الرئيسيةبحث

كتاب الرسالة/باب كيف البيان

كتاب الرسالة
باب كيف البيان
الشافعي


باب كيف البيان


قال الشافعي: والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعةِ الأصول، متشعبةِ الفروع:

فأقلُّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة: أنها بيانٌ لمن خوطب بها ممن نزل القُرَآن بلسانه، متقاربة، الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ من بعض. ومختلفةٌ عند من يجهل لسان العرب.

قال الشافعي: فجِمَاع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تَعَبَّدَهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه.

فمنها ما أبانه لخلقه نصا. مثلُ جمُل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجا وصوما وأنه حرَّم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ونصِّ الزنا [1] والخمر، وأكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فَرْضُ الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصا.

ومنه: ما أَحكم فرضه بكتابه، وبيَّن كيف هو على لسان نبيه؟ مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.

ومنه: ما سَنَّ رسول الله ﷺ مما ليس لله فيه نصُّ حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله ﷺ، والانتهاء إلى حكمه، فمَن قبل عن رسول الله فبِفَرْضِ الله قَبِل.

ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهادَ في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.

فإنه يقول تبارك وتعالى: { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين، ونبلوَ أخباركم } [2]

وقال: { وليَبْتَلِيَ الله ما في صدوركم وليمحِّص ما في قلوبكم } [3]

وقال: { عسى ربكم أن يهلكَ عدوكم، ويستخلفَكم في الأرض فينظرَ كيف تعملون؟ } [4]

قال الشافعي: فوجَّههم بالقبلة إلى المسجد الحرام، وقال لنبيه: { قد نرى تقلب وجهك في السماء، فلَنُوَلِّيَنَّك قبلة ترضاها، فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } [5]

وقال: { ومن خرجت فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، لئلا يكونَ للناس عليكم حجةٌ } [6]

فَدَلهَّم جل ثناؤه إذا غابوا عن عين المسجد الحرام على صواب الاجتهاد، مما فرَض عليهم منه، بالعقول التي رَكَّب فيهم، المميزةِ بين الأشياء، وأضدادها، والعلامات التي نَصَب لهم دون عين المسجد الحرام الذي أمرهم بالتوجه شطره.

فقال: وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } [7] وقال: { وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون } [8]

فكانت العلامات جبالا وليلا ونهارا، فيها أرواح [9] معروفة الأسماء، وإن كانت مختلفة المَهابِّ. وشمسٌ وقمر، ونجوم معروفةُ المطالع والمغارب، والمواضعِ من الفلك.

ففرض عليهم الاجتهاد بالتوجه شطر المسجد الحرام، مما دلهم عليه مما وصَفْتُ، فكانوا ما كانوا مجتهدين غيرَ مُزايِلين أمرَه جلَّ ثناؤه. ولم يجعل لهم إذا غاب عنهم عين المسجد الحرام أن يُصلُّوا حيث شاؤوا

وكذلك أخبرهم عن قضائه فقال: { أيحسب الإنسان أن يُترَك سُدى } [10] والسُّدى: الذي لا يُؤمر ولا يُنهى.

وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال بما وصفت في هذا، وفي العَدل، وفي جزاء الصيد، ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيءٌ يُحدِثه لا على مثالٍ سبق

فأمرهم أن يُشهدوا ذوَي عدل، والعدل: أن يعمل بطاعة الله، فكان لهم السبيلُ إلى علم العدل والذي يخالفه.

وقد وُضِع هذا في موضعه، وقد وضعت جملا منه رجوت أن تدل على ما وراءها مما في مثل معناها.

هامش

  1. [أي ومثل النص الوارد في الزنا والخمر. ]
  2. [محمد: 31]
  3. [آل عمران: 154]
  4. [الأعراف: 129]
  5. [البقرة: 144]
  6. [البقرة: 150]
  7. [الأنعام: 97]
  8. [النحل: 16]
  9. [ الأرواح: جمع ريح. انظر الصحاح. ]
  10. [القيامة: 36]
كتاب الرسالة
المقدمة | باب كيف البيان | باب البيان الأول | باب البيان الثاني | باب البيان الثالث | باب البيان الرابع | باب البيان الخامس | باب: بيان ما نزل من الكتاب عاما يُراد به العام | باب: بيان ما أنزل من الكتاب عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص | باب: بيان ما نزل من الكتاب عام الظاهر يراد به كله الخاص | باب: الصنف الذي يبين سياقه معناه | الصنف الذي يدل لفظه على باطنه، دون ظاهره | باب: ما نزل عاماًّ دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص | بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه | باب: ما أمر الله من طاعة رسوله | باب: ما أبان الله لخلقه من فرائض | ابتداء الناسخ والمنسوخ | الناسخ والمنسوخ الذي يدل الكتاب على بعضه والسنة على بعضه | باب: فرض الصلاة الذي دل الكتاب ثم السنة على من تزول عنه بعذر | الناسخ والمنسوخ الذي تدلُّ عليه السنة والإجماع | باب: الفرائض التي أنزل الله نصاً | الفرائض المنصوصة التي سن رسول الله معها | الفرض المنصوص الذي دلت السنة على أنه إنما أراد الخاص | جمل الفرائض | في الزكاة | (في الحج) | (في العدد) | في محرمات النساء | في محرمات الطعام | عدة الوفاة | باب العلل في الحديث | وجه آخر من الناسخ والمنسوخ | وجه آخر في الناسخ والمنسوخ | وَجه آخر | وجه آخر من الاختلاف | اختلاف الرواية على وجه غير الذي قبله | وجه آخر مما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف | وجه آخر مما يعد مختلفا | وجه آخر في الاختلاف | في غسل الجمعة | النهي عن معنى دل عليه معنى في حديث غيره | النهي عن معنى أوضح من معنى قبله | النهي عن معنى يشبه الذي قبله في شيء ويفارقه في شيء غيره | باب آخر- وجه آخر يشبه الباب قبله | وجه يشبه المعنى الذي قبله | صفة نهي الله ونهي رسوله | باب العلم | باب خبر الواحد | الحجة في تثبيت خبر الواحد | باب الإجماع | القياس | باب الاجتهاد | باب الاستحسان | باب الاختلاف | أقاويل الصحابة | منزلة الإجماع والقياس