→ آثار عن السلف أكثرها ضعيفة | مجموع الفتاوى سؤال الأمة له الوسيلة ابن تيمية |
من قال من العلماء إن قول الصحابي حجة ← |
سؤال الأمة له الوسيلة
وسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاء له وهو معنى الشفاعة؛ ولهذا كان الجزاء من جنس العمل، فمن صلى عليه صلى عليه الله، ومن سأل الله له الوسيلة المتضمنة لشفاعته شفع له ﷺ، كذلك الأعمى سأل منه الشفاعة فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة وهو كالشفاعة في الشفاعة؛ فلهذا قال: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه).
وذلك أن قبول دعاء النبي ﷺ في مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه؛ ولهذا عد هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق؛ ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول: (فشفعه في وشفعني فيه) بخلاف قوله: (وشفعني في نفسي) فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من هذا الطريق الغريب.
وقوله: (وشفعني فيه) رواه عن شعبة رجلان جليلان: عثمان بن عمر، وروح بن عبادة. وشعبة أجل من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر عن شعبة رواه الثلاثة: الترمذي والنسائي وابن ماجه.
رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عثمان بن عمر عن شعبة ورواه ابن ماجه عن أحمد بن سيار عن عثمان بن عمر، وقد رواه أحمد في المسند عن روح بن عبادة عن شعبة، فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث. مع أن قوله: (وشفعني في نفسي) إن كان محفوظًا مثل ما ذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعًا لنفسه مع دعاء النبي ﷺ ولو لم يدع له النبي ﷺ كان سائلا مجردًا كسائر السائلين.
ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرا فيكون أحدهما شفيعا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره.
فهذه الزيادة فيها عدة علل: انفراد هذا بها عمن هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له عن روح هذا أحاديث منكرة.
ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة، فلا حاجة فيها؛ إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه.
ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه مع أن النبي ﷺ لم يدع له كان هذا كلاما باطلا، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي ﷺ شيئا، ولا أن يقول: فشفعه في، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي ﷺ شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: (فشفعه في) لكان كلاما لا معنى له؛ ولهذا لم يأمر به عثمان.
والدعاء المأثور عن النبي ﷺ لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثورا عن النبي ﷺ.
ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه وكان ما يثبت عن النبي ﷺ يخالفه لا يوافقه لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب رده إلى الله والرسول.
ولهذا نظائر كثيرة: مثل ما كان ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء، ويأخذ لأذنيه ماءً جديدا، وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء، ويقول: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وروى عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول: هو موضع الغل. فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعا لهما فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضؤون هكذا.
والوضوء الثابت عنه ﷺ الذي في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء جديد للأذنين، ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين، ولا مسح العنق، ولا قال النبي ﷺ: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل. بل هذا من كلام أبي هريرة جاء مدرجًا في بعض الأحاديث، وإنما قال النبي ﷺ: (إنكم تأتون يوم القيامة غرا مُحَجَّلِين من آثار الوضوء)، وكان ﷺ يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق، قال أبو هريرة: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة، وهذا لا معنى له، فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل، وإنما في اليد والرجل الحِجْلة، والغرة لا يمكن إطالتها، فإن الوجه يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة في الرأس، والحجلة لا يستحب إطالتها، وإطالتها مثلة.
وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي ﷺ، وينزل مواضع منزله ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ، ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها، ونحو ذلك مما استحبه طائفه من العلماء ورأوه مستحبا، ولم يستحب ذلك جمهور العلماء، كما لم يستحبه، ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود ومعاذ ابن جبل وغيرهم، لم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر. ولو رأوه مستحبًا لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والاقتداء به.
وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا فعل فعلا على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك، كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة، وأن يستلم الحجر الأسود، وأن يصلى خلف المقام، وكان يتحرى الصلاة عند أسطوانة مسجد المدينة، وقصد الصعود على الصفا والمروة، والدعاء والذكر هناك، وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما.
وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصدًا لتخصيصه به بالصلاة والنزول فيه فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه، أو النزول لم نكن متبعين، بل هذا من البدع التي كان ينهى عنها عمر بن الخطاب، كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمى عن المعرور بن سويد، قال: كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون: صلى فيه النبي ﷺ، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبِيَعًا، فمن عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض.
فلما كان النبي ﷺ لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله، رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غيره موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبه بالنبي ﷺ في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب.
وهذا هو الأصل، فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل؛ ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة: هل فعلها استحبابا أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها، وكذلك نزوله بالمُحَصَّب عند الخروج من منى لما اشتبه: هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة؟ تنازعوا في ذلك. ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي ﷺ، وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة، فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي ﷺ شرعه لأمته، لم يمكن أن يقال: هذا سنة مستحبة، بل غايته أن يقال: هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله؛ لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي ﷺ لأمته، أو يقال في التعريف: إنه لا بأس به أحيانا لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة.
وهكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله، تارة يكرهونه، وتارة يسوغون فيه الاجتهاد، وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة، ولا يقول عالم بالسنة: إن هذه سنة مشروعة للمسلمين.
فإن ذلك إنما يقال فيما شرعه رسول الله ﷺ، إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع، وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه، ولا يكون في الدين واجبا إلا ما أوجبه، ولا حرامًا إلا ما حرمه، ولا مستحبا إلا ما استحبه، ولا مكروها إلا ما كرهه، ولا مباحا إلا ما أباحه.
وهكذا في الإباحات، كما استباح أبو طلحة أكل البرد وهو صائم، واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل: هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع. وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك، فوجب الرد إلى الكتاب والسنة.
وكذلك الكراهة والتحريم. مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت، وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع، أو التمتع مطلقًا، أو رأى تقدير مسافة القصر بحد حده، وأنه لا يقصر بدون ذلك، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر.
ومن ذلك قول سلمان: إن الريق نجس، وقول ابن عمر: إن الكتابية لا يجوز نكاحها، وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر، ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم، وقول على وزيد وابن عمر في المفوِّضة: إنه لا مهر لها إذا مات الزوج، وقول على وابن عباس في المتوفى عنها الحامل: إنها تعتد أبعدَ الأجلين، وقول ابن عمر وغيره: إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال.
وقول ابن عمر وغيره: لا يجوز الاشتراط في الحج، وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها: ليس عليها لزوم المنزل، وقول عمر وابن مسعود: إن المبتوتة لها السكنى والنفقة. وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثيرة فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله ﷺ.