→ سئل عن جماعة اختلفوا في قضاء الله وقدره | مجموع فتاوى ابن تيمية سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين ابن تيمية |
سئل عن الباري سبحانه هل يضل ويهدي ← |
سئل عن حديث: إن الله قبض قبضتين
سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس عن الحديث الذي ورد: «إن الله قبض قبضتين، فقال: هذه للجنة ولا أبالي، وهذه للنار ولا أبالي» فهل هذا الحديث صحيح؟ والله قبضها بنفسه، أو أمر أحدا من الملائكة بقبضها؟ والحديث الآخر في: «أن الله لما خلق آدم أراه ذريته عن اليمين والشمال، ثم قال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي، وهؤلاء إلى الجنة ولا أبالي» وهذا في الصحيح.
فأجاب رضي الله عنه:
نعم، هذا المعنى مشهور عن النبي ﷺ من وجوه متعددة، مثل ما في موطأ مالك، وسنن أبي داود والنسائي، وغيره عن مسلم بن يَسَار، وفي لفظ عن نعيم بن ربيعة، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} الآية [1] فقال عمر: عن رسول الله ﷺ، وفي لفظ: سمعت رسول الله ﷺ سئل عنها؛ فقال رسول الله ﷺ: «إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون»، فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله ﷺ: «إن الله إذا خلق الرجل للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار».
وفي حديث الحَكَم بن سفيان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «إن الله قبض قبضة فقال: إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: إلى النار ولا أبالي». وهذا الحديث ونحوه فيه فصلان:
أحدهما: القدر السابق، وهو أن الله سبحانه علم أهل الجنة من أهل النار من قبل أن يعملوا الأعمال، وهذا حق يجب الإيمان به، بل قد نص الأئمة؛ كمالك والشافعي وأحمد: أن من جحد هذا فقد كفر، بل يجب الإيمان أن الله علم ما سيكون كله قبل أن يكون، ويجب الإيمان بما أخبر به من أنه كتب ذلك، وأخبر به قبل أن يكون، كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال: «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وفي صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين، عن النبي ﷺ أنه قال: «كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض وفي لفظ: ثم خلق السموات والأرض».
وفي المسند عن العِرْبَاض بن سَارِية عن النبي ﷺ أنه قال: «إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام»، وفي حديث ميسرة الفجر: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبيًا؟ وفي لفظ: متى كنت نبيًا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد».
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يومًا نُطْفَةً، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَةً مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " قال: "فوالذي نفسي بيده أو قال: فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار».
وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله ﷺ بِبَقِيع الغَرْقَدِ في جنازة، فقال: «ما منكم أحد إلا قد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة». فقالوا: يا رسول الله، أفلا نَتِّكِل على الكتاب ونَدَع العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [2].
وفي الصحيح أيضا أنه قيل له: يا رسول الله، أعْلم أهل الجنة من أهل النار، فقال: «نعم»، فقيل له: ففيم العمل؟ قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، فبين النبي ﷺ أن الله علم أهل الجنة من أهل النار، وأنه كتب ذلك ونهاهم أن يتكلوا على هذا الكتاب، ويدعوا العمل كما يفعله الملحدون. وقال: « كل ميسر لما خلق له»، وأن أهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة، وهذا من أحسن ما يكون من البيان.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى يعلم الأمور على ما هي عليه، وهو قد جعل للأشياء أسبابًا تكون بها، فيعلم أنها تكون بتلك الأسباب، كما يعلم أن هذا يولد له بأن يطأ امرأة فيحبلها، فلو قال هذا: إذا علم الله أنه يولد لي، فلا حاجة إلى الوطء كان أحمق؛ لأن الله علم أن سيكون بما يقدره من الوطء، وكذلك إذا علم أنه هذا ينبت له الزرع بما يسقيه من الماء ويبذره من الحب، فلو قال: إذا علم أن سيكون فلا حاجة إلى البذر، كان جاهلا ضالا؛ لأن الله علم أن سيكون بذلك، وكذلك إذا علم الله أن هذا يشبع بالأكل، وهذا يروي بالشرب، وهذا يموت بالقتل، فلابد من الأسباب التي علم الله أن هذه الأمور تكون بها.
وكذلك إذا علم أن هذا يكون سعيدًا في الآخرة، وهذا شقيًا في الآخرة، قلنا ذلك؛ لأنه يعمل بعمل الأشقياء، فالله علم أنه يشقى بهذا العمل، فلو قيل: هو شقي، وإن لم يعمل كان باطلا؛لأن الله لا يدخل النار أحدًا إلا بذنبه، كما قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [3]، فأقسم أنه يملؤها من إبليس وأتباعه، ومن اتبع إبليس فقد عصى الله تعالى ولا يعاقب الله العبد على ما علم أنه يعمله حتى يعمله.
ولهذا لما سئل النبي ﷺ عن أطفال المشركين، قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» يعنى: أن الله يعلم ما يعملون لو بلغوا، وقد روى أنهم في القيامة يبعث إليهم رسول، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، فيظهر ما علمه فيهم من الطاعة والمعصية.
وكذلك الجنة، خلقها الله لأهل الإيمان به وطاعته، فمن قدر أن يكون منهم يسره للإيمان والطاعة، فمن قال: أنا أدخل الجنة، سواء كنت مؤمنًا أو كافرًا، إذا علم أني من أهلها، كان مفتريًا على الله في ذلك، فإن الله إنما علم أنه يدخلها بالإيمان، فإذا لم يكن معه إيمان، لم يكن هذا هو الذي علم الله أنه يدخل الجنة، بل من لم يكن مؤمنًا بل كافرًا، فإن الله يعلم أنه من أهل النار، لا من أهل الجنة.
ولهذا أمر الناس بالدعاء والاستعانة بالله وغير ذلك من الأسباب. ومن قال: أنا لا أدعو ولا أسأل اتكالا على القدر، كان مخطئًا أيضا لأن الله جعل الدعاء والسؤال من الأسباب التي ينال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره ورزقه. وإذا قدر للعبد خيرًا يناله بالدعاء لم يحصل بدون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات.
ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قَدْح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيًا في حصول النبات، بل لابد من ريح مُرْبِيَة بإذن الله، ولابد من صرف الانتفاء عنه، فلابد من تمام الشروط، وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم من أنزل ولم يولد له، بل لابد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم، وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع.
وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي سبب؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل» وقد قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [4]، فهذه باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي ﷺ باء المقابلة، كما يقال: اشتريت هذا بهذا، أي ليس العمل عوضًا وثمنًا كافيا في دخول الجنة، بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات.
وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس:
فريق آمنوا بالقدر، وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود، فأعرضوا عن الأسباب الشرعية، والأعمال الصالحة، وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه.
وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله، كما يطلبه الأجير من المستأجر، مُتَّكِلِين على حَوْلِهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال، فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم، وهو سبحانه كما قال: «ياعبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني»، فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم، فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤوا فلها، لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [5].
وفي الحديث الصحيح عن الله تعالى أنه قال: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تَظَّالموا، يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، كلكم ضال إلا ما هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ياعبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك في ملكي شىئًا، إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط غمسة واحدة، يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوَفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
وهو سبحانه مع غناه عن العالمين، خلقهم وأرسل إليهم رسولا يبين لهم ما يسعدهم وما يشقيهم، ثم إنه هدى عباده المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فمَنَّ عليهم بالإيمان والعمل الصالح فخلقه بفضله، وإرساله الرسول بفضله، وهدايته لهم بفضله، وجميع ما ينالون به الخيرات من قواهم وغير قواهم هي بفضله، فكذلك الثواب والجزاء هو بفضله، وإن كان أوجب ذلك على نفسه، كما حرم على نفسه الظلم، ووعد بذلك كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [6]، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [7]، فهو واقع لا محاله واجب بحكم إيجابه ووعده؛ لأن الخلق لا يوجبون على الله شىئًا أو يحرمون عليه شيئًا، بل هم أعجز من ذلك وأقل من ذلك، وكل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، كما في الحديث المتقدم: «إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».
وفي الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة»، فقوله: «أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي»، اعتراف بإنعام الرب وذنب العبد، كما قال بعض السلف: إني أصبح بين نعمة تنزل من الله عليَّ وبين ذنب يصعد مني إلى الله، فأريد أن أحدث للنعمة شكرًا، وللذنب استغفارًا.
فمن أعرض عن الأمر والنهي والوعد والوعيد ناظرًا إلى القدر، فقد ضل، ومن طلب القيام بالأمر والنهي معرضًا عن القدر، فقد ضل، بل المؤمن كما قال تعالي: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [8]، فنعبده اتباعًا للأمر، ونستعينه إيمانًا بالقدر، وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
فأمره النبي ﷺ بشيئين: أن يحرص على ما ينفعه، وهو امتثال الأمر، وهو العبادة، وهو طاعة الله ورسوله، وأن يستعين بالله، وهو يتضمن الإيمان بالقدر: أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فمن ظن أنه يطيع الله بلا معونته، كما يزعم القدرية والمجوسية، فقد جحد قدرة الله التامة ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شيء، ومن ظن أنه إذا أعين على ما يريد، ويسر له ذلك كان محمودًا، سواء وافق الأمر الشرعي أو خالفه، فقد جحد دين الله وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده، واستحق من غضبه وعقابه أعظم ما يستحقه الأول.
فإن العبد قد يريد ما يرضاه ويحبه ويأمر به ويقرب إليه، وقد يريد ما يبغضه الله ويكرهه ويسخطه، وينهى عنه ويعذب صاحبه، فكل من هذين قد يسر له ذلك، كما قال النبي ﷺ، «كل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة»، وقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [9]، وقال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. كَلَّا} [10].
بين سبحانه أنه ليس كل من ابتلاه في الدنيا يكون قد أهانه، بل هو يبتلى عبده بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، فالمؤمن يكون صبارًا شكورًا، فيكون هذا وهذا خيرًا له، كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له». والمنافق هَلُوعٌ جَزُوعٌ، كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} إلى قوله: {جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}[11].
ولما كان العبد ميسرًا لما لا ينفعه، بل يضره من معصية الله والبَطَر والطغيان، وقد يقصد عبادة الله وطاعته والعمل الصالح فلا يتأتى له ذلك؛ أمر في كل صلاة بأن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [12]، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «يقول الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدى ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [13] قال: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [14] قال: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [15] قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [16] قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل». وقال بعض السلف: أنزل الله عز وجل مائة كتاب، وأربعة كتب، جمع علمها في الكتب الأربعة: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وجمع الأربعة في القرآن، وعلم القرآن في المفصل، وعلم المفصل في الفاتحة، وعلم الفاتحة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فكل عمل يعمله العبد، ولا يكون طاعة لله وعبادة، وعملا صالحا فهو باطل، فإن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله، وإن نال بذلك العمل رئاسة ومالا، فغاية المترئس أن يكون كفرعون، وغاية المتمول أن يكون كقارون، وقد ذكر الله في سورة القصص من قصة فرعون وقارون ما فيه عبرة لأولى الألباب، وكل عمل لا يعين الله العبد عليه، فإنه لا يكون ولا ينفع، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع ولا يدوم، فلذلك أمر العبد أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [17].
والعبد له في المقدور حالان: حال قبل القدر وحال بعده، فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنبًا استغفر إليه من ذلك.
وله في المأمور حالان: حال قبل الفعل وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [18]، أمره أن يصبر على المصائب المقدرة ويستغفر من الذنب، وإن كان استغفار كل عبد بحسبه، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[19]، وقال يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [20]، فذكر الصبر على المصائب والتقوى بترك المعائب، وقال النبي ﷺ: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان».
فأمره إذا أصابته المصائب أن ينظر إلى القدر، ولا يتحسر على الماضي، بل يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وإن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالنظر إلى القدر عند المصائب، والاستغفار عند المعائب، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ. لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [21]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [22]، قال عَلْقَمَة وغيره: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الليل: 5-10]
- ↑ [ص: 58]
- ↑ [النحل: 32]
- ↑ [فصلت: 46]
- ↑ [الأنعام: 54]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [الإسراء: 18-20]
- ↑ [الفجر: 15-17]
- ↑ [المعارج: 19- 35]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [الفاتحة: 2]
- ↑ [الفاتحة: 3]
- ↑ [الفاتحة: 4]
- ↑ [الفاتحة: 6، 7]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [غافر: 55]
- ↑ [آل عمران: 186]
- ↑ [يوسف: 90]
- ↑ [الحديد: 22، 23]
- ↑ [التغابن: 11]