→ فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم | مجموع الفتاوى قاعدة جليلة في توحيد الله ابن تيمية |
فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره ← |
قاعدة جليلة في توحيد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليما.
وبعد: فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى: {قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} الآية [1]، وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [2]، وقال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [3]، وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهٌِ} [4]، وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [5]، وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [6]، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [7]، وقال تعالى: {يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [8]، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [9]، وقال تعالى: {ٍقُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} الآية [10]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ الله لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [11]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [12]، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [13]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الآية [14]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} الآية [15]. ونظائر هذا في القرآن كثير، وكذلك في الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولاسيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع.
ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة:
وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جَلْب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرَّة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلا بد له من أمرين:
- أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به.
- والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء:
- أحدها: أمر محبوب مطلوب الوجود.
- الثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم.
- والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب.
- والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه.
فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر.
إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [16] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول: من معنى الألوهية. والثاني: من معنى الربوبية؛ إذ الإله: هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكرامًا. والرب: هو الذي يربي عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها.
وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [17]، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِِ} [18]، وقوله: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [19]، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [20]، وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [21]، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [22].
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين.
الوجه الثإني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به. وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى.
ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله، رأس الأمر.
فأما توحيد الربوبية الذي أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفي وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: (يابن آدم، خلقت كل شيء لك، وخلقتك لي، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له).
واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما في الحديث الصحيح، الذي رواه معاذ عن النبي ﷺ أنه قال: "أتدري ما حق الله على عباده؟" قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حقهم ألا يعذبهم)
وهو يحب ذلك، ويرضي به، ويرضي عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع.
فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة في الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التلذاذ أكل الطعام المسموم، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [23]، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقّا؛ إذ الله لا سَمِيَّ له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية.
وأما من جهة الربوبية فشيء آخر؛ كما نقرره في موضعه.
واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة.
فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه.
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك.
وأما إلهه فلا بد له منه في كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل ﷺ: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [24]. وكان أعظم آية في القرآن الكريم: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [25]، وقد بسطت الكلام في معنى القيوم في موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقى الذي لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه.
واعلم أن هذا الوجه مبنى على أصلين:
أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ} الآية [26]، وقال ﷺ لعائشة: (أجرك على قدر نصبك) فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر في موضعه.
ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: أنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي، كقوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [27]، {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [28]، {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [29] أي: وإن وقع في الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفًا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدًا. قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [30] فهذا أصل.
الأصل الثإني: النعيم في الدار الآخرة أيضا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما في الدعاء المأثور: (اللهم إني أسألك لذة النَّظرِ إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة). رواه النسائي، وغيره. وفي صحيح مسلم وغيره، عن صهيب عن النبي ﷺ قال: (إذا دخل أهل الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنْا من النار؟ قال فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه سبحانه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه)، وهو الزيادة.
فبين النبي ﷺ: أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره. فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم. وروى أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وفي الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى في حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ } [31]. فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه تعالى.
وهذان الأصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة؛ وبالذوق والوجد أخرى إذا أنكر اللذة فإن ذوقها ووجدها ينفي إنكارها. وقد يحتجون بالقياس في الأمثال تارة؛ وهى الأقيسة العقلية.
الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول.
فهذا الوجه يقتضي: التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه. ويقتضي أيضا: محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه في هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا في الوجه الأول. ونظيره في الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه.
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه.
الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته، ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبًا تامًا بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه، أو يفارقه. وفي الأثر المأثور: (أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان) (واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلا بد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته. يقول: أنا كنزك، أنا مالك.
وكذلك نظائر هذا في الحديث: (يقول الله يوم القيامة: يابن آدم، أليس عدلا مني أن أولى كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟). وأصل التَّولِّىالحب؛ فكل من أحب شيئا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، فمن أحب شيئا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء. وكل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفي الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي ﷺ أنه قال: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه). رواه الترمذي، وغيره.
الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل. وقد قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [32].
وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق، فلما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [33] كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته. وكان في عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه، مضرته وهلاكه وفساده.
الوجه السادس: أن الله سبحانه غني، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله. فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك.
وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء أو الثناء فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجَرَاءُ الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِمَ وأدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك في الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه. وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا.
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته؛ فقد دعوت مَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ.
والرب سبحانه يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة. فتدير هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تَخَفْهُمْ فَلا تَرْجُهُمْ، وخَف الله في الناس ولا تخف الناس في الله، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله، وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [34] وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} [35].
الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها.
الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لِغَرَضٍ لهم في ذلك.
الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تُعَلِّقْ بهم رجاءك.
قال الله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [36]. والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [37]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا } [38]، وقال الخليل عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية [39]. وقال النبي ﷺ: (هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم): بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم؟
هامش
- ↑ [آل عمران: 26]
- ↑ [النحل: 53]
- ↑ [الأنعام: 17]
- ↑ [يونس: 107]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [هود: 88]
- ↑ [التغابن: 1]
- ↑ [محمد: 19]
- ↑ [الزمر: 38]
- ↑ [سبأ: 22، 23]
- ↑ [الإسراء: 56، 57]
- ↑ [القصص: 88]
- ↑ [الفرقان: 58: 59]
- ↑ [البينة: 5]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [هود: 88]
- ↑ [هود: 123]
- ↑ [الممتحنة: 4]
- ↑ [الفرقان: 58]
- ↑ [الرعد: 30]
- ↑ [المزمل: 8، 9]
- ↑ [الأنبياء: 22]
- ↑ [الأنعام: 76]
- ↑ [البقرة: 255]
- ↑ [التوبة: 120]
- ↑ [البقرة: 286]
- ↑ [النساء: 84]
- ↑ [الطلاق: 7]
- ↑ [مريم: 65]
- ↑ [المطففين: 15، 16]
- ↑ [مريم: 81: 82]
- ↑ [الفاتحة: 5]
- ↑ [الليل: 17-20]
- ↑ [الإنسان: 9]
- ↑ [الملك: 20-21]
- ↑ [قريش: 3، 4]
- ↑ [القصص: 57]
- ↑ [البقرة: 126]