الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه
الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه وهو تقدير شقاوته وسعادته ورزقه وأجله وعمله وسائر ما يلقاه وذكر الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك عن عبد الله بن مسعود قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليجمع خلقا في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه وعن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ﷺ قال: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول أي رب أذكر أم أنثى
- فيكتبان ويكتب عمله وأثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص" رواه مسلم وعن عامر بن واثلة أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" فأتى رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقال له حذيفة بن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود فقال وكيف يشقى رجل بغير عمل فقال له الرجل أتعجب من ذلك فأنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب رزقه فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص" وفي لفظ آخر سمعت رسول الله ﷺ بأذني هاتين يقول: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك" قال زهير بن معاوية أحسبه قال: "الذي يخلقها فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيجعله الله ذكرا أو أنثى ثم يقول يا رب أسوي أم غير سوي فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثم يجعله الله شقيا أو
سعيدا" وفي لفظ آخر إن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله ولبضع وأربعين ليلة ثم ذكر نحوه وهذا الحديث بطرقه انفرد به مسلم وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ: "إن الله عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة وإذا أراد أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه" متفق عليه وقال ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن سعيد بن عبد الرحمن بن هنيدة حدثهم أن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ: "إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام معها يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله بأمره ثم يقول يا رب شقي أم سعيد فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها" قال ابن وهب وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن بكر بن سوادة الجدمي عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن النبي ﷺ قال: "إذا دخلت يعني النطفة في الرحم أربعين أتى ملك النفس فعرج إلى الرب فقال يا رب عبدك أذكر أو أنثى فيقضي الله بما هو قاض أشقي أم سعيد فيكتب ما هو كائن وذكر بقية الحديث وقال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى عن هلال عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الله تعالى أخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره ثم تدفع إلى
الملك فيسأل الملك عند ذلك فيقول يا رب أسقط أم يتم فيبين له ثم يقول يا رب أواحد أم توأم فيبين له ثم يقول له أقطع رزقه مع خلقه فيقضيهما جميعا فوالذي نفس محمد بيده لا ينال إلا ما قسم له يومئذ إذا أكل رزقه قبض" وقال عبد الله بن أحمد أنا العلاء ثنا أبو الأشعث ثنا أبو عامر عن الزبير بن عبد الله حدثني جعفر بن مصعب قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن عائشة عن النبي ﷺ قال: "إن الله سبحانه حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا فيقول ما خلقه ما خلائقه فيقول - كذا وكذا فما شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم" وفي المسند من حديث إسماعيل بن عبيد الله وهو ابن أبي المهاجر أن أم الدرداء حدثته عن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال: "فرغ الله عز وجل إلى كل عبد من خمس من أجله ورزقه ومضجعه وأثره وشقي أم سعيد" وقال ابن حميد ثنا يعقوب بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إذا وقعت النطفة في الرحم تلبث أربعة أشهر وعشرا ثم تنفخ فيها الروح ثم تلبث أربعين ليلة ثم يبعث إليها ملك فنقفها في نقرة القفا وكتب شقيا أو سعيدا" وروى ابن أبي خيثمة ثنا عبد الرحمن بن المبارك ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "
السعيد من سعد في بطن أمه" رواه أبو داود في القدر عن عبد الرحمن عن حماد عن هشام بن حسان عن محمد به وقال أحمد بن عبد أنبأنا علي بن عبد الله بن ميسر ثنا عبد الحميد بن بيان ثنا خالد بن عبد الله عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه" وقال سعيد عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: "الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره" وقال شعبة عن مخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال: "إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها فاتبعوا ولا تبتدعوا فإن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وأن شر الروايا روايا الكذب وشر الأمور محدثاتها وكل ما هو آت قريب" رواهن أبو داود في القدر وذكر الطبري من رواية أبي إسحاق عن أبي عبدة عنه أنه كان يجيء كل يوم خميس يقوم قائما لا يجلس فيقول إنما هما اثنتان فأحسن الهدى هدى محمد وأصدق الحديث كتاب الله وشر الأمور محدثاتها وكل محدث ضلالة إن الشقي من شقي في بطن أمه وأن السعيد من وعظ بغيره ألا فلا يطولن عليكم الأمد ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب وإنما البعيد ما ليس آتيا وأن من شرار الناس بطال النهار جيفة الليل وأن قتل المؤمن كفر وإن سبابه فسوق ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ألا إن شر الروايا روايا الكذب وأنه لا يصلح من الكذب جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل صفيه ثم لا ينجزه ألا وأن الكذب يهدى إلى الفجور وأن الفجور يهدي إلى النار وأن الصدق يهدي إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة وأن الصادق يقال له صدق وبر وأن الكاذب يقال له كذب وفجر وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "أن العبد ليصدق فيكتب عند الله صديقا وأنه ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا ألا هل تدرون ما العضة هي النميمة التي تفسد بين الناس" وهذا متواتر عن عبد الله وبلغ معاوية أن الوباء اشتد بأهل دار فقال لو حولناهم عن مكانهم فقال له أبو الدرداء: كيف لك يا معاوية بأنفس قد حضرت آجالها فكأن معاوية وجد على أبي الدرداء فقال له كعب يا معاوية لا تجد على أخيك فإن الله سبحانه لم يدع نفسا حين تستقر نطفتها في الرحم أربعين ليلة إلا كتب خلقها وخلقها وأجلها ورزقها ثم لكل نفس ورقة خضراء معلقة بالعرش فإذا دنا أجلها خلقت تلك الورقة حتى تيبس ثم تسقط فإذا يبست سقطت تلك النفس وانقطع أجلها ورزقها ذكره أبو داود عن محمود بن خالد ثنا مروان ثنا معاوية بن سلام حدثني أخي زيد بن سلام عن جده ابن سلام قال بلغ معاوية فذكره وقال أبو داود ثنا واصل بن عبد الأعلى ثنا ابن فضيل عن الحسن بن عمرو الفقيمي عن الحكم عن مجاهد في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي
- عُنُقِهِ} قال ما من مولود يولد إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد وفي الصحيحين عن أبي بن كعب قال قال رسول الله ﷺ أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "توفي صبي من الأنصار فقلت طوبى له عصفور من
عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم" ولا يناقض هذا حديث سمرة بن جندب الذي
رواه البخاري في صحيحه من رؤيا النبي ﷺ أطفال المشركين حول إبراهيم الخليل في الروضة فإن الأطفال منقسمون إلى شقي وسعيد كالبالغين فالذي رآه
حول إبراهيم السعداء من أطفال المسلمين والمشركين وأنكر على عائشة شهادتها للطفل المعين أنه عصفور من عصافير الجنة فاجتمعت هذه الأحاديث والآثار على تقدير رزق
العبد وأجله وشقاوته وسعادته وهو في بطن أمه واختلفت في وقت هذا التقدير وهذا تقدير بعد التقدير الأول السابق على خلق السماوات والأرض وبعد التقدير الذي وقع يوم
استخراج الذرية بعد خلق أبيهم آدم ففي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير يقع بعد مائة وعشرين يوما من حصول النطفة في الرحم وحديث أنس غير مؤقت وأما حديث حذيفة بن
أسيد فقد وقت فيه التقدير بأربعين يوما وفي لفظ بأربعين ليلة وفي لفظ ثنتين وأربعين ليلة وفي لفظ بثلاث وأربعين ليلة وهو حديث تفرد به مسلم ولم يروه البخاري وكثير من
الناس يظن التعارض بين الحديثين ولا تعارض بينهما بحمد الله وأن الملك الموكل بالنطفة يكتب ما يقدره الله سبحانه على رأس الأربعين الأولى حتى يأخذ في الطور الثاني وهو
العلقة وأما الملك الذي ينفخ فيه فإنما ينفخها بعد الأربعين الثالثة فيؤمر عند نفخ الروح فيه بكتي رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته وهذا تقدير آخر غير التقدير الذي كتبه
الملك الموكل بالنطفة ولهذا قال في حديث ابن مسعود ثم يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات وأما الملك الموكل بالنطفة فذاك راتب معها ينقلها بإذن الله من حال إلى حال فيقدر
الله سبحانه شأن النطفة حتى تأخذ في مبدأ التخليق وهو العلق ويقدر شأن الروح حين تتعلق بالجسد بعد مائة وعشرين يوما فهو تقدير بعد تقدير فاتفقت أحاديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصدق بعضها بعضا ودلت كلها على إثبات القدر السابق ومراتب التقدير وما يؤتى أحد إلا من غلط الفهم أو غلط في الرواية ومتى صحت الرواية وفهمت كما
ينبغي تبين أن الأمر كله من مشكاة واحدة صادقة متضمنة لنفس الحق وبالله التوفيق.