الرئيسيةبحث

كتاب الأم/الدعوى والبينات/باب رد اليمين


باب رد اليمين


[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه: (أن رسول الله ﷺ قال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن تحلفون وتستحقون دم صاحبكم قالوا لا قال فتحلف يهود).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وأخبرنا عبد الوهاب الثقفي وابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة: (أن رسول الله ﷺ بدأ الأنصاريين فلما لم يحلفوا رد الأيمان على يهود).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وأخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن النبي ﷺ مثله.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وأخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار أن رجلا من بني ليث بن سعد أجرى فرسا فوطئ أصبع رجل من جهينة فنزى فيها فمات فقال عمر للذين ادعى عليهم تحلفون خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا وتحرجوا من الأيمان فقال للآخرين احلفوا أنتم فأبوا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقد رأى رسول الله ﷺ اليمين على الأنصاريين يستحقون بها فلما لم يحلفوا حولها على اليهود يبرءون بها ورأى عمر على الليثيين يبرءون بها فلما أبوا حولها على الجهنيين يستحقون بها فكل هذا تحويل يمين من موضع قد رئيت فيه إلى الموضع الذي يخالفه فبهذا وما أدركنا عليه أهل العلم قبلنا قلنا في رد اليمين. وقد قال الله عز وجل: {تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله} وقال الله عز وجل: {فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله} فهذا وما أدركنا عليه أهل العلم ببلدنا يحكونه عن مفتيهم وحكامهم قديما وحديثا قلنا برد اليمين فإذا كانت الدعوى دما فالسنة فيها أن يبدأ المدعون إذا كان ما تجب به القسامة وهذا مكتوب في كتاب العقول فإن حلفوا استحقوا وإن أبوا الأيمان قيل يحلف لكم المدعى عليهم فإن حلفوا برئوا ولا يحلفون ويغرمون، والقسامة في العمد والخطإ سواء يبدأ فيها المدعون، وإن كانت الدعوى غير دم وكانت الدعوى مال أحلف المدعى عليه فإن حلف برئ وإن نكل عن اليمين قيل للمدعي ليس النكول بإقرار فتأخذ منه حقك كما تأخذه بالإقرار ولا بينة فتأخذ بها حقك بغير يمين فاحلف وخذ حقك فإن أبيت أن تحلف سألناك عن إبائك فإن ذكرت أنك تأتي ببينة، أو تذكر معاملة بينك وبينه تركناك فمتى جئت بشيء تستحق به أعطيناك وإن لم تأت به حلفت فإن قلت لا أؤخر ذلك لشيء غير أني لا أحلف أبطلت يمينك فإن طلبتها بعد لم نعطك بها شيئا، وإن حلف المدعى عليه فبرئ، أو لم يحلف فنكل المدعي فأبطلنا يمينه، ثم جاء بشاهدين أخذنا له بحقه، والبينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة، وقد قيل: إن بعض أصحابنا لا يأخذ له بالشهود إذا حلف المدعى عليه ويقول قد مضى الحكم بإبطال الحق عنه فلا آخذه بعد أن بطل، ولو أبى المدعي اليمين، فأبطلت أن أعطيه بيمينه، ثم جاء بشاهد فقال أحلف معه لم أر أن يحلف لأني قد حكمت أن لا يحلف في هذا الحق، ولو ادعى عليه حقا فقلت للمدعى عليه احلف، فأبى ورد اليمين على المدعي فقلت للمدعي احلف فقال المدعى عليه، بل أنا أحلف لم أجعل ذلك له لأني قد أبطلت أن يحلف وحولت اليمين على المدعي فإن حلف استحق وإن لم يحلف أبطلت حقه بلا يمين من المدعى عليه.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولو تداعى رجلان شيئا في أيديهما، وكان كل واحد منهما يدعي كله أحلفت كل واحد منهما لصاحبه فإن حلفا معا فالشيء بينهما نصفان كما كان في أيديهما فإن حلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف قيل: للحالف إنما أحلفناك على النصف الذي في يدك فلما حلفت جعلناه لك وقطعنا دعوى المدعي عليك وأنت تدعي نصفا في يده، فأبى أن يحلف فاحلف أنه لك كما ادعيت فإن حلف فهو له وإن أبى فهو للذي في يديه، ولو كانت دار في يدي رجل فادعى آخر أنها داره يملكها بوجه من وجوه الملك وسأل يمين الذي الدار في يديه، أو سأل أن تكون اليمين بالله ما اشتريتها وما وهبت لي فإن أبى ذلك الذي الدار في يديه أحلفناه بالله كما يحلف ما لهذا المدعي يسميه باسمه في هذه الدار حق بملك ولا غيره بوجه من الوجوه من قبل أنه قد يشتريها، ثم تخرج من يديه ويتصدق بها عليه فتخرج أيضا من يديه وتوهب له ولا يقبضها فإذا أحلفناه كما وصفت فقد احتطنا له وعليه في اليمين.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وخالفنا في رد اليمين بعض الناس وقال من أين أخذتموها؟ فحكيت له ما كتبت من السنة، والأثر عن عمر وغيره مما كتبت وقلت له كيف لم تصر إلى القول بها مع ثبوت الحجج عليك فيها؟ قال فإني إنما رددتها؛ لأن النبي ﷺ قال: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر) وقاله عمر فقلت له وهذا على ما قال رسول الله ﷺ وروي عن عمر وهو على خاص فيما بيناه في كتاب الدعوى والبينات فإن كانت بينة أعطى بها المدعي، وإذا لم تكن أحلف المدعى عليه وليس فيما قال رسول الله ﷺ في اليمين على المدعى عليه أنه إن لم يحلف أخذ منه الحق قال فإني أقول هذا عام ولا أعطي مدعيا إلا ببينة ولا أبرئ مدعى عليه من يمين فإذا لم يحلف لزمه ما ادعي عليه، وإذا حلف برئ فقلت له أرأيت مولى لي وجدته قتيلا في محلة فحضرتك أنا وأهل المحلة فقالوا لك أيدعي هذا ببينة؟ فقلت لا بينة لي فقلت فاحلفوا واغرموا فقالوا لك قال النبي ﷺ: (اليمين على المدعى عليه) وهذا لا يدعي علينا قال كأنكم مدعى عليكم قلنا وقالوا فإذا حكمت بكأن وكأن مما لا يجوز عندك هي فيما كأن فيه ليس كان أفعلينا كلنا، أو على بعضنا؟ قال، بل على كلكم قلت فقالوا، فأحلف كلنا وإلا، فأنت تظلمه إذا اقتصرت بالأيمان على الخمسين وهو يدعي على مائة وأكثر وهو عندك لو ادعى درهما على مائة أحلفتهم كلهم وظلمتنا إذ أحلفتنا فلم تبرئنا، واليمين عندك موضع براءة، وإذا أعطيته بلا بينة فخرجت من جميع ما احتججت به عن النبي ﷺ وعن عمر رضي الله عنه قال هذا عن النبي ﷺ وعن عمر خاصة قلت فإن كان عن عمر خاصا فلا نبطله بالخبر عن رسول الله ﷺ وعن عمر ونمضي الخبر عن النبي ﷺ وعن عمر في غير ما جاء فيه نص خبر عن عمر؟ قال نعم قلنا ولا يختلفان عندك؟ قال لا قلنا ويدلك خصوصه حكما يخرج من جملة قوله أن جملة قوله ليست على كل شيء؟ قال نعم وقلت له فالذي احتججت به عن رسول الله ﷺ وعن عمر في نقل الأيمان عن مواضعها التي ابتدئت فيها أثبت عن النبي ﷺ من قوله: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه) والذي احتججت به عن عمر أثبت عنه من قولك في القسامة عنه فكيف جعلت الرواية الضعيفة عن عمر حجة على ما زعمت من عموم السنة التي تخالفه ومن عموم قوله الذي يخالفه وعبت علي أن قلت بسنة رسول الله ﷺ في رد اليمين واستدللت بها على أن قول النبي ﷺ: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه) خاص، فأمضيت سنته برد اليمين على ما جاءت فيه وسنته في البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه ولم يكن في قول رسول الله ﷺ: (واليمين على المدعى عليه) بيان أن النكول كالإقرار إذا لم يكن مع النكول شيء يصدقه.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وهو يخالف البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه بكثير قد كتبنا ذلك في اليمين مع الشاهد وكتاب الدعوى والبينات واكتفينا بالذي حكينا في هذا الكتاب، وقلت له فكيف تزعم أن النكول يقوم مقام الإقرار فإن ادعيت حقا على رجل كثيرا وقلت فقأ عين غلامي، أو قطع يده، أو رجله فلم يحلف قضيت عليه بالحق والجراح كلها فإن ادعيت أنه قتله قلت القياس إذا لم يحلف أن يقتل ولكن أستحسن، فأحبسه حتى يقر فيقتل، أو يحلف فيبرأ وقال صاحبك، بل أجعل عليه الدية ولا أحبسه وأحلتما جميعا في العمد وهو عندكما لا دية فيه فقال أحدكما هو حكم الخطإ وقال الآخر أحبسه وخالفتما أصل قولكما أن النكول يقوم مقام الإقرار فكيف زعمتم أنكم إن لاعنتم بين زوجين فالتعن الزوج وأبت المرأة تلتعن حبستموها ولم تحدوها، والقرآن يدل على إيجاب الحد عليها؛ لأن الله عز وجل يقول: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} فبين والله تعالى أعلم أن العذاب لازم لها إذا التعن الزوج إلا أن تشهد ونحن نقول تحد إن لم تلتعن وخالفتم أصل مذهبكم فيه فقال فكيف لم تجعلوا النكول يحق الحق للمدعي على المدعى عليه وجعلتم يمين المدعي يحقه عليه؟ فقلت له حكم الله فيمن رمى امرأة بزنا أن يأتي بأربعة شهداء، أو يحد فجعل شهود الزنا أربعة وحكم بين الزوجين أن يلتعن الزوج، ثم يبرأ من الحد ويلزم المرأة الحد إلا بأن تحلف فإن حلفت برئت وإن نكلت لزمها ما نكلت عنه وليس بنكولها فقط لزمها ولكن بنكولها مع يمينه فلما اجتمع النكول ويمين الزوج لزمها الحد، ووجدنا السنة والخبر برد اليمين فقلنا إذا لم يحلف من عليه مبتدأ اليمين رددناها على الذي يخالفه فإن حلف فاجتمع أن نكل من ادعى عليه وحلف هو أخذ حقه وإن لم يحلف لم يأخذ حقه؛ لأن النكول ليس بإقرار ولم نجد السنة ولا الأثر بالنكول فقط إقرارا ووجدنا حكم القرآن كما وصفت من أن يقام الحد على المرأة إذا نكلت وحلف الزوج لا إذا نكلت فقط اتباعا وقياسا، بل وجدتها لا يختلف الناس في أن لا حد عليها إلا ببينة تقوم، أو اعتراف وأن لو عرضت عليها اليمين فلم تلتعن لم تحد بترك اليمين، وإذا حلف الزوج قبلها، ثم لم تحلف فاجتمعت يمين الزوج المدافع عن نفسه الحد والولد الذي هو خصم يلزمه دون الأجنبي ونكولها عما ألزمها التعانه وهو يمينه حدت بالدلالة لقول الله عز وجل: {ويدرأ عنها العذاب}.