العقيدة الأولى: اعلم أن الشيعة يعتقدون أن بعث الأنبياء واجب على الله تعالى. [1] ولا يليق ذلك بمرتبة الربوبية والألوهية، فإن الله هو الحاكم الموجب على عباده، فمن يحكم عليه بوجوب شيء؟ نعم تكليف العباد وبعثة الأنبياء واقع حتما ولكن بمحض فضله وكرمه، بحيث لو لم يفعل ذلك لم يكن لهم مجال شكاية، فإذا فعل فهو عين فضله ومحض رحمته، وهذا هو مذهب أهل السنة. ولو كان بعث الأنبياء واجبا عليه تعالى لم يمتن ببعثهم في كثير من الآيات، قال تعالى: { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } وقال تعالى { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } الآية وغيرها من الأيات. وظاهر أنه ليس في أداء الواجب منه. وأيضا لو كان واجبا لما سأله إبراهيم وطلب منه البعث في ذريته وبناء على كونهم مكلفين ووجوب تكليفهم قال: { ربنا وابعث فيهم رسولا منهم } الآية لأن الدعاء بما هو واجب الوقوع لغو لا معنى له، والأنبياء منزهون عن اللغو.
واعلم أن الإمامية لا بد عندهم أن لا يخلو زمان من نبي أو وصي قائم مقامه، وهو يعلمون أن بعث النبي أو نصب الوصي واجب عليه تعالى. [2] ولا يعتقد أهل السنة وجوب شيء على البارى تعالى.
وعقيدة الشيعة هذه مخالفة للكتاب والعترة. أما الكتاب فلأن كثيرا من آياته تدل على وجود زمن الفترة وخلوه عن النبوة وآثارها، كما قال الله تعالى: { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترةٍ من الرسل } وغيرها من الآيات. وأيضا تدل آيات كثيرة بالصراحة على ختم النبوة كقوله تعالى { ولكن رسول الله وخاتم النبيين }. وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر ) قال عيسى للحواريين « وأنا أطلب لكم من أبي أن يمنحكم ويعطيكم فارقليط ليكون معكم دائما إلى الأبد » وفارقليط في اللغة العبرية بمعنى روح الحق واليقين، وهو لقب نبينا ﷺ. وأما أخبار الأئمة في هذا الباب فأزيد من الحد والإحصاء، وقد تواتر عن الأمير في صفة الصلاة على النبي في كتب الإمامية هذه العبارة « اللهم داحي المدحوات وفاعم المسموكات، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق »، [3] وأيضا ورد في بعض خطب الأمير المتواترة عند الشيعة هذه العبارة « أرسله على فترة من الرسل، وطول هجعه بين الأمم » [4] إلى أن قال « وأمين وحيه وخاتم وبشير رحمته ونذير نقمته ». [5] وهذه الخطبة كما تدل على ختم النبوة كذلك تدل على وقوع الفترة أيضا، ومعنى الفترة إنما هي ان لا يكون نبي ولا قائم مقامه في الزمان، ولو أريد في معنى الفترة عدم نبي في الزمان فقط يلزم أن يكون زمن الأمير بعد وفاة النبي ﷺ أيضا زمان الفترة، وأنت تعلم أن حكم زمان الفترة بنبي آخر الزمان لدوام شريعته إلى يوم القيامة فلا يصح أن يقال بالفترة بعد وفاته ﷺ.
العقيدة الثانية: أن الأنبياء أفضل من جميع خلق الله حتى الملائكة المقربين، [6] ولا يمكن أن يستوي غير النبي في الثواب والقرب والمنزلة عند الله تعالى، فضلا عن أن يكون أفضل منه. وهذا هو مذهب أهل الحق وجميع فرق الإسلام إلا المعتزلة في الملائكة المقربين، والإمامية في الأئمة الأطهار. ولهم في هذه المسالة تنازع وتخالف كثير فيما بينهم، ولكنهم أجمعوا على أن الأمير أفضل من غير أولي العزم من الرسل والأنبياء، وليس بأفضل من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. [7] وأما غيره من سائر أولي العزم فقد توقف فيه بعضهم كابن المطهر الحلي وغيره، ويعتقد بعضهم أنه مساو لهم وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة، وأن من قال غير ذلك فهو ضال. [8] وروى ابن بابويه عن الصادق ما ينص على أن الأنبياء أحب إلى الله تعالى من علي. [9] ولكتاب الله لأنه يدل في جميع آياته على اصطفاه الأنبياء وأختيارهم على جميع العالم، والعقل يدل صريحا على أن جعل النبي واجب الإطاعة وجعله أمرا وناهيا وحاكما على الإطلاق والإمام نائبا وتابعا له لا يعقل بدون فضيلة النبي عليه، ولما كان هذا المعنى موجودا في حق كل نبي ومفقودا في حق كل إمام أفضل من نبي أصلا بل يستحيل، لأن النبي متوسط بين العبد والرب في إيصال الفيضان إليهم فالذي يستفيض منه لو كان أفضل منه أو مساويا له لزم أن يكون أرفع منه في إيصال الفيض، ومفيضا له أو مشتركا معه في الإيصال، وهذا خلف.
وهم يقولون إن الإمامية نيابة النبوة، [10] ومعلوم أن مرتبة النيابة لن تبلغ مرتبة الأصالة أبدا فضلا عن أن تفوقها، ومتمسكهم في هذا الباب عدة شبهات واهية ناشئة من عدة أخبار أثبتها متقدموهم في كتبهم فحكموا بموجبها. وقد تبين حال رواتهم ورجالهم وكيفية الحكم بصحة الخبار الصادرة من علمائهم التي لا يستقيم الاحتجاج بها على وفق القواعد الأصولية لأنها معارضة للإجماع القطعي قبل ظهور المخالف، فلا يجوز القول بظاهر تلك الروايات بل يجب أن تؤول. وأيضا هي معارضة للروايات الآخر كرواية الكليني عن زيد بن علي وابن بابويه عن الصادق المذكورة آنفا، وخبر الواحد – وإن كان بلا معارض أيضا – ظني لا يتمسك به في أصول العقائد بل هو عند محققي الشيعة الإمامية كابن زهرة [11] وابن أدريس [12] وابن البراج [13] والشريف المرتضى [14] وأكثر قدمائهم غير صالح للاحتجاج به، [15] وقد اختار متأخروهم هذا المذهب، ولهذا لم يعدوا أخبار الآحاد في الدلائل بل أوجبوا ردها خصوصا في الاعتقادات. قال ابن المطهر الحلي في ( مبادئ الوصول إلى علم الأصول ): إن خبر الواحد إذا اقتضى علما ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده. [16] وظاهر أن مدلول هذه الروايات ليس موجودا في الدلائل القطعية، بل خلافه يوجد، ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا دلالة أيضا لتلك الروايات على المدعَى.
ولنذكر عدة من شبهاتهم ونبين عدم دلالتها على مدعاهم فنقول:
( الشبهة الأولى ) أن الأئمة كانوا أزيد من الأنبياء علما فيكونون أفضل منهم رتبة أيضا، لأة الله تعالى يقول: { قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون } وقد روى الراوندي عن أبي عبد الله قال: إن الله فضل أولي العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم، وورثنا علمهم وفضلنا عليهم، وعلم رسول الله ﷺ ما لا يعلمون، وعلمنا علم رسول الله ﷺ، وتلا الآية المذكورة. [17]
( الجواب ) عن هذه الشبهة بأن هذا الخبر بعد تسليم صحته يدل على زيادة الأئمة في العلم واستيعابهم علوم المرسلين لأن المتأخر يكون مطلعا على علم المتقدم وناظرا فيه فيحيط بعلمه، بخلاف المعاصر والمتقدم فإنه لا يمكن له ذلك، مثاله أن النحوى في هذا العصر يكون مطلعا على مسائل ( اللباب ) [18] و ( الوافي ) [19] وتصانيف ابن مالك [20] وابن هشام [21] والأزهري [22] وغيرهم ممن سبقوا من النحاة، ويكون بلا شبهة علمه بمسائل النحو أزيد من علم كل هؤلاء المذكورين، لأن كل واحد منهم لم يكن مطلعا على المسائل المستخرجة لغيره والأفكار الناشئة من طبعه البتة، وقد تقرر أن الصناعات إنما تتكامل بتلاحق الأفكار، وهذا النحوي المتأخر حصل له الوقوف على كل منها، ومع هذا لا تكون رتبته في النحو مساوية لرتبة أحد من أولئك العلماء فضلا عن أن يتقدم عليهم، لأن الرسوخ في العلم وتعمق النظر والغوص والفكر ومعرفة المسائل بدلائلها ودراية المآخذ لكل دقيقة واستخراج المسائل النادرة بقوة الفحص والتتبع في كلام العرب بالأصالة فضيلة لا يبلغها أصلا الاستيعاب والغوص بتلك المسائل. وكذا المنطقي في هذا الزمان لا يكون مساويا في المرتبة للمعلم الأول والمعلم الثاني والشيخ الرئيس فضلا عن أن يقال إنه أفضل منهم وسابقهم في الدرجة، مع أنه يعلم مستخرجات كل منهم بحيث لم يكن لكل منهم الاضطلاع بها أصلا. والذي قرأ العروض لا يفوق الخليل بن أحمد. سلمنا لا يلزم من كثرة العلم كثرة الثواب، ومدار الفضل عند الله على كثرة الثواب لا على كثرة العلم، وإلا فيلزم تفضيل الخضر على موسى وهو خلاف الإجماع. سلمنا ولكن كثرة العلم الموجبة لكثرة الثواب هو العلم الذي يكون مدار الاعتقاد والعمل عليه لا العلوم الزائدة، وذلك العلم هو المراد في الآية المذكورة، وكل نبي كان ذلك العلم حاصلا له بوجه أتم. ولو كان للأئمة أو لغيرهم من العلماء فضل وزيادة في العلم يكون ذلك في العلوم الاخر. والدليل على هذا المدعى أن كل نبي لو لم يكن العلم الذي عليه مدار الاعتقاد والعمل حاصلا له بوجه أتم يخرج عن عهدة التبليغ وبيان الأحكام، وكيف يتم غرض البعثة. ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا يذهب عليك ما في هذه الرواية من الخلل والفساد، فإن توريث الأئمة علم الأنبياء وتفضيلهم عليهم بذلك التوريث كما ذكر فيها يلزم منه أن يكون الأئمة أفضل من نبينا ﷺ أيضا، إذ وجه التفضيل وهو توريث العلم ههنا أيضا، وهو فاسد البتة بالإجماع. [23]
وثانيا علم الأئمة لتعلمهم علم رسول الله ﷺ تابع وفرع لعلمه، وعلم الأنبياء أصل وأول وبالذات، وما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات، وحيث قال تعالى { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسوله } وقال أيضا { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول } الآية. يتبين منه أن غير الأنبياء ليس لهم علم مثل علم الأنبياء، فبطل عنه التساوي والزيادة بالطريق الأولى. ومع هذا فالاستشهاد بالآية المذكورة أغرب لأن معناها عدم الاستواء بين العالم والجاهل كما هو الظاهر، والأنبياء ما كانوا جاهلين بالإجماع، وغاية ما في الباب تسليما أن الأئمة كان علمهم زائدا على علم الأنبياء، لا أن الأئمة علماء والأنبياء جهال، معاذ الله من ذلك.
( الشبهة الثانية ) أنهم تمسكوا برواية الحسن بن كبش عن أبي ذر قال: نظر النبي ﷺ إلى علي بن أبي طالب وقال: هذا خير الأولين والآخرين من أهل السماوات والأرضين. [24] وأيضا برواية عن أبي وائل عن عبد الله بن عباس قال حدثنا رسول الله ﷺ قال: قال لي جبريل: علي خير البشر، من أبى فقد كفر ». [25]
الجواب عنها بأن هذه الروايات قد تفرد الإمامية بها، وحال رواتهم قد اتضح سابقا، [26] ومع هذا هاتان الروايتان ساقطتان من الاعتبار عند الإمامية أيضا وليس لهما سند صحيح، لأن الحسن بن كبش ومن بعده من الرواة كلهم مجاهيل وضعفاء كما نص عليه علماء رجالهم، [27] ومع هذه كلها لا تنطبق على المدعى لأن التخصيص بغير الأنبياء في مثل هذه العمومات شائع في كلام الرسول ﷺ، فلو لم يذكر في موضع واحد اعتمادا على غيره مما ذكر فيه فيكون ذلك التقيد ملحوظا فيه أيضا قياسا على ذلك الغير، والعام المخصوص لا يكون حجة في القطعيات لكونه ظنيا فلا يعبأ به في الاعتقادات. سلمنا العموم في الأشخاص، ولكن لا نسلم العموم في الأوقات، لأن الأمير لم تكن هذه الخيريات العامة حاصلة له في عهد النبي ﷺ بلا نزاع، لكون النبي أفضل منه البتة، ولكونه داخلا في البشر الأولين والآخرين، فالمراد غير ذلك الوقت، والمراد من الأولين والآخرين والبشر من كانوا في وقته، وهو صحيح عند أهل السنة لأنه أفضل البشر في زمن خلافته ولا نزاع لا حد فيه ولا محذور.
( الشبهة الثانية ) أنهم تمسكوا برواية لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي في كتاب ( القصاص ) عن أبي جعفر "عليه السلام"، وبرواية الكليني في ( الكافي ) عن أبي عبد الله "عليه السلام" أنهما قالا في تفسير قوله تعالى { قل الروح من أمر ربي } هو خلق أعظم من جبريل وميكائيل لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد، وهو مع الأئمة يوفقهم ويسددهم. [28]
الجواب عنها بأن الحديث الأول قد وقع في سنده هشام بن سالم ومعلوم أنه كان مجسما وملعونا من حضرات الأئمة. وفي سند الحديث الثاني أبو بصير وهو قد اعترف بكذبه على الأئمة وإفشاء أسرارهم. سلمنا الصحة ولكن فحوى هذا الحديث منافية لعصمة النبي والأئمة، لأن المحتاج إلى المؤدب والناصح إنما هو من لا يكون معصوما، ولهذا ليست الملائكة محتاجة إلى المؤدب فلزم من تلك الرواية أن النبي ﷺ والأئمة كان لهم نقصان ظاهر في العصمة بالنسبة إلى الأنبياء السابقين حاصلا فإنهم كانوا كاملين في العصمة موفقين مسددين من أنفسهم غير محتاجين في ذلك إلى من سواهم من المخلوقات، وما كان للنبي والأئمة افتقار إلى من يؤدبهم في كل وقت وينبههم ويسدد بالصواب، معاذ الله من هذا الاحتمال الفاسد في جنابه.
وأيضا نقول كون الروح مع النبي هل هو شرط لعصمته أو لا؟ فعلى الأول يلزم أن لا يكون الأنبياء السابقون الذين لم يكن الروح معهم معصومين، وهو باطل بالإجماع. وعلى الثاني يلزم أن لا يكون النبي والأئمة معصومين في حد أنفسهم فإنهم كانوا محتاجين إلى تأديب الروح إياهم ولزم تفضيل الأنبياء على النبي والأئمة إذ كانوا معصومين بلا مصاحبة الروح وهؤلاء بمعيته. ولقد تناقض شيخهم ابن بابويه فقال في كتاب ( الاعتقاد ): إن الله لم يخلق افضل من محمد والأئمة، وهؤلاء أحب أحباء الله، وإن الله يحبهم أكثر من غيرهم من جميع خلقه وبريته. [29] ثم هو قد روى في كتاب ( الأمالي ) برواية صحيحة في ضمن خبر طويل في قصة تزويج سيدتنا فاطمة بالأمير «رضي الله ع» ا عن الصادق عن آبائه أن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها: ألا إني زوجت أحب النساء إلى من أحب الرجال إلي بعد النبيين. [30] وهذه الرواية تنادى بأعلى صوت: إن الأنبياء أحب إلى الله من الأمير لكونه أحب إليه بعدهم. ولا عذر لابن بابويه في هذا التناقض الصريح والتهافت القبيح إلا أن يقول « ليس للكذاب حفظ » [31] لا غير.
العقيدة الثالثة: أن الأنبياء معصومون من التقول وقول الكذب والبهتان مطلقا عمدا كان أو سهوا، قبل النبوة أو بعدها. وقال الإمامية: يجوز لهم ذلك من البهتان وقول الكذب، بل يجب عليهم تقية، [32] مع أن الكذب لو جاز على الأنبياء ولو تقية لم يبق الوثوق والاعتماد على قولهم وانتفض غرض البعثة. ولو كانت التقية جائزة للأنبياء لما أمكن تبليغ أحكام الله تعالى للناس بالضرورة، لأن الاحتياج إلى التقية في أول الأمر الذي لا يكون لهم فيه ممد وناصر أكثر وأمس، ولو أظهروا في ذلك الوقت خلاف حكم الله تعالى مخافة إيذاء القوم متى يعلم حكم الله بعد ذلك؟ وكيف يتصور علمه؟ فيجب عليهم أن يبلغوا كل ما أمرهم بتبيلغه لقوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك } الآية ولو لحقهم مخافة، كما قال تعالى { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا } ولو كان الأنبياء فعلوا بالتقية لما عاداهم الكفار وكذبوهم وآذوهم وجادلوا قومهم ليلا ونهارا وصبروا على ما أصابهم من القتل والضرب والشتم وغير ذلك، فثبت أن التقية ليست جائزة لهم أصلا.
العقيدة الرابعة: أن الأنبياء لابد لهم من معرفة الواجبات الإيمانية قبل البعثة وبعدها بالضرورة، لأن الجهل بالعقائد موجب للكفر، ومعاذ الله أن يكون هذا الجهل لجنابهم الأقدس. نعم إنهم لا يحصل لهم علم بوجود الحكام الشرعية بدون ورود الوحي إليهم، وقد ورد باعتبار عدم هذا العلم قوله تعالى { وعلمك ما لم تكن تعلم }، وقد أجمع على هذه العقيدة جماهير المسلمين واليهود والنصارى، إلا الإمامية فإنهم قالوا لا تكون معرفة أصول العقائد حاصلة للأنبياء حين البعثة بل وقت المناجاة والمكالمة، [33] معاذ الله من هذا الاعتقاد الباطل الذي بطلانه بديهي لا يحتاج إلى دليل.
العقيدة الخامسة: أن الأنبياء معصومون من صدور ذنب يكون الموت عليه هلاكا خلافا للإمامية فإنهم رووا في حق بعض الأنبياء صدور هذا الذنب منه. روى الكليني عن أبن أبي يعفور أنه قال سمعت أبا عبدالله يقول وهو رافع يده إلى السماء: رب لا تكلني إلى نفسى طرفة عين ولا أقل من ذلك، فما كان بأسرع من أن تحدر الدمع من جوانب لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا ابن أبي يعفور إن يونس بن متى وكله الله إلى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلك، قلت: فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ فقال: ولكن الموت على تلك الحال كان هلاكا. [34]
واعلم أن ما يظهر من نص الكتاب في أمر يونس أنه ذهب عن قومه بلا إذن ربه فعوتب على هذا الامر، وأيضا تعجل في الدعاء على قومه ولم يتحمل شدائد إيذائهم وتكذيبهم كما ينبغي لأولي العزم. وظاهر أن هذين الأمرين ليسا بذنب فضلا عن أن يكونا كبيرة فلأن يونس قد قامت عنده قرائن قوية على أن قومه لن يؤمنوا به فدعا عليهم، وأيضا خاف بعد انكشاف العذاب عنهم أن يؤذوه إيذاء شديدا ويكذبوه تكذيبا صريحا حيث لم يلحق العذاب على وفق وعده فلهذا هرب وفر منهم ولم ينتظر حكم الله فيه. ولما كان منصب الأنبياء أعلى وأرفع عوتب على هذا القدر عتابا شديدا وأدب ونبه، وما ورد في القرآن المجيد في حقه { فظن أن لن نقدر عليه } فهو مشتق من القدر بمعنى التضييق والأخذ الشديد من قبيل قوله تعالى { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } لا من القدرة حيث يثبت فساد عقيدته. [35] والدليل الصريح على هذا ما وقع بعده { فنادى في الظلمات } إذ لن يصح تخريج الدعاء والنداء على معنى القدرة، بخلاف ذلك المعنى المذكور فإنه ألصق به. فحاصل المعنى على ما قلنا أنه ظن أنا لن نضيق عليهم ولن نأخذهم أخذا شديدا في العقاب فتاب واستغفر لما فعله رجاء للقبول، واعتراف يونس بالظلم على نفسه حيث قال { إني كنت من الظالمين } إنما هو لهضم النفس والتضرع في جنابه تعالى والعلم القليل كثير كما هو دأب الصالحين أو لأجل ترك الأولى فانه في حق الأنبياء في حكم المعصية والظلم في حق عوام الناس.
العقيدة السادسة: أن آدم ابو البشر كان صفي الله بريئا من الحسد والبغض معصوما من الإصرار على معصية الله تعالى. وهذا مذهب أهل السنة لقوله تعالى { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } وقوله تعالى { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم } وقوله تعالى { إن الله اصطفى أدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين }. وقد وصفه الشيعة بالحسد والبغض وسائر الخصال الذميمة وأنه مصر على عصيان الله تعالى، وما ثبت لإبليس من القبائح كالحسد وترك امتثال الأمر بالسجود وغير ذلك مما حصل له بسبب آدم يثبته الشيعة لآدم بسبب الأئمة، فإنه حسدهم ولم يقر بولايتهم.
روى ابن بابويه في عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا أنه قال إن آدم لما أكرمه الله بسجود الملائكة له وإدخال الجنة قال في نفسه أنا أكرم الخلق، فنادى عز وجل: ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي، فرفع رأسه فوجد فيه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك وما خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد فسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى الله تعالى عنها.
وروى ابن بابويه أيضا في عيون الأخبار عن المفصل بن عمر أبي عبد الله قال: لما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما { وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم فوجداها أشرف المنازل التي في الجنة فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟ فقال الله عز وجل: ارفعوا رءوسكم إلى ساق عرشي، فرفعا رأسهما فوجدا أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبار جل جلاله، فقالا: يا ربنا ما أكرم هذه المنزلة عليك، وما أحبهم إليك، وما أشرفهم لديك. فقال الله تعالى: لولاهم ما خلقتكما، هؤلاء خزنة علمي وأمنائي على سرى إياكم أن تنظرا إليهم بعين الحسد وتتمنيا منزلتهم عندي ومحلهم من كرامتي فتدخلا من ذلك في نهيى وعصياني فتكونا من الظالمين. فوسوس إليهما الشيطان فدلاهما بغرور وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهم بعين الحسد فخذلا.
لذلك ينبغي للعاقل أن يتامل في مدلول هذين الخبرين فإنهما – كما ذكر – فيهما ما فيهما من إهانة آدم وتحقيره، إذ الحسد مطلقا من المذمومات والقبائح وأمراض القلب وأسقام الروح بإجماع جميع أهل الملل والنحل، خصوصا حسد الأكابر والأخيار من عباد الله فإنه كبيرة من عمدة الكبائر، وهم ينسبونه إلى آدم خاصة بعد تقييد الله وتأكيده التام له في منعه. ففي مذهبهم لم يبق فرق بين آدم وإبليس، فإن ما فعله إبليس في حقه فعله آدم في حق أولاده، بل إن فعل آدم صار أقبح من فعل أبليس، فإن إبليس لم يكن له علاقة بآدم من وجه بل كانت المباينة بينهما بالكلية بخلاف آدم فإنه كان بينه وبين هؤلاء الكبار علاقة الأبوة والنبوة، فلزم أن قطيعة رحم القريب وحسد الأولاد الذي هو من المحالات العادية في سلامة الفطرة قد نسب إلى نبي هو أول الأنبياء وكان قبلة الملائكة وساكن الجنة، معاذ الله من ذلك. فهذا هو حال آدم وفعله في حق العباد عند الإمامية، وأما معاملته في حق الله تعالى فنشرحها على طبق ما عندهم من الرواية الأخرى: روى محمد بن الحسن الصفار عن أبي جعفر: قال الله تعالى لآدم وذريته التي أخرجها من صلبه: ألست بربكم وهذا محمد رسول الله ﷺ وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة امري، وأن المهدي أنتقم به من أعدائي وأُعبد به طوعا وكرها؟ قالوا اأقررنا وشهدنا، وآدم لم يقر ولم يكن له عزم على الإقرار به. ولا يخفى أن هذا الخبر قد ذكر فيه كفر آدم صريحا، إذ لزمه كفر الجحود، وهو نوع أشد من أنواع الكفر الأربعة. وتكفير نبي قد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وقال في حقه { إن الله اصطفى آدم } وأمر الملائكة بالسجود له، كم له بعدٌ عن الدين والإيمان؟ وقد أنكر الشريف المرتضى خير الميثاق في كتابه بالدرر والغرر حمية للإسلام في الجملة، وحكم بوضع ذلك الخبر واختراعه، وأخرج ابن الصفار وشيوخه عن دائرة الإيمان، ولله الحمد.
والعجب من علماء هذه الفرقة أنهم لا يتأملون في نظم الكتاب ولا يجدون أن محل العتاب على آدم ليس إلا أكل الشجرة المنهي عنه فقط، وما هو كبيرة بالإجماع، ولو أن هذه الأمور وقعت منه لكان على الله أن يجعل تلك الأمور محل العتاب لا أكل الشجرة المنهي عنه، وكان يخبر بها دونه، ليكون لأبي بكر وعمر وعثمان عبرة في ذلك فيجتنبوا أمثال هذه القبائح. [36]
وقد لوحظ في كتبهم رواية أخرى أيضا عن الإمامية في ترك العهد الذي كان على آدم. وروى ابن الصفار المذكور في قوله تعالى { ولقد عهدنا إلى آدم } قال عهد الله إلى آدم في محمد والأئمة من بعده، فترك ولم يكن له عزم أنهم كذا.
وأصل الحقيقة أن ابن الصفار هذا كان رجلا علجا من علوج المجوس، وكان اسم جده فرخ، وهو كان يعد من موالي موسى بن عيسى الأشعري، وقد بقى في طينته الخبيبثة المجوسية، غاية الأمر أنهم كانوا يتسترون بالتشيع. والدليل الصريح على هذا أن ابن الصفار يروي عن الأئمة روايات تقدح بالحقيقة في الأئمة أيضا كالأخبار المذكورة، لأن كل طائفة من طوائف المليين من اليهود والنصارى والمسلمين قد أجمعوا على فضيلة أبي البشر آدم وكرامته على الله تعالى واصطفائه على العالمين. وإذا انتشر مثل هذه الروايات عنه في العالم يعتقد الناس قاطبة في حق الأئمة بطلان إمامتهم وعدم حقيتها، بل عدم ديانتهم، وينفرون عنهم بهذه الكلمات، ويحدث في الإسلام ابتلاء عظيم، ويحصل للمجوس مدعاهم وأماني قلوبهم من زوال نور الإسلام. وبحمد الله قد أطلع أهل السنة على خباثة هؤلاء القوم وطرحوا رواياتهم، ولكن الشيعة لما اضلهم الشيطان عن طريق الصواب وتركهم تبعا لهؤلاء الشيوخ المضلين، جعلوا دينهم وإيمانهم على رواية هؤلاء الكفرة، وبدلوا إيمانهم في سبيل متابعة أولئك الأبالسة، ومن يضلل فما له من هاد.
العقيدة السابعة: أن أحدا من الانبياء لم يستعف عن الرسالة قط ولم يعتذر في أداء أحكام الله تعالى أصلا، وهذا هو مذهب أهل السنة. وقال الإمامية إن بعض أولي العزم من الرسل استعفوا عن الرسالة وأظهروا الاعتلال وعدم الموافقة وبينوا العذر، منهم موسى - على نبينا وعليه السلام - فإنه لما قال له تعالى وناداه بلا واسطة أحد يا موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون، قال موسى في جوابه: أعفني من هذا الأمر إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري من المباحثة ولا ينطلق لساني أيضا لكونه العقدة فيه فيقصر في تقرير المطلب، ولهم علي ذنب بما قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلوني بدله، فأرسل هرون أخي هو أفصح مني لسانا واجعله رسولا إلى فرعون. والإمامية يخرجون هذه المعاني من آيات الكتاب ويفهمونها من كلام الله تعالى، مع أن الاستعفاء عن الرسالة متضمن لرد الوحي ومستلزم لعدم الانقياد وترك الامتثال لأمر الله تعالى، والأنبياء معصومون عن مثل هذه الأمور. وأنت تعلم أنهم لا محل لهم بالتمسك في آيات الكتاب الوادرة في أحوال موسى، بل تلك الآيات عند التأمل معَجزة لهم ومكذبة لدعواهم هذه، لأن موسى لم يقل عنه فيما حكي عنه في القرآن المجيد هذا القول ولو بمعناه « اعفني من هذا الأمر » أصلا، ولم يذكر من قبله فيه قط، وكذا هذا القول « أرسل هرون بالرسالة إليهم بدلا مني ». وهذه كلها ناشئة من سوء فهم علماء هذه الفرقة وشدة وقاحتهم. نعم قد بين سخافة تكذيب قوم فرعون وخوف قتلهم إياه قبل أداء الرسالة وضيق صدره وقصور لسانه ولكن لا من جهة الاستعفاء والاعتلال بل لطلب العون على امتثال الأمر وتمهيد العذر في طلب المعين، وهذا عين الحجة لقبوله لا على رده ودفعه. وفي آية { واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري } ورد تفسير هذا بأن غرض موسى كان اشتراك أخيه بنفسه في أمر الرسالة لا المدافعة عن نفسه ولا جعل هرون في مكانه. وكذا قوله أخاف أن يكذبون وأخاف أن يقتلون إنما كان لمحض استدفاعه البلاء عن نفسه واستجلابه الحفظ من رب الأرض والسماء لا دفع هذا المنصب العالي عن نفسه. نعوذ بالله تعالى من سوء الفهم والظن لا سيما في حق الأنبياء وخصوصا أولي العزم.
العقيدة الثامنة: أن المبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق كافة هو محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم ﷺ لا على بن أبي طالب بن عبد المطلب وأن جبريل أمين الله على وحيه الذي جاء به إلى النبي ﷺ من عند ربه لا من نفسه ولم يخن في أداء الرسالة قط. وخالفت الغرابية إحدى فرق الشيعة في ذلك، ولا يمكن الاحتجاج عليهم بالكتاب لأنه وصل النبي ﷺ بواسطة جبرائيل وهو غير مقبول عندهم، ولا بقول الأئمة لأن شهادتهم لجدهم وشرفه يعود إليهم، بل لا بد من أن يحتج عليهم بالتوراة لأنها نزلت دفعة واحدة في الطور بلا واسطة أحد مكتوب على الألواح ولم يكن فيها دخل لجبريل. قال الله تعالى في سفر التكوين من التوراة لإبراهيم: إن هاجر تلد، ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع [37] ولم يكن ذلك الولد إلا محمد ﷺ وحده لأن عليا كرم الله وجهه كان في زمن الخلفاء الثلاثة مغلوبا خائفا مظلوما. [38] وفي سفر التثنية منها: يا موسى إني مقيم لبني إسماعيل نبيا وأجرى قولي في فيه ويقول لهم ما آمره به. [39] وهذا النبي لا بد أن يبعث في بني إسماعيل، وعلي بن أبي طالب لم يبلغ قط ما أمر الله تعالى بل هو من أتباع نبي وقته فليس ذلك النبي إلا محمد بن عبدالله. وفي الزبور: يا أحمد فاضت الرجمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك فتقلد السيف فإنه بهاؤك وحمدك الغائب وبوركت كلمة الحق فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك سهامك مسنونة والأمم يجرون تحتك كتاب حق الله من اليمن والتقديس من جبل فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملك الأرض ورقاب الأمم. [40] وفي موضع آخر منه لقد انكسفت السماء من بهاء أحمد وامتلأت الأرض من حمده. [41] إلى غير ذلك من نصوص الإنجيل مما هو مذكور في الترجمة. وعندي أن هذا مما لا حاجة إلى إقامة الحجة على بطلانه ومن أنكر شمس الضحى فليترك مع شيطانه. [42]
العقيدة التاسعة: أن معراج النبي ﷺ إلى السماوات بشخصه حق، وليس لأحد من أهل عصره مشاركة له في ذلك لقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } وقوله تعالى { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى – إلى قوله تعالى – لقد رأى من آيات ربه الكبرى }. وكتب الامامية مشحونة من كلام الأئمة في ذلك. وخالفت أكثر فرق الشيعة في هذه المسألة فبعضهم أنكر - وهم الإسماعيلية والمعمرية والذمية - أصلَ المعراج مستدلين بشبهات الفلاسفة من استبعاد الحركة السريعة وخرق السماوات وقد برهن عليها في كتاب الكلام. وبعضهم، وهم المنصورية، أنكر الاختصاص وقالوا إن أبا منصور العجلي قد صعد أيضا بجسده في اليقظة إلى السماوات وشافه الله تعالى وكالمه ومسح الله تعالى بيده فوق رأسه، والعجلي هذا هو الذي أخرجه الإمام الصادق من بيته وطرده ثم ادعى الإمامة لنفسه. ومن الإمامية من يقول بمشاركة الأمير في المعراج ومنهم من قال لا لكن رأى وهو في الأرض ما رآه النبي ﷺ على العرش - سبحانك هذا بهتان عظيم! إذ لو كانت تلك الرؤية ممكنة من الأرض لم كلف النبي ﷺ إلى الصعود؟ فيلزم على هذا تفصيل الأمير على النبي ﷺ وقد تبين بطلانه.
العقيدة العاشرة: نصوص الكتاب وسنن النبي ﷺ كلها محمولة على معانيها الظاهرة وأن التكاليف لم ترتفع. وذهب فرق كثيرة من الشيعة كالسبعية والخطابية والمنصورية والمعمرية والباطنية والقرامطة والرزامية إلى أن كل ما ورد في الكتاب والسنة من الوضوء والتيمم والصلاة والصوم والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر ونحوها غير محمولة على ظاهرها بل هي إشارات إلى أشياء أخر لا يعلمها إلا الإمام المعصوم، كقول السبعية إن الوضوء موالاة الإمام، والتيمم الأخذ من المأذون في غيبة الإمام، والصلاة عبارة عن الرسول الناطق بالحق بدليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والغسل عبارة عن تجديد العهد للإمام، والجنة هي سقوط التكاليف الشرعية، والنار مشقة حمل التكاليف والعمل بالظواهر. وأما القائلون بارتفاع التكاليف الشرعية بالكلية فهم المنصورية القائلون من لقي إمام الوقت سقط عنه جميع التكاليف بنفسها فيفعل حينئذ ما يشاء، لأن الجنة عبارة عن الإمام، وبعد الوصول لا يبقى تكليف. والحميرية [43] القائلون إن أمر الشيعة مفوض إلى حجة الوقت، فإن شاء أو زاد أو نقص.
العقيدة الحادية عشرة: أن الله تعالى لم يرسل ملكا إلى أحد في الأرض من البشر بعد خاتم النبيين ﷺ. وقالت الإمامية كان الأمير يوحى إليه، والفرق بين وحي الرسل وبين وحي الأمير أن الرسول كان يشاهد الملك والأمير يسمع صوته فقط. روى الكليني في الكافي عن السجاد أن علي بن أبي طالب كان محدثا وهو الذي يرسل الله إليه الملك فيكلمه ويسمع الصوت ولا يرى الصورة. [44] وهذه الرواية كذب مع أنه يناقضها الروايات الأخر الثابتة عندهم عن الأئمة. منها أن الرسول ﷺ قال: أيها الناس لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات. ومنها ما كان الباري تعالى أنزله من الكتاب المختوم بخواتم الذهب إلى نبي الزمان وهو أوصله إلى الأمير والأمير أوصله إلى الإمام الحسن وهكذا إلى المهدي وكان السابق يوصى اللاحق أن يفك خاتما واحدا من ذلك الكتاب ويعمل بما فيه، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن حاجة إلى إرسال الملك والإيحاء. وذهبت طائفة من الإمامية إلى أن سيدة النساء فاطمة غلبها السلام كان يوحى إليها بعد وفاة النبي ﷺ. وقد جمع ذلك الوحي وسماه ( مصحف فاطمة ) [45] وأكثر الوقائع الآتية وفتن هذه الأمة مذكورة فيه والأئمة إنما يخبرون الناس بأخبار الغيب من ذلك المصحف، سبحانك هذا بهتان عظيم وقول وخيم.
العقيدة الثانية عشرة: أن الإمام لا يجوز له أن ينسخ حكما من الأحكام الشرعية ولا يبدله. وذهبت الإمامية إلى جواز ذلك مستدلين بروايات مفتراة على الأئمة، منها مارواه ابن بابويه القمي عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله تعالى آخى بين الأرواح في الأزل قبل أن يخلق الاجسام بألفي عام، فلو قد قام قائم أهل البيت وَرَّثَ الأخَ من اللذين آخى بينهما في الأزل ولم يورّث الأخ من الولادة. ومما يدل على كذب هذه الرواية أن التكاليف الشرعية لما كانت لازمة لعامة الناس لا بد أن تكون منوطة بالعلاقة الظاهرة والأمور الجلية كالتوالد والقرابة ونحوهما مما يدركه البشر، والمؤاخاة الأزلية لا يدركها العقل، ونص الإمام لا يمكن في كل فرد فرد. والحاصل أن هذه العقيدة مخالفة لظاهر العقل لأن الإمام خليفة النبي في ترويج الشريعة وتعليمها، فإن كان له دخل في تبديل الأحكام وتغييرها فقد خالفه، مع أنه ليس بشارع. وكذا النبي لقوله تعالى { شرع لكم من الدين } وقوله تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا }. نسأله تعالى أن يعصمنا من مثل هذا الزلل ويوفقنا إلى ما يحب من القول والعمل.
هامش
- ↑ قال محمد حين كاشف الغطاء « وبعث الأنبياء واجب على الله ». أصل الشيعة وأصولها: ص 86؛ وقال محمد رضا المظفر: « قاعدة اللطف توجب أن يبعث الخالق رسله لهداية البشر ». عقائد الإمامية: ص 55.
- ↑ قال الطوسي: « والدليل على أن الخليفة الإمام القائم "عليه السلام" حي موجود في كل آنٍ وزمان لا بد فيه من إمام معصوم، فثبت أنه حيَّ موجود في كل زمان، ويدل على بقائه إلى فناء هذه الأمة: لأنه لطف للناس، واللطف واجب على الله تعالى في كل زمان، فيكون الإمام حيا، وإلا لزم أن يكون الله تعالى مخلا بالواجب ». رسائل الطوسي: ص 107.
- ↑ نهج البلاغة
- ↑ الكافي: 1/60؛ نهج البلاغة
- ↑ نهج البلاغة
- ↑ ينظر مجموع الفتاوى: 4/350.
- ↑ قال الكراكجي عن عقيدتهم في الأئمة: « وإنهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء ( عليهم السلام ) وأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله ( "عليه السلام" )... ». كنز الفوائد: 1/245. وقال الخميني: « من ضروريات مذهبنا أنه لا يصل أحد إلى مراتب الأئمة - عليهم السلام – المعنوية، حتى الملك المقرب والنبي المرسل ». ص 85.
- ↑ الكافي: 1/174؛ الطبرسي، الاحتجاج: ص 376.
- ↑ روى ابن بابويه عن عمرو بن هارون عن الصادق عن آبائه عن علي بن أبي طالب "عليه السلام" قال: « إن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها: ألا إني زوجت أحب النساء إلي إلى أحب الرجال إلي بعد النبيين ». الأمالي: ص 559؛ تفسير فرات: ص 413.
- ↑ قال الشوشتري: « إن الإمامة نيابة عن النبي في أمور الدين والدنيا، فيعتبر فيها ما اعتبر في النبوة، بل الإمام أحوج إلى ذلك؛ لأن النبي مؤيد بالوحي بخلاف الإمام... ». الصوارم المهرقة: ص 203.
- ↑ حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المتوفى سنة 585، وللشيعة علماء آخرون من بني زهرة.
- ↑ محمد بن إبراهيم الحلي، توفي في شوال 598.
- ↑ القاضي عبد العزيز بن نحرير، توفي في شعبان سنة 481.
- ↑ علي بن الحسين الموسوي (355 - 436) وهو أخو الرضي الشاعر.
- ↑ كما قرره الطوسي في عدة الأصول: ص 10؛ المرتضى في الذريعة إلى أصول الشيعة: 2/38؛ الأنصاري، فرائد الأصول: ص 39.
- ↑ مبادئ الأصول: ص 137.
- ↑ الخرائج والجرائح: 2/796؛ ورواها أيضا الصفار، بصائر الدرجات: ص 229.
- ↑ كتاب ( اللباب في علل البناء والإعراب ) لأبي البقاء محب الدين عبد الله بن الحسين العكبري ( ت 616ه )،
- ↑ ( الوافي في النحو ) تصنيف محمد بن عثمان بن عمر البلخي
- ↑ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، ولد بالأندلس، وانتقل إلى دمشق وفيها توفي سنة 672ه. بغية الوعاة: 1/130؛ نفح الطيب: 2/222.
- ↑ جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام، النحوي، قال عنه ابن حجر: « انفرد بالفوائد الغربية والمباحث الدقيقة والاستدراكات العجيبة والتحقيق البالغ والإطلاع المفرط والاقتدار على التصرف في الكلام »، توفي سنة 762ه. الدرر الكامنة: 3/93؛ شذرات الذهب: 3/191.
- ↑ أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، من أئمة الأدب واللغة، توفي سنة 370ه. معجم الأدباء: 6/297؛ البلغة: ص 186.
- ↑ أخرج الكليني عن ضريس الكناسي قال: « كنت عند أبي عبد الله "عليه السلام" وعنده أبو بصير فقال أبو عبد الله: إن داود ورث علم الأنبياء وإن سليمان ورث داود وإن محمدا eورث سليمان وإنا ورثنا محمدا ﷺ، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى... ». الكافي، باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم: 1/225.
- ↑ ابن طاوس، التحصين: ص 605؛ ابن شاذان، مائة منقبة: ص 88.
- ↑ لا يوجد هذا الحديث في كتاب معتبر من كتب أهل السنة،، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات: 1/347؛ وقال عنه الذهبي: « بعض الكذابين يرويه مرفوعا »: ميزان الاعتدال: 3/374؛ وقال في مكان آخر: « حديث علي خير البشر وهذا كذب »، المغني في الضعفاء: ص 155؛ وقال الحافظ ابن حجر عنه: « وهذا باطل جلي ». لسان الميزان: 2/252. وقد أورده من الإمامية: ابن بابويه، الأمالي: ص 76؛ عماد الدين الطبري، بشارة المصطفى: ص 246.
- ↑ الباب الثاني
- ↑ لا توجد له ترجمة في كتبهم، ولا جرح أو تعديل
- ↑ الكافي: 1/273؛ رجال الكشي: ص 604 الصفار، بصائر الدرجات: ص 460؛ العياشي، التفسير: 2/317. وروها الكشي عن الرضا: رجال الكشي: ص 604
- ↑ الاعتقادات له: ص 66.
- ↑ تقدمت
- ↑ من أقوال علماء الحديث
- ↑ رووا: « قال رجل للرضا "عليه السلام": يا ابن رسول الله إنه يروى عن عروة بن الزبير أنه قال توفي النبي ﷺ وهو في تقية؟ فقال: أما بعد نزول قوله عز وجل: { والله يعصمك من الناس } فإنه أزال كل تقية بضمان من الله عز وجل... ». عيون أخبار الرضا: 2/130؛ المجلسي، بحار الأنوار: 16/221.
- ↑ روى الكليني عن أبي عبد الله أن يونس أنه كان يقول في سجوده: « أتراك معذبي فقد عفرت لك بالتراب وجهي، أتراك معذبي وقد أظمات لك هواجري، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، قال فأوحى الله عز وجل إليه أن أرفع رأسك فإني غير معذبك، فقال: إن قلت لا أعذبك ثم عذبتني، قال: فإني غير معذبك إني إذا وعدت وعدا وفيت ». الكافي، باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب المنزلة: 1/227.
- ↑ الكافي، باب الدعوات الموجزة: 2/581.
- ↑ في التفسير: بعث الله يونس "عليه السلام" إلى أهل نينوى فدعاهم إلى الله عز وجل، فكذبوه وتمردوا وعاندوا، فلما طال ذلك خرج بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما: « فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان من نبيهم فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب، ولهذا قال تعالى: { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين }. » ابن كثير، قصص الأنبياء: ص 295 وما بعدها
- ↑ لعل القارئ قد لاحظ من أول الكتاب إلى الآن أن المؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ويحتج عليهم برواياتهم وأساليبهم، مبالغة منه في سد أبواب المراء في وجوههم، وليقنع أتباعهم بأن ما هم عليه يناقض دعاويهم وينقضها من أصولها.
- ↑ في سفر التكوين المتداول 16: 10 - 12 « وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل … يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن …. إلخ » وفي الاصحاح 17 منه 20 « وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا، اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة ».
- ↑ أي حسب مزاعم الإمامية.
- ↑ في سفر التثنية من التوراة (18: 15 ): يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون » (18: 18): « أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ».
- ↑ ينظر المزموز 45
- ↑ ينظر حبقوق 3: 3
- ↑ وليس يصح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
- ↑ نسبة إلى الحسن بن صباح الحميري، وهم النزارية من الإسماعيليين
- ↑ وانظر ص 41 من الكافي للكليني طبعة سنة 1278. وضلالة سماع الصوت ادعاها غاندي لنفسه ووافقه عليها قاديانية لاهور في مجلة light الجزء 19 بتاريخ 16 يوليو 1933 ورد عليهم الدكتور تقي الدين الهلالي في مجلة ( الفتح ) ثم نشر في رسالة مستقلة بعنوان « سب القاديانيين للإسلام ». فالإمامية سبقوا القاديانيين وعباد البقر إلى هذه الخرافة.
- ↑ في كتاب ( الكافي ) للكليني ص 57 - وهو عندهم مثل صحيح البخاري عند المسلمين - أن أبا بصير سمع من جعفر الصادق قوله « وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام …. مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد، » وأبو بصير مخترع هذه الأكذوبة هو ليث بن البختري وتقدم التعريف به في هامش ص 65، وقد اعترف علماء الإمامية بأنه مطعون في دينه لكنهم قالوا إنه ثقة والطعن في دينه لا يوجب الطعن! وهكذا قالوا والله حسيبهم ….