→ كتاب الجهاد (مسألة 920 - 928) | ابن حزم - المحلى كتاب الجهاد (مسألة 929 - 936) المؤلف: ابن حزم |
كتاب الجهاد (مسألة 937 - 940) ← |
كتاب الجهاد
929 - مسألة : ويغزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء ، وغير فاسق ، ومع المتغلب والمحارب ، كما يغزى مع الإمام ، ويغزوهم المرء وحده إن قدر أيضا ، قال الله - تعالى - : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، وقد ذكرنا عن النبي ﷺ في أول باب من كتاب الجهاد هاهنا : السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية وقال - تعالى - { : انفروا خفافا وثقالا } ، وقد علم الله - تعالى - أنه ستكون أمراء فساق فلم يخصهم من غيرهم ، وكل من دعا إلى طاعة الله في الصلاة المؤداة كما أمر الله - تعالى - ، والصدقة الموضوعة مواضعها ، والمأخوذة في حقها ، والصيام كذلك ، والحج كذلك ، والجهاد كذلك ، وسائر الطاعات كلها ؛ ففرض إجابته للنصوص المذكورة . وكل من دعا من إمام - حق ، أو غيره - ، إلى معصية فلا سمع ، ولا طاعة ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق - وقال عليه السلام : { لكل امرئ ما نوى } . وروينا من طريق البخاري نا أبو اليمان أخبرنا شعيب هو ابن أبي حمزة - عن الزهري عن سعيد بن المسيب : أن أبا هريرة قال { أمر رسول الله ﷺ بلالا فنادى في الناس : إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر } .
930 - مسألة : فمن غزا مع فاسق فليقتل الكفار وليفسد زروعهم ودورهم وثمارهم ، وليجلب النساء والصبيان ولا بد ، فإن إخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام فرض يعصي الله من تركه قادرا عليه ، وإثمهم على من غلهم ، وكل معصية فهي أقل من تركهم في الكفر وعونهم على البقاء فيه ، ولا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار وأمر بإسلام حريم المسلمين [ إليهم ] من أجل فسق رجل مسلم لا يحاسب غيره بفسقه ؟
931 - مسألة : ولا يملك أهل الكفر الحربيون مال مسلم ، ولا مال ذمي أبدا إلا بالابتياع الصحيح ، أو الهبة الصحيحة ، أو بميراث من ذمي كافر ، أو بمعاملة صحيحة في دين الإسلام ، فكل ما غنموه من مال ذمي أو مسلم ، أو آبق إليهم ، فهو باق على ملك صاحبه ، فمتى قدر عليه رد على صاحبه قبل القسمة وبعدها ، دخلوا به أرض الحرب ، أو لم يدخلوا ولا يكلف مالكه عوضا ولا ثمنا ، لكن يعوض الأمير من كان صار في سهمه من كل مال لجماعة المسلمين ، ولا ينفذ فيه عتق من وقع في سهمه ، ولا صدقته ، ولا هبته ، ولا بيعه ، ولا تكون له الأمة أم ولد ، وحكمه حكم الشيء الذي يغصبه المسلم من المسلم ، ولا فرق . وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان - ولمن سلف أقوال ثلاثة سوى هذا . أحدها : - أنه لا يرد شيء من ذلك إلى صاحبه لا قبل القسمة ، ولا بعدها ، لا بثمن ، ولا بغير ثمن ، وهو لمن صار في سهمه . روينا من طريق ابن أبي شيبة عن معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه : أن علي بن أبي طالب قال : ما أحرزه العدو من أموال المسلمين فهو بمنزلة أموالهم . وكان الحسن البصري يقضي بذلك . وعن قتادة : أن مكاتبا أسره العدو فاشتراه رجل فسأل بكر بن قرواش عنه علي بن أبي طالب ، فقال له علي : إن افتكه سيده فهو على كتابته ، وإن أبى أن يفتكه فهو للذي اشتراه . وعن قتادة عن خلاس عن علي : ما أحرزه العدو فهو جائز . وعن قتادة عن علي : هو فيء المسلمين لا يرد . وعن معمر عن الزهري : ما أحرزه المشركون ثم أصابه المسلمون فهو لهم ما لم يكن حرا أو معاهدا . وعن معمر عن رجل عن الحسن مثل هذا . والقول الثاني - أنه إن أدرك قبل القسمة رد إلى صاحبه ، فإن لم يدرك حتى قسم فهو للذي وقع في سهمه لا يرد إلى صاحبه لا بثمن ، ولا بغيره . هكذا رويناه عن عمر نصا من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن رجاء بن حيوة عن قبيصة بن ذؤيب : أن عمر بن الخطاب قال : ما أحرز المشركون من أموال المسلمين فوجد رجل ماله بعينه قبل أن تقسم السهام فهو أحق به ، وإن كان قسم فلا شيء له . ومن طريق ابن أبي شيبة عن عيسى بن يونس عن ثور عن أبي عون عن زهرة بن يزيد المرادي أن أمة لرجل مسلم أبقت إلى العدو فغنمها المسلمون فعرفها أهلها فكتب فيها أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر ، فكتب إليه عمر : إن كانت لم تخمس ولم تقسم فهي رد على أهلها ، وإن كانت قد خمست وقسمت فأمضها لسبيلها . وروي نحوه أيضا عن زيد بن ثابت . ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق عن سليمان بن ربيعة فيما أحرز العدو ، قال : صاحبه أحق به ما لم يقسم . ومن طريق هشيم عن المغيرة ، ويونس قال المغيرة عن إبراهيم ، وقال يونس عن الحسن ، قالا جميعا : ما غنمه العدو من مال المسلمين فغنمه المسلمون فصاحبه أحق به ، فإن قسم فقد مضى . وذكر ابن أبي الزناد عن أبيه هذا القول عن القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأبي بكر بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار في مشيخة من نظرائهم ، وقالوا : ما غنم العدو من المسلمين ثم غنمه المسلمون فصاحبه أحق به ما لم يقع فيه السهمان فإذا قسم فلا سبيل له إليه . وصح عن عطاء أيضا ، وأخبر عطاء أنه رأي منه . وهو قول الليث ، وأحمد بن حنبل . والقول الثالث - أنه إن أدرك قبل القسمة رد إلى صاحبه بغير ثمن ، وإن لم يدرك إلا بعد القسمة فصاحبه أحق به بقيمته - : رويناه من طريق عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن مكحول عن عمر بن الخطاب . ومن طريق سفيان عن المغيرة عن إبراهيم النخعي . ومن طريق ابن سيرين عن شريح . ومن طريق عبد الله بن إدريس عن أبيه عن مجاهد . فالقول الأول - لا يرد ما أخذه المشركون من أموالنا إلى أربابها ، لا قبل أن تقسم ولا بعد أن تقسم ، لا بثمن ولا بغيره ، روي عن علي ، وصح عن الحسن ، والزهري ، وعمرو بن دينار . ولم يصح عن علي لأنه من طريق سليمان التيمي ، وقتادة عن علي ولم يدركاه ، ورواية خلاس عن علي صحيحة إلا أنه لا بيان فيها إنما هي ما أحرزه العدو فهو جائز ولا ندري ما معنى : فهو جائز ، ولعله أراد : أنه جائز لأصحابه إذا ظفر به . والقول الثاني - أنه يرد إلى أصحابه قبل القسمة ، ولا يرد بعد القسمة ، روي عن عمر ، وأبي عبيدة ، وزيد بن ثابت ؛ ولا يصح عن أحد منهم ، لأنه عن قبيصة بن ذؤيب ولم يدرك عمر ، ومن طريق أبي عون ، أو ابن عون ، ولم يدركا أبا عبيدة ، ولا عمر ، ولا ندري من رواه عن زيد بن ثابت - وروي عن فقهاء المدينة السبعة ، ولا يصح عنهم ، لأنه من طريق ابن أبي الزناد هو ضعيف - وعن سليمان بن ربيعة ، ولم يصح عنه لأنه من طريق الحجاج بن أرطاة . وصح عن إبراهيم [ وشريح ] والحسن وعطاء . والقول الثالث - أنه إن أدرك قبل القسمة رد إلى صاحبه بغير ثمن ، وإن لم يدرك إلا بعد القسمة فصاحبه أحق به بقيمته روي عن عمر ولم يصح عنه ، لأنه من رواية مكحول ، ولم يدرك عمر . وصح عن إبراهيم وشريح ، ومجاهد - وهو قول مالك ، والأوزاعي . ومن قول مالك : إن الآبق والمغنوم سواء في ذلك ، وإن المدبر ، والمكاتب ، وأم الولد سواء في ذلك ، إلا أن سيد أم الولد يجبر على أن يفكها . وها هنا قول خامس - لا يعرف عن أحد من السلف ، وهو قول أبي حنيفة - ولا يحفظ أن أحدا قاله قبله ، وهو أن ما أبق إلى المشركين من عبد لمسلم فإنه مردود إلى صاحبه قبل القسمة ، وبعدها بلا ثمن ، وكذلك ما غنموه من مدبر ، ومكاتب ، وأم ولد ، ولا فرق . ووافقه في هذا سفيان . قال أبو حنيفة : وأما ما غنموه من الإماء ، والعبيد ، والحيوان ، والمتاع ، فإن أدرك قبل أن يدخلوا به دار الحرب ثم غنمناه رد إلى صاحبه قبل القسمة وبعدها بلا ثمن . وإن دخلوا به دار الحرب ثم غنمناه رد إلى صاحبه قبل القسمة وأما بعد القسمة فصاحبه أحق به بالقيمة إن شاء ؛ وإلا فلا يرد إليه . قال أبو محمد : وهذا قول في غاية التخليط والفساد في التقسيم ، لا دليل على صحة تقسيمه لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا تابع ، ولا قياس ، ولا رأي سديد . وقال بعضهم : إنما يملكون علينا ما يملكه بعضنا على بعض . قال أبو محمد : وصدق هذا القائل ولا يملك بعضنا على بعض مالا بالباطل ، ولا بالغصب أصلا ، ولا باطل ، ولا غصب أحرم ولا أبطل من أخذ حربي مال مسلم - فسقط هذا القول الفاسد جملة ثم نظرنا في سائر الأقوال . فنظرنا في قول مالك فوجدناهم إن تعلقوا بما روي عن عمر ؛ فقد عارضته رواية أخرى عن عمر هي عنه أمثل من التي تعلقوا بها - وأخرى عن علي هي مثل التي تعلقوا بها ، فما الذي جعل بعض هذه الروايات أحق من بعض ؟ وقال بعضهم : معنى قول عمر في الرواية الأخرى : فلا شيء له وأمضها لسبيلها - أي إلا بالثمن . فقلنا : ما يعجز من لا دين له عن الكذب ؛ ويقال لكم : معنى قول عمر إنه أحق بها بالقيمة - أي إن تراضيا جميعا على ذلك ، وإلا فلا ؛ فما الفرق بين كذب وكذب ؟ ثم وجدناهم يحتجون بخبر رويناه من طريق حماد بن سلمة وغيره عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة : { أن عثمان اشترى بعيرا من العدو فعرفه صاحبه فخاصمه إلى رسول الله ﷺ فقال له النبي ﷺ : إن شئت أعطيته الثمن الذي اشتراه به وهو لك ، وإلا فهو له } وهذا منقطع لا حجة فيه ، وسماك ضعيف يقبل التلقين ، شهد به عليه شعبة ، وغيره - وأسنده ياسين الزيات عن سماك عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة . وياسين لا تحل الرواية عنه ، وسماك قد ذكرناه . ورواه بعض الناس عن إبراهيم بن محمد الهمذاني أو الأنباري عن زياد بن علاقة عن جابر بن سمرة مسندا ، وإبراهيم بن محمد الأنباري أو الهمذاني لا يدري أحد من هو في الخلق ؟ وأسنده أيضا الحسن بن عمارة وإسماعيل بن عياش كلاهما : عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس { أن النبي ﷺ قال في بعير أحرزه العدو ، ثم غلب عليه المسلمون إن وجدته قبل القسمة فأنت أحق به بغير شيء ، وإن وجدته بعد القسمة فأنت أحق به بالثمن إن شئت } والحسن بن عمارة هالك ، وإسماعيل بن عياش ضعيف . ورواه بعض الناس من طريق علي بن المديني ، وأحمد بن حنبل . قال علي : نا يحيى بن سعيد القطان ، وقال أحمد : عن إسحاق الأزرق ، ثم اتفق يحيى وإسحاق عن مسعر عن عبد الملك بن ميسرة ؛ وهذا منقطع غير مسند ، على أن الطريق إلى علي وأحمد تالفة ، ولا يعرف هذا الخبر في حديث يحيى بن سعيد القطان الصحيح عنه أصلا ، فإن لجوا وقالوا : المرسل حجة - ورواية الحسن بن عمارة ، وإسماعيل بن عياش حجة . قلنا : لا عليكم روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أخبرني عكرمة بن خالد قال : أخبرني أسيد بن ظهير الأنصاري وكان والي اليمامة أيام معاوية { أن النبي ﷺ قضى في السرقة : إن كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم يخير سيدها إن شاء أخذ الذي سرق منه بثمنه وإن شاء اتبع سارقه } ثم قضى بذلك بعده : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان - وقضى به أسيد بن ظهير . قال أبو محمد : وقد قضى به أيضا : عميرة بن يثرى قاضي البصرة لعمر - وبه يقول إسحاق بن راهويه . فهذا خبر أحسن من خبركم وأقوم ، وهو في معناه فخذوا به وإلا فأنتم متلاعبون . وأما نحن فتركناه ، لأن عكرمة بن خالد ليس بالقوي ، وعلى كل حال ، فهو والله بلا خلاف من أحد أشبه من ياسين والحسن بن عمارة وإسماعيل بن عياش ، وما هو بدون سماك أصلا . والعجب كل العجب أن أصحاب أبي حنيفة ردوا حديث " من وجد سلعته بعينها عند مفلس فهو أحق من الغرماء " وهذا حديث ثابت صحيح . فإن قالوا : هذا خلاف الأصول ولا يخلو المفلس من أن يكون [ كان ] قد ملكها أو لم يكن ملكها ؛ فإن كان لم يملكها فأنتم لا تقولون بهذا ؛ وإن كان قد ملكها فلا حق لبائعها فيما قد ملكه منه المشتري باختياره وتركوا هذا الاعتراض بعينه هنا وأخذوا بخبر مكذوب مخالف للأصول وللقرآن وللسنن لأنه لا يخلو الحربيون من أن يكونوا ملكوا ما أخذوا منا أو لم يملكوه ، فإن كانوا لم يملكوه فهذا قولنا وهو خلاف قولهم ، والواجب أن يرد إلى مالكه بكل حال قبل القسمة وبعدها بلا ثمن يكلفه ، وإن كانوا قد ملكوه فلا سبيل للذي أخذ منه عليه لا بثمن ولا بغير ثمن لا قبل القسمة ولا بعد القسمة ، لأنه كسائر الغنيمة ولا فرق ؛ فأي عجب أعجب من هذا وأيضا : فإنه لا يخلو الذي وقع في سهمه من أن يكون ملكه أو لم يملكه ، فإن كان لم يملكه فهو قولنا والواجب رده إلى مالكه . وإن قالوا : بل ملكه . قلنا : فما يحل إخراج ملكه عن يده بغير طيب نفس منه لا بثمن ولا بغير ثمن ؛ فهل سمع بأبين فساد من هذه الأقوال الفاسدة والتناقض الفاحش والتحكم في دين الله تعالى وفي أموال الناس بالباطل الذي لا خفاء به ؟ فسقط هذا القول جملة ؛ إذ لم يصح فيه أثر ولا صححه نظر . وأما قول من قال : يرد قبل القسمة ولا يرد بعدها . فقول أيضا لا يقوم على صحته دليل أصلا ، لا من نص ولا من رواية ضعيفة ، ولا من نظر ، ولا من وجه من الوجوه . وأما قول من قال : لا يرد قبل القسمة ولا بعدها فهو أقلها تناقضا ؛ وعمدتهم أن أهل الحرب قد ملكوا ما أخذوا منا ؛ ولو صح لهم هذا الأصل لكان قولهم هو الحق ، لكن نقول لهم : قال الله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ، وقال رسول الله ﷺ : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } ، وقال عليه السلام { ليس لعرق ظالم حق } ، وقال عليه السلام : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } . فأخبرونا عما أخذه منا أهل الحرب أبحق أخذوه أم بباطل ؟ وهل أموالنا مما أحله الله تعالى لهم أو مما حرمه عليهم ؟ وهل هم ظالمون في ذلك أو غير ظالمين ؟ وهل عملوا من ذلك عملا موافقا لأمر الله تعالى وأمر نبيه عليه السلام ، أو عملا مخالفا لأمره تعالى وأمر رسوله ﷺ ؟ وهل يلزمهم دين الإسلام ويخلدون في النار لخلافهم له أم لا ؟ ولا بد من أحدها . فالقول بأنهم أخذوه بحق أنه مما أحله الله تعالى لهم وأنهم غير ظالمين في ذلك ، وأنهم لم يعملوا بذلك عملا مخالفا لأمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام ، وأنه لا يلزمهم دين الإسلام : كفر صراح براح لا مرية فيه ، فسقط هذا القول ، وإذ قد سقط فلم يبق إلا الآخر ، وهو الحق اليقين من أنهم إنما أخذوه بالباطل وأخذوا حراما عليهم ، وهم في ذلك أظلم الظالمين ، وأنهم عملوا بذلك عملا ليس عليه أمر الله تعالى : وأمر رسوله ﷺ وأن التزام دين الإسلام فرض عليهم . فإذ لا شك في هذا فأخذهم لما أخذوا باطل مردود ، وظلم مفسوخ ولا حق لهم ولا لأحد يشبههم فيه ؛ فهو على ملك مالكه أبدا . وهذا أمر ما ندري كيف يخفى على أحد ، وقد أجمع الحاضرون من المخالفين على أنهم لا يملكون أحرارنا أصلا ، وأنهم مسرحون قبل القسمة وبعدها بلا تكليف ثمن ، فأي فرق بين تملك الحر ، وبين تملك المال بالظلم والباطل لو أنصفوا أنفسهم ؟ وقد اتفقوا على أن المسلم لا يملك على المسلم بالغصب ، فكيف وقعت لهم هذه العناية بالكفار في ذلك مع عظيم تناقضهم في أنهم يملكون علينا لا يملكون علينا ؟ وقد قال بعضهم عظيمة دلت على فساد دينه ، وهو أنه قال : هو جور ينفذ ، ونظره بمفضل بعض ولده على بعض - فحصل هذا الجاهل على الكذب والكفر وهو أنه نسب إلى النبي ﷺ أنه أنفذ تفضيل بشير لبعض ولده على بعض - وقد كذب في ذلك ؛ بل أمره عليه السلام برده نصا . ثم نسب إلى النبي ﷺ أنه أنفذ الجور وأمضاه ، وهذا كفر من قائله - ونعوذ بالله من الخذلان . قال أبو محمد : فسقطت هذه الأقوال كلها . وقد قلنا : إنه ليس منها قول يصح عن أحد من الصحابة وإنما صحت عن بعض التابعين فقط ، والخطأ لم يعصم منه أحد بعد النبي ﷺ . فإذ سقطت كلها ، فلم يبق إلا قولنا وهو الحق الذي لا يحل خلافه بما ذكرنا آنفا من أنهم لا يحل لهم شيء من أموالنا إلا بما أحله الله تعالى فيما يشاء من بعضنا لبعض قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ثم هو الثابت عن رسول الله ﷺ . روينا من طريق أبي داود نا صالح بن سهيل نا يحيى يعني ابن أبي زائدة - عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال { إن غلاما أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله ﷺ إلى ابن عمر ولم يقسم } . قال أبو محمد : منع النبي ﷺ من قسمته برهان بأنه لا يجوز قسمته وأنه لا حق فيه للغانمين ، ولو كان لهم فيه حق لقسمه عليه السلام فيهم . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سمعت نافعا مولى ابن عمر يزعم أن عبد الله بن عمر ذهب العدو بفرسه فلما هزم العدو وجد خالد بن الوليد فرسه فرده إلى عبد الله بن عمر . وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : أبق لي غلام يوم اليرموك ، ثم ظهر عليه المسلمون فردوه إلي . ومن طريق ابن أبي شيبة نا شريك عن الركين عن أبيه أو عمه قال : حبس لي فرس فأخذه العدو فظهر عليه المسلمون فوجدته في مربط سعد فقلت : فرسي . فقال : بينتك ، فقلت : أنا أدعوه فيحمحم . فقال سعد : إن أجابك فإنا لا نريد منك بينة - فهذا ليس إلا بعد القسمة ، فهذا فعل المسلمين ، وخالد بن الوليد ، وابن عمر : لم يفرقوا بين حال القسمة وما قبل القسمة . وروينا هذا القول عن الحكم بن عتيبة - وبالله تعالى التوفيق
932 - مسألة : وكذلك لو نزل أهل الحرب عندك تجارا بأمان ، أو رسلا ، أو مستأمنين مستجيرين ، أو ملتزمين لأن يكونوا ذمة لنا فوجدنا بأيديهم أسرى مسلمين ، أو أهل ذمة ، أو عبيدا ، أو إماء للمسلمين ، أو مالا لمسلم ، أو لذمي : فإنه ينتزع كل ذلك منهم بلا عوض أحبوا أم كرهوا . ويرد المال إلى أصحابه ، ولا يحل لنا الوفاء بكل عهد أعطوه على خلاف هذا ؛ لقول رسول الله ﷺ { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } . ونسأل من خالفنا ما يقول لو عاهدناهم على أن لا نصلي ، أو لا نصوم وكذلك لو أسلموا ، أو تذمموا فإنه يؤخذ كل ما في أيديهم من حر مسلم أو ذمي ، أو لمسلم ، أو لذمي ، ويرد إلى أصحابه بلا عوض ولا شيء عليهم فيما استهلكوا في حال كونهم حربيين . ولو أن تاجرا ؛ أو رسولا دخل إلى دار الحرب فافتدى أسيرا ، أو أعطوه إياه ، أو ابتاع متاعا لمسلم أو لذمي أو وهبوه له ، فخرج إلى دار الإسلام : انتزع منه كل ذلك ، ورد إلى صاحبه ، وهو من خسارة المشتري ، وأطلق الأسير بلا غرامة لما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا من أن أبطل الباطل ، وأظلم الظلم : أخذ المشرك للمسلم ، أو لماله ، أو لذمي أو لماله ، والظلم لا يجوز إمضاؤه بل يرد ويفسخ . فلو أن الأسير قال لمسلم ، أو لذمي دخل دار الحرب : افدني منهم ، وما تعطيهم دين لك علي ، فهو كما قال ، وهو دين عليه ، لأنه استقرضه فأقرضه ، وهذا حق . وقال مالك ، وابن القاسم : لو نزل حربيون بأمان وعندهم مسلمات مأسورات : لم ينتزعن منهم ، ولا يمنعون من الوطء لهن . وقال ابن القاسم : لو تذمم حربيون وبأيديهم أسرى مسلمون أحرار : فهم باقون في أيدي أهل الذمة عبيد لهم كما كانوا . وهذان القولان لا نعلم قولا أعظم فسادا منهما ، ونعوذ بالله منهما ، وليت شعري ما القول لو كان بأيديهم شيوخ مسلمون وهم يستحلون فعل قوم لوط أيتركون وذلك ؟ أو لو أن بأيديهم مصاحف أيتركون يمسحون بها العذر عن أستاههم ؟ نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول أتم البراءة - ونعوذ بالله من الخذلان .
933 - مسألة : فإن ذكروا حديث أبي جندل ، وأن رسول الله ﷺ رده على المشركين - فلا حجة لهم فيه لوجوه . أولها - أنه عليه السلام رده ولم يكن العهد تم بينهم ، وهم لا يقولون بهذا . والثاني - أنه عليه السلام لم يرده حتى أجاره له مكرز بن حفص من أن يؤذى . والثالث - أنه عليه السلام قد كان الله تعالى أعلمه أنه سيجعل الله له فرجا ومخرجا ونحن لا نعلم ذلك . والرابع - أنه خبر منسوخ نسخه قول الله تعالى بعد قصة أبي جندل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } فأبطل الله تبارك وتعالى بهذه الآية عهدهم في رد النساء ، ثم أنزل الله تعالى : ( براءة ) بعد ذلك فأبطل العهد كله ونسخه بقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } . وبقوله تعالى في ( براءة ) أيضا : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } الآية فأبطل تعالى كل عهد للمشركين حاشا الذين عاهدوا عند المسجد الحرام . وبقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ، وقال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ، فأبطل الله تعالى كل عهد ولم يقره ، ولم يجعل للمشركين إلا القتل ، أو الإسلام ، ولأهل الكتاب خاصة إعطاء الجزية وهم صاغرون وأمن المستجير والرسول حتى يؤدي رسالته ويسمع المستجير كلام الله ثم يردان إلى بلادهما ولا مزيد ، فكل عهد غير هذا فهو باطل مفسوخ لا يحل الوفاء به ؛ لأنه خلاف شرط الله عز وجل وخلاف أمره . روينا من طريق البخاري نا عبد الله بن محمد نا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير { عن المسور بن مخرمة وغيره فذكر حديث الحديبية ، وفيه فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي ﷺ : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال له النبي ﷺ : فأجزه لي قال : ما أنا بمجيزه لك قال : بلى فافعل . قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز - هو ابن حفص بن الأحنف : بل قد أجزناه لك } فهذا خلاف قولهم كلهم وحديث أبي جندل حجة عليهم كما أوردنا . ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عفان هو ابن مسلم نا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس : { أن قريشا صالحوا النبي ﷺ فاشترطوا على النبي ﷺ : أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا . فقالوا يا رسول الله أتكتب هذا ؟ قال : نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا } وهذا خبر منه عليه السلام مقطوع بصدقه . ومن طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث هو ابن سعد - عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع المسور بن مخرمة ، وآخر : يخبران عن أصحاب النبي ﷺ فذكرا { حديث الحديبية ، وفيه : فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله ﷺ يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون النبي ﷺ أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله تعالى فيهن : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } } الآية
934 - مسألة : ومن كان أسيرا عند الكفار فعاهدوه على الفداء وأطلقوه فلا يحل له أن يرجع إليهم ، ولا أن يعطيهم شيئا ، ولا يحل للإمام أن يجبره على أن يعطيهم شيئا ، فإن لم يقدر على الانطلاق إلا بالفداء ففرض على المسلمين أن يفدوه إن لم يكن له مال يفي بفدائه . قال الله عز وجل : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وإسار المسلم أبطل الباطل ، وأخذ الكافر أو الظالم ماله فداء من أبطل الباطل ، فلا يحل إعطاء الباطل ، ولا العون عليه ، وتلك العهود والأيمان التي أعطاهم لا شيء عليه فيها ، لأنه مكره عليها ، إذ لا سبيل له إلى الخلاص إلا بها ، ولا يحل له البقاء في أرض الكفر وهو قادر على الخروج ، وقد قال رسول الله ﷺ : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } وهكذا كل عهد أعطيناهم ، حتى نتمكن من استنقاذ المسلمين وأموالهم من أيديهم ، فإن عجزنا عن استنقاذه إلا بالفداء ففرض علينا فداؤه لخبر رسول الله ﷺ الذي رويناه من طريق أبي موسى الأشعري { أطعموا الجائع وفكوا العاني } وهو قول أبي سليمان ، والشافعي
935 - مسألة : ولا يحل فداء الأسير المسلم إلا إما بمال ، وإما بأسير كافر ، ولا يحل أن يرد صغير سبي من أرض الحرب إليهم لا بفداء ولا بغير فداء ؛ لأنه قد لزمه حكم الإسلام بملك المسلمين له ، فهو وأولاد المسلمين سواء ولا فرق - وهو قول المزني .
936 - مسألة : وما وهب أهل الحرب للمسلم الرسول إليهم ، أو التاجر عندهم فهو حلال ، وهبة صحيحة ما لم يكن مال مسلم ، أو ذمي ، وكذلك ما ابتاعه المسلم منهم فهو ابتياع صحيح ما لم يكن مالا لمسلم ، أو ذمي ؛ لأنهم مالكون لأموالهم ما لم ينتزعها المسلم منهم بقول الله تعالى : { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } فجعلها الله تعالى لهم إلى أن أورثنا إياها ، والتوريث لا يكون إلا بالأخذ والتملك ، وإلا فلم يورث بعدما لم تقدر أيدينا عليه ، وإنما جعل الله تعالى أموالهم للغانم لها ، لا لكل من لم يغنمها .