→ الباب التاسع والعشرون | شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل الباب الثلاثون المؤلف: ابن قيم الجوزية |
الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه
قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" ثم قرأ أبو هريرة: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} وفي لفظ آخر: "ما من مولود إلا يولد على هذه الملة" وقد اختلف في معنى هذه الفطرة والمراد بها فقال القاضي أبو يعلي في معنى الفطرة: "ها هنا روايتان عن أحمد أحدهما الإقرار بمعرفة الله تعالى وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في أصلاب آبائهم حتى مسح ظهر آدم فأخرج من ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فليس أحد إلا وهو يقر بأن له صانعا ومدبرا وإن سماه بغير اسمه قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} فكل مولود يولد على ذلك الإقرار الأول" قال وليس الفطرة هنا الإسلام لوجهين أحدهما أن معنى الفطرة ابتداء الخلقة ومنه قوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي مبتدئها وإذ كانت الفطرة هي الابتداء وجب أن تكون تلك هي التي وقعت لأول الخليقة وجرت في فطرة المعقول وهو استخراجهم ذرية لأن تلك حالة ابتدائهم ولأنها لو كانت الفطرة هنا الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثهما ولا يرثانه ما دام طفلا لأنه مسلم واختلاف الدين يمنع الإرث ولوجب أن لا يصح استرقاقه ولا يحكم بإسلامه بإسلام أبيه لأنه مسلم" قال وهذا تأويل ابن قتيبة وذكره ابن بطة في الإبانة قال وليس كل من تثبت له المعرفة حكم بإسلامه كالبالغين من الكفار فإن المعرفة حاصلة وليسوا بمسلمين قال وقد أومأ أحمد إلى هذا التأويل وفي رواية الميموني فقال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها فقال له الميموني الفطرة الدين قال نعم قال القاضي وأراد أحمد بالدين المعرفة التي ذكرناها" قال والرواية الثانية: "الفطرة هنا ابتداء خلقه في بطن أمه لأن حمله على العهد الذي أخذه عليهم وهو الإقرار بمعرفته حمل للفطرة على الإسلام لأن الإقرار بالمعرفة إقرار بالإيمان والمؤمن مسلم ولو كانت الفطرة الإسلام لوجب إذا ولد بين أبوين كافرين أن لا يرثانه ولا يرثهما قال ولأن ذلك يمنع أن يكون الكفر خلقا لله وأصول أهل السنة بخلافه قال وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية على بن سعيد وقد سأله عن قوله كل مولود يولد على الفطرة فقال على الشقاوة والسعادة ولذلك نقل محمد بن يحيى الكحال أنه سأله فقال هي التي فطر الناس عليها شقي أو سعيد وكذلك نقل جبيل عنه قال الفطرة التي فطر الله عليها العباد من الشقاوة والسعادة قال وهذا كله يدل من كلامه على أن المراد بالفطرة ها هنا ابتداء خلقه في بطن أمه" قال شيخنا أبو العباس ابن تيمية أحمد: "لم يذكر العهد الأول وإنما قال الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقال في غير موضع أن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه واستدل بهذا الحديث فدل على أنه فسر الحديث بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث ولو لم تكن الفطرة عنده الإسلام لما صح استدلاله بالحديث" وقوله في موضع آخر: "يولد على ما فطر عليه من شقاوة وسعادة لا ينافي ذلك فإن الله سبحانه قدر السعادة والشقاوة وكتبهما وقدر أنها تكون بالأسباب التي تحصل بها كفعل الأبوين فتهويد الأبوين وتنصيرهما وتمجيسهما هو مما قدره الله أنه يفعل بالمولود والمولود ولد على الفطرة سليما وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان كما قدر سبحانه ذلك وكتبه كما مثل النبي ﷺ ذلك بقوله كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء فبين أن البهيمة تولد سليمة ثم يجدعها الإنسان وذلك بقضاء الله وقدره فكذلك المولود يولد على الفطرة سليما ثم يفسده أبواه وذلك أيضا بقضاء الله وقدره وإنما قال أحمد وغيره من الأئمة على ما فطر عليه من شقاوة أو سعادة لأن القدرية يحتجون بهذا الحديث على أن الكفر والمعاصي ليس بقضاء الله وقدره بل مما ابتدأ الناس إحداثه ولهذا قالوا لمالك بن أنس أن القدرية يحتجون علينا بأول الحديث فقال احتجوا عليهم بآخره وهو قول الله أعلم بما كانوا عاملين فبين الإمام أحمد وغيره أنه لا حجة فيه للقدرية فإنهم لا يقولون أن نفس الأبوين خلقا تهويده وتنصيره بل هو تهود وتنصر باختياره ولكن كانا سببا في حصول ذلك بالتعليم والتلقين فإذا أضيف إليهما هذا الاعتبار فلأن يضاف إلى الله الذي هو خالق كل شيء بطريق الأولى لأنه سبحانه وإن كان خلقه مولودا على الفطرة سليما فقد قدر عليه ما سيكون بعد ذلك من تغييره وعلم ذلك كما في الحديث الصحيح "أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانا وكفرا" فقوله طبع يوم طبع أي قدر وقضى في الكتاب أنه يكفر لا أن كفره كان موجودا قبل أن يولد ولا في حال ولادته فإنه مولود على الفطرة السليمة وعلى أنه بعد ذلك يتغير ويكفر من ظن أن الطبع على قلبه وهو الطبع المذكور على قلب الكفار فهو غالط فإن ذلك لا يقال فيه طبع يوم طبع إذ كان الطبع على قلبه إنما يوجد بعد كفره وقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا" وهذا صريح في أنه خلقهم على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك وكذلك في حديث الأسود بن سريع الذي رواه احمد وغيره قال بعث النبي ﷺ سرية فأفضى بهم القتل إلى الذرية فقال لهم النبي ﷺ: "ما حملكم على قتل الذرية قالوا يا رسول الله أليسوا أولاد المشركين قال أوليس خياركم أولاد المشركين ثم قام النبي ﷺ خطيبا فقال ألا إن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه" فخطبته لهم بهذا الحديث عقيب نهيه لهم عن قتل أولاد المشركين وقوله لهم أو ليس خياركم أولاد المشركين نص أنه أراد بهم ولدوا غير كفار ثم الكفر طرأ بعد ذلك ولو أراد أن المولود حين يولد يكون إما مسلما وإما كافرا على ما سبق له به القدر لم يكن فيما ذكر حجة على ما قصد من نهيه عن قتل أولاد المشركين وقد ظن بعضهم أن معنى قوله أو ليس خياركم أولاد المشركين أنه قد يكون في علم الله أنهم لو بقوا لآمنوا فيكون النهي راجعا إلى هذا المعنى من التجويز وليس هذا معنى الحديث لكن معناه أن خياركم هم السابقون الأولون وهؤلاء من أولاد المشركين فإن آباءهم كانوا كفارا ثم أن البنين أسلموا بعد ذلك فلا يضر الطفل أن يكون من أولاد المشركين إذا كان مؤمنا فإن الله إنما يجزيه بعمله لا بعمل أبويه وهو سبحانه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.
فصل: وهذا الحديث قد روي بألفاظ تفسر بعضها بعضا ففي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما ينتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا قال الله أعلم بما كانوا عاملين" وفي الصحيح قال الزهري: "نصلي على مولود يتوفى وإن كان من أجل أنه ولد على فطرة الإسلام إذا استهل صارخا ولا نصلي على من لم يستهل من أجل أنه سقط" فإن أبا هريرة كان يحدث أن النبي ﷺ قال: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء. ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}" وفي الصحيحين من رواية الأعمش: "ما من مولود إلا وهو على الملة" وفي رواية ابن معاوية عنه: "إلا على هذه الملة" حتى يعرب عنه لسانه فهذا صريح بأنه يولد على ملة الإسلام كما فسره ابن شهاب راوي الحديث واستشهاد أبي هريرة بالآية يدل على ذلك قال ابن عبد البر وقد سئل ابن شهاب عن رجل عليه رقبة مؤمنة أيجزي أن يعتقه وهو رضيع قال نعم لأنه ولد على الفطرة وقال أبو عمر وقد ذكر النزاع في تفسير الحديث وقال آخرون الفطرة ها هنا الإسلام قالوا وهو المعروف عند عامة السلف أهل التأويل قد أجمعوا في تأويل قول الله عز وجل: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا فطرة الله دين الله الإسلام واحتجوا بقول أبي هريرة في هذا الحديث اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها وذكروا عن عكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة في قوله عز وجل: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} قالوا: "فطرة الله دين الله الإسلام لا تبديل لخلق الله قالوا لدين الله" واحتجوا بحديث محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عابد الأزدي عن عياض بن حماد المجاشعي أن رسول الله ﷺ قال: "للناس يوما ألا أحدثكم بما حدثني الله في الكتاب أن الله خلق آدم وبنيه حنفاء مسلمين وأعطاهم المال حلالا لا حرام فيها فجعلوا ما أعطاهم الله حراما وحلالا" الحديث قال وكذلك روى بكر بن مهاجر عن ثور بن يزيد بإسناده مثله في هذا الحديث حنفاء مسلمين قال أبو عمر روى هذا الحديث قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عياض ولم يسمعه قتادة من مطرف ولكن قال حدثني ثلاثة عقبة بن عبد الغافر ويزيد بن عبد الله بن الشخير والعلاء بن زياد كلهم يقول حدثني مطرف عن عياض عن النبي ﷺ فقال فيه: "وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم" لم يقل مسلمين وكذلك رواه الحسن عن مطرف ورواه ابن إسحاق عمن لا يتهم عن قتادة بإسناده قال فيه: "وأنى خلقت عبادي حنفاء كلهم" ولم يقل مسلمين قال فدل هذا على حفظ محمد بن إسحاق وإتقانه وضبطه لأنه ذكر مسلمين في روايته عن ثور بن يزيد لهذا الحديث وأسقطه من رواية قتادة وقصر فيه عن قوله مسلمين وزاده ثور بإسناده فالله أعلم قال والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام قال وقد روي عن الحسن الحنيفية: "حج البيت" وهذا يدل أنه أراد الإسلام وكذلك روى عن الضحاك والسدي قال: "حنفاء حجاجا" وعن مجاهد: "حنفاء متبعين" قال وهذا كله يدل على أن الحنيفية الإسلام قال وقال أكثر العلماء الحنيف المخلص وقال الله عز وجل: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} وقال تعالى: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} وقال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} وقال الشاعر وهو الراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا حق الزكاة منزلا تنزيلا
قال فهذا وصف الحنيفية بالإسلام وهو أمر واضح لا خفاء به قال ومما احتج به من ذهب في هذا الحديث إلى أن الفطرة في هذا الحديث الإسلام قوله ﷺ: "خمس من الفطرة" ويروى "عشر من الفطرة" قال شيخنا: "والدلائل على ذلك كثيرة ولو لم يكن المراد بالفطرة الإسلام لما سألوا عقيب ذلك أرأيت من يموت من أطفال المشركين لأنه لم يكن هناك ما يغير تلك الفطرة لما سألوه والعلم القديم وما يجرى مجراه لا يتغير" وقوله فأبواه يهودانه بين فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر عليها وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيها ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغير وأرد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها وأيضا فان الحديث مطابق للقرآن كقوله: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وهذا يعم جميع الناس فعلم أن الله سبحانه فطر الناس كلهم على فطرته المذكورة وأيضا فإنه أضاف الفطرة إليه إضافة مدح لا إضافة ذم فعلم أنها فطرة محمودة لا مذمومة كدين الله وبيته وناقته وأيضا فإنه قال فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها وأيضا فإن هذا تفسير السلف قال ابن جرير: "يقول فسدد وجهك نحو الوجه الذي وجهك الله يا محمد بطاعته وهي الدين حنيفا" يقول مستقيما لدينه وطاعته فطرة الله يقول صنعة الله خلق الناس عليها ونصب فطرة على المصدر معنى قوله فأقم وجهك للدين حنيفا لأن المعنى فطر الله الناس على ذلك فطرة قال وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ثم روى عن ابن زيد قال: "فطرة الله التي فطر الناس عليها قال الإسلام منذ خلقهم الله من آدم جميعا يقرون بذلك" وعن مجاهد: "فطرة الله قال الدين الإسلام" ثم روى عن يزيد بن أبي مريم قال عمر لمعاذ بن جبل فقال ما قوام هذه الأمة قال معاذ ثلاث وهن المنجيات الإخلاص وهو الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة فقال عمر صدقت وقوله لا تبديل لخلق الله يقول لا تغيير لدين الله أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "لا تبديل لخلق الله أي لدين الله" ثم ذكر أن مجاهدا أرسل إلى عكرمة يسأله عن قوله لا تبديل لخلق الله قال: "هو الخصا" فقال مجاهد: "أخطأ لا تبديل لخلق الله إنما هو الدين" ثم قال: "لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" وروى عن عكرمة: "لا تبديل الخلق الله قال لدين الله" هو قول سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وابن زيد وعن ابن عباس وعكرمة ومجاهد: "هو الخصا" ولا منافاة بين القولين كما قال تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} فتغيير ما فطر الله عباده من الدين تغيير لخلقه والخصا وقطع آذان الأنعام تغيير لخلقه أيضا ولهذا شبه النبي ﷺ أحدهما بالآخر فأولئك يغيرون الشريعة وهؤلاء يغيرون الخلقة فذلك يغير ما خلقت عليه نفسه وروحه وهذا يغير ما خلق عليه بدنه.
فصل: ولما صار القدرية يحتجون بهذا الحديث على قولهم صار الناس يتأولونه على تأويلات يخرجونه بها عن مقتضاه فقالت القدرية كل مولود يولد على الإسلام والله سبحانه لا يضل أحدا وإنما أبواه يضلانه قال لهم أهل السنة أنتم لا تقولون بأول الحديث ولا بآخره أما أوله فإنه لم يولد أحد عندكم على الإسلام أصلا ولا جعل الله أحدا مسلما ولا كافرا عندكم وهذا أحدث لنفسه الكفر وهذا أحدث لنفسه الإسلام والله لم يخلق واحدا منهما ولكن دعاهما إلى الإسلام وأزاح عللهما وأعطاهما قدرة مماثلة فهما يصلح للضدين ولم يخص المؤمن بسبب يقتضي حصول الإيمان فإن ذلك عندكم غير مقدور له ولو كان مقدورا لكان منع الكافر منه ظلما هذا قول عامة القدرية وإن كان أبو الحسين يقول أنه خص المؤمن بداعي الإيمان ويقول عند الداعي والقدرة يجب وجود الإيمان وهذا في الحقيقة موافق لقول أهل السنة قالوا فأنتم قلتم إن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر المشروط بالعقل ويستحيل أن تكون المعرفة عندكم ضرورة أو تكون من فعل الله وأما كونكم لا تقولون بآخره فهو أنه ينسب فيه التهويد والتنصير إلى الأبوين وعندكم أن المولود هو الذي أحدث لنفسه التهويد والتنصير دون الأبوين والأبوان لا قدرة لهما على ذلك البتة وأيضا فقوله الله أعلم بما كانوا عاملين دليل على أن الله يعلم ما يصيرون إليه بعد ولادتهم على الفطرة هل يبقون عليها فيكونون مؤمنين أو يغيرون فيصيرون كفارا فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاة القدرية واتفق السلف على تكفيرهم بإنكاره فالذي استدللتم به من الحديث على قولكم الباطل وهو قوله فأبواه يهودانه وينصرانه لا حجة لكم بل هو حجة عليكم فغير الله لا يقدر على جعل الهدى أو الضلال في قلب أحد بل المراد بالحديث دعوة الأبوين إلى ذلك وتربيتهما له وتربيتهما على ذلك مما يفعله المعلم والمربي وخص الأبوين بالذكر على الغالب أنه جعل أبوان وإلا فقد يقع من أحدهما أو من غيرهما.
فصل: قال أبو عمر بن عبد البر اختلف العلماء في الفطرة المذكورة في هذا الحديث اختلافا كثيرا وكذلك اختلفوا في الأطفال وحكمهم في الدنيا والآخرة فسئل عنه ابن المبارك فقال: "تفسيره آخر الحديث وهو قوله الله أعلم بما كانوا عاملين" هكذا ذكر أبو عبيد عن ابن المبارك لم يزد شيئا وذكر أنه سأل محمد بن الحسن عن تأويل هذا الحديث فقال: "كان هذا القول من النبي ﷺ قبل أن يؤمر الناس بالجهاد" هذا ما ذكره أبو عبيده قال أبو عمر أما ما ذكره عن ابن المبارك فقد روي عن مالك نحو ذلك وليس فيه مقنع من التأويل ولا شرح موعب في أمر الأطفال ولكنها تؤدي إلى الوقوف عن القطع فيهم بكفر وإيمان أو جنة ونار ما لم يبلغوا العمل قال وأما ما ذكره عن محمد بن الحسن فأظن محمدا حاد عن الجواب فيه إما لإشكاله وإما لجهله به أو لما شاء الله وأما قوله أن ذلك كان من النبي ﷺ قبل أن يؤمر الناس بالجهاد فلا أدري ما هذا فإن كان أراد أن ذلك منسوخ فغير جائز عند العلماء دخول النسخ في أخبار الله ورسوله إذ المخبر بشيء كان أو يكون إذا رجع عن ذلك لم يخل رجوعه من تكذيبه لنفسه أو غلطه فيما أخبر به أو نسيانه وقد جل الله عن ذلك وعصم رسوله منه وهذا لا يجهله ولا يخالف فيه أحد وقول محمد بن الحسن أن هذا كان قبل أن يؤمر الناس بالجهاد ليس كما قال أن في حديث الأسود الدؤلي بن سريع ما يتبين أن ذلك كان منه بعد الأمر بالجهاد ثم روى بإسناده عن الحسن عن الأسود بن سريع قال قال رسول الله ﷺ: "ما بال أقوام بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان فقال رجل أو ليس إنما هم أولاد المشركين فقال رسول الله ﷺ أو ليس خياركم أولاد المشركين إنه ليس من مولود يولد إلا على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه ويهوده أبواه أو ينصرانه" قال وروى هذا الحديث عن الحسن جماعة منهم أبو بكر المزني والعلاء بن زياد والمسري بن يحيى وقد روى عن الأحنف عن الأسود بن سريع قال وهو حديث بصري صحيح قال وروى عوف الأعرابي عن سمرة بن جندب عن النبي ﷺ قال: "كل مولود يولد على الفطرة فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين" قال شيخنا: "أما ما ذكره أبو عمر عن مالك وابن المبارك فيمكن أن يقال أن المقصود أن آخر الحديث يبين أن الأول قد سبق في علم الله يعملون إذا بلغوا أو أن منهم من يؤمن فيدخل الجنة ومنهم من يكفر فيدخل النار" فلا يحتج بقوله كل مولود يولد على الفطرة على نفي القدر كما احتجت القدرية به وعلى أن أطفال الكفار كلهم في الجنة لكونهم ولدوا على الفطرة فيكون مقصود مالك وابن المبارك أن حكم الأطفال على ما في آخر الحديث وأما قول محمد فإنه رأى الشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبويه في الدين في أحكام الدنيا فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه المسلمون ويجوز استرقاقهم فلم يجز لأحد أن يحتج بهذا الحديث على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم وهذا حق ولكن ظن أن الحديث اقتضى الحكم لهم في الدنيا بأحكام المؤمنين فقال هذا منسوخ كان قبل الجهاد لأنه بالجهاد أبيح استرقاق النساء والأطفال والمؤمن لا يسترق ولكن كون الطفل يتبع أباه في الدين في الأحكام الدنيوية أمر ما زال مشروعا وما زال الأطفال تبعا لأبويهم في الأمور الدنيوية والحديث لم يقصد بيان هذه الأحكام وإنما قصد بيان ما ولد عليه الأطفال من الفطرة.
فصل: ومما ينبغي أن يعلم أنه إذا قيل أنه ولد على الفطرة أو على الإسلام أو على هذه الملة أو خلق حنيفا فليس المراد به أنه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده فإنه الله يقول: {وَالله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ولكن فطرته موجبة مقتضية لدين الإسلام لقروبه ومحبته فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء بحسب كمال الفطرة إذا سلمت من المعارض وليس المراد أيضا مجرد قبول الفطرة لذلك فإن هذا القبول تغير بتهويد الأبوين وتنصيرهما بحيث يخرجان الفطرة عن قبولها وإن سعيا بين بنيهما ودعائهما في امتناع حصول المقبول أيضا ليس هو الإسلام وليس هو هذه الملة وليس هو الحنيفية وأيضا فإنه شبه تغيير الفطرة بجدع البهيمة الجمعاء ومعلوم أنهم لم يغيروا قبوله ولو تغير القبول وزال لم تقم عليه الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل المراد أن كل مولود فإنه يولد على محبته لفاطره وإقراره له بربوبيته وادعائه له بالعبودية فلو خلي وعدم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من الأغذية والأشربة فيشتهي اللبن الذي يناسبه ويغذيه وهذا من قوله تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} فهو سبحانه خلق الحيوان مهتديا إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ثم هذا الحب والبغض يحصل فيه شيئا فشيئا بحسب حاجته ثم قد يعرض لكثير من الأبدان ما يفسد ما ولد عليه من الطبيعة السليمة والعادة الصحيحة فهكذا ما ولد عليه من الفطرة ولهذا شبهت الفطرة باللبن بل كانت إياه في التأويل للرؤيا ولما عرض على النبي ﷺ ليلة الإسراء اللبن والخمر أخذ اللبن فقيل له أخذت الفطرة ولو أخذت الخمر لغوت أمتك فمناسبة اللبن لبدنه وصلاحه عليه دون غيره لمناسبة الفطرة لقلبه وصلاحه بها دون غيرها.
فصل: قال ابن عبد البر وقالت طائفة المراد بالفطرة في هذا الحديث الخلقة التي خلق عليها المولود من المعرفة بربه فكأنه قال كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة يريد أنه خلق خلقة مخالفة لخلقة البهائم التي لا تصل بخلقها إلى معرفة ربها قالوا والفاطر هو الخالق وأنكرت أن يكون المولود يفطر على إيمان أو كفر قال شيخنا: "صاحب هذا القول أن أراد بالفطرة التمكن من المعرفة والقدرة عليها فهذا ضعيف فإن مجرد القدرة على ذلك لا يقتضي أن يكون حنيفا ولا أن يكون على الملة ولا يحتاج أن يذكر تغيير أبويه لفطرته" حين يسأل عمن مات صغيرا ولأن القدرة في الكبير أكمل منها في الصغير وهو لما نهاهم عن قتل الصبيان فقالوا أنهم أولاد المشركين قال أو ليس خياركم أولاد المشركين ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ولو أريد القدرة لكان البالغون كذلك مع كونهم مشركين مستوجبين للقتل وإن أراد بالفطرة القدرة على المعرفة مع إرادتها فالقدرة الكاملة مع الإرادة التامة تستلزم وجود المراد المقدور فدل على أنهم فطروا على القدرة على المعرفة وإرادتها وذلك مستلزم للإيمان.
فصل: قال أبو عمر وقال آخرون معنى قوله يولد على الفطرة يعني البداءة التي ابتدأهم عليها يريد أنه مولود على ما فطر الله عليه خلقته من أنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاء إلى ما يصيرون إليه عند البلوغ من قبولهم غير إيمانهم واعتقادهم قالوا والفطرة في كلام العرب البداءة وألفاظ المبتدئ وكأنه قال يولد على ما ابتدأه الله عليه من الشقاء والسعادة وغير ذلك مما يصير إليه وقد فطر عليه واحتجوا بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} وروى بإسناده إلى ابن عباس قال: "لم أدر ما فاطر السماوات والأرض حتى أتانا أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وذكر دعاء على اللهم جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها" قال شيخنا: "حقيقة هذا القول أن كل مولود فإنه يولد على ما سبق في علم الله أنه صائر إليه" ومعلوم أن جميع المخلوقات بهذه المثابة فجميع البهائم مولودة على ما سبق في علم الله لها والأشجار مخلوقة على ما سبق في علم الله وحينئذ فيكون كل مخلوق قد خلق على الفطرة وأيضا فلو كان المراد ذلك لم يكن لقوله فأبواه يهودانه معنى فإنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها وعلى هذا القول فلا فرق بين التهويد والتنصير وبين تلقي الإسلام وتعليمه وبين تعلم سائر الحرف والصنائع فإن ذلك كله واحد فيما سبق به العلم وأيضا فتمثيله ذلك بالبهيمة التي ولدت جمعاء ثم جدعت تبين أن أبويه غيرا ما ولد عليه وأيضا فقوله على هذه الملة وقوله أني خلقت عبادي حنفاء مخالف لهذا وأيضا فلا فرق بين حال الولادة وسائر أحوال الإنسان فإنه من حين كان جنينا إلى ما لا نهاية له من أحواله على ما سبق في علم الله فتخصيص الولادة بكونها على مقتضى القدر تخصيص بلا مخصص وقد ثبت في الصحيح: "أنه قيل حين نفخ الروح فيه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد" فلو قيل كل مولود ينفخ فيه الروح على الفطرة لكان أشبه بهذا المعنى مع أن النفخ هو بعد الكتابة.
فصل: قال أبو عمر قال محمد بن نصر المروزي: "وهذا المذهب شبيه بما حكاه أبو عبيد عن ابن المبارك أنه سئل عن هذا الحديث فقال يفسره قوله الله أعلم بما كانوا عاملين قال المروزي وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هنا القول ثم تركه" قال أبو عمر وما رسمه مالك في موطأه وذكر في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدل على أن مذهبه في ذلك نحو هذا قال شيخنا أئمة ألسنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق في علم الله فيهم من إيمان وكفر كما في الحديث الآخر أن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا والطبع الكتاب أي كتب كافرا كما في الحديث الصحيح فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وليس إذا كان الله كتبه كافرا يقتضي أنه حين الولادة كافر بل يقتضي انه لا بد ان يكفر وذلك الكفر هو التغيير كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء وقد سبق في علمه أنها تجدع كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة ولا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.
فصل: وكلام أحمد في أجوبة له أخرى يدل على أن الفطرة عنده الإسلام كما ذكر محمد بن نصر عنه أنه آخر قوليه فإنه كان يقول: "أن صبيان أهل الحرب إذا سبوا بدون الأبوين كانوا مسلمين وإن كانوا معهما فهم على دينهما فإن سبوا مع أحدهما ففيه عنه روايتان" وكان يحتج بالحديث قال الخلال في الجامع أنبأنا أبو بكر المروزي أنبأنا عبد الله قال سبي أهل الحرب أنهم مسلمون إذا كانوا صغارا وإن كانوا مع أحد الأبوين وكان يحتج بقول رسول الله ﷺ: "فأبواه يهودانه وينصرانه" قال وأما أهل الثغر فيقولون إذا كان مع أبويه أنهم يخيرونه على الإسلام قال ونحن لا نذهب إلى هذا قال النبي ﷺ: "فأبواه يهودانه وينصرانه" قال الخلال أنبأنا عبد الملك الميموني قال سألت أبا عبد الله قبل الحبس عن الصغير يخرج من أرض الروم وليس معه أبواه فقال: "إن مات صلى عليه المسلمون قلت يكره على الإسلام قال إذا كانوا صغارا يصلون عليهم أكره عليه قلت فإن كان معه أبواه قال إذا كان معه أبواه أو أحدهما لم يكره ودينه على دين أبويه" قلت إلى أي شيء يذهب إلى حديث النبي ﷺ: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه" قال نعم وعمر بن عبد العزيز فأدى به فلم يرده إلى بلاد الروم إلا وحكمه حكمهم قلت في الحديث كان معه أبواه قال لا وليس ينبغي إلا أن يكون معه أبواه قال الخلال ما رواه الميموني قول أول لأبي عبد الله ولذلك نقل إسحاق بن منصور أن أبا عبد الله قال إذا لم يكن معه أبواه فهو مسلم قلت لا يجبرونه على الإسلام إذا كان معه أبواه أو أحدهما قال نعم قال الخلال وقد روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خلق كلهم قال: "إذا كان مع أحد أبويه فهو مسلم" وهؤلاء النفر سمعوا من أبي عبد الله بعد الحبس وبعضهم قبل وبعد والذي أذهب إليه ما رواه الجماعة قال الخلال وحدثنا أبو بكر المروزي قال قلت لأبي عبد الله: "أني كنت بواسط فسألوني عن الذي يموت هو وامرأته ويدعا طفلين ولهما عم ما تقول فيهما فإنهم قد كتبوا إلى البصرة فيها فقال أكره أن أقول فيها برأي دع حتى أنظر لعل فيهما عمن تقدم فلما كان بعد شهر عاودته قال نظرت فيها فإذا النبي ﷺ قال فأبواه يهودانه وينصرانه وهذا ليس له أبوان قلت يجبر على الإسلام قال نعم هؤلاء مسلمون لقول النبي ﷺ" وكذلك نقل يعقوب بن سحبان قال قال أبو عبد الله: "إذا مات الذمي أبواه وهو صغير أجبر على الإسلام" وذكر الحديث "فأبواه يهودانه وينصرانه" ونقل عنه عبد الكريم بن الهيثم العاقولي في المجوسيين: "يولد لهما ولد فيقولان هذا مسلم فيمكث خمس سنين ثم يتوفى قال ذاك يدفنه المسلمون قال النبي ﷺ: "فأبواه يهودانه وينصرانه" وقال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يزوجون بناتهم من قوم علي أنه ما كان من ذكر فهو للرجل مسلم وما كان من أنثى فهي مشركة يهودية أو مجوسية أو نصرانية فقال يجبر هؤلاء من أبا منهم على الإسلام لأن أباهم مسلما لحديث النبي ﷺ فأبواه يهودانه وينصرانه يردون كلهم إلى الإسلام ومثل هذا كثير في أجوبته يحتج بالحديث على إنما يصير كافرا بأبويه فإذا لم يكن مع أبوين كافرين فهو مسلم فلو لم تكن الفطرة الإسلام لم يكن بعدم أبويه يصير مسلما فإن الحديث إنما دل على أنه يولد على الفطرة ونقل عنه الميموني أن الفطرة هي الدين وهي الفطرة الأولى قال الخلال: "أخبرني الميموني أنه قال لأبي عبد الله كل مولود يولد على الفطرة يدخل عليه إذا كان أبواه يعني أن يكون حكمه حكم ما كانوا صغارا فقال لي نعم ولكن يدخل عليك في هذا فتناظرنا بما يدخل علي من هذا القول وبما يكون" فقوله قلت لأبي عبد الله فما تقول أنت فيها وإلى أي شيء تذهب قال أقول أنا ما أدري أخبرك هي مسلمة كما ترى ثم قال لي والذي يقول كل مولود يولد على الفطرة ينظر أيضا إلى الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها قلت له فما الفطرة الأولى أهي الدين قال نعم فمن الناس من يحتج بالفطرة الأولى مع قول النبي ﷺ "كل مولود يولد على الفطرة" قلت لأبي عبد الله فما تقول لأعرف قولك قال أقول أنه على الفطرة الأولى قال شيخنا: "فجواب أحمد أنه على الفطرة الأولى وقوله أنها الدين يوافق القول بأنه على دين الإسلام".
فصل: وأما جواب أحمد أنه على ما فطر من شقاوة وسعادة الذي ذكر محمد بن نصر أنه كان يقول به ثم تركه فقال الخلال أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله كل مولود يولد على الفطرة ما تفسيرها قال: "هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها شقي أو سعيد" وكذلك نقل عنه الفضل بن زياد وجبيل وأبو الحارث أنهم سمعوا أبا عبد الله في هذه المسألة قال: "الفطرة التي فطر الله العباد عليها من الشقاوة والسعادة" وكذلك نقل عنه علي بن سعيد أنه سأل أبا عبد الله عن كل مولود يولد على الفطرة قال: "الشقاوة والسعادة" قال "يرجع إلى ما خلق" وعن الحسن بن بواب قال سألت أبا عبد الله عن أولاد المشركين قلت أن ابن أبي شيبة أبا بكر قال: "هو على الفطرة حتى يهوداه أبواه أو ينصرانه" فلم يعجبه شيء من هذا القول وقال كل مولود من أطفال المشركين على الفطرة يولد على الفطرة التي خلق عليها من الشقاء والسعادة التي سبقت في أم الكتاب أرفع ذلك إلى الأصل هذا معنى كل مولود يولد على الفطرة فمن أصحابه من قال هذا قولا قديما له ثم تركه ومنهم من جعل المسألة على روايتين وأطلق ومنهم من حكى عنه في ثلاث روايات الثالثة الوقف.
فصل: قال شيخنا: "والإجماع والآثار المنقولة عن السلف لا تدل إلا على القول الذي رجحناه وهو أنهم على الفطرة ثم صاروا إلى ما سبق في علم الله فيهم من سعادة وشقاوة لا يدل على أنهم حين الولادة لم يكونوا على فطرة سليمة مقتضية للإيمان ومستلزمة له لولا العارض" وروى ابن عبد البر بإسناده عن موسى بن عبيدة سمعت محمد بن كعب القرظي في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال: "من ابتدأ الله خلقه على الهدى صيره إلى الهدى وأن عمل بعمل أهل الضلالة ومن ابتدأ خلقه للضلالة صيره إلى الضلالة وإن عمل بعمل أهل الهدى ابتدأ خلق إبليس على الضلالة وعمل بعمل أهل السعادة مع الملائكة ثم رده الله إلى ما ابتدأ خلقه عليه من الضلالة" فقال: "وكان من الكافرين وابتدأ خلق السحرة على الهدى وعملوا بعمل أهل الضلالة ثم هداهم الله إلى الهدى والسعادة وتوفاهم عليها مسلمين" فهذا المنقول عن محمد بن كعب يبين أن الذي ابتدأهم عليه هو ما كتب أنهم صائرون إليه وأنهم قد يعملون قبل ذلك غيره وأن من ابتدئ على الضلالة أي كتب أن يموت ضالا فقد يكون قبل ذلك عاملا بعمل أهل الهدى وحينئذ فمن ولد على الفطرة السليمة المقتضية للهدى لا يمنع أن يعرض لها ما يغيرها فيصير إلى ما سبق به القدر كما في الحديث الصحيح: "أن أحدكم يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة" وقال سعيد بن جبير في قوله: "كما بدأ كم تعودون قال كما كتب عليكم تكونون" وقال مجاهد: "كما بدأكم تعودون شقي وسعيد" وقال أيضا: "يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا" وقال أبو العالية: "عادوا إلى علمه فيهم فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة" قلت هذا المعنى صحيح في نفسه دل عليه القرآن والسنة والآثار السلفية وإجماع أهل السنة وأما كونه هو المراد بالآية ففيه ما فيه والذي يظهر من الآية أن معناها معنى نظرائها وأمثالها من الآيات التي يحتج الله سبحانه فيها على النشأة الثانية بالأولى وعلى المعاد بالمبدأ فجاء باحتجاج في غاية الاختصار والبيان فقال كما بدأكم تعودون كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} الآية وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وقوله : {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} أي على رجع الإنسان حيا بعد موته هذا هو الصواب في معنى الآية يبقى أن يقال فكيف يرتبط هذا بقوله فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلال فيقال هذا الذي أوجب لأصحاب ذلك القول ما تأولوا به الآية ومن تأمل الآية علم أن القول أولى بها ووجه الارتباط أن الآية تضمنت قواعد الدين علما وعملا واعتقادا فأمر سبحانه فيها بالقسط هو الذي هو حقيقة شرعه ودينه وهو يتضمن التوحيد فإنه أعدل العدل والعدل في معاملة الخلق والعدل في العبادة وهو الاقتصاد في السنة ويتضمن الأمر بالإقبال على الله وإقامة عبوديته في ثبوته ويتضمن الإخلاص له وهو عبوديته وحده لا شريك له فهذا ما فيها من العمل ثم أخبر بمبدأهم ومعادهم فتضمن ذلك حدوث الخلق وإعادته فذلك الإيمان بالمبدأ والمعاد ثم أخبر عن القدر الذي هو نظام التوحيد فقال فريقا هدى وفريفا حق عليهم الضلالة فتضمنت الآية الإيمان بالقدر والشرع والمبدأ والمعاد والأمر بالعدل والإخلاص ثم ختم الآية بذكر حال من لم يصدق هذا الخبر ولم يطع هنا الأمر بأنه قدوا للشيطان دون ربه وأنه على ضلال وهو يحسب أنه على هدى والله أعلم.
فصل: وقال آخرون يعني قوله كل مولود يولد على الفطرة أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة وعلى الكفر والإيمان فأخذ من ذرية آدم الميثاق حين خلقهم فقال ألست بربكم قالوا جميعا بلى فأما أهل السعادة فقالوا بلى على معرفة له طوعا من قلوبهم وأما أهل الشقاء فقالوا بلى كرها غير طوع قالوا ويصدق ذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} قالوا وكذلك قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} قال محمد بن نصر المروزي سمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى واحتج بقول أبي هريرة: "اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}" قال الحق نقول لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم يعني من الكفر والإيمان والمعرفة والإنكار واحتج بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية قال إسحاق أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد واستنطقهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى قال انظروا أن لا تقولوا أنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وذكر حديث أبي بن كعب في قصة الغلام الذي قتله الخضر قال وكان الظاهر ما قال موسى أقتلت نفسا زكية بغير نفس فأعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه من الفطرة التي فطره عليها وأنه لا تبديل لخلق الله فأمر بقتله لأنه كان قد طبع كافرا وفي صحيح البخاري أن ابن عباس كان يقرأها وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين قال إسحاق: "فلو ترك النبي ﷺ الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين" لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد عليه حتى أخرج من ظهر آدم فبين النبي ﷺ حكم الأطفال في الدنيا بأن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه يقول أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى لكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه فاعرفوا ذلك بالأبوين فمن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الإسلام وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله وبعلم ذلك فضل الله الخضر في علمه هذا على موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك قال ولقد سئل ابن عباس عن ولدان المسلمين والمشركين فقال: "حسبك ما اختصم فيه موسى والخضر" قال إسحاق: "ألا ترى إلى قول عائشة حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين طوبى له عصفور من عصافير الجنة فرد عليها النبي ﷺ وقال مه يا عائشة وما يدريك أن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا" قال إسحاق: "فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم" وسئل حماد بن سلمة عن قول النبي ﷺ: "كل مولود يولد على الفطرة" فقال: "هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم قال ابن قتيبة يريد حين مسح ظهر آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" قال شيخنا: "أصل مقصود الأئمة صحيح وهو منع احتجاج القدرية بهذا الحديث على نفي القدر لكن لا يحتاج مع ذلك أن يفسر القرآن والحديث إلا بما هو مراد الله ورسوله ويجب أن يتبع في ذلك ما دل عليه الدليل" وما ذكروه أن الله فطرهم على الكفر والإيمان والمعرفة والنكرة إن أرادوا به أن الله سبق في علمه وقدره بأنهم سيؤمنون ويكفرون ويعرفون وينكرون وإن ذلك كان بمشيئة الله وقدره وخلقه فهذا حق ترده القدرية فغلاتهم ينكرون العلم وجميعهم ينكرون عموم خلقه ومشيئته وقدرته وإن أرادوا أن هذه المعرفة والنكرة كانت موجودة حين أخذ الميثاق كما في ظاهر المنقول عن إسحاق فهذا يتضمن شيئين أحدهما أنهم حينئذ كانت المعرفة والإيمان موجودا فيهم كما قال ذلك طوائف من السلف وهو الذي حكى إسحاق الإجماع عليه وفي تفسير الآية نزاع بين الأئمة وكذلك في خلق الأرواح قبل الأجساد قولان معروفان لكن المقصود هنا أن هذا إن كان حقا فهو توكيد لكونهم ولدوا على تلك المعرفة والإقرار فهذا لا يخالف ما دلت عليه الأحاديث من أنه يولد على الملة وأن الله خلق خلقه حنفاء بل هو مؤيد لذلك وأما قول القائل أنهم في ذلك الإقرار انقسموا إلى مطيع وكافر فهذا لم ينقل عن أحد من السلف فيما أعلم إلا عن السدي في تفسيره قال لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم أدخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال أدخلوا النار ولا أبالي ذلك قوله وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال الست بربكم قالوا بلى فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف الله بأنه ربه وذلك قوله عز وجل: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} وكذلك قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يعني يوم أخذ الميثاق قال شيخنا: "وقيل هذا الأثر لا يوثق به" فإن في تفسير السدي أشياء قد عرف بطلان بعضها وهو ثقة في نفسه وأحسن أحوال هذا وأمثاله أن يكون كالمراسيل إن كان مأخوذا عن النبي ﷺ فكيف إذا كان مأخوذا عن أهل الكتاب ولو لم يكن في هذا إلا معارضة لسائر الآثار التي تتضمن التسوية بين جميع الناس في الإقرار لكفى وأما قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} فإنما هو في الإسلام الموجود منهم بعد خلقهم لم يقل أنهم حين العهد الأول أسلموا طوعا وكرها يدل على ذلك أن ذلك الإقرار الأول جعله الله عليهم حجة على من ينسه ولو كان فيهم كاره لقال لم أقر طوعا بل كرها فلا يقوم به عليه حجة وأما احتجاج أحمد بقول أبي هريرة "اقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله}" فهذه الآية فيها قولان أحدهما أن معناها النهي كما تقدم عن أبن جرير أنه فسرها فقال أي لا تبدلوا دين الله الذي فطر عليه عباده وهذا قول غير واحد من المفسرين لم يذكروا غيره والثاني ما قاله إسحاق وهو أنها خبر على ظاهرها وأن خلق الله لا يبدله أحد وظاهر اللفظ خبر فلا يجعل نهيا بغير حجة وهذا أصح وحينئذ فيكون المراد أن ما جبلهم عليه من الفطرة لا يبدل فلا يجبلون على غير الفطرة لا يقع هذا أصلا والمعنى أن الخلق لا يتبدل فيخلقون على غير الفطرة ولم يرد بذلك أن الفطرة لا تتغير بعد الخلق بل نفس الحديث يبين أنها تتغير ولهذا شبهها بالبهيمة التي تولد جمعاء ثم تجدع ولا تولد بهيمة مخصية ولا مجدوعة وقد قال تعالى عن الشيطان: {لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} أقدر الخلق على أن يغيروا ما خلقهم عليه بقدرته ومشيئته وإنما تبديل الخلق بأن يخلقوا على غير تلك الفطرة فهذا لا يقدر عليه إلا الله والله لا يفعله كما قال لا تبديل لخلق الله ولم يقل لا تغيير فإن تبديل الشيء يكون بذهابه وحصول بدله ولكن إذا غير بعد وجوده لم يكن الخلق الموجود عند الولادة وأما قول القائل لا تبديل للخلقة التي جبل عليها بنو آدم كلهم من كفر وإيمان فإن عني به ما سبق به القدر من الكفر والإيمان لا يقع خلافه فهذا حق ولكن ذلك لا يقتضي أن تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس ممتنع ولا أنه غير مقدور بل العبد قادر على ما أمره الله به من الإيمان وعلى ترك ما نهاه عنه من الكفر وعلى أن يبدل حسناته بالسيئات وسيئاته بالحسنات كما قال الله إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء وهذا التبديل كله بقضاء الله وقدره وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة فإن ذلك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره وهو سبحانه لا يبدله بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس فأنه يبدله كثيرا والعبد قادر على تبديله بإقدار الرب له على ذلك ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} فهذه فطرة محمودة أمر الله بها نبيه فكيف تنقسم إلى كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها وقد تقدم تفسير السلف لا تبديل لخلق الله أي لدين الله أو النهي عن الخصا ونحوه ولم يقل أحد منهم أن المعني لا تبديل لأحوال العباد من كفر إلى إيمان وعكسه فإن تبديل ذلك موجود ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر والرب تعالى عالم بما سيكون لا يقع خلاف معلومه فإذا وقع التبديل كان هو الذي علمه وأما قوله عن الغلام أنه طبع يوم طبع كافرا فالمراد به أنه كتب كذلك وقدر وختم فهو من طبع الكتاب ولفظ الطبع لما صار يستعمله كثير من الناس في الطبيعة التي هي بمعنى الخلقة والجبلة ظن الظان أن هذا مراد الحديث وهذا الغلام الذي قتله الخضر ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير بالغ ولا مكلف بل قراءة ابن عباس تدل على أنه كافر كان في الحال وتسميته غلاما لا يمنع أن يكون مكلفا قريب العهد بالصغر ويدل عليه أن موسى لم ينكر قتله لصغره بل لكونه زاكيا ولم يقتل نفسا لكن يقال في الحديث الصحيح ما يدل على أنه كان غير بالغ من وجهين أحدهما أنه قال فمر بصبي يلعب مع الصبيان الثاني أنه قال ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد فيقال الكلام على الآية على التقديرين فإن كان بالغا وقد كفر فقد قتل على كفره الواقع بعد البلوغ ولا إشكال وإن كان غير بالغ فلعل تلك الشريعة كان فيها التكليف قبل الاحتلام عند قوة عقل الصبي وكمال تميزه وإن لم يكن التكليف قبل البلوغ بالشرائع واقعا فلا يمتنع وقوعه بالتوحيد ومعرفة الله كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وعلى هذا فيمكن أن يكون مكلفا بالإيمان قبل البلوغ وإن لم يكن مكلفا بشرائعه وكفر الصبي المميز عند أكثر العلماء مؤاخذ به فإذا ارتد صار مرتدا لكن لا يقتل حتى يبلغ فالغلام الذي قتله الخضر إما أن يكون كافرا بعد البلوغ فلا إشكال وإما أن يكون غير بالغ وهو مكلف في تلك الشريعة فلا أشكال أيضا وإما أن يكون مكلفا بالتوحيد والمعرفة غير مكلف بالشرائع فيجوز قتله في تلك الشريعة وإما أن لا يكون مكلفا فقتل لئلا يفتتن أبويه عن دينهما كما يقتل الصبي الكافر في ديننا إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل وأما قتل صبي لم يكفر بعد بين أبوين مؤمنين للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن أبويه فقد يقال ليس في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه وأيضا فإن الله لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه ولا هو سبحانه يعاقب العباد على ما يعلم أنهم سيفعلونه حتى يفعلونه وقائل هذا القول يقول أنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطّلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى مثل علمه بأن السفينة لمساكين يعلمون ورائهم ملك ظالم وهذا أمر يعلمه غيره وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين وأن أباهما كان رجلا صالحا وأن تحته كنزا لهما مما يمكن أن يعلمه كثير من الناس وكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه لكن لحبهما له لا ينكران عليه أو لا يقبل منهما فإن كان الأمر على ذلك فليس في الآية حجة على قولهم أصلا وأن ذلك الغلام لم يكفر بعد ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر فمن يقول هذا يقول أن قتله دفعا لشره كما قال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا وقراءة ابن عباس وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين ظاهرة أنه كان حينئذ كافرا فإن قيل فهذا الغلام كان أبواه مؤمنين فلو كان مولودا على فطرة الإسلام وهو بين أبوين مسلمين لكان مسلما تبعا لهما وبحكم الفطرة فكيف يقتل والحالة هذه قيل إن كان بالغا فلا إشكال وإن كان مميزا وقد كفر فيصح كفره وردته عند كثير من العلماء وأن لا يقتل حتى يبلغ عندهم فلعل في تلك الشريعة يجوز قتل المميز الكافر وإن كان صغيرا غير مميز فيكون قتله خاصا به لأن الله أطلع الخضر عل أنه لو بلغ لاختار غير دين الأبوين وعلى هذا يدل قول ابن عباس لنجدة وقد سأله عن قتل صبيان الكفار فقال: "لئن علمت فيهم ما علمه الخضر من الغلام فاقتلهم" فإن قيل إذا كان مولودا على الفطرة وأبواه مؤمنين فمن أين جاء الكفر قيل إنما قال النبي ﷺ ذلك على الغالب وإلا فالكفر قد يأتيه من قبل غير أبويه فهذا الغلام إن كان كافرا في الحال فقد جاء الكفر من غير جهة أبويه وإن كان المراد أنه إذا بلغ سيكفر باختياره فلا إشكال.
فصل: وأما تفسير قول النبي ﷺ: "فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير وأيضا فإنه ذكر هذا الحديث لما قتل أولاد المشركين فنهاهم عن قتلهم وقال أليس خياركم أولاد المشركين كل مولود يولد على الفطرة فلو أراد أنه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون هم كفار كآبائهم وكون الصغير يتبع أبواه في أحكام الدنيا هو لضرورة بقائه في الدنيا فإنه لا بد له من مرب يربيه وإنما يربيه أبواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا من سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه وإذا سبي منفردا عن أحدهما أو معهما ففيه نزاع بين العلماء واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن أبويه يصير مسلما إذ يستلزم أن يكون المراد بتكفير الأبوين لهما مجرد لحاقه لهما في الدين ولكن وجه الحجة أنه إذا ولد ولد على الملة فإنما ينقله عنه الأبوان اللذان يغيرانه عن الفطرة فمتى سباه المسلمين منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض ولو كان الأبوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم لكان الصبي المسبي بمنزلة البالغ الكافر ومعلوم أن البالغ الكافر إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء فعلم أنه كان يجري عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لأنه صار كافرا في نفس الأمر تبين ذلك أنه لو سباه كفار ولم يكن معه أبواه لم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وإن لم يكن أبواه هوداه ونصراه فعلم أن المراد بالحديث أن الأبوين يلقناه الكفر ويعلمانه إياه وذكر النبي ﷺ الأبوين لأنهما الأصل العام الغالب في تربية الأطفال فإن كل طفل فلا بد له من أبوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا" فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز فحينئذ يتبين له أحد الأمرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الأبوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه وكذلك قوله في الحديث الصحيح: "أني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا صريح في أنهم خلقوا على الحنيفية وأن الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وأمرتهم بالشرك" فلو الطفل كان يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع أبويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه إياه لم تكن الشياطين هم الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك.
فصل: ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة فإن أولاد الكفار لما كان تجري عليهم أحكام الكفر في الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانتهم لهم وتمكنهم من تعليمهم وتأديبهم والموازنة بينهم وبين نبيهم واسترقاقهم وغير ذلك صار يظن من يظن أنهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل به ومن ها هنا قال محمد بن الحسن: "أن هذا الحديث وهو قوله كل مولود يولد على الفطرة كان قبل أن تنزل الأحكام" فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعا لآبائهم في أحكام الدنيا وقد زالت الشبهة وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن يكتم إيمانه ولا يعلم المسلمون حاله فلا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الآخرة من أهل الجنة كما أن المنافقين في الدنيا تجري عليهم أحكام المسلمين وهم في الدرك الأسفل من النار فحكم الدار الآخرة غير حكم الدار الدنيا وقوله "كل مولود يولد على الفطرة" إنما أراد به الإخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعلى الثواب والعقاب في الآخرة إذا عملوا بموجبها وسلمت عن المعارض ولم يرد به الإخبار بأحكام الدنيا فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن أولاد الكفار تبع لآبائهم في أحكام الدنيا وأن أولادهم لا ينزعون منهم إذا كانوا ذمة فإن كانوا محاربين استرقوا ولم يتنازع المسلمون في ذلك لكن تنازعوا في الطفل إذا مات أبواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه وعن أحمد في ذلك ثلاث روايات إحداهن يحكم بإسلامه بموت الأبوين أو أحدهما لقوله فأبواه يهودانه وينصرانه وهذا ليس معه أبواه وهو على الفطرة وهي الإسلام لما تقدم فيكون مسلما والثانية لا يحكم بإسلامه بذلك وهذا قول الجمهور قال شيخنا: "وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها فقد علم أن أهل الذمة كانوا على عهد رسول الله ﷺ بالمدينة ووادي القرى وخيبر ونجران واليمن وغير ذلك وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ولم يحكم النبي ﷺ بإسلام أهل الذمة ولا خلفاؤه وأهل الذمة كانوا في زمانهم طبق الأرض بالشام ومصر والعراق وخراسان وفيهم من يتاماهم عدد كثير ولم يحكموا بإسلام واحد منهم فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضا فهم يتولون حضانة يتاماهم كما كان الأبوان يتولون تربيتهم" وأحمد يقول أن الذمي إذا مات ورثه ابنه الطفل مع قوله في إحدى الروايات أنه يصير مسلما لأن أهل الذمة ما زال أولادهم يرثوهم لأن الإسلام حصل مع استحقاق الإرث لم يحصل قبله ونص على أنه إذا مات الذمي عن حمل منه لم يرثه للحكم بإسلامه قبل وضعه وكذلك لو كان الحمل من غيره كما إذا مات وخلف امرأة ابنه أو أخيه حاملا فأسلمت أمه قبل وضعه لم يرثه لأنا حكمنا بإسلامه من حين أسلمت أمه وكذلك هناك حكمنا بإسلامه من حين مات أبوه وقد وافق الإمام أحمد الجمهور على أن الطفل إذا مات أبواه في دار الحرب لا يحكم بإسلامه ولو كان موت الأبوين يجعله مسلما بحكم الفطرة الأولى لم يفترق الحال بين دار الحرب ودار الإسلام لوجود المقتضى للإسلام وهو الفطرة وعدم المانع وهو الأبوان وقد التزم بعض أصحابه الحكم بإسلامه وهو باطل قطعا إذ من المعلوم بالضرورة أن أهل الحرب فيهم من بلغ يتيما لغيره وأحكام الكفار المحاربين جارية عليهم والرواية الثالثة إن كفله أهل دينه فهو باق على دين أبويه وإن كلفه المسلمون فهو مسلم نص عليه في رواية يعقوب بن بحنان كما ذكره الخلال في جامعه عنه قال سئل أبو عبد الله عن جارية نصرانية لقوم فولدت عندهم ثم ماتت ما يكون الولد قال إذا كفله المسلمون ولم يكن له من يكفله إلا هم فهم مسلمون قيل له فإن مات بعد الأم بقليل قال يدفنه المسلمون وقال في رواية أبي الحارث في جارية نصرانية لرجل مسلم لها زوج نصراني فولدت عنده وماتت عند المسلم وبقي ولدها عنده ما يكون حكم هذا الصبي قال إذا كفله المسلمون فهو مسلم وهذه الرواية إن لم يذكرها عامة الأصحاب وهي من جامع الخلال فهي أصح الأقوال في هذه المسألة دليلا وهي التي نختارها وبها تجتمع الأدلة فإن الطفل يتبع مالكه وسابيه فكذلك يتبع كافله وحاضنه فإنه لا يستقل بنفسه بل لا بد له ممن يتبعه ويكون معه فتبعيته لحاضنه وكافله أولى من جعله كافرا بكون أبويه كافرين وقد انقطعت تبعيته لهما بخلاف ما إذا كفله أهل دين الأبوين فإنهم يقومون مقامهما ولا أثر لفقد الأبوين إذا كفله جده أو جدته أو غيرهما من أقاربه فهذا القول أرجح في النظر والله أعلم وليس المقصود ذكر هذه المسائل وما يصير به الطفل مسلما فإنا قد استوفيناها في كتابنا في أحكام أهل الملل بأدلتها واختلاف العلماء من السلف والخلف فيها وذكر مأخذهم وإنما المقصود ذكر الفطرة وأنها هي الحنيفية وأنها لا تنافي القدر السابق بالشقاوة والله أعلم.
فصل: قال أبو عمر وقال آخرون في معنى قول النبي ﷺ كل مولود يولد على الفطرة لم يرد رسول الله ﷺ بذكر الفطرة ها هنا كفرا ولا إيمانا ولا معرفة ولا إنكارا وإنما أراد أن كل مولود يولد على السلامة خلقة وطبعا وبنية ليس معها كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار ثم يعتقد الكفر أو الإيمان بعد البلوغ إذا ميز واحتجوا بقوله في الحديث كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء يعني سالمة هل تحسون فيها من جدعاء يعني مقطوعة الأذن فمثل قلوب بني آدم بالبهائم لأنها تولد كاملة الخلق لا يتبين فيها نقصان ثم تقطع آذانها بعد وأنوفها فيقال هذه السوائب وهذه البحائر يقول كذلك قلوب الأطفال في حين ولادتهم ليس لهم حينئذ كفر ولا إيمان ولا معرفة ولا إنكار كالبهائم السالمة فلما بلغوا استهوتهم الشياطين فكفر أكثرهم وعصم الله أقلهم قالوا ولو كان الأطفال قد فطروا على شيء من الكفر والإيمان في أولية أمرهم ما انتقلوا عنه أبدا فقد تجدهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون قالوا ويستحيل في العقول أن يكون الطفل في حال ولادته يفعل كفرا أو إيمانا لأن الله أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا فمن لم يعلم شيئا استحال منه كفر أو إيمان أو معرفة أو إنكار قال أبو عمر هذا القول أصح ما قيل في معنى الفطرة التي تولد الولدان عليها وذلك أن الفطرة السلامة والاستقامة بدليل قوله تعالى في حديث عياض بن حماد أني خلقت عبادي حنفاء يعني على استقامة وسلامة وكأنه والله أعلم أراد الذين خلصوا من الآفات كلها والمعاصي والطاعات فلا طاعة منهم ولا معصية إذا لم يعملوا بواحدة منهما ومن الحجة أيضا في هذا قول الله تعالى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ومن لم يبلغ وقت العمل يبرهن بشيء قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} قال شيخنا: "هذا القائل أن أراد بهذا القول أنهم خلقوا خاليين من المعرفة والإنكار من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدا منهما بل يكون القلب كاللوح الذي يقبل كتابه الإيمان والكفر وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر وهذا هو الذي يشعر به ظاهر الكلام فهذا قول فاسد لأنه حينئذ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار والتهويد والتنصير والإسلام وإنما ذلك بحسب الأسباب فكان ينبغي أن يقال فأبواه يسلمانه ويهودانه وينصرانه ويمجسانه فلما ذكر أن أبويه يكفرانه وذكر الملل الفاسدة دون الإسلام علم أن حكمه في حصول ذلك بسبب منفصل عن حكم الكفر وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون في القلب سلامة ولا عطب ولا استقامة ولا زيغ إذ نسبته إلى كل منهما نسبة واحدة وليس هو بأحدهما بأولى منه بالآخر كما أن اللوح قبل الكتابة لا يثبت له حكم مدح ولا ذم فما كان قابلا للمدح والذم على السواء لم يستحق مدحا ولا ذما والله تعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} فأمره بلزوم فطرته التي فطر الناس عليها فكيف لا تكون ممدوحة وأيضا فإن النبي ﷺ شبهها بالبهيمة المجتمعة الخلق وشبه ما طرأ عليها من الكفر بجدع الأنف والأذن ومعلوم أن كمالهما محمود ونقصهما مذموم فكيف تكون قبل النقص لا محمودة ولا مذمومة".
فصل: وإن كان المراد بهذا القول ما قاله طائفة من العلماء أن المراد أنهم ولدوا على الفطرة السليمة التي لو تركت مع صحتها لاختارت المعرفة على الإنكار والإيمان على الكفر ولكن بما عرض لها من الفساد خرجت عن هذه الفطرة فهذا القول قد يقال لا يرد عليه ما يرد على القول الذي قبله فإن صاحبه يقول في الفطرة قوة تميل بها إلى المعرفة والإيمان كما في البدن السليم قوة يحب بها الأغذية النافعة وبهذا كانت محمودة وذم من أفسدها لكن يقال فهذه الفطرة التي فيها هذه القوة والقبول والاستعداد والصلاحية هل هي كافية في حصول المعرفة أو تقف المعرفة على أدلة من خارج فإن كانت المعرفة تقف على أدلة من خارج أمكن أن يوجد تارة ويعدم أخرى ثم ذلك السبب يمتنع أن يكون موجبا للمعرفة بنفسه بل غايته أن يكون معرفا ومذكرا فعند ذلك إن وجب حصول المعرفة كانت واجبة الحصول عند وجود ذلك الأسباب وإلا فلا وحينئذ فلا يكون فيها إلا قبول المعرفة والإيمان وحينئذ فلا فرق فيها بين الإيمان والكفر والمعرفة والإنكار إنما فيها قوة قابلة لكل منهما واستعداد له لكن يتوقف على المؤثر الفاعل من خارج وهذا هو القسم الأول الذي أبطلناه وبينا أنه ليس في ذلك مدح للفطرة وأما إن كان فيها قوة تقتضي المعرفة بنفسها وإن لم يوجد من يعلمها أدلة المعرفة فيها بدون ما يسمعه من الأدلة سواء قيل أن المعرفة ضرورية فيها أو قيل أنها تحصل بأسباب تنتظم في النفس وإن لم يسمع كلام مستدل فإن النفس قد يقوم بها من النظر والاستدلال ما يحتاج معه إلى كلام الناس فإن كان كل مولود يولد على هذه الفطرة لزم ان يكون المقتضى للمعرفة حاصلا لكل مولود وهو المطلوب والمقتضى التام مستلزم مقتضاه فتبين أن أحد الأمرين لازم إما كون الفطرة مستلزمة للمعرفة وإما استواء الأمرين بالنسبة إليها وذلك ينفي مدحها وتلخيص ذلك أن يقال المعرفة والإيمان بالنسبة إليها ممكن بلا ريب فإما أن تكون هي موجبة مستلزمة لذلك وإما أن لا تكون مستلزمة له فلا يكون واجبا لها فإن كان الثاني لم يكن فرق بين الكفر والإيمان بالنسبة إليها أو كلاهما ممكن لها فثبت أن المعرفة لازمة لها إلا أن يعارضها معارض فإن قيل ليست موجبة مستلزمة للمعرفة ولكن هيئ إليها الميل مع قبولها للنكرة قيل فحينئذ إذا لم تستلزم المعرفة وجدت تارة وعدمت تارة وهي وحدها لا يحصلها فلا تحصل إلا بشخص آخر كالأبوين فيكون الإسلام والتهويد والتنصير والتمجيس ومعلوم أن هذه أنواع بعضها أبعد عن الفطرة من بعض كالتمجس فإن لم تكن الفطرة مقتضية للإسلام صار نسبتها إلى ذلك كنسبة التهويد والتنصير إلى التمجيس فوجب أن يذكر كما ذكر ذلك ويكون هذا كمكمون الفطرة لا يقضي الرضاع إلا بسبب منفصل وليس كذلك بل الطفل يختار مص اللبن بنفسه فإذا مكن من الثدي وجدت الرضاعة لا محالة فارتضاعه ضروري إذا لم يوجد معارض وهو مولود على أن يرضع فكذلك هو مولود على أن يعرف الله والمعرفة ضرورية لا محالة إذا لم يوجد معارض وأيضا فإن حب النفس لله وخضوعها له وإخلاصها له مع الكفر به والشرك والإعراض عنه ونسيان ذكره إما أن يكون نسبتهما إلى الفطرة سواء أو الفطرة مقتضية للأول دون الثاني فإن كانا سواء لزم انتفاء المدح كما تقدم وإن لم يكن فرق بين دعائها إلى الكفر ودعائها إلى الإيمان ويكون تمجيسها كتحنيفها وقد عرف بطلان هذا وإن كان فيها مقتض لهذا فإما أن يكون المقتضى مستلزما لمقتضاه عند عدم المعارض وإما أن يكون متوقفا على شخص خارج عنها فإن كان الأول ثبت ذلك من لوازمها وأنها مفطورة عليه لا يفقد إلا إذا فسدت الفطرة وإن قدر أنه متوقف على شخص فذلك الشخص هو الذي يجعلها حنيفية كما يجعلها مجوسية وحينئذ فلا فرق بين هذا وهذا وإذا قيل هي إلى الحنيفية أميل كان كما يقال هي إلى غيرها أميل فتبين أن فيها قوة موجبة لحب لله والذل له وإخلاص الدين له وأنها موجبة لمقتضاها إذا سلمت من المعارض كما أن فيها قوة تقتضي شرب اللبن الذي فطرت على محبته وطلبه مما يبين هذا أن كل حركة إرادية فإن الموجب لها قوة في المريد فإذا أمكن في الإنسان أن يحب الله ويعبده ويخلص له الدين كان فيه قوة تقتضي ذلك إذ الأفعال الإرادية لا يكون سببها إلا من نفس الحي المريد الفاعل ولا يشترط في إرادته إلا مجرد الشعور بالمراد فما في النفوس من قوة المحبة له إذا شعرت به تقتضي حبه إذا لم يحصل معارض وهذا موجود في محبة الأطعمة والأشربة والنكاح والعلم وغيرها وقد ثبت أن في النفس قوة المحبة لله والإخلاص والذل له والخضوع وأن فيها قوة الشعور به فيلزم قطعا وجود المحبة له والتعظيم والخضوع بالفعل لوجود المقتضي إذا سلم عن المعارض وتبين أن المعرفة والمحبة لا يشترط فيهما وجود شخص منفصل وإن كان وجوده قد يذكر ويحرك كما لو خوطب الجائع أو الظمآن بوصف طعام أو خوطب المغتلم بوصف النساء فإن هذا مما يذكره ويحركه ويثير شهوته الكامنة بالقوة في نفسه لا أنه يحدث له نفس تلك الإرادة والشهوة بعد أن لم تكن فيه فيجعلها موجودة بعد أن كانت عدما فكذلك الأسباب الخارجة عن الفطرة لا يتوقف عليها وجود ما في الفطرة من الشعور بالخالق ومحبته وتعظيمه والخضوع له وإن كان ذلك مذكرا ومحركا ومنبها ومزيلا للعارض المانع ولذلك سمى الله سبحانه ما كمل به موجبات الفطرة بذكر أوذكرى وجعل رسوله مذكرا فقال: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} وقال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} وقال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} وهذا كثير في القرآن يخبر أن كتابه ورسوله مذكر لهم بما هو مركوز في فطرهم من معرفته ومحبته وتعظيمه وإجلاله والخضوع له والإخلاص له ومحبة شرعه الذي هو العدل المحض وإيثاره على ما سواه فالفطر مركوز فيها معرفته ومحبته والإخلاص له والإقرار بشرعه وإيثاره على غيره فهي تعرف ذلك وتشعر به مجملا ومفصلا بعض التفصيل فجاءت الرسل تذكرها بذلك وتنبهها عليه وتفصله لها وتبينه وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتفائها أثرها وهكذا شأن الشرائع التي جاءت بها الرسل فإنها أمر بمعروف ونهي عن منكر وإباحة طيب وتحريم خبيث وأمر بعدل ونهي عن ظلم وهذا كله مركوز في الفطرة وكمال تفصيله وتبيينه موقوف على الرسل وهكذا باب التوحيد وإثبات الصفات فإن في الفطرة الإقرار بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه للخالق سبحانه ولكن معرفة هذا الكمال على التفصيل مما يتوقف على الرسل وكذلك تنزيهه عن النقائص والعيوب هو أمر مستقر في فطر الخلائق خلافا لمن قال من المتكلمين أنه لم يقم دليل عقلي على تنزيهه عن النقائص وإنما علم بالإجماع:
قبحا لهاتيك العقول فإنها عقال على أصحابها ووبال
فليس في العقول أبين ولا أجلى من معرفتها بكمال خالق هذا العالم وتنزيهه عن العيوب والنقائص وجاءت الرسل بالتذكرة بهذه المعرفة وتفصيلها وكذلك في الفطر الإقرار بسعادة النفوس البشرية وشقاوتها وجزائها بكسبها في غير هذه الدار وأما تفصيل ذلك الجزاء والسعادة والشقاوة فلا تعلم إلا بالرسل وكذلك فيها معرفة العدل ومحبته وإيثاره وأما تفاصيل العدل الذي هو شرع الرب تعالى فلا يعلم إلا بالرسل فالرسل تذكر بما في الفطر وتفصله وتبينه ولهذا كان العقل الصريح موافقا للنقل الصحيح والشرعة مطابقة للفطرة يتصادقان ولا يتعارضان خلافا لمن قال إذا تعارض العقل والوحي قدمنا العقل على الوحي:
فقبحا لعقل ينقض الوحي حكمه ويشهد حقا أنه هو كاذب
والمقصود أن الله فطر عباده على فطرة فيها الإقرار به ومحبته والإخلاص له والإنابة إليه وإجلاله وتعظيمه وأن الشخص الخارج عنها لا يحدث فيها ذلك ويجعلها فيها بعد أن لم يكن وإنما يذكرها بما فيها وينبهها عليه ويحركها له ويفصله لها ويبينه ويعرفها الأسباب المقوية والأسباب المعارضة له والمانعة من كماله كما أن الشخص الخارج لا يجعل في الفطرة شهوة اللبن عند الرضاع والأكل والشرب والنكاح وإنما تذكر النفس وتحركها لما هو مركوز فيها بالقوة.
فصل: ومما يبين ذلك أن الإقرار بالصانع مع خلو القلب عن محبته والخضوع له وإخلاص الدين له لا يكون نافعا بل الإقرار به مع الإعراض عنه وعن محبته وتعظيمه والخضوع له أعظم استحقاقا للعذاب فلا بد أن يكون للفطرة مقتض للعلم ومقتض للمحبة والمحبة مشروطة بالعلم فإن ما لا يشعر به الإنسان لا يحبه والحب للمحبوبات لا يكون بسبب من خارج بل هو جبلي فطري فإذا كانت المحبة جبلية فطرية فشرطها وهو المعرفة أيضا جبلي فطري فلا بد أن يكون في الفطرة محبة الخالق مع الإقرار به وهذا أصل الحنيفية التي خلق الله خلقه عليها وفطرته فطرهم عليها فعلم أن الحنفية من موجبات الفطرة ومقتضياتها والحب لله والخضوع له والإخلاص هو أصل أعمال الحنيفية وذلك مستلزم للإقرار والمعرفة ولازم اللازم لازم وملزوم الملزوم ملزوم فالفطرة ملزومة لهذه الأحوال وهذه الأحوال لازمة لها.
فصل: فقد تبين دلالة الكتاب والسنة والآثار واتفاق السلف على أن الخلق مفطورون على دين الله الذي هو معرفته والإقرار به ومحبته والخضوع له وإن ذلك موجب فطرتهم ومقتضاها يجب حصوله فيها إن لم يحصل ما يعارضه ويقتضي حصول ضده وإن حصول ذلك فيها لا يقف على وجود شرط بل على انتفاء المانع فإذا لم يوجد فهو لوجود منافيه لا لعدم مقتضيه ولهذا لم يذكر النبي ﷺ لوجود الفطرة شرطا بل ذكر ما يمنع موجبها حيث قال فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فحصول هذا التهويد والتنصير موقوف على أسباب خارجة عن الفطرة وحصول الحنيفية والإخلاص ومعرفة الرب والخضوع له لا يتوقف أصله على غير الفطرة وإن توقف كماله وتفصيله على غيرها وبالله التوفيق.
فصل: وقوله ﷺ فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم" يتضمن أصلين عظيمين مقصودين لأنفسهما ووسيلة تعين عليهما أحدهما عبادته وحده لا شريك له والثاني إنما يعبد بما شرعه وأحبه وأمر به وهذان الأصلان هما المقصود الذي خلق له الخلق فضدهما الشرك والبدع فالمشرك يعبد مع الله غيره وصاحب البدعة يتقرب إلى الله بما لم يأمر به ولم يشرعه ولا أحبه وجعل سبحانه حل الطيبات مما يستعان به على ذلك ويتوسل به إليه فمدار الدين على هذين الأصلين وهذه الوسيلة فأخبر سبحانه أن الشياطين اقتطعت عباده عن هذا المقصود وعن هذه الوسيلة فأمرتهم أن يشركوا به ما لم ينزل به سلطانا وهذا يتناول الإشراك بالمعبود الحق بأن يعبد معه غيره والإشراك بعبادته الحقة بأن يعبد بغير شرعه وكثيرا ما يجتمع الشركان فيعبد المشرك معه غيره بعبادة لم يشرع سبحانه أن يتعبد له بها وقد ينفرد أحد المشركين فيشرك به غيره في نفس العبادة التي شرعها ويعبده وحده بعبادة شركية لم يشرعها أو يتوسل إلى عبادته بتحريم ما أحله وقد ذم الله سبحانه المشركين على هذين النوعين في كتابه في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما يذكر فيها ذمهم على ما حرموه من المطاعم والملابس وذمهم على ما أشركوا به من عبادة غيره أو على ما ابتدعوه من عبادته بما لم يشرعه وفي المسند: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" فهي حنيفية في التوحيد وعدم الشرك سمحة في العمل وعدم الآصار والأغلال بتحريمهم من الطيبات الحلال فيعبد سبحانه بما أحبه ويستعان على عبادته بما أحله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وهذا هو الذي فطر الله عليه خلقه وهو محبوب لكل أحد مستقر سنته في كل فطرة فإنه يتضمن التوحيد وإخلاص القصد والحب لله وحده وعبادته وحده بما يحب أن يعبد به والأمر بالمعروف الذي تحبه القلوب والنهي عن المنكر الذي تبغضه وتنفر منه ويحلل الطيبات النافعة وتحريم الخبائث الضارة.
فصل: وهذا أخبر به النبي ﷺ من أن كل مولود يولد على الفطرة الحنيفية هو الذي تقوم الأدلة العقلية على صحته وأنه كما أخبر به الصادق المصدوق ومن خالف ذلك فقد غلط وبيان ذلك من وجوه، أحدها أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقا وقد يحصل له منها ما يكون باطلا إذ اعتقاداته قد تكون مطابقة لمعتقدها وهي الحق والخبر عنها يسمى صدقا وقد تكون غير مطابقة وهي الباطل والخبر عنها يسمى كذبا والإرادات تنقسم إلى ما تكون نافعة له متضمنة لمصلحته ومرادها هو الخير والحسن وإلى ما هو ضارة له مخالفة لمصلحته ومرادها هو الشر والقبح وإذا كان الإنسان تارة يكون معتقدا للحق مريدا للخير وتارة يكون معتقدا للباطل مريدا للشر فلا يخلو إما أن تكون نسبة نفسه الباطنة إلى النوعين نسبة واحدة بحيث لا يكون فيها مرجحا لأحدهما على الآخر أو تكون نفسه مرجحة لأحد الأمرين على الآخر فإن كان الأول لزم أن لا يوجد أحد النوعين إلا بمرجح منفصل عنه فإذا قدر رجحان أحدهما ترجح هذا والآخر ترجح هذا فإما أن يتكافأ المرجحان أو يترجح أحدهما فإن تكافأ لزم أن لا يحصل واحد منهما وهو خلاف المعلوم بالضرورة فإنا نعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يعتقد الحق ويصدق وأن يريد ما ينفعه وعرض عليه أن يعتقد الباطل ويكذب ويريد ما يضره مال بفطرته إلى الأولى ونفر عن الثاني فعلم أن فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة الخير وحينئذ الإقرار بوجود فاطره وخالقه ومعرفته ومحبته والإيمان به وتعظيمه والإخلاص له إما أن يكون من النوع الأول أو الثاني وكونه من الثاني معلوم الفساد بالضرورة فتعين أن يكون من الأول وحينئذ فيجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي محبته ومعرفته والإيمان به والتوسل إليه بمحابه، الوجه الثاني أن عبادته وحده بما يحبه إما أن يكون أكمل للناس علما وقصدا أو الإشراك به أكمل والثاني معلوم الفساد بالضرورة فتعين الأول وهو أن يكون في الفطرة مقتضى يقتضي توحيده وتألهه وتعظيمه، الوجه الثالث أن الحنيفية التي هي دين الله ولا دين له غيرها إما أن تكون مع غيرها من الأديان متماثلين أو الحنيفية أرجح أو تكون مرجوحة والأول والثالث باطلان قطعا فوجب أن يكون في الفطرة مرجح يرجح الحنيفية وامتنع أن يكون نسبتها ونسبة غيرها من الأديان إلى الفطرة سواء، الوجه الرابع أنه إذا ثبت أن في الفطرة قوة تقتضي طلب معرفة الحق وإيثاره على ما سواه وأن ذلك حاصل مركوز فيها من غير تعلم الأبوين ولا غيرهما بل لو فرض أن الإنسان تربى وحده ثم عقل وميز لوجد نفسه مائلة إلى ذلك نافرة عن ضده كما يجد الصبي عند أول تمييزه يعلم أن الحادث لا بد له من محدث فهو يلتفت إذا ضرب من خلفه لعلمه أن تلك الضربة لا بد لها من ضارب فإذا شعر به بكى حتى يقتص له منه فيسكن فقد ركز في فطرته الإقرار بالصانع وهو التوحيد ومحبة القصاص وهو العدل وإذا ثبت ذلك ثبت أن نفس الفطرة مقتضية لمعرفته سبحانه ومحبته وإجلاله وتعظيمه والخضوع له من غير تعليم ولا دعاء إلى ذلك وإن لم يكن فطرة كل أحد مستقلة بتحصيل ذلك بل يحتاج كثير منهم إلى سبب معين للفطرة مقولها وقد بينا أن هذا السبب لا يحدث في الفطرة ما لم يكن فيها بل يعينها ويذكرها ويقويها فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين يدعون العباد إلى موجب هذه الفطرة فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة عن مقتضاها استجابت لدعوة الرسل ولا بد بما فيها من المقتضى لذلك كمن دعا جائعا أو ظمآن إلى شراب وطعام لذيذ نافع لا تبعة فيه عليه ولا يكلفه ثمنه فإنه ما لم يحصل هناك مانع فإنه يجيبه ولا بد، الوجه الخامس إنا نعلم بالضرورة أن الطفل حين ولادته ليس له معرفة بهذا الأمر ولا عنده إرادة له ويعلم أنه كلما حصل فيه قوة العلم والإرادة حصل له من معرفته بربه ومحبته ما يناسب قوة فطرته وضعفها وهذا كما يشاهد في الأطفال من محبة جلب المنافع ودفع المضار بحسب كمال التمييز وضعفه فكلاهما أمر حاصل مع النشأة على التدريج شيئا فشيئا إلى أن يصل إلى حده الذي ليس في الفطرة استعداد لأكثر منه لكن قد يتفق لكثير من الفطر موانع متنوعة تحول بينها وبين مقتضاها وموجبها، الوجه السادس أنه من المعلوم أن النفوس إذا حصل لها معلم وداع حصل لها من العلم والإرادة بحسبه ومن المعلوم أن كل نفس قابلة لمعرفة الحق وإرادة الخير ومجرد التعليم لا يوجب تلك القابلية فلولا أن في النفس قوة تقبل ذلك لم يحصل لها القبول فإن لحصوله في المحل شروط مقبولة له وذلك القبول هو كونه مهيأ له مستعدا لحصوله فيه وقد بينا أنه يمتنع أن يكون سببه ذلك وضده إلى النفس سواء، الوجه السابع أنه من المعلوم مشاركة الإنسان لنوع الحيوان في الإحساس والحركة الإرادية وحبس الشعور وأن الحيوان البهيم قد يكون أقوى إحساسا وحياة وشعورا من الإنسان وليس بقابل لما الإنسان قابل له من معرفة الحق وإرادته دون غيره فلولا قوة في الفطرة والنفس الناطقة اختص بها الإنسان دون الحيوان يقبل بها أن يعرف الحق ويريد الخير لكان هو والحيوان في هذا العدم سواء وحينئذ يلزم أحد أمرين كلاهما ممتنع أما كون الإنسان فاقدا لهذه المعرفة والإرادة كغيره من الحيوانات أو تكون حاصلة لها كحصولها للإنسان فلولا أن في الفطرة والنفس الناطقة قوة تقتضي ذلك لما حصل لها ولو كان بغير قوة ومقتضى منها لا يمكن حصوله للجمادات والحيوانات لكن فاطرها وبارئها خصها بهذه القوة القابلية وفطرها عليها يوضحه، الوجه الثامن أنه لو كان السبب مجرد التعليم من غير قوة قابلة لحصل ذلك في الجمادات والحيوانات لأن السبب واحد ولا قوة هناك يهيئ بها هذا المحل من غيره فعلم أن حصول ذلك في محل دون محل هو لاختلاف القوابل والاستعدادات، الوجه التاسع أن حصول هذه المعرفة والإرادة في العدم المحض محال فلا بد من وجود المحل وحصوله في موجود غير قابل محال بل لا بد من قبول المحل وحصوله من غير مدد من الفاعل إلى القابل فلو قطع الفاعل إمداده لذلك المحل القابل لم يوجد ذلك المقبول فلا بد من الإيجاد والإعداد والإمداد فإذا استحال وجود القبول من غير إيجاد المحل استحال وجوده من غير إعداده وإمداده والخلاق العليم سبحانه هو الموجد المعد الممد، الوجه العاشر أنه من المعلوم أن النفس لا توجب بنفسها لنفسها حصول العلم والإرادة بل لا بد فيها من قوة يقبل بها ذلك لا تكون هي المعطية لتلك القوة وتلك القوة لا تتوقف على أخرى والإلزام التسلسل الممتنع والدور الممتنع وكلاهما ممتنع فها هنا ثلاثة أمور أحدها وجود قوة قابلة الثاني أن تلك القوة ليست هي المعطية لها الثالث أن تلك القوة لا تتوقف على قوة أخرى فحينئذ لزم أن يكون فاطرها وبارئها قد فطرها على تلك القوة وأعدها بها لقبول ما خلقت له وقد علم بالضرورة أن نسبة ذلك إليها وضده ليسا على السواء، الوجه الحادي عشر إنا لو فرضنا توقف هذه المعرفة والمحبة على سبب خارج أليس عند حصول ذلك السبب يوجد في الفطرة ترجيح ذلك ومحبته على ضده فهذا الترجيح والمحبة والأمر مركوز في الفطرة، الوجه الثاني عشر إنا لو فرضنا أنه لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج لكانت الفطرة مقتضية لإرادة المصلح وإيثاره على ما سواه وإذا كان المقتضى موجودا والمانع مفقودا وجب حصول الأثر فإنه لا يتخلف إلا لعدم مقتضيه أو لوجود مانعه فإذا كان المانع زائلا حصل الأثر بالمقتضى السالم عن المعارض المقاوم، الوجه الثالث عشر أن السبب الذي في الفطرة لمعرفة الله ومحبته والإخلاص له إما أن يكون مستلزما لذلك وإما أن يكون مقتضيا بدون استلزام أو يستحيل أن لا يكون له أثر البتة وعلى التقديرين يترتب أثره عليه إما وحده على التقدير الأول وإما بانضمام أمر آخر إليه على التقدير الثاني، الوجه الرابع عشر أن النفس الناطقة لا تخلو عن الشعور والإرادة بل هذا الخلف ممتنع فيها فإن الشعور والإرادة من لوازم حقيقتها فلا يتصور إلا أن تكون شاعرة مريدة ولا يجوز أن يقال أنها قد تخلو في حق خالقها وفاطرها عن الشعور بوجوده وعن محبته وإرادته فلا يكون إقرارها به ومحبته من لوازم ذاتها هذا باطل قطعا فإن النفس لها مطلوب مراد بضرورة فطرتها وكونها مريدة هو من لوازم ذاتها فإنها حية وكل حي شاعر متحرك بالإرادة وإذا كان كذلك فلا بد لكل مريد من مراد والمراد إما أن يكون مرادا لنفسه أو لغيره والمراد لغيره لا بد أن ينتهي إلى مراد لنفسه قطعا للتسلسل في العلل الغائية فإنه محال كالتسلسل في العلل الفاعلة وإذا كان لا بد للإنسان من مراد لنفسه فهو الله الذي لا لإله إلا هو الذي تألهه النفوس وتحبه القلوب وتعرفه الفطر وتقربه العقول وتشهد بأنه ربها ومليكها وفاطرها فلا بد لكل أحد من إله يألهه وصمد يصمد إليه والعباد مفطورون على محبة الإله الحق ومعلوم بالضرورة أنهم ليسوا مفطورين على تأله غيره فإذا إنما فطروا على تألهه وعبادته وحده فلو خلوا وفطرهم لما عبدوا غيره ولا تألهوا سواه يوضحه، الوجه الخامس عشر أنه يستحيل أن تكون الفطرة خالية عن التأله والمحبة ويستحيل أن يكون فيها تأله غير الله لوجوه منها أن ذلك خلاف الواقع ومنها أن ذلك المخلوق ليس أولى أن يكون إلها لكل الخلق من المخلوق الآخر ومنها أن المشركين لم يتفقوا على إله واحد بل كل طائفة تعبد ما تستحسنه ومنها أن ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل منه فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله تألهه وحينئذ فلزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد للخلق كلهم من إله يألهوه ولا يأله هو غيره وهذا برهان قطعي ضروري فإن قلت هذا يستلزم أنه لا بد لكل حي مخلوق من إله ولكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس هو مطلق التأله والمألوه لا إلها معينا كما تقوله طوائف الاتحادية، قلت هذا يتبين بالوجه السادس عشر وهو أن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول كإرادة العطشان والجائع والعاري لنوع الشراب والطعام واللباس فإنه إنما يريد النوع وحيث أراد المعين فهو القدر المشترك بين أفراده وذلك القدر المشترك كلي لا وجود له في الخارج فيستحيل أن يراد لذاته إذ المراد لذاته لا يكون إلا معينا ويستحيل أن يوجد في اثنين فإن إرادة كل واحد منهما لذاته تنافي إرادته لذاته إذ المعنى بإرادته لذاته أنه وحده هو المراد لذاته الخاصة وهذا يمنع أن يراد معه ثان لذاته وإذا عرف ذلك فلو كان القدر المشترك بين أفراد النوع أو بين الاثنين هو المراد لذاته لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مراد لذاته وكذلك ما يختص به الآخر والموجود في الخارج إنما هو الذات المختصة لا الكلي المشترك (هامش) تعلق الثالثة بالقدر المشترك لم يكن للخلف في الخارج إله ولكان إلههم أمرا ذهنيا وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهذا هو الذي يألهه طوائف أهل الوحدة والجهمية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى لا خارج العالم ولا داخله فإن هذا إنما هو إله مفروض يفرضه الذهن كما يفرض سائر الممتنعات الخارجة وتظنه واجب الوجود وليس هو ممكن الوجود فضلا عن وجوبه وبهذا يتبين أن الجهمية وإخوانهم من القائلين بوحدة الوجود ليس لهم إله معين في الخارج يألهونه ويعبدونه بل هؤلاء ألهوا الوجود المطلق الكلي وأولئك ألهوا المعدوم الممتنع وجوده وأتباع الأنبياء إلههم الله الذي لا إله إلا هو الذي خلق الأرض والسماوات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى هو الذي فطر القلوب على محبته والإقرار به وإجلاله وتعظيمه وإثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن صفات النقائص والعيوب وعلى أنه فوق سماواته بائن من خلقه تصعد إليه أعمالهم على تعاقب الأوقات وترفع إليه أيديهم عند الرغبات يخافونه من فوقهم ويرجون رحمته تنزل إليهم من عنده فهممهم صاعدة إلى عرشه تطلب فوقه إلها عليا عظيما قد استوى على عرشه واستولى على خلقه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرض إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم والمقصود أنه إذا لم يكن في الحسيات الخارجة عن الأذهان ما هو مراد لذاته لم يكن فيها ما يستحق أن يأله أحد فضلا أن يكون فيها ما يجب أن يألهه كل أحد فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب المراد لذاته ومن الممتنع أن يكون هذا غير فاطر السموات والأرض وتبين أنه لو كان في السموات والأرض إله غيره لفسدتا وأن كل مولود يولد على محبته ومعرفته وإجلاله وتعظيمه وهذا دليل مستقل كاف فيما نحن فيه وبالله التوفيق.
تم الكتاب والحمد الله.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل لابن قيم الجوزية | |
---|---|
مقدمة المؤلف | الباب الأول: في تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض | الباب الثاني: في تقدير الرب تعالى شقاوة العباد وسعادتهم وأرزاقهم وآجالهم قبل خلقهم | الباب الثالث: في ذكر احتجاج آدم وموسى في ذلك وحكم النبي ﷺ لآدم | الباب الرابع: في ذكر التقدير الثالث والجنين في بطن أمه | الباب الخامس: في التقدير الرابع ليلة القدر | الباب السادس: في ذكر التقدير الخامس اليومي | الباب السابع: في أن سبق المقادير بالسعادة والشقاوة لا يقتضي ترك الأعمال بل يوجب الاجتهاد والحرص لأنه تقدير بالأسباب | الباب الثامن: في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى | الباب التاسع: في قوله إنا كل شيء خلقناه بقدر | الباب العاشر: في مراتب القضاء والقدر التي من استكمل معرفتها والإيمان بها فقد آمن بالقدر وذكر المرتبة الأولى | الباب الحادي عشر: في ذكر المرتبة الثانية من مراتب القضاء والقدر وهي مرتبة الكتابة | الباب الثاني عشر في ذكر المرتبة الثالثة وهي مرتبة المشيئة | الباب الثالث عشر: في ذكر المرتبة الرابعة وهي مرتبة خلق الأعمال | الباب الرابع عشر: في الهدي والضلال ومراتبهما | الباب الخامس عشر: في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة ونحوها وأنه مفعول الرب | الباب السادس عشر: في تفرد الرب بالخلق للذات والصفات والأفعال | الباب السابع عشر: في الكتب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما نفيا وإثباتا | الباب الثامن عشر: في فعل وافعل في القضاء والقدر وذكر الفعل والانفعال | الباب التاسع عشر: في ذكر مناظرة بين جبري وسني | الباب العشرون: في مناظرة بين قدري وسني | الباب الحادي والعشرون: في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي | الباب الثاني والعشرون: في طرق إثبات حكمة الرب تعالى في خلقه وأمره واثبات الغايات المطلوبة والعواقب الحميدة التي فعل وأمر لأجلها | الباب الثالث والعشرون: في استيفاء شبه نفاة الحكمة وذكر الأجوبة المفصلة عنها | الباب الرابع والعشرون: في معنى قول السلف في الإيمان بالقدر خيره وشره وحلوه ومره | الباب الخامس والعشرون: في بيان بطلان قول من قال إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له وامتناع إطلاق ذلك نفيا وإثباتا | الباب السادس والعشرون: فيما دل عليه قوله ﷺ: "أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك" من تحقيق القدر وإثباته وأسرار هذا الدعاء | الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" وما تضمنه الحديث من قواعد الدين | الباب الثامن والعشرون: في أحكام الرضا بالقضاء واختلاف الناس في ذلك وتحقيق القول فيه | الباب التاسع والعشرون: في انقسام القضاء والقدر والإرادة والكتابة والحكم والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والعطاء والمنع إلى كوني يتعلق بخلقه وديني يتعلق بأمره وما في تحقيق ذلك من إزالة اللبس والإشكال | الباب الموفي ثلاثين: في الفطرة الأولى التي فطر الله عباده عليها وبيان أنها لا تنافي القضاء والعدل بل توافقه وتجامعه |