→ الباب الخامس والعشرون | شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الباب السادس والعشرون المؤلف: ابن قيم الجوزية |
الباب السابع والعشرون ← |
الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله ﷺ اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك من تحقيق القدر وإثباته وما تضمنه الحديث من الأسرار العظيمة
قد دل هذا الحديث العظيم القدر على أمور، منها أنه يستعاذ بصفات الرب كما يستغاث بذاته وكذلك يستعاذ بصفاته كما يستغاث بذاته كما في الحديث: "يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك" وكذلك قوله في الحديث الآخر: "أعوذ بعزتك أن تضلني" وكذلك استعاذته بكلمات الله التامات وبوجهه الكريم وتعظيمه وفي هذا ما يدل على أن هذه صفات ثابتة وجودية إذ لا يستعاذ بالعدم وأنها قائمة به غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بالمخلوق وهو احتجاج صحيح فإن رسول الله ﷺ لا يستعيذ بمخلوق ولا يستغيث به ولا يدل أمته على ذلك، ومنها أن العفو من صفات الفعل القائمة به وفيه رد على من زعم أن فعله عين مفعوله فإن المفعول مخلوق ولا يستعاذ به، ومنها أن بعض صفاته وأفعاله سبحانه أفضل من بعض فإن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه وهذا كما أن صفة الرحمة أفضل من صفة الغضب ولذلك كان لها الغلبة والسبق ولذلك كلامه سبحانه هو صفته ومعلوم أن كلامه الذي يثني على نفسه به ويذكر فيه أوصافه وتوحيده أفضل من كلامه الذي يذم به أعداءه ويذكر أوصافهم ولهذا كانت سورة الإخلاص أفضل من سورة تبت وكانت تعدل ثلث القرآن دونها وكانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن ولا تصغ إلى قول من غلظ حجابه أن الصفات قديمة والقديم لا يتفاضل فإن الأدلة السمعية والعقلية تبطل قوله وقد جعل سبحانه ما كان من الفضل والعطاء والخير وأهل السعادة بيده اليمنى وما كان من العدل والقبض بيده الأخرى ولهذا جعل أهل السعادة في قبضة اليمنى وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى والمقسطون على منابر من نور عن يمينه والسماوات مطويات بيمينه والأرض بالأرض ومنها أن الغضب والرضاء والعفو والعقوبة لما كانت متقابلة استعاذ بأحدهما من الآخر فلما جاء إلى الذات المقدسة التي لا ضد لها ولا مقابل قال وأعوذ بك منك فاستعاذ بصفة الرضى من صفة الغضب وبفعل العفو من فعل العقوبة وبالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه وهذا يتضمن كمال الإثبات للقدر والتوحيد بأوجز لفظ وأخصره فإن الذي يستعاذ منه من الشر وأسبابه هو واقع بقضاء الرب تعالى وقدره وهو المنفرد بخلقه وتقديره وتكوينه فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن فالمستعاذ منه إما وصفه وإما فعله وإما مفعوله الذي هو أثر فعله والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر ولا يضر إلا بإذن خالقه كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد وهو السحر: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله} فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضا وقضائه وقدره فهو المعيذ من قدره بقدره ومن ما يصدره عن مشيئة وإرادته بما يصدره عن مشيئته وإرادته والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية فهو يعيذ من إرادته بإرادته إذ الجميع خلقه وقدره وقضاء فليس هناك خلق لغيره فيعيذ منه هو بل المستعاذ منه خلق له فهو الذي يعيذ عبده من نفسه بنفسه فيعيذه مما يريده به بما يريده به فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره يستعيذ منها المستعيذ به كما يستعيذ من رجل ظلمه وقهره برجل أقوى أو نظيره فالمستعاذ منه هو الذنوب وعقوباتها والآلام وأسبابها والسبب من قضائه والمسبب من قضائه والإعاذة بقضائه فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه فلم يعذ إلا بما قدره وشاءه وذلك الاستعاذة منه وشاءها وقدر الإعاذة وشاءها فالجميع قضاؤه وقدره وموجب مشيئته فنتجت هذه الكلمة التي لو قالها غير الرسول لبادر المتكلم الجاهل إلى إنكارها وردها أنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ومخلوق من خلقك فما استعذت إلا بك ولا استعذت إلا منك وهذا نظير قوله في الحديث الآخر: "لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك" فهو الذي ينجي من نفسه بنفسه ويعيذ من نفسه بنفسه وكذلك الفرار يفر عبده منه إليه وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر وأنه لا رب غيره ولا خالق سواه ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا بل الأمر كله لله ليس لأحد سواه منه شيء كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحسنهم إليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقال جوابا لمن قال هل لنا من الأمر شيء: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} فالملك كله له والأمر كله له والحمد كله له والشفاعة كلها له والخير كله في يديه وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: {مَا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فاستعذ به منه وفر منه إليه واجعل لجاك منه إليه فالأمر كله له لا يملك أحد معه منه شيئا فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه ولا يضر سم ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته يصيب بذلك من يشاء ويصرفه عمن يشاء فأعرف الخلق به وأقواهم بتوحيده من قال في دعائه وأعوذ بك منك فليس للخلق معاذ سواه ولا مستعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره وسلطانه ثم ختم الدعاء بقوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك اعترافا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجل من أن يحصيها أحد من الخلق أو بلغ أحد حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه فهو توحيد في الأسماء والصفات والنعوت وذاك توحيد في العبودية والتأله وإفراده تعالى بالخوف والرجاء والاستعاذة وهذا مضاد الشرك وذاك مضاد التعطيل وبالله التوفيق.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي ﷺ لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله ﷺ: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه |