روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه ( ك 62 ب 1 ) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: « خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ( قال عمران بن حصين: فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا، [1] ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن ».
وروى البخاري مثله بعده عن عبدالله بن مسعود عن النبي ﷺ. وحديث هذا عند الإمام أحمد أيضا في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.
فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله – قبله ولا بعده – هو الذي تلقاه الصحابة عن معلم الناس الخير. وكان الصحابة به خير أمة محمد ﷺ بشهادته هو لهم وصدق رسول الله. أما الذين يدعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.
إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله، وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم مشى على آثارهم فيه التابعون لهم بإحسان.
ومن أحط أكاذيب التاريخ زعم الزاعمين أن أصحاب رسول الله ﷺ كان يضمر العداوة بعضهم لبعض. بل هم كما قال الله سبحانه في سورة الفتح – 29: { أشداء على الكفار رحماء بينهم }. وكما خاطبهم ربنا في سورة الحديد 10: { ولله ميراث السماوات والأرض * لا يستوى منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى } ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران 110: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } يبقى مسلما من يكذب ربه في هذا، ثم يكذب رسوله في قوله: « خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم …… »؟!. في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أمينا عن امين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، تنوع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور. فتم بذلك وعد الله عز وجل في سورة الحجر 9: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }.
ومن صدر هذه الأمة تفرغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة فكانوا يمحصون أحاديث رسول الله ﷺ، ويذرعون أقطار الأرض ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي ﷺ فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان ابن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله ﷺ سنة غير الذي كان معروفا عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي ﷺ أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه ( انظر مسند الإمام أحمد: الطبعة الأولى 6: 299 و 306 ).
وبينما كان حفظه القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتها، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى وتوجيهها إلى أهداف السعادة.
وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك في أوقاتهم، وأتم على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم – من أهل الطرائق والأساليب الأخرى – أن يعملوه في آلاف السنين.
هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله ﷺ بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به قبل الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظ الله أصوله، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبي حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص – لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثار الآجلة على العاجلة – والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوى المستأهلين منهم المكانة التي هم أهل لها.
هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله ﷺ ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله ﷺ فيهم: « مثل أمتي مثل المطر: لا يدرى أوله خير أم آخره » رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضا من حديث عمار، ورواه أبو ليلى في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي ﷺ. فأمة محمد إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في طبقتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي ﷺ فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة « يا رسول الله أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك » فقال ﷺ: « قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني » وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ الأندلسي أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عم بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: « بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء ».
ومن غرابة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى مؤلفين شوهوا التاريخ تقربا للشيطان أو الحكام، فزعموا أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يكونوا إخوانا في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضا، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، يتآمر بعضهم على بعض، بغيا وعدوانا.
لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامها ورحمها وقرابتها وأوثق صلة وأعظم تعاونا على الحق والخير.
حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلا في سجن الإنجليز سنة 1332ه أن رجلا من العرب كان ينتقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون لما علموا اسمه ( عمر ). قلت: وأي باس يرونه باسم ( عمر )؟ قالوا: حبا بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن عليا سمى أبناءه – بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية – بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله ( أبي بكر ) و ( عمر ) و ( عثمان ) رضوان الله عليهم أجمعين، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر ابن الخطاب ولدت له زيدا ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر ابن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم ( أبي بكر ) وسمى ابنا آخر له باسم ( معاوية )، ومعاوية هذا - أي بن أبي طالب - كان من نسله عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي أبن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى ( أبا بكر ). والحسن السبط بن علي أبن أبي طالب سمى أحد بنيه ( أبا بكر ) وآخر باسم ( عمر ) وثالثا باسم ( طلحة ). وزين العابدين علي بن الحسين سمى أحد أولاده أمير المؤمنين ( عمر ) تيمنا وتبركا. ولعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشعراء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهرا لطلحة بن عبيد الله. وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجا لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كات زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدنا عبدالله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة الحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر ( وهي بنت حسن الأنوار زيد بن الحسن السبط ) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسين السبط ابن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب الأموي. والحسن المثنى ابن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل عنها يوم الجمل ولها منه أولاد تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين بن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي ﷺ تزوج علي بعدها أماة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.
فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون على البر والتقوى؟!.
لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة « خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر » روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، لا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول – من الوجهة العلمية التاريخية - عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: « لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري » أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحد الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب ( تثبيت النبوة ) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في ( كتاب النقض على ابن الراوندي ): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل: أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم: من لم يقل هذا فليس شيعيا. والله لقد رقى هذه الأعواد علي فقال: « ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر » فكيف نرد قوله وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابا. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من ( وفيات الأعيان ) للقاضي ابن خلكان أن يحيى ابن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعيا من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له في الحجاج وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله بآية { ووهبنا له – أي لإبراهيم – إسحاق ويعقوب } إلى قوله: { وزكريا ويحيى وعيسى }. قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد ﷺ، فأقره الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان – مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق – أكثر إنصافا من هؤلاء الكذبة الفجرة الذين جاءوا في زمن السوء فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإسلام، ومن فتحت اقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله ﷺ لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وال البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة، وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذبا وعدوانا، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافا وإذعانا للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف لكانت فيهم كل مآخذ الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وضغائر إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.
وإن خطبة الأمير علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله ﷺ أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضا وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمت أنه بعد أخيه وصهره عمر سمى ولدين من أولاده باسميهما ثم سميى ثالثا باسم عثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان – بعد أن قام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي – منع الصحابة من الدفاع عنه حقنا لدماء المسلمين، وتضييقا لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من بشارة رسول الله ﷺ له بالشهادة والجنة، لولا كان ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا عل استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعا. ومع ذلك فإن عليا جعل ولديه الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا كوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى إلى سفك دمهما، وأوعز إليهما يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذب على الله وعلى التاريخ كل ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يامر. وقد كان من عادة سلفنا أن يدونوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة ( أنى لك هذا؟ ) فرجع إلى ترجمة كل راو في كل سند لتمحصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوه سيرة الصحابة وتوهم انهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.
ولعلك تسألني: إذن ما هو اصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيعة في الصدر الأول؟ وما هي قصة وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟.
إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد إلى ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه – عند كتابته – من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخربة من ملفقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من عث وسمين، ومنبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة من صحيحها وسقيها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجاتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. [2] وهنالك كتب قديمة أيضا ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضررا، ولعلها أوسع من تلك انتشارا. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي والعظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.
إلا أن من نعم الله علينا عناية علماء الحديث بتحقيق أحوال رواة الأخبار ومبلغ أمانتهم في حملها وقد صنفوا في ذلك كتبا ومعاجم عظيمة النفع لمن يراجعها عند التأليف، ولهم تحقيقات جليلة في جميع المسائل التي يترتب عليها اتجاه الحق في الحكم على الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام.
ومع أن كثيرا من أمهات الكتب النفيسة فقدت في كارثة هولاكو، [3] ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيرا من تحقيقات المحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجيهات. وأعود بعد هذه الأسئلة التي تقدمت آنفا عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعلي – كرم الله وجهه – ما لم يكن له علم به: زعموا أن النبي ﷺ عينه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ « أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي ». ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحا، وبعضهم يراه ضعيفا، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب، ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي ﷺ - لما أراد الله له أن يتوجه نحو تبوك – أمر عليا بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون عل الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي ﷺ، فوجد علي في نفسه وقال للنبي ﷺ: « أتجعلني مع النساء والأطفال والضعفة! » فقال له النبي ﷺ تطيبا لنفسه: « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ » أي في استخلاف موسى أخاه هارون لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح فهذا استخلاف لم يكن له في نظر سيدنا علي كرم الله تعالى وجهه هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرمانا له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثوب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زد على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي ﷺ استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها، وقد ناظر كبار الشيعة في هذا الحديث علامة العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156ه فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم كما ترى ذلك فيما دونه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان ( مؤتمر النجف ).
فالإمام علي كرم الله تعالى وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى جماع إخوانه أصحاب رسول الله ﷺ يوم قدر الله لها بحكمته ما شاء، وقضى فيها بعدله ما أراد وما كان لمسلم من عامة المسلمين – فضلا عن مثل علي في تعظيم مكانته في الأولين والآخرين – أن يسخط قدر الله، أو يتمرد على قضائه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشك في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفة رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق وصاحبيه بعده عمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن المزايا التي تنفرد بها على وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر ( واجبا ) يقوم به الواحد إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها ( حقا ) لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.
وجميع الوقائع – إذا جردت من زيادات أهل الأهواء – تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شوهت الوقائع وأخبارها بما دسه فيها المتزايدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة – الممتازة على جميع أمم الأرض بعفتها وطهارة نفوسها وترفعها عن الصغائر – إنما كانت على عكس ذلك: تنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين ( عبئا ) يتولى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداء الواجب، ولم تكن عند أحد منهم ( متاعا ) ولا ( مأكله ) حتى ينازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أبقى الله من حياته بقية يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض لصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر – ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين – رفض عمر ذلك وقال: « بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم، فإن كان خيرا قد أصبنا منه وإن كان زرءا فقد قمنا بنصيبنا فيه ». وعبد الله بن عمر نفسه عرضت عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولها علي إلا قياما بواجب، ولم يستمدها من خرافات المنحرفين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين ( الخميس 24 ذي الحجة، والجمعة 25 منه ) كما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله ﷺ. فعلي إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر قط على باله أن يجعل أحدا من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفة حول خلفاء نبيها ﷺ أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به عند جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقصا منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طوق به من بيعة الإسلام لأصحابها، ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24 من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، كان أهلا لأن يستمر علي ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله – أحد العشرة المبشرين بالجنة – بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضا كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بان يكون هو حامل هذا العبء، القائم عن المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه ( 6: 156 طبعة مصر و 1: 3075 طبعة هولندا ) فيقول علي لطلحة « ابسط يدك يا طلحة لأبايعك » فيقول له طلحة « أنت أحق، فأنت امير المؤمنين، فابسط يدك ». وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعا عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله ﷺ في اليوم التالي ( الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35 ) فخطب خطبة حفظ لنا الطبري نصها ( 6: 157 و 1: 3077 ) فقال: « أيها الناس عن ملأ وأذن إن هذا أمركم، وليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم. وقد افترقنا بالأمس على أمر ( أي على البيعة له ) فإن شيء تم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد » وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.
ومن مزايا الطبقة الاولى التي صحبت النبي ﷺ وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى ( الاعتدال ) ميزان الدين، ( والرفق ) جمال الإسلام، لأن نبيها ﷺ كان يقول لها: « إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه » وكان يقول لها: « من يحرم الرفق يحرم الخير كله » ويقول: « إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق » ويقول: « إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو فيه ». فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدب الأباء بينهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشيء ة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شب على العفو في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ برمي شبكته في الحجاز والشام فلم تعلق بشيء بسبب تشيعهم بفطرة الإسلام في أعتداله ورفقه، وحذرهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلى التجربة من شبابها: عجبا لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع. وقد قال عز وجل { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان « كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن عليا وصي محمد » ويقول لهم: « محمد خاتم الأنيباء، وعلى خاتم الأوصياء » [4] ثم يقول لهم محرضا على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30: « ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على علي وصي رسول الله وينزع منه أمر الأمة » ويقول لهم « إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس » …..
إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعولوا على تحقيقها. واستنكر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلو فضيلة والاعتدال تقصيرا. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار – ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة – وعنى بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلو من المتنطعين جماعات كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي وعبد الرحمن بن عديس البلوي التجيبي الشاعر وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي وسودان ابن حمران السكوني وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي وعمرو بن الحمق الخزاعي وعروة بن النباع الليثى وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابن سبأ في الكوفة عمرو أبن الأصم وزيد بن صوحان العبدي والأشتر مالك بن الحارث النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي وحكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي وابن المحرش ابن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الآمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وعمار بن ياسر. ومن دهاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبث في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي ( وعلي لا يعلم ذلك )، وفي جماعة الكوفة الدعوة لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير. وليس هنا موضع تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذم علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خشب والأعوص وذي المروة، وكيف زور ابن سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا عليا بذلك قالوا له: أنت الذي كتبت إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سببا ليقظتهم ويقظة علي أيضا إلى أن بين المسلمين شيطانا يزور عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشر المستطير، وكان ذلك كافيا لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زورت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل أن حامله كان يتراءى لهم متعمدا ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحية سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرنا تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.
فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمت أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدوعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكانت عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصا على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما دعوه عليه وعلى عماله، وكان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافا وقياما بالحق واتباعا للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله ﷺ. واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله – وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفع عن شهوات النفس – فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على الاقتصاص من السبإيين الذين اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها – وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي ﷺ بالجنة – أنهم سائرون ليحاربوا عليا، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليه. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة لاذين انخدعوا بدعوة عبد الله بن سبا واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان، وما كان علي – وهو ما هو في دينه وخلقه – ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلة عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن عليا لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( 13: 41 – 42 و 44 ) معتمدا على كتاب ( أخبار البصرة ) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قول الملهب: « ….. إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه. فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم ( أى بين فريقي عائشة وعلي ) إلى أن كان ما كان ».
ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان بقي يتردد كثير منها في وقعة الجمل، فيما بين الجمل وصفين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلو في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفتننوا في مذهبه، إلى أن انتهى أمرهم بانشقاق ( الخوارج ) عن علي، وتميز فريق من المتخلفين مع علي باسم ( الشيعة )، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37ه. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين – فريق الشيعة وفريق الخوارج – كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر «رضي الله ع»، تبعا لما كان عليه أمير المؤمنين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبدا، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالا منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عند ما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أولا: « نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت ». فشرط لهم كرم الله تعالى وجهه سنة رسول الله ﷺ: أى أن بوالوا من والى على سنة رسول الله ويعادوا من عادى على سنته ﷺ. فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي – وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين – فقال له علي: « بايع على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ » فقال ربيعة: « وعلى سنة أبي بكر وعمر » فقال علي: « ولو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ لم يكونا على شيء من الحق » أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوبا فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.
هكذا كان أمير المؤمنين علي من أخويه وحبيبه خليفتي رسول الله أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج منهم عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.
وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دس السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحيى، ثم خلف خلف بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحصي الأخبار وصيارفة الرجال بانه أخباري تالف لا يوثق به. نقل الحافظ الذهبي في ( ميزان الاعتدال ) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها أبي حاتم الرازي رحمه الله أنه تركه وحذر الأمة من أخباره، وأن الدارقطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وان ابن عدي وصفه بأنه « شيعي محترق ».
ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهؤائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إلى حادثة وقعت بالفعل فيرددون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقا من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصرا فيحكمون عليه أنه ناقص، ويقولون « من حفظ حجة على من لم يحفظ » ويتناولون الخبر ما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من جنين الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، لم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الوهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، وقد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخر نبوغه للباطل والشر، فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك وتحري مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذابين ومفترياتهم، ولكن قلما يجدى ذلك بعد أن يكون « قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا ».
هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام – هذا الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه عن الشرك ترجيحا لجانب الحق واختيارا لما دله عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلوا ما اشتهر به عمرو من الدهاء استغلالا تقر به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.
يقول قاضي قضاه إشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبدالله بن العربي المعافري ( المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفى بالمغرب سنة 543 ) في كتابه ( العواصم من القواصم ) ص 177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمرا كان محتالا: « هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاص الله والبدع، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما – يعني عمرا وأبا موسى – لما اجتمعوا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزل عمرو معاوية. ذكر الدارقطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاوية جاء ( أي حضين ) فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا ( يعني عمرو بن العاص ) كذا وكذا ( يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين حقنا لدماء المسلمين وردا للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم ). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه – فقال حضين -: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذي توفى رسول الله ﷺ وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستعن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. قالت: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه. فأتيته ( أي أن حضينا أتى معاوية ) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمرا وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولا – وهو أبو الأعور الذاكواني – إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمرا أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: « عن الضجور قد تحليت العلبة » وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية « ونربذ الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناءه ».
فرواية الدارقطني هذه – وهو من أعلام الحديث – عن رجال عدول معروفين بالتثبت ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي ﷺ وموضوعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغربية في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضى أبو بكر بن العربي ( ص 174 ): « وكان أبو موسى رجلا تقيا ثقفا فقيها عالما أرسله النبي ﷺ إلى اليمن مع معاذ، وقدمه عمر ابن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. [5] وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول » ثم رد هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه ( سراج الدين ).
وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله ﷺ كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهرا. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفا بهم كما لو كان معاصرا لهم، بارعا في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذين لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعا لا نزال كفرة ضالين. [6]
هامش
- ↑ وتحديد ذلك إلى نهاية الدولة الأموية. وقد يلتحق به زمن الخلفاء الأولين من بني العباس. قال الحافظ ابن حجر في تفسير هذا الحديث من ( فتح الباري ) ج 7 ص 4: « اتفقوا أن آخر من كان من اتباع التابعين – من يقبل قوله – من عاش إلى حدود سنة 220. وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وأمتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن. وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن ( أي إلى زمن الحافظ ابن حجر 773 – 852 ) وظهر قوله ﷺ « ثم يفشو الكذب » ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات.
- ↑ ومن أهم هذه المصادر تاريخ ابن جرير الطبري، وقد كتبت في وصفه وتحليله مقاله في المجلد 24 من ( مجلة الأزهر ) ص 210 – 215 فارجع إليها لتستفيد من هذه المصادر ولتعرف ما تأخذ منها وما تدع.
- ↑ الذي كان ابن أبي الحديد من أعوان الخائن ابن العلقمي على تمهيد السبيل بين يديه لتقويض دولة الإسلام.
- ↑ ورواية هذه الحقائق عن الملعون ابن سبأ اتفق عليها أهل السنة والشيعة، وقد نقلنا مثل هذا في هامش ص 299 عن تنقيح المقال للمامقاني كما نقلها المامقاني عن الكشي من كبار أئمتهم. وقد اعترفوا بذلك أن وصف علي بانه « وصي » من اختراع ابن سبا ولا علم للنبي ﷺ بهذا الوصف لعلى لأنه اختراع في خلافة عثمان.
- ↑ واختصه بكتابه الشهير في القضاء وآدابه وقواعده.
- ↑ وقد اقترح كاتب هذه الخاتمة على مشيخة الأزهر إعادة النظر في دراسة التاريخ الإسلامي. ولعل الله بوفق إلى ذلك فتعود الأمة إلى مواطن الأسوة الصالحة من ماضيها النقى الطاهر، والله المستعان.