→ تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور | مجموع الفتاوى وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان ابن تيمية |
من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان ← |
وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان
وأهل الجاهلية فيها نوعان: نوع يكذب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله.
فالأول يقول: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة، فمن رأى ذلك وعاينه موجودا أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجودا في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه، كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك، والعارفين به بالأخبار الصادقة.
ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك، خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدى فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله؛ لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [1].
فيرون من هو من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين.
فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلى، بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل، ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين.
ومنهم من يبقى حائرا مترددا شاكا مرتابا يقدم إلى الكفر رِجْلا وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.
وسبب ذلك: أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك. قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [2].
وهؤلاء لا بد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه ﷺ. وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم، وهى دلالة وعلامة على ذلك.
والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه، وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلا على الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلا عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلا عليه.
وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم، لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق.
وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين.
والمقتصدون قد يستعملونها في المباحات.
وأما من استعان بها في المعاصي فهو ظالم لنفسه، مُتَعَدٍّ حد ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى. فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها في طاعة الشيطان، فهذا المال، وإن ناله بسبب عمل صالح، فإذا أنفقه في طاعة الشيطان كان وبالا عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهى تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان؟
ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام. ولبسط هذه الأمور موضع آخر.