→ سئل عن القصيدة التائية في القدر | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل في أصناف القدرية ابن تيمية |
سئل عن أقوام يحتجون بسابق القدر ← |
فصل في أصناف القدرية
قال شيخ الإسلام
قد ذكرت في غير موضع أن القدرية ثلاثة أصناف:
قدرية مشركية وقدرية مجوسية وقدرية إبليسية. فأما الأولون فهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [1]، إلى آخر الكلام في سورة الأنعام. {لَوْ شَاءَ الله مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [2]، في سورة النحل وفي سورة الزخرف {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [3]. فهؤلاء يئول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق وأنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهو الذي يبتلي به كثيرا - إما اعتقادا وإما حالا - طوائف من الصوفية والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات وإسقاط الواجبات ورفع العقوبات وإن كان ذلك لا يستتب لهم وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم كفعل المشركين من العرب ثم إذا خولف هوى أحد منهم قام في دفع ذلك متعديا للحدود غير واقف عند حد كما كانت تفعل المشركون أيضا. إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر. فهذا يريد أمرا والآخر يريد ضده، وكل من الإرادتين مقدرة فلا بد من ترجيح إحداهما أو غيرهما أو كل منهما من وجه وإلا لزم الفساد. وقد يغلو أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله كما قد ذكر في غير هذا الموضع. ويتمسكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة منهم ومن غيرهم كقول الحريري: أنا كافر برب يعصى، وقول بعض أصحابه لما دعاه مكاس فقيل له هو مكاس فقال: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة وقول ابن إسرائيل:
أصبحت منفعلا لما يختاره ** مني ففعلي كله طاعات
وقد يسمون هذا حقيقة باعتبار أنه حقيقة الربوبية، والحقيقة الموجودة الكائنة أو الحقيقة الخبرية ولما كان في هؤلاء شوب من النصارى والنصارى فيهم شوب من الشرك تابعوا المشركين في ما كانوا عليه من التمسك بالقدر المخالف للشرع. هذا مع أنهم يعبدون غير الله الذي قدر الكائنات كما أن هؤلاء فيهم شوب من ذلك وإذا اتسع زنادقتهم الذين هم رؤساؤهم قالوا: ما نعبد إلا الله إذ لا موجود غيره. وقال رئيس لهم إنما كفر النصارى لأنهم خصصوا فيشرعون عبادة كل موجود بهذا الاعتبار ويقررون ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان والأحجار؛ لكنهم يستقصرونهم حيث خصصوا العبادة ببعض المظاهر والأعيان. ومعلوم أن هذا حاصل في جميع المشركين؛ فإنهم متفننون في الآلهة التي يعبدونها وإن اشتركوا في الشرك؛ هذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد اللات، وهذا يعبد العزى وهذا يعبد مناة الثالثة الأخرى، فكل منهم يتخذ إلهه هواه ويعبد ما يستحسن، وكذلك في عبادة قبور البشر كل يعلق على تمثال من أحسن به الظن. والقدرية الثانية المجوسية: الذين يجعلون لله شركاء في خلقه كما جعل الأولون لله شركاء في عبادته. فيقولون: خالق الخير، غير خالق الشر، ويقول من كان منهم في ملتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وربما قالوا: ولا يعلمها أيضا ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قدرته ولا صنعه فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة؛ ولهذا قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. ويزعمون أن هذا هو العدل ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمونه التوحيد كما يسمي الأولون التلحيد التوحيد فيلحد كل منهما في أسماء الله وصفاته وهذا يقع كثيرا إما اعتقادا وإما حالا في كثير من المتفقهة والمتكلمة. كما وقع اعتقاد ذلك في المعتزلة، والشيعة المتأخرين وابتلي ببعض ذلك طوائف من المتقدمين من البصريين والشاميين وقد يبتلى به حالا لا اعتقادا بعض من يغلب عليه تعظيم الأمر والنهي من غير ملاحظة للقضاء والقدر. ولما بين الطائفتين من التنافي تجد المعتزلة أبعد الناس عن الصوفية ويميلون إلى اليهود وينفرون عن النصارى ويجعلون إثبات الصفات هو قول النصارى بالأقانيم ولهذا تجدهم يذمون النصارى أكثر كما يفعل الجاحظ وغيره كما أن الأولين يميلون إلى النصارى أكثر. ولهذا كان هؤلاء في الحروف والكلام المبتدع كما كان الأولون في الأصوات والعمل المبتدع كما اقتسم ذلك اليهود والنصارى؛ واليهود غالبهم قدرية بهذا الاعتبار؛ فإنهم أصحاب شريعة وهم معرضون عن الحقيقة القدرية. ولهذا تجد أرباب الحروف والكلام المبتدع كالمعتزلة يوجبون طريقتهم ويحرمون ما سواها ويعتقدون أن العقوبة الشديدة لاحقة من خالفها حتى إنهم يقولون: بتخليد فساق أهل الملل ويكفرون من خرج عنهم من فرق الأمة وهذا التشديد والآصار والأغلال شبه دين اليهود. وتجد أرباب الصوت والعمل المبتدع لا يوجبون ولا يحرمون؛ وإنما يستحبون ويكرهون فيعظمون طريقهم ويفضلونه ويرغبون فيه حتى يرفعوه فوق قدره بدرجات. فطريقهم رغبة بلا رهبة إلا قليلا كما أن الأول رهبة في الغالب برغبة يسيرة وهذا يشبه ما عليه النصارى من الغلو في العبادات التي يفعلونها مع انحلالهم من الإيجاب والاستحباب لكنهم يتعبدون بعبادات كثيرة ويبقون أزمانا كثيرة على سبيل الاستحباب. والفلاسفة يغلب عليهم هذا الطريق كما أن المتكلمين يغلب عليهم الطريق الأول.
والقسم الثالث: القدرية الإبليسية الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران. لكن عندهم هذا تناقض وهم خصماء الله كما جاء في الحديث. وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال من سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة كقول أبي العلاء المعري. أنهيت عن قتل النفوس تعمدا وزعمت أن لها معادا آتيا ما كان أغناها عن الحالين. وقول بعض السفهاء الزنادقة: يخلق نجوما ويخلق بينها أقمارا. يقول يا قوم غضوا عنهم الأبصار. ترمي النسوان وتزعق معشر الحضار. اطفوا الحريق وبيدك قد رميت النار. ونحو ذلك مما يوجب كفر صاحبه وقتله. فتدبر كيف كانت الملل الصحيحة الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئون ليس فيها في الأصل قدرية؛ وإنما حدثت القدرية من الملتين الباطلتين: المجوس والذين أشركوا. لكن النصارى ومن ضارعهم مالوا إلى الصابئة واليهود ومن ضارعهم.
هامش