→ سئل عن أفعال العباد هل هي قديمة أم مخلوقة حين خلق الإنسان | مجموع فتاوى ابن تيمية فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن ابن تيمية |
فصل مسألة تحسين العقل وتقبيحه ← |
فصل الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن
وأما الاستثناء في الماضي المعلوم المتيقن، مثل قوله: هذه شجرة إن شاء الله، أو هذا إنسان إن شاء الله، أو السماء فوقنا إن شاء الله، أو لا إله إلا الله إن شاء الله، أو محمد رسول الله إن شاء الله، أو الامتناع من أن يقول: محمد رسول الله قطعًا، وأن يقول: هذه شجرة قطعًا. فهذه بدعة مخالفة للعقل والدين.
ولم يبلغنا عن أحد من أهل الإسلام إلا عن طائفة من المنتسبين إلى الشيخ أبي عمرو ابن مرزوق ولم يكن الشيخ يقول بذلك ولا عقلاء أصحابه. ولكن حدثني بعض الخبيرين أنه بعد موته تنازع صاحبان له: حازم وعبد الملك، فابتدع حازم هذه البدعة في الاستثناء في الأمور الماضية المقطوع بها، وترك القطع بذلك، وخالفه عبد الملك في ذلك موافقة لجماعة المسلمين وأئمة الدين.
وأما الشيخ أبو عمرو، فكان أعقل من أن يدخل في مثل هذا الهذيان، فإنه كان له علم ودين، وإن كان ما تقدم من مسألة قدم أفعال العباد من خير وشر يعزى إليه. وقد أراني بعضهم خطه بذلك. فقد قيل: إنه رجع عن ذلك، وكان يسلك طريقة الشيخ أبي الفرج المقدسي الشيرازي، ونقل عنه أنه كان يقف ويقول: هي مقضية مقدرة. وأمسك.
والشيخ أبو الفرج كان أحد أصحاب القاضي أبي يعلي، ولكن القاضي أبو يعلي لا يرضى بمثل هذه المقالات، بل هو ممن يجزم بأن أفعال العباد مخلوقة، ولو سمع أحدًا يتوقف في الكفر والفسوق والعصيان أنه مخلوق فضلا عن أن يقول: إن أفعال العبد من خير وشر قديمة لأنكرعليه أعظم الإنكار.
وإن كان في كلام القاضي مواضع اضطرب فيها كلامه وتناقص فيها وذكر في موضع كلامًا بني عليه من وافقه فيه من أبنية فاسدة، فالعالم قد يتكلم بالكلمة التي يزل فيها فيفرع أتباعه عليها فروعًا كثيرة، كما جرى في مسألة اللفظ وكلام الأدميين ومسألة الإيمان وأفعال العباد.
فإن السلف والأئمة الإمام أحمد وغيره لم يقل أحد منهم أن كلام الآدميين غير مخلوق ولا قالوا: إنه قديم ولا أن أفعال العباد غير مخلوقة، ولا أنها قديمة. ولا قالوا أيضا: إن الإيمان قديم ولا إنه غير مخلوق. ولا قالوا: إن لفظ العباد بالقرآن مخلوق، ولا إنه غير مخلوق ولكن منعوا من إطلاق القول بأن الإيمان مخلوق، وأن اللفظ بالقرآن مخلوق، لما يدخل في ذلك من صفات الله تعالى، ولما يفهمه هذا اللفظ من أن نفس كلام الخالق مخلوق وأن نفس هذه الكلمة مخلوق، ومنعوا أن يقال: حروف الهجاء مخلوقة؛ لأن القائل هذه المقالات يلزمه أن لا يكون القرآن كلام الله، وأنه لم يكلم موسى.
فجاء أقوام أطلقوا نقيض ذلك فقال بعضهم: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فبدع الإمام أحمد وغيره من الأئمة من قال ذلك.
وكذلك أطلق بعضهم القول بأن الإيمان غير مخلوق. حتى صار يفهم من ذلك أن أفعال العباد التي هي إيمان غير مخلوقة، فجاء آخرون فزادوا على ذلك فقالوا كلام الآدميين مؤلف من الحروف التي هي غير مخلوقة. فيكون غير مخلوق. وقال آخرون: فأفعال العباد كلها غيرمخلوقة. والبدعة كلما فرع عليها وذكر لوازمها زادت قبحًا وشناعة، وأفضت بصاحبها إلى أن يخالف ما يعلم بالاضطرار من العقل والدين.
وقد بسطنا الكلام في هذا، وبينا اضطراب الناس في هذا في مسألة القرآن وغيرها.
وهذا كما أن أقوامًا ابتدعوا: أن حروف القرآن ليست من كلام الله، وأن كلام الله إنما هو معني قائم بذاته هو الأمر والنهي والخبر، وهذا الكلام فاسد بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، فإن المعني الواحد لا يكون هو الأمر بكل مأمور، والخبر عن كل مخبر، ولا يكون معنى التوراة والإنجيل والقرآن واحدًا، وهم يقولون: إذا عبر عن ذلك الكلام بالعربية صار قرآنا، وإذا عبر عنه بالعبرية صار توراة، وهذا غلط، فإن التوراة يعبر عنها بالعربية ومعانيها ليست هي معاني القرآن، والقرآن يعبر عنه بالعبرية وليست معانيه هي معاني التوراة.
وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن اتبعه عليه، كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك: إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة.
ومنهم من يمثل ذلك بأنه محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب، ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب في المصاحف، كما أن الله مكتوب في المصاحف، وهذا غلط في تحقيق مذهب ابن كلاب والأشعري فإن القرآن عندهم معنى عبارة عنه، والحقائق لها أربع مراتب: وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي. فليس العلم بالمعنى له المرتبة الثانية، وليس ثبوته في الكتاب كثبوت الأعيان في الكتاب. فزاد هؤلاء قول ابن كلاب والأشعري قبحًا.
تم تبع أقوام من أتباعهم أحد أهل المذهب، وأن القرآن معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء أو صنفها جبريل أو محمد، فضموا إلى ذلك أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه، لما رأوا أن مجرد كونه دليلا لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام، فإن الموجودات كلها أدلة عليه ولا يجب احترامها فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة إسقاطا لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته.
وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش، أو يركضه برجله إهانة له، إنه كافر مباح الدم.
فالبدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الاتباع حتى تصير أذرعًا وأميالا وفراسخ.
وهذا الجواب لا يحتمل بسط هذا الباب، فإنه مبسوط في غيره.
وهؤلاء الذين يستثنون في هذه الأشياء الماضية المقطوع بها، مبتدعة ضلال جهال، وأحدهم يحتج على ذلك، فإذا قيل له: هذه شجرة، قال إن شاء الله أن يقلبها حيوانًا فعل. فيقال له: هي الآن شجرة قطعًا، وإما إذا قلت: قد انتقلت كما أن الإنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم لحما، ثم يحيى فبعد نفخ الروح فيه حي قطعًا، وإذا شاء الله أن يميته أماته، فالله إذا كان قادرًا على تحويل الخلق من حال إلي حال لم يمنع ذلك أن يكونوا في كل وقت على الحال التي خلقهم عليها. فالسماء سماء بمشيئة الله وقدرته وخلقه، والإنسان إنسان بمشيئة الله وقدرته وخلقه، والفرس فرس بمشيئة الله وقدرته وخلقه، وإذا شاء الله أن يغير ما شاء غيره بمشيئته إن شاء وقدرته وخلقه.
ولم يجئ في الكتاب والسنة استثناء في الماضي، بل في المستقبل كقوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله} [1] وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ الله} [2]، وقول النبي ﷺ: « وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»، وقوله: «إن سليمان قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل امرأة بفارس يقاتل في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل. فلم تلد منهن إلا امرأة جاءت بشق ولد». قال: «فلو قال: إن شاء الله لقاتلوا في سبيل الله فرسانًا أجمعين»، وقال ﷺ: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك»، لأن الحالف يحلف على مستقبل ليفعلن هو أوغيره كذا، أو لا يفعل هو أو غيره كذا فيقول: إن شاء الله لأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإن وقع الفعل كان الله شاءه، فلا حنث عليه، وإن لم يقع لم يكن الله شاءه فلا حنث عليه؛ لأنه إنما التزمه إن أشاء الله، فإذا لم يشأه الله لم يكن قد التزمه فلا يحنث.
والاستثناء في الإيمان مأثور عن ابن مسعود وغيره من السلف والأئمة لا شكا فيما يجب عليهم الإيمان به، فإن الشك في ذلك كفر. ولكنهم استثنوا في الإيمان خوفًا ألا يكونوا قاموا بواجباته وحقائقه، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [3] قال النبي ﷺ: «هوالرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يتقبل منه».
هامش