الرئيسيةبحث

شفاء العليل/الباب الثالث عشر


الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها

وهذا أمر متفق عليه بين الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم وعليه اتفقت الكتب الإلهية والفطر والعقول والاعتبار وخالف في ذلك مجوس الأمة فأخرجت طاعات ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين وهي أشرف ما في العالم عن ربوبيته وتكوينه ومشيئته بل جعلوهم هم الخالقون لها ولا تعلق لها بمشيئته ولا تدخل تحت قدرته وكذلك قالوا في جميع أفعال الحيوانات الاختيارية فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا وإنما ذلك بجعلهم أنفسهم كذلك لا يجعله تعالى وقد نادى القرآن بل الكتب السماوية كلها والسنة وأدلة التوحيد والعقول على بطلان قولهم وصاح بهم أهل العلم والإيمان من أقطار الأرض وصنف حزب الإسلام وعصابة الرسول وعسكره التصانيف في الرد عليهم وهي أكثر من أن يحصيها إلا الله ولم تزل أيدي السلف وأئمة السنة في أقفيتهم ونواصيهم تحت أرجلهم إذ كانوا يردون باطلهم بالحق المحض وبدعتهم بالسنة والسنة لا يقوم لها شيء فكانوا معهم كالذمة مع المسلمين إلى أن نبغت نابغة ردوا بدعتهم ببدعة تقابلها وقابلوا باطلهم بباطل من جنسه وقالوا العبد مجبور على أفعاله مقهور عليها لا تأثير له في وجودها البتة وهي واقعة بإرادته واختياره وغلا غلاتهم فقالوا بل هي عين أفعال الله ولا ينسب إلى العبد الأعلى المجاز والله سبحانه يلوم العبد ويعاقبه ويخلده في النار على ما لم يكن للعبد فيه صنع ولا هو فعله بل هو محض فعل الله وهذا قول الجبرية وهو إن لم يكن شرا من القدرية فليس هو بدونه في البطلان وإجماع الرسل واتفاق الكتب الإلهية وأدلة العقول والفطر والعيان يكذب هذا القول ويرده والطائفتان في عمي عن الحق القويم والصراط المستقيم ولما رأى القاضي وغيره بطلان هذا القول وتناقضه للشرائع والعدل والجبلة قالوا قدرة العبد وإن لم تؤثر في وجود الفعل فهي مؤثرة في صفة من صفاته وتلك الصفة تسمى كسبا وهي متعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب فإن الحركة التي هي من طاعته والحركة التي هي من معصيته قد اشتركا في نفس الحركة وامتازت إحداهما عن الأخرى بالطاعة والمعصية فذات الحركة ووجودها واقع بقدرة الله وإيجاده وكونها طاعة ومعصية واقع بقدرة العبد وتأثيره وهذا وإن كان أقرب إلى الصواب فالقائل به لم يوفه حقه فإن كونها طاعة ومعصية هو موافقة الأمر ومخالفته فهذه الموافقة والمخالفة إما أن تكون فعلا للعبد يتعلق بقدرته واختياره وإن كان لم يكن للعبد اختيار ولا فعل ولا كسب البتة فلم يثبت هؤلاء من الكسب أمرا معقولا ولهذا يقال محالات الكلام ثلاثة كسب الأشعري وأحوال أبي هاشم وطفرة النظام ولما رأى طائفة فساد هذا قالوا المؤثر في وجود الفعل هو قدرة الرب على سبيل الاستقلال قالوا ولا يمتنع اجتماع المؤثرين على أثر واحد ولم يستوحش هؤلاء من القول بوقوع مفعول بين فاعلين ولا مقدور بين قادرين قالوا كما يمتنع وقوع معلوم بين عالمين ومراد بين مريدين ومحبوب بين محبوبين ومكروه بين مكروهين قالوا ونحن نشاهد قادرين مستقلين كل منهما يمكنه أن يستقل بالفعل يقع بينهما مفعول واحد يشتركان في فعله والتأثير فيه قالوا وليس معكم ما يبطل هذا إلا قولكم أن إضافته إلى أحدهما على سبيل الاستقلال يمنع إضافته إلى الآخر وإضافته إليهما وفي هذه الحجة إجمال لا بد له من تفصيل فيجوز وقوع مفعول بين فاعلين لا يستقل أحدهما به كالمتعاونين على الأمر لا يقدر عليه أحدهما وحده ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه كل منهما يستقل به على سبيل البدل وهذا ظاهر أيضا ويجوز وقوع مفعول بين فاعلين يشتركان فيه وكل منهما يقدر عليه حال الانفراد كمحمول يحمله اثنان كل منهما يمكنه أن يستقل بحمله وحده وكل هذه الأقسام ممكنة بل واقعة بقي قسم واحد وهو مفعول بين فاعلين كل منهما فعله على سبيل الاستقلال فهذا محال فإن استقلال كل منهما بفعله ينفي فعل الآخر له فاستقلالهما ينافي استقلالهما وأكثر الطوائف يقر بوقوع مقدور بين قادرين وإن اختلفوا في كيفية وقوعه، فقالت طائفة الفعل يضاف إلى قدرة الله سبحانه على وجه الاستقلال بالتأثير ويضاف إلى قدرة العبد لكنها غير مستقلة فإذا انضمت قدرة الله إلى قدرة العبد صارت قدرة العبد مؤثرة على سبيل الاستقلال بتوسط إعانة قدرة الله وجعل قدرة العبد مؤثرة والقائل بهذا لم يتخلص من الخطأ حيث زعم أن قدرة العبد مستقلة بإعانة قدرة الله له فعاد الأمر إلى اجتماع مؤثرين على أثر واحد لكن قدرة أحدهما وتأثيره مستند إلى قدرة الآخر وتأثيره وكأنه والله أعلم أراد أن قدرة الرب مستقلة بالتأثير في إيجاد الفعل وهذا قد قاله طائفة من العلماء وقائل هذا لم يتخلص من الخطأ حيث جعل قدرة العبد مستقلة بالتأثير في إيجاد المقدور وهذا باطل إذ غاية قدرة العبد أن تكون سببا بل جزأ من السبب والسبب لا يستقل بحصول المسبب ولا يوجبه وليس في الوجود ما يوجب حصول المقدور إلا مشيئة الله وحده وأصحاب هذا القول زعموا أن الله أعطى العبد قدرة وإرادة وفوض إليه بهما الفعل والترك وخلاه وما يريد فهو يفعل ويترك بقدرته وإرادته اللتين فوض إليه الفعل والترك بهما وقالت طائفة أخرى مقدور العبد هو عين مقدور الرب بشرط أن يفعله العبد إذا تركه الرب ولم يفعله لا على أنه يفعله والرب له فاعل لاستحالة خلق بين خالقين وهذا بعينه مذهب من يقول بوقوع مفعول بين فاعلين على سبيل وهذا مذهب كثير من القدرية منهم الشحام وغيره

وقالت طائفة يجوز وقوع فعل بين فاعلين بنسبتين مختلفتين بأحدهما يكون محدثا وبالأخرى يكون كاسبا وهذا مذهب النجار وضرار بن عمرو ومحمد بن عيسى بن حفص والفرق بين هذا المذهب ومذهب الأشعريين من وجهين أحدهما: أن صاحب هذا المذهب يقول العبد فاعل حقيقة وإن لم يكن محدثا مخترعا للفعل والأشعري يقول العبد ليس بفاعل وإن نسب إليه الفعل وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله فلا فاعل سواه الثاني: أنهم يقولون الرب هو المحدث والعبد هو الفاعل وقالت فرقة: بل أفعال العباد فعل لله على الحقيقة وفعل العبد على المجاز وهذا أحد قولي الأشعري وقالت فرقة أخرى منهم القلانسي وأبو إسحاق: في بعض كتبه أنها فعل لله على الحقيقة وفعل الإنسان على الحقيقة لا على معنى أنه أحدثها بل على معنى أنه كسب له وقالت طائفة أخرى وهم جهم وأتباعه: أن القادر على الحقيقة هو الله وحده وهو الفاعل حقا ومن سواه ليس بفاعل على الحقيقة ولا كاسب أصلا بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون وقول القائل قام وقعد وأكل وشرب مجاز بمنزلة مات وكبر ووقع وطلعت الشمس وغربت وهذا قول الجبرية الغلاة وقابله طائفة أخرى فقالوا: العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم وإرادتهم والرب لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته كما لا يوصف العباد بمقدور الرب ولا تدخل أفعاله تحت قدرهم وهذا قول جمهور القدرية وكلهم متفقون على أن الله سبحانه غير فاعل لأفعال العباد واختلفوا هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها وأنه قادر عليها وخالق لها فجمهورهم نفوا ذلك ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله وأن الله سبحانه قادر على أعيانها وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها هذا عندهم عين المحال بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه وهؤلاء أقرب القدرية إلى السنة وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب وبعضهم أقرب إلى الصواب وبعضهم أقرب إلى الخطأ وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى لا على إبطال ما أصابوا فيه فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته وأنه لا خالق غيره وأنه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات وهذا حق ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادرا مريدا فاعلا بمشيئته وقدرته وأنه هو الفاعل حقيقة وأفعاله قائمة به وأنها فعل له لا لله وأنها قائمة به لا بالله وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائم بهم واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرا على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين فأدلة الجبرية متظافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود وأثبت في الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه وأدلة القدرية متظافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال أنه ليس بفاعل شيئا والله يعاقبه على ما لم يفعله ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر الإيمان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه فكل حق مع طائفة من الطوائف فهم يوافقونهم فيه وهم براء من باطلهم فمذهبهم جمع حق الطوائف بعضه إلى بعض والقول به ونصره وموالاة أهله من ذلك الوجه ونفي باطل كل طائفة من الطوائف وكسره ومعاداة أهله من هذا الوجه فهم حكام بين الطوائف لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق ولا يردون حق طائفة من الطوائف ولا يقابلون بدعة ببدعة ولا يردون باطلا بباطل ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم بل يقولون فيهم الحق ويحكمون في مقالالتهم بالعدل والله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف فقال:: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ الله مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِِلَ بَيْنَكُمُ} فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه وأن يستقيم في نفسه كما أمره وأن لا يتبع هوى أحد من الفرق وأن يؤمن بالحق جميعه ولا يؤمن ببعضه دون بعض وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات وأنت إذا تأملت هذه الآية وجدت أهل الكلام الباطل وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف أبخس الناس منها حظا وأقلهم نصيبا ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها وهم في هذه المسألة وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال ومشيئته العامة وينزهونه ان يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا هو واقع تحت مشيئته ويثبتون القدر السابق وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه وأنه لا يشاؤن إلا أن يشاء الله ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه والقدر عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه فلا يتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز إذ العالم علويه وسفليه وكل حي يفعل فعلا فإن فعله بقوة فيه على الفعل وهو في حول من ترك إلى فعل ومن فعل إلى ترك ومن فعل إلى فعل وذلك كله بالله تعالى لا بالعبد ويؤمنون بأن من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلما والكافر كافرا والمصلي مصليا والمتحرك متحركا وهو الذي يسير عبده في البر والبحر وهو المسير والعبد السائر وهو المحرك والعبد المتحرك وهو المقيم والعبد القائم وهو الهادي والعبد المهتدي وأنه المطعم والعبد الطاعم وهو المحي المميت والعبد الذي يحيى ويموت ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازا وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول كما حكاه عنهم البغوي وغيره فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة وهي مفعولة لله سبحانه مخلوقة له حقيقة والذي قام بالرب عز وجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة وهو سبحانه هو المقدر لهم على ذلك القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم ومشيئته وفعله بعد مشيئته فما يشاؤن إلا أن يشاء الله وما يفعلون إلا أن يشاء الله وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما عداه من المذاهب وجدته هو المذهب الوسط والصراط المستقيم ووجدت سائر المذاهب خطوطا عن يمينه وعن شماله فقريب منه وبعيد وبين ذلك وإذا أعطيت الفاتحة حقها وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك دالة عليه صريحة فيه وإن كان حمده لا يقتضي غير ذلك وكذلك كمال ربوبيته للعالمين لا يقتضي غير ذلك فكيف يكون الحمد كله لمن لا يقدر على مقدور أهل سماواته وأرضه من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش بل يفعلون ما لا يقدر عليه ولا يشاءه ويشاء ما لا يفعله كثير منهم فيشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء وهل يقتضي ذلك كمال حمده وهل يقتضيه كمال ربوبيته ثم قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مبطل لقول الطائفتين المنحرفتين عن قصد السبيل فإنه يتضمن إثبات فعل العبد وقيام العبادة به حقيقة فهو العابد على الحقيقة وإن ذلك لا يحصل له إلا بإعانة رب العالمين عز وجل له فإن لم يعنه ولم يقدره ولم يشأ له العبادة لم يتمكن منها ولم يوجد منه البتة فالفعل والإقدار والإعانة من الرب عز وجل ثم قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها وهي بيده إن شاء أعطاها عبده وإن شاء منعه إياها والهداية معرفة الحق والعمل به فمن لم يجعله الله تعالى عالما بالحق عاملا به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها وهي جعل العبد مريدا للهدى محبا له مؤثرا له عاملا به فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل وهي التي قال سبحانه فيها: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} مع قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد وهي التي هدي بها ثمود فاستحبوا العمى عليها وهي التي قال تعالى فيها: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُون} فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها فذاك عدله فيهم وهذا حكمته فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم ومنعهم ما ليسوا له بأهل ولا يليق بهم وسنذكر في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ذكر الهدى والضلال ومراتبهما وأقسامهما فإنه عليه مدار مسائل القدر والمقصود ذكر بعض ما يدل على إثبات هذه المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي خلق الله تعالى لأفعال المكلفين ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابه قال تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته وليس مخصوصا بذاته وصفاته فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق وصفاته سبحانه داخله في مسمى اسمه فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة نقص ومثال والعالم قسمان أعيان وأفعال وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه ولا عن قدرته ولا عن خلقه ومشيئته قالت القدرية: نحن نقول إن الله خالق أفعال العباد لا على أنه محدثها ومخترعها لكن على معنى أنه مقدرها فإن الخلق التقدير كما قال تعالى: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} وقال الشاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى

أي لأنت تمضي ما قدرته وتنفذه بعزمك وقدرتك وبعض القوم يقدر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدره وإمضائه فالله تعالى مقدر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها، قال أهل السنة: قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه لأعمال العباد البتة فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك ومن اعترف منكم بالتقدير فهو تقدير لا يرجع إلى تأثير وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها ليس التقدير عندكم جعلها على قدر كذا وكذا فإن هذا عندكم غير مقدور للرب ولا مصنوع له وإنما هو صنع العبد وإحداثه فرجع التقدير إلى مجرد العلم والخبر وهذا لا يسمى خلقا في لغة أمة من الأمم ولو كان هذا خلقا لكان من علم شيئا وعلم أسمائه وصفاته وأخبر عنه بذلك خالقا له فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنا للتأثير في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم وإن لم يتضمن تأثيرا في إيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر، قالت القدرية قوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} من العام المراد به الخاص ولا سيما فإنكم قلتم إن القرآن لم يدخل في هذا العموم وهو من أعظم الأشياء وأجلها فخصصنا مه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم ومنعهم، قالت أهل السنة: القرآن كلام الله سبحانه وكلامه صفة من صفاته وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق فإن الخالق غير المخلوق فليس ههنا تخصيصا البتة بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق وكل ما عداه مخلوق وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه إذ ليس إلا الخالق والمخلوق والله وحده الخالق وما سواه كله مخلوق وأما الأدلة الدالة على أن أفعال العباد صنع لهم وإنما أفعالهم القائمة بهم وأنهم هم الذين فعلوها فكلها حق نقول بموجبها ولكن لا ينبغي أن تكون أفعالا لهم ومخلوقة مفعولة لله فإن الفعل غير المفعول ولا نقول أنها فعل لله والعبد مضطر مجبور عليها ولا نقول أنها فعل للعبد والله غير قادر عليها ولا جاعل للعبد فاعلا لها ولا نقول أنها مخلوقة بين مخلوقين مستقلين بالإيجاد والتأثير وهذه الأقوال كلها باطلة، قالت القدرية يعني قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مما لا يقدر عليه غيره وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم ينفي إضافتها إليه والألزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو محال، قالت أهل السنة: إضافتها إليهم فعلا وكسبا لا ينفي إضافتها إليه سبحانه خلقا ومشيئة فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولم يقدر عليه ولا خلقه.

فصل: ومما يدل على قدرته سبحانه على أفعالهم قوله: {وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} واعتراض القدرية على الاستدلال بذلك والجواب عنه نظير الاعتراض على قوله: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وجوابه ونزيده تقريرا أن أفعالهم أشياء ممكنة والله قادر على كل ممكن فهو الذي جعلهم فاعلين بقدرته ومشيئته ولو شاء لحال بينهم وبين الفعل مع سلامة آلة الفعل منهم كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} فهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه وبين الإنسان ونطقه وبين اليد وبطشها وبين الرجل ومشيها فكيف يظن به ظن السوء ويجعل له مثل السوء إنه لا يقدر على ما يقدر عليه عباده ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون لقدرته علوا كبيرا نعم ولا نظن به ظن السوء ونجعل له مثل السوء أنه يعاقب عباده على ما لم يفعلوه ولا قدرة لهم على فعله بل على ما فعله هو دونهم واضطرهم إليه وجبرهم عليه وذلك بمنزلة عقوبة الزمن إذا لم يطر إلى السماء وعقوبة أشل اليد على ترك الكتابة وعقوبة الأخرس على ترك الكلام فتعالى الله عن هذين المذهبين الباطلين المنحرفين عن سواء السبيل.

فصل: ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله تعالى: {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا أن بعد تحيلها صنعة الآدميين وعملهم فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها صورتها ومادتها وهيآتها ونظير هذا قوله: {وَالله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} فأخبر سبحانه أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة مجعولة له وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الآدمية ونظيره قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} فأخبر سبحانه وتعالى أنه خالق الفلك المصنوع للعباد وأبعد من قال أن المراد بمثله هو الإبل فإنه إخراج المماثل حقيقة واعتبار لما هو بعيد عن المماثلة ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله أنه قال لقومه أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فإن كانت ما مصدرية كما قدره بعضهم فالاستدلال ظاهر وليس بقوي إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم بأن الله خالق أعمالهم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك فالأولى أن تكون ما موصولة أي والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم فهي مخلوقة له لا آلهة شركاء معه فأخبر أنه خلق معمولهم وقد حله عملهم وصنعهم ولا يقال المراد مادته فإن مادته غير معمولة لهم وإنما يصير معمولا بعد عملهم.

فصل: وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي جعل أئمة الخير يدعون إلى الهدى وأئمة الشر يدعون إلى النار فتلك الإمامة والدعوة بجعله فهي مجعولة له وفعل لهم قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} وقال عن أئمة الهدى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فأخبر أن هذا وهذا بجعله مع كونه كسبا وفعلا للأئمة ونظير ذلك قول الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فأخبر الخليل أنه سبحانه هو الذي يجعل المسلم مسلما وعند القدرية هو الذي جعل نفسه مسلما لا أن الله جعله مسلما ولا جعله إماما يهدي بأمره ولا جعل الآخر إماما يدعوا إلى النار على الحقيقة بل هم الجاعلون لأنفسهم كذلك حقيقة ونسبة هذا الجعل إلى الله مجاز بمعنى التسمية أي سمنا مسلمين لك وكذلك جعلناهم أئمة أي سميناهم كذلك وهم جعلوا أنفسهم أئمة رشد وضلال فمنهم الحقيقة ومنه المجاز والتعبير.

فصل: ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يلهم العبد فجوره وتقواه والإلهام الإلقاء في القلب لا مجرد البيان والتعليم كما قاله طائفة من المفسرين إذ لا يقال لمن بين لغيره شيئا وعلمه إياه أنه قد ألهمه ذلك هذا لا يعرف في اللغة البتة بل الصواب ما قاله ابن زيد قال جعل فيها فجورها وتقواها وعليه حديث عمران بن حصين: "أن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم قال: بل شيء قضى عليهم ومضى قال: ففيم العمل قال: من خلقه الله لإحدى المنزلتين استعمله بعمل أهلها وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}" فقراءته هذه الآية عقيب إخباره بتقديم القضاء والقدر السابق يدل على أن المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها لا مجرد تعريفها فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به القضاء والقدر ومن فسر الآية من السلف بالتعليم والتعريف فمراده تعريف مستلزم لحصول ذلك لا تعريف مجرد عن الحصول فإنه لا يسمى إلهاما وبالله التوفيق.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} وذات الصدور كلمة لما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات والإرادات والحب والبغض أي صاحبة الصدور فإنها لما كانت فيها قائمة بها نسبت إليها نسبة الصحبة والملازمة وقد اختلف في إعراب من خلق هو النصب أو الرفع فإن كان مرفوعا فهو استدلال على علمه بذلك لخلقه له والتقدير أنه يعلم ما تضمنته الصدور وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته وإن كان منصوبا فالمعنى ألا يعلم مخلوقه وذكر لفظة من تغليبا ليتناول العلم العاقل وصفاته على التقديرين فالآية دالة على خلق ما في الصدور كما هي على علمه سبحانه به وأيضا فإنه سبحانه خلقه لما في الصدور دليلا على علمه بها فقال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَق} أي كيف يخفى عليه ما في الصدور وهو الذي خلقه فلو كان ذلك غير مخلوق له لبطل الاستدلال به على العلم فخلقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم فلم يبق ما يدل على علمه بما ينطوي عليه الصدر إذا كان غير خالق لذلك وهذا من أعظم الكفر برب العالمين وجحد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وعلم بالضرورة أنهم القوة إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد لا شريك له

فصل: ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً} وقوله حكاية عن زكريا أنه قال عن ولده: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} وقال في الطرف الآخر: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} وقال: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} وهذه الأكنة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعا ولا عقلا والتحقيق أن هذا ناشئ عن الأكنة والوقر فهو موجب ومقتضاه فمن فسر الأكنة والوقر به فقد فسرهما بموجبهما ومقتضاهما وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم وهي مجعولة لله سبحانه كما أن الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم والله جاعله فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها فذلك كله مجعول مخلوق له وإن كان العبد فاعلا له باختياره وإرادته فإن قيل هذا كله معارض بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} والبحيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجعل العباد لها فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجعله قيل لا تعارض بحمد الله بين نصوص الكتاب بوجه ما والجعل ههنا جعل شرعي أمري لا كوني قدري فإن الجعل في كتاب الله ينقسم إلى هذه النوعين كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم كما سيأتي بيانه إن شاء الله فنفى سبحانه عن البحيرة والسائبة جعله الديني الشرعي أي لم يشرع ذلك ولا أمر به ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب وجعلوا ذلك دينا له بلا علم ومن ذلك قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} فأخبر سبحانه أن هذه الفتنة الحاصلة بما ألقى الشيطان هي بجعله سبحانه وهذا جعل كوني قدري ومن هذا قوله ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه: "اللهم اجعلني لك شكارا لك ذكارا لك رهابا لك مطواعا لك مخبتا لك أواها منيبا" فسأل ربه أن يجعله كذلك وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره وفي هذا الحديث وسدد لساني وتسديد اللسان جعله ناطقا بالسداد من القول ومثله قوله في الحديث الآخر: "اللهم اجعلني لك مخلصا" ومثله قوله "اللهم اجعلني أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتبع نصيحتك وأحفظ وصيتك" ومثله قول المؤمنين: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} فالصبر وثبات الأقدام فعلان اختياريان ولكن التصبير والتثبيت فعل الرب تعالى وهو المسؤول والصبر والثبات فعلهم القائم بهم حقيقة ومثله قوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} وقال ابن عباس والمفسرون بعده ألهمني قال أبو إسحاق وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء إلا نفس شكر نعمتك ولهذا يقال في تفسير الموزع المولع ومنه الحديث: "كان رسول الله ﷺ موزعا بالسؤال أي مولعا به كأنه كف ومنع إلا منه" وقال في الصحاح وزعته أزعه وزعا كففته فاتزع عنه أي كف وأوزعته بالشيء أغريته به فأوزع به فهو موزع به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني فقد دار معنى اللفظة على معنى ألهمني ذلك واجعلني مغرى به وكفني عما سواه وعند القدرية إن هذا غير مقدور للرب بل هو غير مقدور العبد

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} فتحبيبه سبحانه الإيمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم وهذا لا يقدر عليه سواه وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما يدعو إلى محبته فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين الأمرين حبه وحسنه الداعي إلى حبه وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان وإن ذلك محض فضله ومنته عليهم حيث لم يكلهم إلى أنفسهم بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب والتزيين وتكريه ضده فجاد عليهم به فضلا منه ونعمة والله عليم بمواقع فضله ومن يصلح له ومن لا يصلح حكيم بجعله في مواضعه ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} وتأليف القلوب جعل بعضها يألف ويميل إليه ويحبه وهو من أفعالها الاختيارية وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك لا غيره ومن ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} فأخبر سبحانه بفعلهم وهو إلههم وبفعله وهو كفهم عما هموا به ولا يصح أن يقال أنه سبحانه أشل أيديهم وأماتهم وأنزل عليهم عذابا حال بينهم وبين ما هموا به بل كف قدرهم وإرادتهم مع سلامة حواسهم وبنيتهم وصحة آلات الفعل منهم وعند القدرية هذا محال بل هم الذين يكفون أنفسهم والقرآن صريح في إبطال قولهم ومثله قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} فهذا كف أيدي الفريقين مع سلامتهما وصحتهما وهو بأن حال بينهم وبين الفعل فكف بعضهم عن بعض ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله} والإيمان والطاعة من أجل النعم بل هما أجل النعم على الإطلاق فهما منه سبحانه تعليما وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا ولا يصح أن يقال أنها أمرا وبيانا فقط فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل الإيمان والطاعة والبر منهم إذ نعمة البيان والإرشاد مشتركة وهذا قول القدرية وقد صرح به كثير منهم ولم يجعلوا لله على العبد نعمة في مشيئته وخلقه فعله وتوفيقه إياه حين فعله وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب وطردوا ذلك حين لم يجعلوا لله على العبد منه في إعطائه الجزاء بل قالوا ذلك محض حقه الذي لا منة لله عليه فيه واحتجوا بقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} قالوا أي غير ممنون به عليهم إذ هو جزاء أعمالهم وأجورها قالوا والمنة تكدر النعمة والعطية ولم يدعوا هؤلاء للجهل بالله موضعا وقاسوا منته على منة المخلوق فإنهم مشبهة في الأفعال معطلة في الصفات وليست المنة في الحقيقة إلا لله فهو المان بفضله وأهل سمواته وأهل أرضه في محض منته عليهم قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى لكليمه موسى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} وقال: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} وقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} ولما قال النبي ﷺ للأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي قالوا الله ورسوله أمن وقال الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ الله يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فمنه سبحانه وتعالى محض إحسانه وفضله ورحمته وما طاب عيش أهل الجنة فيها إلا بمنته عليهم ولهذا قال أهلها وقد أقبل بعضهم على بعض يتساءلون إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم فأجزوا لمعرفتهم بربهم وحقه عليهم أن نجاهم من عذاب السموم بمحض منته عليهم وقد قال أعلم الخلق بالله وأحبهم إليه وأقربهم منه وأطوعهم له: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وقال: "إن الله لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم" والأول في الصحيح والثاني في المسند والسنن وصححه الحاكم وغيره فأخبر سيد العالمين والعاملين أنه لا يدخل الجنة بعمله وقالت القدرية أنهم يدخلونها بأعمالهم لئلا يتكدر نعيمهم عليهم بمشيئة الله بل يكون ذلك النعيم عوضا وما رمى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القدرية عن قوس واحد إلا لعظم بدعهم ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله فلو أتى العباد بكل طاعة وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله لكانوا في محض منته وفضله وكانت له المنة عليهم وكلما عظمت طاعة العبد كانت منة الله عليه أعظم فهو المان بفضله فمن أنكر منته فقد أنكر إحسانه وأما قوله تعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه غير مقطوع ومنه ريب المنون وهو الموت لأنه يقطع العمر.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وقوله: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذا الإغراء والإلقاء محض فعله سبحانه والتعادي والتباغض أثره وهو محض فعلهم وأصل ضلال القدرية والجبرية من عدم اهتدائهم إلى الفرق بين فعله سبحانه وفعل العبد فالجبرية جعلوا التعادي والتباغض فعل الرب دون المتعاديين والمتباغضين والقدرية جعلوا ذلك محض فعلهم الذي لا صنع لله فيه ولا قدرة ولا مشيئة وأهل الصراط السوي جعلوا ذلك فعلهم وهو أثر فعل الله وقدرته ومشيئته كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فالتسيير فعله والسير فعل العباد وهو أثر التسيير وكذلك الهدى والإضلال فعله والإهتداء والضلال أثر فعله وهما أفعالنا القائمة بنا فهو الهادي والعبد المهتدي وهو الذي يضل من يشاء والعبد الضال وهذا حقيقة وهذا حقيقة والطائفتان عن الصراط المستقيم ناكبتان.

فصل: ومن ذ لك قوله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} فها هنا أمران تجنيب عبادتها واجتنابه فسأل الخليل ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها ليحصل منهم اجتنابها فالاجتناب فعلهم والتجنيب فعله ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله ونظير ذلك قول يوسف الصديق: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وصرف كيدهن هو صرف دواعي قلوبهن ومكرهن بألسنتهن وأعمالهن وتلك أفعال اختيارية وهو سبحانه الصارف لها فالصرف فعله والانصراف أثر فعله وهو فعل النسوة ومن ذلك قوله سبحانه لنبيه محمد ﷺ: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} فالتثبيت فعله والثبات فعل رسوله فهو سبحانه المثبت وعبده الثابت ومثله قوله: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} فأخبر سبحانه أن تثبيت المؤمنين وإضلال الظالمين فعله فإنه يفعل ما يشاء وأما الثبات والضلال فمحض أفعالهم ومن ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} فأخبر أنه هو الذي قسى قلوبهم حتى صارت قاسية فالقساوة وصفها وفعلها وهي أثر فعله وهو جعلها قاسية وذلك أثر معاصيهم ونقضهم ميثاقهم وتركهم بعض ما ذكروا به فالآية مبطلة لقول القدرية والجبرية.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} وهم إنما خرجوا باختيارهم وقد أخبر هو الذي أخرجهم فالإخراج فعله حقيقة والخروج فعلهم حقيقة ولولا إخراجه لما خرجوا وهذا بخلاف قوله: {وَالله أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} وقوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْر} وقوله: {أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} فإن هذا إخراج لا صنع لهم فيه فإنه بغير اختيارهم وإرادتهم وأما قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقّ} فيحتمل أن يكون إخراجا بقدره ومشيئته فيكون من الأول ويحتمل أن يكون إخراجا يوجبه بأمره فلا يكون من هذا فيكون الإخراج في كتاب الله ثلاثة أنواع أحدها إخراج الخارج بإختياره ومشيئته والثاني إخراجه قهرا وكرها والثالث إخراجه أمرا وشرعا.

فصل: وقد ظن طائفة من الناس أن من هذا الباب قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَى} وجعلوا ذلك من أدلتهم على القدرية ولم يفهموا مراد الآية وليست من هذا الباب فإن هذا خطاب لهم في واقعة بدر حيث أنزل الله سبحانه وملائكته فقتلوا أعداءه فلم يفرد المسلمون بقتلهم بل قتلتهم الملائكة وأما رميه ﷺ فمقدوره كان هو الحذف والإلقاء وأما إيصال ما رمى به إلى وجوه العدو مع البعد وإيصال ذلك إلى وجوه جميعهم فلم يكن من فعله ولكنه فعل الله وحده فالرمي يراد به الحذف والإيصال فأثبت له الحذف بقوله إذ رميت ونفى عنه الإيصال بقوله وما رميت.

فصل: ومن ذلك قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} والضحك والبكاء فعلان اختياريان فهو سبحانه المضحك المبكي حقيقة والعبد هو الضاحك الباكي حقيقة وتأويل الآية بخلاف ذلك إخراج للكلام عن ظاهره بغير موجب ولا منافاة بين ما يذكر من تلك التأويلات وبين ظاهره فإن إضحاك الأرض بالنبات وإبكاء السماء بالمطر وإضحاك العبد وإبكاءه بخلق آلات الضحك والبكاء له لا ينافي حقيقة اللفظ وموضوعه ومعناه من أنه جاعل الضحك والبكاء فيه بل الجميع حق.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعا} ورؤية البرق أمر واقع بإحساسهم فالإراءة فعله والرؤية فعلنا ولا يقال إراءة البرق خلقه فإن خلقه لا يسمى إراءة ولا يستلزم رؤيتنا له بل إراءتنا له جعلنا نراه وذلك فعله سبحانه ومن ذلك قول الخضر لموسى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} فبلوغ الأشد ليس من فعلهما واستخراج الكنز من أفعالهما الاختيارية وقد أخبر أن كليهما بإرادته سبحانه ومن ذلك قوله تعالى عن السحرة: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} وليس إذنه ها هنا أمره وشرعه بل قضاؤه وقدره ومشيئته فهو إذا كوني قدري لا ديني أمري.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} وكلمة التقوى هي الكلمة التي يتقى الله بها وأعلى أنواع هذه الكلمة هي قول لا إله إلا الله ثم كل كلمة يتقى الله بها بعدها فهي من كلمة التقوى وقد أخبر سبحانه أنه ألزمها عبادة المؤمنين فجعلها لازمة لهم لا ينفكون عنها فبإلزامه التزموها ولولا إلزامه لهم إياها لما التزموها والتزامها فعل اختياري تابع لإرادتهم واختيارهم فهو الملزم وهم الملتزمون.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} وهذا تفسير الهلوع وهو شدة الحرص الذي يترتب عليه الجزع والمنع فأخبر سبحانه أنه خلق الإنسان كذلك وذلك صرح في أن هلعه مخلوق لله كما أن ذاته مخلوقة فالإنسان بجملته ذاته وصفاته وأفعاله وأخلاقه مخلوق لله ليس فيه شيء خلق لله وشيء خلق لغيره بل الله خالق الإنسان بجملته وأحواله كلها فالهلع فعله حقيقة والله خالق ذلك فيه حقيقة فليس الله سبحانه بهلوع ولا العبد هو الخالق لذلك.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وإذنه ها هنا قضاؤه وقدره لا مجرد أمره وشرعه كذلك قال السلف في تفسير هذه الآية قال ابن المبارك عن الثوري: "بقضاء الله" وقال محمد بن جرير: "يقول جل ذكره لنبيه وما لنفس خلقها من سبيل إلى أن تصدقك إلا أن يأذن لها في ذلك فلا تجهدن نفسك في طلب هداها وبلغها وعيد الله ثم خلها فإن هداها بيد خالقها" وما قبل الآية وما بعدها لا يدل إلا على ذلك فإنه سبحانه قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي لا تكفي دعوتك في حصول الإيمان حتى يأذن الله لمن دعوته أن يؤمن ثم قال:: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} قال ابن جرير: يقول تعالى يا محمد قل لهؤلاء السائلينك الآيات على صحة ما تدعو إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان أنظروا أيها القوم ماذا في السماوات من الآيات الدالة على حقية ما أدعوكم إليه من توحيد الله من شمسها وقمرها واختلاف ليلها ونهارها ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها وفي الأرض من جبالها وتصدعها بنباتها وأقوات أهلها وسائر صنوف عجائبها فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم عظة ومعتبرا ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ولا له على حفظه وتدبيره ظهير يغنيكم عما سواه من الآيات وما يغني عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء وقضى عليهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار فهم لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدقون به ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} قال ابن جرير: "وكل إنسان ألزمناه ما قضي له أنه عامله وما هو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه" وهذا ما قاله الناس في الآية وهو ما طار له من الشقاء والسعادة وما طار عنه من العمل ثم ذكر عن ابن عباس قال: "طائره عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان وزائل معه أينما زال" وكذلك قال ابن جريج وقتادة ومجاهد: "هو عمله" زاد مجاهد: "وما كتب له" وقال قتادة أيضا: "سعادته وشقاوته بعمله" قال ابن جرير: "فإن قال قائل فكيف قال ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت ولم يقل في يديه أو رجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد قيل إن العنق هي موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين" فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد فقالوا ذلك بما كسبت يداه وإن كان الذي جره عليه لسانه أو فرجه فكذلك قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه} وقال الفراء: "الطائر معناه عندهم العمل" قال الأزهري: "والأصل في هذا أن الله سبحانه لما خلق آدم علم المطيع من ذريته والعاصي فكتب ما علمه منهم أجمعين وقضى بسعادة من علمه مطيعا وشقاوة من علمه عاصيا فطار لكل ما هو صائر إليه عند خلقه وإنشائه" وأما قوله: {فِي عُنُقِهِ} فقال أبو إسحاق: "إنما يقال للشيء اللازم هذا في عنق فلان أي لزومه له كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق" قال أبو علي: "مثل هذا قولهم طوقتك كذا وقلدتك كذا أي صرفته نحوك وألزمتك إياه ومنه قلده السلطان كذا أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق" وقيل: "إنما خص العنق لأن عمله لا يخلو إما أن يكون خيرا أو شرا وذلك مما يزين أو يشين كالحلي والغل فأضيف إلى الأعناق" قالت القدرية: "إلزامه ذلك وسمه به وتعليمه بعلامة يعرف الملائكة أنه سعيد أو شقي والخبر عنه لا أنه ألزمه العمل فجعله لازما له" قال أهل السنة: هذه طريقة لكم معروفة في تحريف الكلم عن مواضعه سلكتموها في الجسم والطبع والعقل وهذا لا يعرفه أهل اللغة وهو خلاف حقيقة اللفظ وما فسره به أعلم الأمة بالقرآن ولا يعرف ما قلتموه عن أحد من سلف الأمة البتة ولا فسر الآية غيركم به ولا يصح حمل الآية عليه فإن الخبر عنه بذلك والعلامة أعلم بها إنما حصل بعد طائره اللازم له من عمله فلما لزمه ذلك الطائر ولم ينفك عنه أخبر عنه بذلك وصارت عليه علامة وسمة ونحن قد أريناكم أقوال أئمة الهدى وسلف الأمة في الطائر فأرونا قولكم عن واحد منهم قاله قبلكم وكل طائفة من أهل البدع تجر القرآن إلى بدعها وضلالها وتفسره بمذاهبها وآرائها والقرآن بريء من ذلك وبالله التوفيق

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} وقد وقع هذا المعنى في القرآن في موضعين هذا أحدهما والثاني في سورة الشعراء في قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} قال ابن عباس: "سلك الشرك في قلوب المكذبين كما سلك الخرزة في الخيط" وقال أبو إسحاق: "أي كما فعل بالمجرمين الذين استهزؤا بمن تقدم من الرسل كذلك سلك الضلال في قلوب المجرمين" واختلفوا في مفسر الضمير في قوله: {نَسْلُكُهُ} فقال ابن عباس: "سلكنا الشرك" وهو قول الحسن وقال الزجاج وغيره: "هو الضلال" وقال الربيع: "يعني الاستهزاء" وقال الفراء: "التكذيب" وهذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد والتكذيب والاستهزاء والشرك كل ذلك فعلهم حقيقة وقد أخبر أنه سبحانه هو الذي سلكه في قلوبهم وعندي في هذه الأقوال شيء فإن الظاهر أن الضمير في قوله لا يؤمنون به هو الضمير في قوله سلكناه فلا يصح أن يكون المعنى لا يؤمنون بالشرك والتكذيب والاستهزاء فلا تصح تلك الأقوال إلا باختلاف مفسر الضميرين والظاهر اتحاده فالذين لا يؤمنون به هو الذي سلكه في قلوبهم وهو القرآن فإن قيل فما معنى سلكه إياه في قلوبهم وهم ينكرونه قبل سلكه في قلوبهم بهذه الحال أي سلكناه غير مؤمنين به فدخل في قلوبهم مكذبا به كما دخل في قلوب المؤمنين مصدقا به وهذا مراد من قال إن الذي سلكه في قلوبهم هو التكذيب والضلال ولكن فسر الآية بالمعنى فإنه إذا دخل في قلوبهم مكذبين به فقد دخل التكذيب والضلال في قلوبهم فإن قيل فما معنى إدخاله في قلوبهم وهم لا يؤمنون به قيل لتقوم عليهم بذلك حجة الله فدخل في قلوبهم وعلموا أنه حق وكذبوا به فلم يدخل في قلوبهم دخول مصدق به مؤمن به مرضي به وتكذيبهم به بعد دخوله في قلوبهم أعظم كفرا من تكذيبهم به قبل أن يدخل في قلوبهم فإن المكذب بالحق بعد معرفته له شر من المكذب به ولم يعرفه فتأمله فإنه من فقه التفسير والله الموفق للصواب.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} فالإرسال هاهنا إرسال كوني قدري كإرسال الرياح وليس بإرسال ديني شرعي فهو إرسال تسليط بخلاف قوله في المؤمنين: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فهذا السلطان المنفى عنه على المؤمنين هو الذي أرسل به جنده على الكافرين قال أبو إسحاق: "ومعنى الإرسال ههنا التسليط تقول قد أرسلت فلانا على فلان إذا سلطته عليه كما قال: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}" فاعلم أن من اتبعه هو مسلط عليه قلت ويشهد له قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون} وقوله: {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} فالأز في اللغة التحريك والتهييج ومنه يقال لغليان القدر الأزيز لتحرك الماء عند الغليان وفي الحديث: "كان لصدر رسول الله ﷺ أزيزا كأزيز المرجل من البكاء" وعبارات السلف تدور على هذا المعنى قال ابن عباس: "تغريهم إغراء" وفي رواية أخرى عنه "تسلهم سلا" وفي رواية أخرى "تحرضهم تحريضا" وفي أخرى "تزعجهم للمعاصي إزعاجا" وفي أخرى "توقدهم إيقادا" أي كما يتحرك الماء بالوقد تحته قال أبو عبيدة: "الأزيز الإلهاب" والحركة كالتهاب النار في الحطب يقال إز قدرك أي ألهب تحتها النار وائتزت القدر إذا اشتد غليانها وهذا اختيار الأخفش والتحقيق أن اللفظة تجمع المعنيين جميعا قالت القدرية "معنى أرسلنا الشياطين على الكافرين خلينا بينهم وبينها ليس معناه التسليط" قال أبو علي "الإرسال يستعمل بمعنى التخلية بين المرسل وما يريد" فمعنى الآية خلينا بين الشياطين وبين الكافرين ولم يمنعهم منهم ولم يعدهم بخلاف المؤمنين الذين قيل فيهم أن عبادي ليس لك عليهم سلطان قال الواحدي "وإلى هذا الوجه يذهب القدرية في معنى الآية قال وليس المعنى على ما ذهبوا إليه" وقال أبو إسحاق "والمختار أنهم أرسلوا عليهم وقيضوا لهم بكفرهم كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقال: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} وإنما معنى الإرسال التسليط" قلت وهذا هو المفهوم من معنى الإرسال كما في الحديث: "إذا أرسلت كلبك المعلم أي سلطته ولو خلى بينه وبين الصيد من غير إرسال منه لم يبح صيده" وكذلك قوله: {وفي وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} أي سلطناها وسخرناها عليهم وكذلك قوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} والتخلية بين المرسل وبين ما أرسل عليه من لوازم هذا المعنى ولا يتم التسليط إلا به فإذا أرسل الشيء الذي من طبعه وشأنه أن تفعل فعلا ولم تمنعه من فعله فهذا هو التسليط ثم أن القدرية تناقضوا في هذا القول فإنهم إن جوزوا منعهم منهم وعصمتهم وإعادتهم فقد نقضوا أصلهم فإن منع المختار من فعله الاختياري مع سلامة النية وصحة بنيته تدل على أن فعله وتركه مقدور للرب وهذا عين قول أهل السنة وإن قالوا لا يقدر على منعهم وعصمهم منهم وإعادتهم فقد جعلوا قدرتهم ومشيئتهم بفعل ما لا يقدر الرب على المنع منه وهذا أبطل الباطل ثم قالت القدرية تؤزهم أزا تأمرهم بالمعاصي أمرا وحكوا ذلك عن الضحاك وهذا لا يلتفت إليه إذ لا يقال لمن أمر غيره بشيء قد أزه ولا تساعد اللغة على ذلك ولو كان ذلك صحيحا لكان يؤز المؤمنين أيضا فإنه يأمرهم بالمعاصي أكثر من أمر الكافرين فإن الكافر سريع الطاعة والقبول من الشيطان فلا يحتاج من أمره ما يحتاج إليه من أمر المؤمنين بل يأمر الكافر مرة ويأمر المؤمن مرات فلو كان الأز الأمر لم يكن له اختصاص بالكافرين.

فصل: ومن ذلك قوله

تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} وقوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} ومن المعلوم أن الإعاذة من الشيطان الرجيم ليست بإماتته ولا تعطيل آلات كيده وإنما هي بأن يعصم المستعيذ من أذاه له ويحول بينه وبين فعله الاختياري له فدل على أن فعله مقدور له سبحانه إن شاء سلطه على العبد وإن شاء حال بينه وبينه وهذا على أصول القدرية باطل فلا يثبتون حقيقة الإعاذة وإن أثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد وجعلوا الآية ردا على الجبرية والجبرية أثبتوا حقيقة الإعاذة ولم يثبتوا حقيقة الاستعاذة من العبد بل الاستعاذة فعل الرب حقيقة كما أن الإعاذة فعله وقد ضل الطائفتان عن الصراط المستقيم وأصابت كل طائفة منهما فيما أثبتته من الحق.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله} وقول هود وما توفيقي إلا بالله ومعلوم أن الصبر والتوفيق فعل اختياري للعبد وقد أخبر أنه به لا بالعبد وهذا لا ينبغي أن يكون فعلا للعبد حقيقة ولهذا أمر به وهو لا يأمر عبده بفعل نفسه سبحانه وإنما يؤمر العبد بفعله هو ومع هذا فليس فعله واقعا به وإنما هو بالخالق لكل شيء الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالتصبير منه سبحانه وهو فعله والصبر هو القائم بالعبد وهو فعل العبد ولهذا أثنى على من يسأله أن يصبره فقال تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} ففي الآية أربعة أدلة أحدها: قولهم: {أفرغ علينا صبرا}

والصبر فعلهم الاختياري فسألوه ممن هو بيده ومشيئته وإذنه إن شاء أعطاهموه وإن شاء منعهموه، والثاني: قولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} وثبات الأقدام فعل اختياري ولكن التثبيت فعله والثبات فعلهم ولا سبيل إلى فعلهم إلا بعد فعله، الثالث: قولهم: {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فسألوه النصر وذلك بأن يقوي عزائمهم ويشجعهم ويصبرهم ويثبتهم ويلقي في قلوب أعداهم الخور والخوف والرعب فيحصل النصر وأيضا فإن كون الإنسان منصورا على غيره إما أن يكون بأفعال الجوارح وهو واقع بقدرة العبد واختياره وأما أن يكون بالحجة والبيان والعلم وذلك أيضا فعل العبد وقد أخبر سبحانه أن النصر بجملته من عنده وأثنى على من طلبه منه وعند القدرية لا يدخل تحت مقدور الرب، الرابع: قوله: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله} وإذنه هاهنا هو الإذن الكوني القدري أي بمشيئته وقضائه وقدره وليس هو الإذن الشرعي الذي بمعنى الأمر فإن ذلك لا يستلزم الهزيمة بخلاف إذنه الكوني وأمره الكوني فإن المأمور المكون لا يتخلف عنه البتة.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} وفي الآية رد ظاهر على الطائفتين وإبطال لقولهما فإنه سبحانه أغفل قلب العبد عن ذكره فغفل هو فالإغفال فعل الله والغفلة فعل العبد ثم أخبر عن اتّباعه هواه وذلك فعل العبد حقيقة والقدرية تحرف هذا النص وأمثاله بالتسمية والعلم فيقولون معنى أغفلنا قلبه سميناه غافلا أو وجدناه غافلا أي علمناه كذلك وهذا من تحريفهم بل أغفلته مثل أقمته وأقعدته وأغنيته وأفقرته أي جعلته كذلك وأما أفعلته أو أوجدته كذلك كأحمدته وأجنبته وأبخلته وأعجزته فلا يقع في أفعال الله البتة إنما يقع في أفعال العاجز أن يجعل جبانا وبخيلا وعاجزا فيكون معناه صادفته كذلك وهل يخطر بقلب الداعي اللهم أقدرني أو أوزعني وألهمني أي سمني وأعلمني كذلك وهل هذا إلا كذب عليه وعلى المدعو سبحانه والعقلاء يعلمون علما ضروريا أن الداعي إنما سأل الله أن يخلق له ذلك ويشاءه له ويقدره عليه حتى القدري إذا غابت عنه بدعته وما تقلده عن أشياخه وأسلافه وبقي وفطرته لم يخطر بقلبه سوى ذلك وأيضا فلا يمكن أن يكون العبد هو المغفل لنفسه عن الشيء فإن إغفاله لنفسه عنه مشروط بشعوره به وذلك مضاد لغفلته عنه بخلاف إغفال الرب تعالى له فإنه لا يضاد علمه بما يغفل عنه العبد وبخلاف غفلة العبد فإنها لا تكون إلا مع عدم شعوره بالمغفول عنه وهذا ظاهر جدا فثبت إن الإغفال فعل الله بعبده والغفلة فعل العبد.

فصل: ومن ذلك قوله تعالى إخبارا عن نبيه شعيب أنه قال لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّنَا} وهذا يبطل تأويل القدرية المشيئة في مثل ذلك بمعنى الأمر فقد علمت أنه من الممتنع على الله أن يأمر بالدخول في ملة الكفر والشرك به ولكن استثنوا بمشيئته التي يضل بها من يشاء ويهدي من يشاء ثم قال شعيب وسع ربنا كل شيء علما فرد الأمر إلى مشيئته وعلمه فإن له سبحانه في خلقه علم محيط ومشيئته نافذة وراء ما يعلمه الخلائق فامتناعنا من العود فيها هو مبلغ علومنا ومشيئتنا ولله علم آخر ومشيئة أخرى وراء علومنا ومشيئتنا فلذلك رد الأمر إليه ومثله قول إبراهيم: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فأعادت الرسل بكمال معرفتها بالله أمورها إلى مشيئة الرب وعلمه ولهذا أمر الله رسوله أن لا يقول لشيء أنه فاعله حتى يستثني بمشيئة الله فإنه إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله وقد تقدم تقرير هذا المعنى وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد قال ابن عباس: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه التوحيد"

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي ﷺ لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله ﷺ: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه