→ السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين | مجموع الفتاوى الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل ابن تيمية |
لفظ التوسل والاستشفاع ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه ← |
الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل
ويعلم أن الحديث الذي يروى (أول ما خلق الله العقل) حديث باطل عن النبي ﷺ مع أنه لو كان حقا لكان حجة عليهم، فإن لفظه (أول ما خلق الله العقل) بنصب الأول على الظرفية (فقال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر. فقال: وعزتى ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، فبك آخذ، وبك أعطى، وبك الثواب وبك العقاب) وروى (لما خلق الله العقل) فالحديث لو كان ثابتًا كان معناه أنه خاطب العقل في أول أوقات خلقه، وأنه خلق قبل غيره، وأنه تحصل به هذه الأمور الأربعة لا كل المصنوعات.
والعقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقل عقلا، يراد به القوة التي بها يعقل، وعلوم وأعمال تحصل بذلك، لا يراد بها قط في لغة: جوهر قائم بنفسه، فلا يمكن أن يراد هذا المعنى بلفظ العقل. مع أنا قد بينا في مواضع أخر فساد ما ذكروه من جهة العقل الصريح، وأن ما ذكروه من المجردات والمفارقات ينتهى أمرهم فيه إلى إثبات النفس التي تفارق البدن بالموت، وإلى إثبات ما تجرده النفس من المعقولات القائمة بها؛ فهذا منتهى ما يثبتونه من الحق في هذا الباب.
والمقصود هنا: أن كثيرا من كلام الله ورسوله يتكلم به من يسلك مسلكهم، ويريد مرادهم لا مراد الله ورسوله، كما يوجد في كلام صاحب الكتب المضنون بها وغيره، مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول، ولفظ الملكوت والجبروت والملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضا يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدرى، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سينا، كما قد بسط في موضع آخر.
والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول ﷺ كلفظ القديم، فإنه في لغة الرسول التي جاء بها القرآن خلاف الحديث وإن كان مسبوقا بغيره، كقوله تعالى: { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } [1]، وقال تعالى عن إخوة يوسف: { تَالله إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ } [2]، وقوله تعالى: { قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } [3] وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقا بعدم نفسه، ويجعلونه إذا أريد به هذا من باب المجاز، ولفظ المحدث في لغة القرآن يقابل للفظ القديم في القرآن.
وكذلك لفظ الكلمة في القرآن والحديث وسائر لغة العرب، إنما يراد به الجملة التامة، كقوله ﷺ: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)، وقوله: (إن أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، ومنه قوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } [4]، وقوله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الآية [5]، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ الْعُلْيَا} [6]، وأمثال ذلك، ولا يوجد لفظ الكلام في لغة العرب إلا بهذا المعنى.
والنحاة اصطلحوا على أن يسموا الاسم وحده، والفعل والحرف كلمة، ثم يقول بعضهم: وقد يراد بالكلمة الكلام، فيظن من اعتاد هذا أن هذا هو لغة العرب، وكذلك لفظ ذوى الأرحام في الكتاب والسنة يراد به الأقارب من جهة الأبوين فيدخل فيهم العصبة وذوو الفروض، وإن شمل ذلك من لا يرث بفرض ولا تعصيب، ثم صار ذلك في اصطلاح الفقهاء اسما لهؤلاء دون غيرهم، فيظن من لا يعرف إلا ذلك أن هذا هو المراد بهذا اللفظ في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة، ونظائر هذا كثيرة.