية غربية، إذ تظهر الصلة وثيقة بالأغاريتية والكنعانية، وبناء على هذه الصلة القوية يكن أن تسمى هذه اللغة كنعانية قديمة، وهي أقدم لغة شمالية غربية معروفة حتى الآن، وتوازي زمنياً الأكدية القديمة. ويرى آخرون مثل غِلْب Gelb أن أوثق العلاقات اللغوية للإبلوية كانت مع الأكدية القديمة والأمورية، وبعيدة عن الأغاريتية وأبعد ما تكون عن العبرية، ولايمكن أن تعد لهجة أكدية أو أمورية، كذلك لايمكن عدّها كنعانية فهي لغة مستقلة يمكن أن تضاف إلى قائمة اللغات الثماني المعروفة التي تصنف تحت اسم اللغات السامية لتكون اللغة التاسعة فيها، وثمة رأي ثالث يقول به أركي A.Archi هو أن اللغة الإبلوية شديدة الصلة بالأكدية القديمة في نحوها، وبعض أشكال النحو فيها أقرب إلى العربية والعربية الجنوبية، بيد أنها من الناحية المعجمية أشد ارتباطاً باللغات السورية الشمالية الغربية (الأغاريتية والكنعانية والآرامية) وتصعب معرفة طبيعة اللغة الإبلوية إلا بعد قراءة عدد أكبر من النصوص وتفسيرها.

وقد أسفرت الحفريات التي تمت في تل مرديخ حتى عام 1973 عن كشف عدة قطع من ألواح طينية مسمارية إلى جانب الكتابة التي على تمثال الملك إيبيط - ليم. وفي الأعوام التي تلت عثر على عدة مجموعات من المحفوظات هي:

لوح كتابي من إبلا
لوح كتابي من إبلا

عثر في شهر آب عام 1974 في الغرفة ذات الرقم L.2586 الواقعة في الجناح الشمالي الشرقي من القصر الملكي على 42 لوحاً وقطعة باللغة المسمارية. ومن دراسة هذه اللوحات تبين أنها ذات طبيعة إدارية، ومعظمها إيصالات تزودنا بمعلومات تاريخية واقتصادية ذات قيمة. إذ تذكر إحدى اللوحات مثلاً تسلم منسوجات من أحد الأشخاص، أما تاريخها فهو: «سنة الحملة على غارمو Garmu». ومن ذلك معلومات عن صناعة النسيج وعن حملة عسكرية. ويتكرر ذكر مدن كيش وتوتول وماري في المحفوظات.

عثرت البعثة الإيطالية في آب 1975 في الغرفة ذات الرقم L.2712 على نحو ألف لوح وكسرة، كما عثرت في الغرفة ذات الرقم L.2769 الواقعة في الطرف الغربي من القصر الملكي على نحو أربعة عشر ألف لوح وقطعة، وتعدّ هذه الغرفة المكتبة الملكية. كذلك عثر في الغرفة ذات الرقم L.2764 على بعض القطع والكسرات. وبذلك فاق عدد الألواح والكسرات التي عثر عليها في عام 1975 خمسة عشر ألفاً معظمها وثائق إدارية واقتصادية، ومن بينها قوائم بأسماء الموظفين وقوائم بالمخصصات اليومية والشهرية للأسرة المالكة ولموظفين في الدولة ولمواطنين إبلويين. وتشتمل هذه المخصصات على كميات من الخبز والجعة والخمر والزيت ولحم الغنم والخنازير. كذلك تذكر القوائم مخصصات لسعاة كانوا يسافرون إلى مدن صديقة، وتقدمات للمعابد والآلهة، والأموال التي كانت تؤديها الدول الأخرى لإبلا. وهناك الكثير من النصوص التي تتحدث عن الزراعة وتربية الحيوان والصناعة والتجارة. وتحتل النصوص التاريخية والحقوقية في هذه المحفوظات المرتبة الثانية من حيث الأهمية. وهي تشمل الأوامر والمراسيم الملكية والرسائل والتقارير الحربية والمعاهدات. وأهمها المعاهدة التجارية بين إبلا وآشور، كما تشمل النصوص الحقوقية مجموعات قانونية وعقود ميراث وبيع وشراء. وتليها في الأهمية النصوص المعجمية التي تدل على مكانة إبلا الثقافية والحضارية، ومن بين تلك النصوص المعجمية قوائم الرموز المسمارية ونصوص القواعد والمعاجم ثنائية اللغة (باللغتين السومرية والإبلوية)، وهي أول المعاجم الثنائية اللغة المعروفة في التاريخ. وتحتل النصوص الأدبية المركز الرابع في هذه المحفوظات وهي تشتمل على عشرين أسطورة على الأقل، وبعضها من عدة نسخ، وعلى ترنيمات وابتهالات للآلهة تلقي ضوءاً جديداً على المعتقدات الدينية في المشرق في الألف الثالث قبل الميلاد.

عثر على هذه المحفوظات في الغرف رقم L.3769 وL.2875 وL.3764 وهي تضم نحو 1600 لوح وكسرة. إن العدد الإجمالي للألواح التي عثر عليها يزيد على سبعة عشر ألف لوح وكسرة، وهي ذات أشكال مختلفة كتبت بقلم خاص، ربما كان من العظم، ولكن عدد النصوص يقدّر باثني عشر ألف نص. وكان اللوح يكتب ويجفف تحت أشعة الشمس، ولكن الحريق الكبير الذي التهم القصر الملكي بعد هجوم نارام - سين على إبلا أدى إلى شي الألواح الطينية المحفوظة فيه. وتعدّ محفوظات إبلا أكبر المحفوظات التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ويمكن موازنتها بالمكتبات والمحفوظات الأخرى التي تعود للألفين الثاني والأول قبل الميلاد، مثل محفوظات ماري وأُغاريت ومكتبات نينوى وآشور.

عمارة

تدل الآثار التي كشف عنها في إبلا على أن أقدم استيطان لهذه المنطقة كما يرى ماتييه حدث في القرن الأخير من الألف الثالث قبل الميلاد، أي في العصر السوري الباكر الثاني (2400 - 2250 ق.م) وفي هذا العصر بلغت مدينة إبلا أوج تقدمها وازدهارها، واتسعت اتساعاً كبيراً، فشملت على ما يبدو مساحة تقدر بنحو خمسين هكتاراً، وكانت تتألف من قسمين: قسم مرتفع (الأكروبول) للإدارة والعبادة، ومدينة سفلى محاطة بأسوار. وكان القصر الملكي «G» البناء الرئيس للمدينة في هذه الحقبة، وهو يمتد إلى المنطقة الجنوبية والجنوبية الغربية من الأكروبول. وقد بدأت البعثة الإيطالية عام 1974 بالتنقيب في القسم الإداري منه، الذي يقع في الجهة الغربية، ويتضمن البلاط الكبير مع مدخل معمّد وقاعة للاستقبال فيها منصة لعرش الملك مبنية من الآجر المجفف بالشمس.

وفي هذا القسم من القصر عثر على الألواح التي كشفت عام 1975 في غرفتين متجاورتين: L.2712 وL.276، كما عثر هنا أيضاً على مواد مهمة تبين علاقات إبلا التجارية العالمية، وتشمل أكثر من 20 كغ من اللازورد الهام المستورد من أفغانستان، وكسرات كؤوس من الديوريت والهيصم المصري Alabaster.

كان القصر الكبير على ما يبدو مركز النشاط الإداري والتجاري ويعتقد أنه بني في عام 2400ق.م وأدخل عليه تجديد فيما بعد وقد دمر هذا البناء على يد الملك الأكدي نارام - سين لوجود شواهد كتابية وأثرية تؤيد ذلك.

وقد أعيد بناء مدينة إبلا في أزمنة لاحقة ولاسيما بين 1900 ت 1800 ق.م، عندما أحيطت بسور ترابي مرتفع تغطي قاعدته أحجار كبيرة وتعلوه أبراج للحماية والحراسة، وكان للمدينة أربع بوابات كشف منها البوابة A.

ويعود تاريخ القصر الغربي الكبير في أسفل المدينة (في المنطقة Q) إلى هذه الحقبة وتم بناؤه نحو سنة 1900 ق.م، وكشف عنه عام 1978، وهو يغطي مساحة تزيد على ثلاثة أرباع الهكتار، كذلك كشفت في هذه المنطقة (Q) مدافن (نكروبول) تضم قبور أمراء ونبلاء. وتنتمي إلى هذه الحقبة أيضاً معابد إبلا الكبرى مثل «المعبد الكبير» D، الذي يعد أكبر معابد المنطقة من العصر البرونزي الوسيط، وهو يقع على الطرف الغربي للأكروبول، وربما كان معبد المدينة الرئيس، وكان مخصصاً للربّة عشتار. وهناك أيضاً المعبد BI المخصص لعبادة راساب، والمعبد N المخصص على مايبدو لإله الشمس. كذلك يعود تمثال الملك إيبيط - ليم والمعبد B2 والقلعة إلى هذه الحقبة.

ويعود إلى الحقبة 1800 - 1600 ق.م، وهي حقبة سيادة يمحاض (حلب) على المنطقة، «القصر الملكي» E الواقع في المنطقة الشمالية من الأكروبول.

وفي نهاية هذه الحقبة (1650 - 1600 ق.م) انهارت مملكة إبلا ودمرت. ويتزامن سقوطها مع التدمير الحاصل في ألالاخ (الطبقة السابعة)، ويرتبط تاريخياً باحتلال الحثيين المنطقة على يد حاتوشيلي الأول وحورشيلي الأول.

وقد تحولت إبلا قي الأزمنة اللاحقة إلى تجمع بشري صغير ليس له أهمية تذكر إلى أن طوي أثرها.

دراسات إبلوية

استقطبت إبلا، ولاسيما المحفوظات الملكية، اهتمام علماء المسماريات في شتى أنحاء العالم، وصدرت دراسات كثيرة عنها إلى جانب التقارير والدراسات الرسمية التي أعدها الأستاذ باولو ماتييه، رئيس البعثة الإيطالية المنقبة في تل مرديخ، عن أعمال التنقيب الجارية وعن الكشوف التي تمت، وكذلك كتابات جيوفاني بتيناتو وغيره من محفوظات القصر الملكي واللغة الإبلوية.

أما ما يتصل بالنصوص فقد ألفت لجنة عالمية تضم عدداً من كبار علماء المسماريات في العالم مثل: إِدزارد Edzard، وغاريلّي Garelli، وكلينجل Klengel، وكوبر Kupper، وسولبرجر Sollberger برئاسة باولو ماتييه وإشراف المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية للعمل على نشرها من قبل جامعة رومة في سلسلة تحمل اسم «محفوظات إبلا الملكية - نصوص» Realidi Ebla, Testi (Aret) Archivi.

وتتضمن مجلدات هذه السلسلة صوراً ونسخاً وترجمات لنصوص إبلا وشروحاً عنها، وقد صدر منها حتى بداية التسعينات أحد عشر مجلداً من النصوص الإدارية والدينية والتاريخية والمعجمية، وصدرت أربعة مجلدات أخرى عن معهد الدراسات الشرقية في جامعة نابولي بإيطالية، كما تصدر بإشراف الأستاذ باولو ماتييه مجلة للدراسات الإبلوية Studi Eblaite.

مصادر

عن : د.عيد مرعي/ جامعة دمشق